المقدمة

فيما كان يسمى ـ سابقا ـ بالقطر الحضرمي وهي اليوم محافظة حضرموت في الجمهورية اليمنية حدث كل ذلك: آمال وطموحات وكثير من ضيم وقهر ، شأنها شأن كل قطر عربي كان يرزح تحت نير الاستعمار الأجنبي ولم يتنفس الصعداء إلى اللحظة. فمذ كان طالبا في [ أمّ اليتامى ، بيحم ، الصفراء ، العالية ] مدينة شبام في الستينيات من القرن العشرين تعلق بحب الوطن العربي وبالدراسة وبحب الاستطلاع ، وبالمسيرات المنددة بالاستعمار ، مثله مثل بقية الطلاب في حضرموت وفي عموم الوطن العربي آنذاك . كان النضج المعرفي الأولي سمة طلاب ذلك العهد ، فما من طالب في المرحلة المتوسطة إلا وينصت جيدا إلى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر ، لا ليسمع كلام رجل يحبه فحسب ، بل ليستوعب قضايا الأمة الناهضة وجهادها المتواصل ضد الاستعمار ، وقضية العرب المركزية الكبرى [ فلسطين ] .
كانت مصر قبلة الأحرار ولا يزال الحنين إلى الفكر الناصري يراود رجال في الديار كل ما اشتدت الأزمة التاريخية بين قوى البغي والظلم من جهة وبين آمنين في ديارهم على امتداد الوطن العربي.
ذكر مصر القاهرة فيه قداسة ، ومحظوظ كل من شاهد مصريا ، أما الذين يتحدثون إليهم كمن غزا سطح القمر. المغتربون القادمون من شرق أفريقيا يتحدثون عن المصريين الذين شاهدوهم عن قرب في دار السلام – تنزانيا ، ومقديشو - صوماليا بين واعظ وطبيب ومدرس وهم ينشرون مبدأ التعاون بين شعوب الأرض وروح الأخوة بين الأفارقة . يتحدثون عن الأزهر الشريف وعن أنشطته في القارة السمراء بكثير من الإعجاب والإكبار. تخصصوا في إشعال الثورات المناهضة للإستعمار واسترداد الحقوق العربية برغم ما أصابهم من أذى في معيشتهم واقتصادهم . كان الزعيم يرسم لاستراتيجيات بعيدة رغم شح الأصوات الرسمية ورغم شح الموارد. كان يراهن على الجماهير العربية.
لبسن النسوة النقاب المصنوعة في الهند ، المعبأة في أكياس بلاستيكة شفافة عليها صورة محمد نجيب وجمال عبد الناصر ، وأيّ نقاب ليس عليه صورة الزعيم لا يعتبر أصليا ، بل تقليد. من ولد له مولود سماه عبد الناصر تمهيدا لاسم الحفيد القادم: [ جمال ] ، وكانت نسبة

الوفيات عالية بين الأطفال نظرا لغياب الرعاية الصحية ، فيحزن الأب لفقد ابنه ولعدم تحقيق العائلة اسم جمال. لا تخلوا قصيدة حماسية بالعربية الفصحى أو بالعامية من ذكر الزعيم ومناقبه ، فينعته البعض بالأب ، والبعض ينعته بالقائد الملهم.
حدث كل ذلك على أرض قاحلة أغلب رجالها فلاحين على وجوههم الإعياء وعمال بناء وعمال زراعيين أو مغتربين ، تأتي رسائلهم من وقت إلى آخر من شرق أفريقيا ومن الهند وإندونيسيا والحجاز لتنبئ عن هالك أو مبلغ بسيط من المال أو نية سفر إلى بلاد البخور والعود القافلي: [ متوجهين إلى طرفكم ] ، وفي الساحل ممن يعتمد على صيد السمك ، ونسبة منهم تعمل في تجارة العسل والتبغ ، وإن تعمقت شمالا فصحراء وجنوبا البحر العربي وغربا سلطنات تسمى : [ المحمية الغربية ] وشرقا بلاد المهرة وعمان . ولما أن الطلبة درسوا في الجغرافيا عن البحيرات الخمس ، وعن نهر المسيسيبي وولاية تكساس وأوكلاهوما وبقية الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد كانوا يحلمون بأن ينهضوا ببلادهم أسوة بأمريكا التي تحررت من بريطانيا وفرنسا التي تحررت من الألمان ، فيبنونها بسواعدهم وبهممهم بعد طرد الاستعمار البغيض من الأرض العذراء . إن أقصى ما يفعله هؤلاء الطلاب الثائرون عند كل مسيرة ، هو حمل أحدهم على الأكتاف ليهتف من صميم الفؤاد: [ أنّة من القلب الدامي ] ، فيرد الجميع بصوت مجلجل واحد: [ ضد المندوب السامي ] . وهناك من الخطب النارية ما يجعلهم يتفاءلون بأمانيهم وأحلامهم نحو حياة مرفهة مزدهرة ، إلا أن الغموض الذي يثير التخوف يبدو في غموض المعنى للجمل التي يقولها كبارهم: [ يجب أن نناضل ونكافح بلا هوادة من أجل طرد الاستعمار بكافة أشكاله وألوانه ] ، لأنهم لا يعرفون ماذا تعني: [ كافة أشكاله وألوانه ] ، وبالحس أو بالوعي البسيط كانوا ينفرون من الأجنبي لأنه جاء ليمتص خيراتهم ويرغبون في الاستقلالية والإنفراد بأرض يحبونها والقليل منهم يدركون بأن النجاح في تحقيق الاستقلال وبسط السيطرة على البلاد واللحاق بالولايات المتحدة الأمريكية يتوقف على فهم علمي ودقيق لأشكال وألوان الاستعمار.
من الحكمة الوقوف على تجارب الماضي ، ولئن ردّد الكثيرون الحديث النبوي الشريف: [ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ] ، فإن التجارب في ديارنا الجميلة أثبتت أن أهلنا لدغوا مرّات تلو المرّات ، والأيام حبالى بمفاجآت لدغات الثعابين . إن الأفاعي ناعمة الملمس ولكنها مميتة لمن يلاعبها أو يحتضنها ، والذين يشربون السم اعتمادا على ترياق بين أيديهم هم أيضا معرضون للدغة ستكون قاضية.
ستقرأ ـ عزيزي القارئ ـ كلاما يعتبره البعض هذيانا ويعتبره البعض الآخر تاريخا لهزائم ، والبعض يقول أنه كلام ممل ومن له حق الحكم هو أنت ، وعندها ستقرر فيما إذا كان ما قرأته ممل أو مثير أولا يستحق الالتفات إليه أو أنه تاريخ ينبغي قراءته جيدا وبعمق .

سالم علي عبد الله الجرو