.
سمعنا أغنية أبوبكر سالم بلفقيه الأخيرة التي تقول كلماتها :
قشــّر من الموز والقط لي من الموز وحده= ياللي تحب الحلا
فلحن تلك الأغنية من الحان الأناشيد في الحضرات القديمة التي كانت شائعة في حضرموت.
وما يهمنا في هذا الموضوع هو الشاعر قائل كلمات هذه القصيدة ، أنه السيد العلامة محمد بن عيدروس بن محمد الحبشي .
كثير من القراء يجهلون شخصية العلامة السيد محمد بن عيدروس الحبشي فدعون نتصفح حياة هذا العلامة ونقتطف من روضة أشعاره ما نروض به نفوسنا ونطعم ارواحنا من قطائف ديوانه وما نلقطه لكم من حلاوة القول يضاهي حلاوة ( الموز ).
فالسيد العلامة محمد بن عيدروس بن محمد الحبشي كان مولده بحوطة احمد بن زين في شهر شوال سنة 1265هـ وبها نشأ يتيما وتولى تربيته أعمامه وتلقى بدايات علوم القرآن والفقه والنحو في الحوطة على يد مشائخ و علماء أفاضل كانت تزخر بهم الحوطة، ثم اخذ يتنقل في سبيل طلب العلم في مدن وادي حضرموت فأفاض الله عليه من نور العلم فبرز اسمه عاليا فأكب عليه طلبة العلم من كل مكان ومن تلامذته العلامة محمد بن احمد المحضار والسيد العلامة المؤرخ والفقيه والقاضي علوي بن طاهر الحداد.
شد الرحال من حضرموت فكانت مقصد هجرته أرض جاوه وهناك كان كثير التنقل إلا ان أكثر إقامته كانت في بلدة بوقور، وفي جاوه ساهم في نشر الدعوة ونشر التعليم ووقف بشدة في وجه موجات التنصير ، وفي احد تنقلاته قصد مدينة سورابايا وبها داهمه المرض واشتد عليه وتوفى في الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 1337هـ وبموته فقد المهجر الحضرمي بشرق آسيا احد رجال العلم والصلاح والدعوة فيها.
ترك رحمه الله ديوان من الشعر الحميني ومكاتبات ووصايا. ومن ديوان شعره نختار لقراء سقيفة التراث نماذج رائعة ومحبوبة من قصائده نستشف منها تأثره بالبيئة الحضرمية والإمعان في استعمال مفرداتها الصرفة دون تكلف أو حشو للألفاظ ، فهو يلجأ للتعبير بواسطة الشعر كوسيلة وأداة للغناء لعل من خلاله يبوح بمشاعره ويتنقل بأفكاره ليتلقى المتلقي له من الذكر والتذكير والوعظ والتبصير ما ينفعه ويجعله زادا له وتذكره يبصر من معانيها ذاته ، وتتنفس من سماعه الأنفس المكلومة وأفئدة ذابت شغافها في حب من تحب يقول السيد محمد بن عيدروس الحبشي:
يا حي ذا الصوت لي شله يرد الحسوس= إن الغنا كسب ما بايلتحق بالفلوس
أحسن من أخبار عباد الصنام الهيوس= أن المغنى يحصل فضل مثل الدروس
يومه يفرج على المكروب من كل بوس= أخبار ذا الوقت ما فيها سلا للنفوس
رحم الله السيد محمد بن عيدروس فكيف لو أدرك وقتنا فماذا عساه يقول عنه؟؟
ونطالع في ديوانه قصائد كثيرة يصرح فيها لما للغناء من تأثير روحي عليه وعلى المستمع المتلقي فهو بلسم لجراح القلوب ولكن ليس كل غناء له ذلك السحر والمفعول، يقول رحمه الله:
يا حي ذا الصوت ياليته إلى ما الصباح= لا فجر يبدي ولا شي ديك في الأرض صاح
صوت الغنا فيه طب أهل القلوب الجراح= نود الصبا هب ريحه بين الأحباب فاح
من شم ريحه يغني في الهوى لا جناح= يعبر الليل كله في صفات الملاح
لما يظنون ان شي من سرائره باح= هذه علامه لأرباب الهدى والصلاح
يظهر عليهم من المغنا دليل السماح= بنور ياضي ولا تطفي سراجه رياح
فا القارئ لهذه القصيدة لعله مثلي يظن إن المعنى الظاهر له بأن لغناء الذي يصاحبه اللحن الشجي على آلة القنبوس تحن له قلوب المحبين وهذا ما صرح به السيد محمد بن عيدروس حين قال
قنبوس موسى من أصواته تحن القلوب= لي قال يا دان ينجع بالعسل كل نوب
تزوع من صوته اصبار الجبل والشعوب= في رنته سر من نغمة حسين السلوب
كل من سمعها تسامح في جميع الذنوب= لو كان عاصي من أفعاله محقق يتوب
ولكن السيد محمد بن عيدروس الحبشي لعله يخفي ويواري عنا بالرمز معنى آخر ( لقنبوس موسى).
والقارئ لشعر السيد محمد بن عيدروس يجد فيه المصلحات الشائعة في اللهجة الحضرمية فهي تنقاد طواعية له وتأتي بسلاسة وانسياب ضمن استهلال قصائده فيجد القارئ في بعض مطالع قصائده انها مقدمة له على أطباق شهية وطازجة من الفواكه والرطب تشد القراء والمستمعين على السواء ، فإذا به يتخلص من الاستهلال الحلو للقصيدة ببراعة ويولج بنا وسط حلاوة معاني شعره و استخلاص الفكرة التي من اجلها قيلت القصيدة فتبدو لنا المواعظ والنصائح في ثنايا شعره من قوله :
قرش من الموز والقط لي من الموز وحده= يا اللي تحب الحلا
من قد قنع كلما حصل من الرزق سده= وان ما قنع جا البلا
يعبر العمر هو والنفس وابليس هدّه= ولا يشوف السلا
عسى لنا من كريم الوجه يا اصحاب رده= نذكر بها في الملا
في عافيه كامله والعمر نحظى بمده= يكمل لنا الامتلا
نرى من العلم طلعه يبلغ الظن حده= إلى الظلام انجلى
حتى يوافق حساب الكل في كل بلده= معا حساب الخلا
واليوم مير الغواني زيد القلب وقده= عرض بكاس الطلا
وصل بحزبه يتمايل كما الغصن قده= فقلت له مسهلا
آنستنا يالذي طب المحبين عنده = فما السبب ذا القلا
وقوله أيضا :
ياما احسن النخل يا اللي عاشقين الرطب= لولا الشويكات لي هن في جزمه تبب
ان كان كلين لي شاف المخاليع خب= من حكمة الله لقى كل شي له سبب
وانت لزم الصبر ياطالب تحوز الطلب= كمين مطرود لكنه بصبره قرب
يا بخت من لازم التقوى وحسن الأدب= يحصل له القصد يرقى عاليات الرتب
والوقت ذا الحين يابوبدر قابل وشب= كلين رسّا ومركبنا له النود هب
وقل للنوخذه المشهور يحفظك رب= ادّيت ماليوم يا المحبوب ما قد وجب
يرعاك مولى الموالي ياقريط الذهب= والفي صلاتي على من به يقوم السبب
ان مسقط شاعرنا العلامة السيد محمد بن عيدروس الحبشي حوطة احمد بن زين وقبل ان تكون حوطة وتسمى بحوطة احمد بن زين كان اسم المنطقة قديما ( خلع راشد ) والخلع في اللهجة الحضرمية احواض اشجار النخيل الباسقات ولهذه المنطقة صيت حسن في جودة اشجار وتمور النخيل ولا غرابة ان يكون السيد محمد بن عيدروس ابن هذه البيئة التي عاشت وترعرعت تحت افياء ظلال ذلك ( الخلع ) فكان شعره يزخر بوصف النخيل والتمور كما قرأنا تلك القصيدة وكما ستقرأ ايضا في هذه القصيدة
شلوا الصوت قولوا دان يا دان دان= عندنا النخل شي مقرع وشي فضح قاني
من طعم تمرنا يفلح ولو كان حاني= طاب ذا الوقت نخزي كل حاسد وشاني
كل من حب حصل فوق حصته راني= سعدنا طال فوق الناس بأهل المثاني
لنا وقفات أخرى مع ديوان وشعر السيد محمد بن عيدروس الحبشي...!!!
.