عرض مشاركة واحدة
قديم 10-25-2007, 01:48 AM   #1
باشراحيل
مشرف قسم الأدب والفن ورئيس لجنة المسابقة الشعر يه

افتراضي رائحة عطر "الدان" تفوح من أصابع "باعيسى"

رائحة عطر "الدان" تفوح من أصابع "باعيسى"


رياض عوض باشراحيل

مع إشراقة العام الجديد 95م .. أطل علينا الفنان المخضرم صالح باعيسى من بوابة الفن والغناء ليشرق ساحتنا الفنية بنور أغنياته الخمس التي احتضنها شريطه الموسوم بـ"أصالة وفن" ..

الفنان باعيسى عشق التراث اليمني وغاص في أعماق بحر فلكلوره الغنائي فطلع منه بثلاث جواهر فنية لن يستطيع اقتناص مثلها إلا غواص حصيف ماهر , واستطاع بموهبته الإبداعية وخبرته الفنية أن ينفض عن تلك الأعمال الغنائية غبار السنين ويزيل عنها تجاعيد الزمن ويقدمها لنا في طبق فني متعدد الألوان يفوح أصالة مما تركته لنا أيادي الأجداد من ابداع وابتكار.

لقد نأى الفنان بنفسه عن العوم في سطح الفن شأن أولئك الذين يخفون ضعف مواهبهم الفنية وقدراتهم الصوتية وراء ستار الإيقاعات السريعة .. وحرص على الغوص في الأعماق وقدم الأغنية المعبرة ذات المضمون نظماً ولحناً وأكد بفنه بأن الموهبة الأصيلة الحقة لا تقترن ببكارة العمر ولا تصدأ بمرور الزمن ولكنها تصقل وتزداد أصالة وشموخاً بكبر العمر الفني للفنان فتزدهر وتتلألأ في سماء الفن والطرب مثلما يتلألأ النجم في الليل الحالك.

وتحت مظلة الأصالة والفن تتوقف قليلاً في استراحة فنية نتفيأ ظلالها ونقطف من ثمارها الغنائية ففي الأغنية الأولى نختار منها قول الشاعر خميس كندي:

عشت سالي وباموت سالي = مانبا عيشة البهدلة
لو سألتوا على رأسمالي = عاطفة نحو زين الخدود

وقد استوقفني في هذه الأغنية التعبير والإيحاء الفني في أداء الفنان من خلال انفعاله الذاتي ونبرات صوته الشجي عندما أراد أن يعكس لنا حال الشاعر ومعاناته حين يبث شكواه وينفث آفة الحسرات وسموم الضيم من قاع النفس بعدما أبصر المحبوب وشاهد ممشوق القد ناحل العود فقال:

يا ضيومي ويا ضيق حالي = حس قلبي كما الحنظلة
من جويهل نظرته قبالي = مثل عود القنالي ينود

وفي الشريط لفتات فنية في غاية الجمال .. ففي أغنية "لا تلومين الزمان" كلمات د. حسين بن سهل وألحان باعيسى نشم رائحة عطر الدان الحضرمي الأصيل وروح العاشق الفنان الشاعر الكبير حداد بن حسن الكاف "ت: 1969م" يقول الدكتور بن سهل في نظم خفيف مطرب:

لو فؤادك يوم حب = والهناء ليل انكتب
ترقص الدنيا طرب = دان وادانه لدان
في قصور من ذهب = أو بيوت من قصب
في محرم أو رجب = حبنا هو الأمان

فالزمان والمكان لدى الشاعر سيف لا يخترق جسد الحب ورمح لا يصيبه واخلص الشاعر إلى الإفصاح عن أمانه في الحياة ورأسماله منها هو عاطفة الحب "حبنا هو الأمان" . والشاعر هنا يلتقي في مشاعره وفلسفته وسلفه كندي في قوله "لو سألتوا على رأسمالي عاطفه......." ..

ومن كلمات الشاعر سالم عمر باحكيم أطربنا الفنان بأغنيته "على نيه تعاملنا" والأغنية رصينة ومعبرة عن أحوال القنص في البيئة البرية البدوية .. والشاعر هنا مقنع أخفى أهدافه الحقيقية وتسلل وراء ستار القنص للحيوان الرشيق "الوعل" وهو العاشق الملثم لقنص المعشوقة الرشيقة فاتخذ من الرمز في شعره وسيلة للتستر والغموض الفني فحسب وليس للابهام..
وفي هذا المقام نتذكر قول ناقد عربي عاش قبل ألف عام هو أبو إسحاق الصابي قال: "افخر الشعر ما غمض فلم يعط غرضه إلا بعد مماطلة منه" وضرب المثل على شعر أبي تمام .. ومن قول باحكيم نقتطف:

أبو علي عاشق وله معنى = ما يحب العطف والبافتيله(1)
صنعة الجرمن سلب كل شاجع = لا نظر للوعل نظرة عدبه مقتول(2)

وقد سألت أحد الأصدقاء ممن يعرفون الفنان من قرب عن سر غياب هذا المبدع المخضرم وعدم ظهوره في ألبومات غنائية من قبل .. فعلمت عن دور الإمكانات المادية التي تعتبر بمثابة القاعدة الصلبة التي يقف عليها الفنان اليوم لتقديم أعماله الغنائية , حيث نفقات التسجيل الباهظة وشركات التوزيع الفني التي لا تراعي إلا مصالحها .. ولكن عشاق النغم وأرباب القلوب النابضة بالحب والفن في هذا البلد المعطاء تمتد أياديهم البيضاء لدعم الفن والمواهب الفنية وإبرازها .. تلك الأيادي التي تمتد في السر بعيدة عن الأضواء والمنابر تعطي دون أن تنتظر الرد .. تلك الأيادي لن تمر مرور الكرام بذاكرة الفن؟


هوامش

(1) العطف والبافتيله: نوعان من السلاح القديم.
(2) الجرمن: الالمان – سلب: سلاح – الوعل: حيوان بري رشيق.
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس