.
الفصل الأول
القصيدة الحضرمية
يميز الحـضرمي بين نوعـين من الشعـر ، هما الشعـر الحـميني والشعر الحكمي (1) وهما اصطلاحان لن أحاول تعريفهما ويحافظ الشعـر الحكمي على الروي والقافيـة والأسلوب الشعـري الخطابي والعبـارات العاطفية الوجدانية للشعر العربي الكلاسيكي ، كما أنه يعالج مواضيع مألوفة شائعة ، ويعتبر كتاب تاريخ الشعـراء الحضرميين بحق معجما للأعلام من الشعـراء ، ويحتوي على شواهد شعرية تجري على هذا المنوال ، إلا أن الشعـر الحكمي ليس موضوع دراستنا هذه ، وقد أفهمني الحضارمة أن الشعر العامي هو ما يعرف بالشعر الحميني ، ولكني أشك الآن في صحة هذا التعميم ، كما أن السيد محمد عبده غانم لا يوافق على اعتبار جميع القصائد الواردة في ملحق هذا الكتاب ، تندرج تحت ما يمكن أن يعتبره من الشعرالحميني ومن جهـة أخرى قام ( رحيّم ) بتعريف الشعر الحميني بأنه : (( الكلام العامي الذي يفهمه عامة الناس )) ويبدو أن ( رحيّم ) بهذا التعريف يقصد كل أنواع الشعر التي لاتندرج تحت فصيلة الشعر الحكمي ، كما أنه أشار إلى أن ناظم الشعر الحكمي يستحيل عليه نظم الشعر الحميني (3) وإذا كان هذا ينطبق على واقع اليوم فلا شك أنه ينطبق على الماضي دائما ، حيث أن كتاب ( تاريخ الشعراء الحضرميين ) (4) لا يخلو غالبا من الإشارة إلى شاعر نظم الشعر ( الحميني ) كإصطلاح يرادف ( الشعبي ) إلى جانب شعره ( الحكمي ) ويخامرني الشعور بان النـوع الأول الحميني أكثر قيمة من الناحية الجمالية من تلك الأعمال الشعريـة الرصينـة في التصوف والمراثي والتوحيد.... الخ ، وحدثني رحيّم أن الشاعر( النحوي ) هو القادر على نظم الشعر الحكمي ، ولا يستطيع ذلك بالطبع من لم يكن متمكنا من قواعـد اللغـة العربيـة ، كما أنه يجب الالتزام الصارم بالأوزان والبحور الشعرية ، بينما يسمح للشاعرالحميني ببعض التجاوزات(5) ولا يمكن اعتبار كلمـة ( حميني ) اصطلاحا حديثا بأي حال من الأحوال إذ توجد هناك إشارات إليه عند صاحب ( تاج العروس ) ، والذي أعتبره من أنواع البحورالجديدة المبتدعة وأنه كموشح يعتبر من الأوزان اليمنية ( 6 ) ، كما انه توجـد هنـاك من القصائـد المطبوعـة على منـواله وأوزانه ويفهم ( هارتمان ) Harthman الشعـر الحميني بهذا المفهوم (7) ، ويشير إلى ان محمد بن علي السويدي الهادي المتوفى عام 932 هجرية قد نظم شعرا من النوع الحميني إلى جانب الأشعار الكلاسيكية.
أنظر ( ديوان عبدالرحمن بن مصطفى العيدروس المسمى تنميق الأسفار فيما جرى له مع أخوان الأدب في بعض الأسفار ) القاهرة 1304 هجرية 1843 م وفي ملحق له يحتوي على ما يقابله حرفيا وماله من النظم ( الحميني ) ، أنظر أيضا تاريخ الشعراء الحضرميين ج2 ص189، ( مات هذا الشاعر في القاهرة حيت دفن عام 1192 هجريه )أنظر أيضا علي بن محمد الحبشي في ( الجوهر المكنون والسر المصون ) ( سوربايا 1843م) الجزء الأول منه يحتوي كله تقريبا على قصائد دينية ( حمينية ) ، ونشير إلى أن كلمة( حميني ) مصطلح معروف في فلسطين إلى اليوم ، وهناك كما هو معروف اختلاف بين عرب اليمن وعرب الشمال ولا يزال مستمرا ، ويقال ان الكلمة لازالت تستعمل في أحاديثهم وأغانيهم إلا ان مدى العلاقة بين استعمالها في اليمن واستعمالها في فلسطين من دلالات للمعنى أمر لا يزال ينتظر التمحيص ، قارن بكتاب أتش . قراند فست ( أحوال الزواج في قرية فلسطينية ) (Helsing Fors,19 ) ملحق الهوامش وإشارات أخرى تتعلق بقيس واليمن ...
وقد طرأت في عهد قريب أثناء النصف الأخيرمن هذا القرن بعض التغيرات في طريقـة نظم الشعر ( الحميني ) وذلك بتأثير العلاقات الأدبية مع الحركة الأدبية الحديثـة في مصر وسوريـا ، وقد أكد ذلك لي حسين عبد القادرالكاف واعتبر تلك التغيرات في نظم الشعر( الحميني ) تحسينا إذ أنـه بعد أن كان الشعراء يقتصرون على استعمال الكلمات المحلية ، حاول المحدثون منهم إدخال الكلمات الفصحى وقد أوردنا مقطعا من قصيدة ( لحداد بن حسن الكاف ) هو المقطع رقم واحد من شواهد القطع المتفـرقـة من الشعر العامي ، ويبلغ حداد بن حسن حوالي الأربعين من عمره وهو من سكان مدينة تريم ، وقد رأيت أسلوب نظم تلك القصيـدة لا يتميز كثيرا عن مجموعـات القصائـد المسجلة في كاتلوج الأسطوانات ويقولون أنها نموذج للشعر الحميني الحديث .
وكتذوق شخصي ، لا أجد نفسي ميالا لهذا النوع المكرر والمقلوب من الشعر الذي يقال له محسنا ، فهو يتبع قوالب نماذج معينة ويفتقر إلى ثراءالتعبير وغزارة المعاني والمفردات وهو فوق ذلك يفتقر إلى الدعابـة والظرف اللذين يجدها المتذوق في الشعر المحلي البعيد عن التكلف وما علينا الا أن نقارن بين الأبيـات القـوية الـزاخـرة لبـا مخـرمة ( ليست وارده من ضمن الشواهد في هذا الكتاب ، ) وبين تلك التي نظمهـا علي بن حسن العطاس صاحب المشهد لنرى تلك القوة الزاخرة في أسلوب الشعر العامي ( أبيات العطاس هي رقم33 في الشواهد ) .
شكل القصيدة الحضرمية
يستهل شعراء القصيدة الحمينية الحضرمية الأصيلة قصائدهم بما وصفه لي محدثي بأنه بالمناجاة الإلهية ، بالرغم إن هذا المصطلح لا يبدواصطلاحا فنيا شائعا ، وتحتوي ( الإلهية )على ذكر الله وصفاته ووحدانيته..الخ ويتبع ذلك ذكر الرسول والصـلاة عليـه وعلى الآل والأصحـاب(8) ، وتتضمن الإلهية إشارة إلى موضوع القصيدة ويسمى بـراعـة الاستهلال (9) والمثال الجيد لبراعة الاستهلال القصيدة رقم 34 من الشواهد وتبدأ الكثير من القصائد بعبـارة ( ابدي بربي ) أي أبـدأ بذكر ربـي أو( بـديت بالله ) أو ( يا للـه أبـديت بك).. الخ (10) والبعض يتخلص من شكـل الاستهلال الديني المتبع بقوله: ( وبعد ) أو ( ذا فصل ) أي هذا يكفي وفي أحد القصائد التي أوردها ( لا ندبرج ) تستعمل كلمة ( ساعة ) (11) *ثم يظهر موضوع القصيدة ويمكن أن يكون واحدا من المواضيع المألوفة في القصيدة العـربيـة الكلاسيكيـة كالرثاء أو المدح أو الغزل أو المجتمع ، وتنتهي القصيدة ( بالختم ) ، وهــو الأختام ويكون بعبارة و( الختم ) بسكون الـتاء أو بكسرها ، ويحتوي الخـتم على الدعـاء للرسول وآله واصحابـه ..الخ وجميع القصائد تقريبا تتـضمن أدعـيـة وبـركات بعدد قطرات المطر وحبـات الرمال أو بطـول ماغنَّى الحمام الزاجل ، وكما هو في الاستهلال تكون هناك إشارات إلى موضوع القصيدة في ( الختم ) أي أنه تكـون هناك علاقة بين مايشار إلى عـدده وبين ماورد ذكره في أبيات القصيدة من قبل وفي أحـيان كثيرة تكون القصيدة خـالية من المقدمـة والختم ، فيأتي أحد النساخ وبـنزعـة دينيـة، ليضيف إلى القصيدة مقدمة وختما من نظمه وذلك مـا واجهته في مخطوطتين لقصيدة واحدة من المخطوطات التي في حوزتي حيث كانت إحداهما خالية من الختم ، ومن البديهي أن كلا من الإلهـية والخـتم يعتبران من التقـاليد والإضافــات الإسلامية، وقد كان التقليد القـديم في الاستهلال هو قول الشاعر( فلان قال كـذا ) مثل: قال الحميد بن منصور ويقول ( باعيشه ) من بلدة قسم ومن المحتمل أن يكون حائكا.
ثم يقول بو سالم البارح الهاجس أقبل و هو زفـان
يبدع قوافـيه محكـومـه ينظم قصيده في الفنجـــان
ويمثل الهاجس التجسيد للاستثارة والتهيؤ لقول الشعر(12).
وكما سيظهر في الصفحات القادمة ، سنجد نوعا نوعا آخر من الاستهلال الذي يبدأ به الشعـراء قصائـدهم غـالبا مثل ( قال بـدّاع القـوافي ) ، وهذه الطريقة في الاستهلال هي الشائعة بين شعراء الشعـر المرتجل وهي ولاشك تمثل تقليدا قديما ، وقد يستهل بعض الشعـراء قصـائدهم بترحيب درامي تمثيلي وهو شبيـه بما يـرد في زوامل القبـائل التي سمعتها في محمية عدن الغربية مثل : ( ياحيـّا، يا مـرحيـب ياحيـّا.الخ )
وهذا أيضا من التقاليد الشعـرية الراسخة المرتبطـة بمجتمع أقرب إلى القبيلة منه بالمجتمع الوراعي المستقر ويرد في شعر عماره( هـ .دينبرج وعماره دويمن طبعة باريس 1902) الجزء 2 ص 646 بيت شبيـه بهذا ، ( حيّـاك يا عدن الحيـا حيّـاك ) وهو شطر يمكن اعتباره من الشعر الكلاسيكي الفصيح أو العامي دون أي تغيير في الوزن وسأتحدث في الصفحات القادمة عن شعر( بني مغـراة ) الذي من عادة الشعـراء فيه أن يدخلوا إلى موضوع القصيدة مباشرة.
وفي بعض الأحيان يستعمل الشاعـر ( التخلص ) ويكون في العادة اسما وهميا مستعارا مثل( بومعجب ) الذي يستعمله الشاعر يحيى عمر ومعظم الشعراء يطلقون على أنفسهم كلمة ( أخو فلان ، أوأبوفلان، أوأبن فلان ) مستعملين أسماء حقيقيـة (13).
وكثيرا من القصائد الواردة في الشواهد تحتوي على لازمة أو ترنيمة مما يشير بالطبع إلى علاقتها بالغناء بالرغم أن بعض القصائد نظمت لأغراض رسمية وليست للغناء .
الموضوع في القصيدة الحضرمية
لقد تم جمع الشواهـد الواردة بهـذا الكتاب تبـعا لموضـوعاتـها مع الحـرص على اشتمالها لمختلف مظاهر الحياة وأنماطها في حضرموت وقد أوردنا قصيدتين من القصائد السياسيـة بالرغم من أن الشعـر السياسي هو أكثر المواضيع تـناولا على وجه التقريب وهما قصيدتـان معروفـتان أحدهما تتـناول نجاح الكثيري والثانيـة تتـناول انتصـار القعيطي، وعلى كل حال فقد كان تركيز ( لاندبرج Landberg ) على القصـائد البطوليـّة وأغاني الغزل الشائعة بينما ركـزت أنا على شعـر المجتمعات المستقرة في مدن وقرى وادي حضرموت(14) .
ومن هذه الشواهد يستطيع القارئ الإلمام بزيارة هود وبعض المعلومات الجغرافية والزراعية والأطعمة والمشروبـات المألوفة في البلد ، وكيـفية اصطيـاد الوعـول في حضرموت ، وأحاسيـس الحضارمـة تجاه وطنهم وحفاظهم على التقاليد التي تجعله مرتبطا ومحافظا حتى على موقد قهوته القديم ، ورافضا أو غير متقبل من الناحية الذهنية على الأقـل لمشـروب الشاي المستحدث ، كما يشكـو ( عبيد باشـامخـه ) من انعـدام العدل الاجتماعي، ونكشف حقيقة مشاعره تجاه المرأة ، مقارنة بقصائد وأغانـي الغزل والحب ، ولنتعرف على أحاسيسه تجاه الحيوانات واحتقاره المشوب ببعض الخوف من قبائل البدو، وهو يفيض على كل هذه المعاني ثوبا من الطرافة والسخرية الطبيعية بطريقة لاذعة وذكية ، وذلك لأن الحضرمي قد فطرعلى النكتة العملية الصائبة ، وميال إلى خفة الدم وفي إمكاننا فعلا أن نربط روح السخـرية عنـده ببعض من الطبيعـة التشهيرية الميالة إلى التحدث عن الفضائح والعيوب، وكل من المقامات والقصائد يشوبها اللون الإسلامي ومصبوغة بالشعر الديني ، ويختلف نوع القصيدة اختلافـا واضحا ويعتمد هذا الاختلاف على نـوع الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشاعر ( 15 ) وهوشيء بالغ الأهمية في حضرموت وغالبا ما يكتب السيد أو الشيخ ( من طبقة المشائخ ) الشعـر الحميني المتكلف أو المشوب بطابع الثقافة وذلك ماناقشناه قبل قليل أما المزارع أو الـفلاح فينظم قصائده بطريقـته الخـاصة وبلهجة عامية خالصة ويستقي الصور والأخيلة من واقع حياته اليومية.
أما البدوي أو رجل القبيلة فينظم شعره بلهجته العربية الخاصـة والتي تختلف بدورها عن لهجة السادة والمشائخ والفلاحين ومن ناحيـة أخرى قد يكتب السيد أو الشيخ باللهجة العامية عما يتعلق بالزراعة وهو أمر قد يتوجب عليه الإلمام به إذا كان من ملاك النخيل أوالابار الزراعية أما في مجتمع المتعلمين المهذب فقد تنـظم القصائـد باللهجـة العـاميـة في الشئون الاجتماعية التافهة كما حدث لصديقنا محمد بن هاشم عندما فقد جزءا مخـطوطا في التـاريخ كان مشغـول بتـأليفه، فكتب أصدقاؤه مسرحية هزليـة قصيرة يتهمونه فيها متندرين بأنه كان يتظاهر بتأليف كتـاب بينما هو في الواقع لم يضع قلما على طـرس ، ويتصل السادة ببعضهم البعض اتصالات ثقافية بالوسـائل المعهودة فـتمر القصائد من سيد إلى آخر داخل حضرموت أو خارجها إلى إندونيسيا.
وسيكون من غير الطبيعي رسم خط فاصل بين القصائد التي( للمساكين ) وتلك التي ينظمها العلماء ( من السـادة أو غيرهم ) وذلك لأنه إلى وقت قريب نسبيا كان السادة إلى حد ما يعملون في زراعة أرضهم بأنفسهم .
__________________________
الهوامش
(1)اى.روسي L Araboparlatoa sana (روما 1939ص102) ويسميه بكسر الحاء حكمي كما يفعل بروكلمان، ولكني سمعتها دائما تنطق بفتح الحاء حكمي.
(2) في الكتاب المذكور فراغ من أصل الكتاب المذكور.
(3) يعود تاريخ كلمة ( حميني ) إلى فترة مبكرة إلى عصر أبن الأثير الذي أشار إليها في كتابه ( اللباب في تهذيب الأنساب) (القاهرة 1357 هجرية ص 323
(4) تاريخ الشعراء الحضرميين ج3 ص 125.
(5) لايمكن بالأخذ برأي رحيم حرفيا في هذه المسألة
(6) ( تاج العروس) ج 9 ص184
(7) Martin Hartman Das Arabische Strophengedicht I.
Das Muwassah ( Weimar, 1896) p.20FT.note ) قارن بروكلمان فيما سبق ج2ص255.
(8) يلاحظ المرء انه من مميزات كثير من القصائد الحضرمية التكرار والإسهاب في الإشارة إلى الرسول(ص) وأسرته في المقدمة والختام.
(9) ( ينقل دوري في ملحقه Supplement)) ج2ص760 عن أبن خلدون براعة الاستهلال.
10) كتب الهمداني في صفة (جزيرة العرب) استهلالا لقصيدة شبيه بالقصائد الحضرمية،في قوله: ( أول ما أبدا من مقالي الحمد المنعم ذي الجلالي ).
وهناك استهلال مماثل بين شيوع هذا النوع من الاستهلال في كتاب الويس موسيل (عادات وتقاليد بدو الرولا ) نيويورك 1928مص289. ويمكن نقارن ملاحظاته حول المبنى الشعري بهذا الفصل( ص 283)
(11) كتاب (حضرموت) (طبعة ليدن 1901م ص7) لمصدر الهام الأشعار الحضرمية.
(*) ولعل الأصح ( وبعد يا لسّاع ) (المترجم).
12) قارن بما ذكره سي. آ . ستوري في كتاب الفاخر للفضل ابن سلمه طبعة ليدن 1915 م ص54 من شعر ممتع شبيه بالشعر الحضرمي المعاصر يقول الشاعر في أبيات له:
( وأن شيطاني أمير الجن يذهب في الشعر كل فن ) ويقول شاعر آخر ( أهذي بكلام الجن ) أي بعض الكلمات من عندي والبعض من عند الجن.
(13) أنظر ملاحظاتي عن 0بوريا) في الموضوع رقم 30 من مقالاتي في تاريخ جنوب الجزيرة ج2 B.S.O.S ( لندن 1950 م) الجمعية البريطانية للدراسات العربية.
(14) قصائد نشرها سي هركرنجي وهي منسوخة بالخط الروماني وبطريقة رديئة
(15) لمزيد من المعلومات عن الطبقات في حضرموت أنظر كتابي (مقابر تريم).