مقارنة سريعة وواقعية بين مشهدين ورجلين
هل سيلاقي الجنرال علي محسن مصير المشير عبدالحكيم عامر؟!
حسين اللسواس
[email protected]
الجنرال علي محسن، أثناء الحرب السادسة وبعدها، لم يعد (من حيث النفوذ ومعايير القوة) هو ذاته علي محسن ما قبل الحرب الثالثة في مسرح صعدة الدموي الحافل بالبشاعة والغموض في آن..
عبارة كالتي سبقت، بقدر ما تشكل مدخلاً تمهيدياً مباشراً لما سيلي من أسطر، فإنها تتضمن إيجازاً للانكسارات التي ما فتئ الجنرال العتيد المُكنى بلقب (القائد)، يتلقاها، عن طيب خاطر، أو هكذا يبدو الأمر ابتداءً، لكأنه سائر بقدميه إلى حتفه، أهي المراهنة يا ترى؟ أم حب المغامرة؟ أم هو العناد والكبر؟ ذلك ما لازال الجزم بشأنه صعباً، غير أنه ليس مستحيلاً إذا كان التبرير مستنداً لقواعد الاحتمالات..
البون الشاسع والواسع بين جنرال الحرب الثالثة، وجنرال الحرب السادسة، بات مبعثاً لمشاعر متضادة وأخرى ممتزجة، السعادة (مثلاً) غدت عنواناً لمن أضحى الرجل يعيقهم عن تحقيق تطلعاتهم، تماماً مثلما أصبح الاستياء شعوراً وافر الحضور لدى أنصاره ومن تضررت أو ستتضرر مراكزهم النفوذية وامتيازاتهم ومصالحهم النفعية..
امتزاج المشاعر يبدو واضحاً بالنسبة لقلة من الغالبية المتفرجة، وتحديداً المدركين لجانب من أبعاد ما يحدث. ربما كانت اللامبالاة أبرز نتاجات الامتزاج إما لإحساس اللامبالين بانعدام القدرة على إحداث تغيير، أو حتى فرق في الوضع، وإما للشعور بوجود تمويه واستغفال تقوم به مطابخ أمنية عبر الترويج لصراعات وهمية بين حلفاء الحكم (المركز المقدس)..
غير أن التعاطف يبقى حاضراً حتى مع طغيان اللامبالاة. فكما أن وضع علي محسن باعث لثنائية البكاء والفرحة فإنه محرك لغريزة التعاطف المتنامية بإضطراد..
بالنسبة للمتعاطفين، ليس من السهل القبول بالنهاية اللائحة في الأفق لهذا القائد العسكري، كنه السبب لا يرجع لما كان عليه حال الرجل من نفوذ مخيف فحسب، إخلاصه للنظام وتجسيده لدور حامي العرين الصالحي، وتسببه في كل الانتصارات العسكرية، وإحباطه للمؤامرات الانقلابية، تلك النقاط وأشياء أخرى يمكن تصنيفها كدوافع رئيسية لذلك التعاطف..
مع دنو النهاية، المرسومة سلفاً، سيتعاظم اللغط، ويكثر الجدال بين من يضعه في منزلة الأبطال ومن يحشره في قوائم الفاسدين العابثين وربما السفاحين، لكن ذكراه ستجد طريقها نحو التخليد إذا ما استمر دنو النهاية بالنسق الحالي.. كيف؟
علي محسن حالياً يصارع ظاهرياً لإيقاف مشروع التوريث حتى وإن كان بقاء النفوذ وحماية القوة من التلاشي هو المبرر الحقيقي. استحواذ الظاهر على الباطن، قطعاً، بعد النهاية، سيجعل منه رمزاً ثورياً، لسبب بسيط يتمثل بانحيازه لمبادئ الثورة ورفضه للتوريث..!
* التأريخ يعيد نفسه
للوهلة الأولى، قد يبدو المانشيت الذي يعتلي هذه الأسطر مستفزاً، بل وربما متضمناً لإسقاط بعيد عن الواقع الماثل. الإمعان والتدقيق في الدلالات مضافاً إليه استجرار مشاهد من حياة المشير عبدالحكيم عامر، القائد العام للجيش المصري، سرعان ما يبدد ذلك الاستفزاز والإسقاط..
ثمة أوجه التقاء بين المشهدين، الأول ممثلاً بـ(علي عبدالله صالح وعلي محسن الأحمر) والثاني بـ(جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر) مع الفوارق بين الشخصيات طبعاً، وهو التقاء ربما يتجاوز نقاط التقاطع عدداً ودلالة..
إذ ليست نهاية نفوذ الثنائي (عامر وعلي محسن) التي تُفهم من سياق المانشيت، هي رابط الاقتران الوحيد، التشابه المثير بينهما ليس مثيراً للاستغراب فحسب، بل ومحفزاً على التساؤل البريء: هل ما يحدث للجنرال علي محسن هو تكرار لقصة المشير عامر؟ بعبارة أخرى هل كان واضع السيناريو اليمني متأثراً بصراع عبدالناصر وعامر على السلطة في مصر..؟!
* بين المشير عامر والجنرال محسن
لنكن عمليين أكثر، ولنجرِ مقارنة سريعة بين المشهدين: بداية علي عبدالله صالح وعلي محسن -وفق بعض الروايات- كانت رفاقية (رفاق سلاح)، وهو ذاته ما كان عليه الحال بين جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر مع فارق بسيط يتمثل باقتران الترافق بالدراسة والصداقة..
وصول جمال عبدالناصر إلى السلطة تم بانقلاب ثوري لعب فيه المشير عامر دوراً محورياً، فارق المسميات هنا لا يلغي صلة الربط، فصالح ارتقى سلم السلطة بعد حصار عسكري لصنعاء، وانقلاب انتهازي ضد القاضي العرشي رئيس مجلس الشعب وكذا رئيس أركان القوات المسلحة علي الشيبة، نفذه في الميدان علي محسن ومحمد ضيف الله محمد وآخرون..
عامر ظل عقب استتباب الحكم هو الرجل الثاني وصاحب اليد الطولى في الجيش، تماماً مثلما كان عليه الحال بين صالح ومحسن بعد نجاح الانقلاب والاستيلاء على السلطة بطريقة أضيفت عليها النكهة الشرعية (تصويت مجلس الشعب)..
في العدوان الثلاثي على مصر، كان المشير عامر قائداً عسكرياً للمعركة، وفي حرب 1994م كان علي محسن هو القائد الحقيقي للمعارك، بالاشتراك مع عبدربه منصور هادي..
كان عبدالحكيم عامر، بالإضافة لموقعه كقائد عام للقوات المسلحة، مستحوذاً على ولاء فرق الجيش وألويته، الاختلاف النظري لا يمنع في هذه الجزئية من إجراء المقارنة تماشياً مع مقتضيات الجانب العملي، فعلى الأرض كان علي محسن عقب الانتصار الشمالي في حرب 94م يمارس صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة (الرتبة الثانية بعد القائد الأعلى) كما كان ارتباطه بألوية الجيش ولائياً بشكل واضح وجلي..
الثقة المطلقة، صفة مشتركة يتشاطر فيها طرفا المقارنة، فعامر لم يدبر للانقلاب على عبدالناصر إلا بعد هزيمة 67م ولأسباب وجيهة أبرزها الشعور بأنه أضحى كبش فداء للهزيمة فكان التفكير بالانقلاب محاولة للتخلص من عار الانكسار أمام إسرائيل، بالإضافة إلى مبرر آخر يتمثل في تنحي عبدالناصر عن الحكم وعدوله عن تكليف وزير الحربية شمس بدران بأعمال رئيس الجمهورية لصالح زكريا محيي الدين. علي محسن هو الآخر، رغم أنه كان قادراً على إقصاء صالح بعد حرب 94م كنتاج لسيطرته على الجيش وصلاته الوثيقة بالذراع العسكري للزمرة وتحالفاته مع الإخوان والجماعات السلفية والقبائل والسعوديين، غير أنه ظل محافظاً على ولائه الراسخ لصالح حتى في أصعب الظروف.
حتى في سيناريو (نهاية الثقة) ثمة توافق لافت، فالهزيمة النكراء في 67م التي كان عامر سبباً في صنعها بوصفه قائداً للجيش أدت للتصادم مع عبدالناصر ووضعت حداً للثقة المطلقة بين الرجلين. بصرف النظر عن فوارق حرب النكسة وكارثيتها، فإن سيناريو (نهاية الثقة) بين صالح ومحسن يمتاز بتشابه كبير، فالفشل الذي منيت به الفرقة في مواجهة الحوثي، والفوضى العسكرية في الحرب الخامسة، وإبعاد علي محسن من قيادة الحرب السادسة، كشف حقيقة النهاية المأساوية التي آلت إليها الثقة بين صالح ومحسن..
تقاسم غنائم الحكم، ربما يجسد نقطة تقاطع بارزة؛ فصالح ومحسن يملكان قصوراً وأرصدة في البنوك ويتعاملان على أن اليمن ضيعة مملوكة لهما، بعكس جمال عبدالناصر الذي لم يكن يملك سوى بيت متواضع في منشية البكري ورصيداً بنكياً لا يتجاوز مئات الجنيهات..!
* الرجل الأقوى في الجيش والدولة
إلى ما قبل عقد من الزمن، لم يكن الجنرال علي محسن، مجرد رجل ثانٍ في تراتبية النفوذ السلطوي داخل النظام السياسي الحاكم، تربيطاته وتحالفاته وعلاقاته، مرتكزات منحته وضعاً أقرب إلى توصيف (حاكم الظل الفعلي)..
بالإمكان إيداع تلك المرتكزات من حيث المساهمة بصنع التوصيف السابق، في كفة، ونفوذه العسكري في الكفة الأخرى..
فهو لم يكن مجرد قائد لمنطقة عسكرية، او أركان حرب لفرقة مدرعة، لقد جسد طيلة الحقبة الممتدة مما بعد حرب 94م إلى ما قبل حرب صعدة، شخصية (الرجل الأقوى) في القوات المسلحة اليمنية، وبصورة جعلت من المستحيل على القائد الأعلى البت في شأن عسكري دون مشاورة الجنرال وموافقته المسبقة، إذ لا قيمة لأي قرارات تصدر قبل تلك الموافقة.
حتى عهد قريب، كانت حال العاصمة صنعاء لا يختلف عن حال غيرها من المحافظات التابعة لسلطة الجنرال محسن من الناحية العسكرية، فألوية الفرقة الأولى مدرع التابعة للرجل، هي حامية الحمى وحارسة النظام وبيدها مفاتيح حمايته ومعاول الإطاحة به في أي حين..!
لم تتغير الخارطة النفوذية كثيراً عقب خروج تشكيلات الحرس الجمهوري من حالة الترهل إثر مجيء نجل الرئيس أحمد على رأس هرمها القيادي، إذ مهما تعاظم الحرس قوةً وعتاداً واستعداداً، لم يكن في وسعه إحداث تغيير في معادلة الوضع القائم، لاسيما في ظل غياب أي مبررات تساعد على ذلك..
التفاهمات المسبقة مع الجنرال، وحدها كانت السبيل لحصول الحرس على امتيازات ميدانية محدودة تسمح له بالانتشار المحدد سلفاً في العاصمة وبعض المحافظات..
باندلاع حرب صعدة وجد الحرس، ومن ورائه أحمد والرئيس، فرصة تاريخية قد لا تتكرر لإحداث التغيير المنشود في معادلة الوضع القائم وبما يضمن تخليص العاصمة صنعاء من قبضة الألوية العسكرية التابعة للفرقة الأولى مدرع، وذلك كمقدمة لبسط نفوذ الحرس على بقية المحافظات بشكل تدريجي..
* خارطة عسكرية جديدة
في غمرة انغماس الجنرال محسن بالجولتين الأولى والثانية من حرب صعدة، كانت الترتيبات تجري على قدم وساق لرسم خارطة عسكرية جديدة للعاصمة صنعاء، ليبدأ بذلك عداد تحجيم الجنرال عده التنازلي..
نجاح الفرقة في القضاء على حسين الحوثي وتطهير صعدة باستثناء منطقة (الرزامات) من مليشياته المسلحة كاد أن يضع نهاية لمخطط التحجيم الذي لم يحقق وقتذاك سوى النزر اليسير من الأهداف..
تجدد الحرب، أنقذ المخطط من ذلك المصير، ليستأنف الجنرال حربه ضد المجهول مجابهاً الحوثي والنيران الصديقة!، ويواصل الابن وأبوه رسم ما تبقى من الخارطة العسكرية الجديدة..
اختراق ألوية الفرقة من الداخل، وشراء ولاءات القيادات الوسطية، عامل تسبب في تسهيل مهمة السيطرة العسكرية على صنعاء التي جرى تطويقها فيما بعد بحزامين أمنيين أحدهما من الحرس الجمهوري والآخر من الأمن المركزي..
ذات العامل لعب دوراً محورياً في فصم عرى ولاء بعض الألوية في المحافظات الجنوبية للجنرال، الذي كان منهمكاً، ليس فقط في يوميات الحرب، بل وفي تأمين نفسه من محاولات الاغتيال التي تعدت الرقم (8)، هذا عدا انشغاله في مساعي تأزيم القضية الجنوبية كوسيلة ضغط لإيقاف مخطط التحجيم الذي سرعان ما تحول إلى مشروع اجتثاث كلي..!
فكرة الجيش الشعبي المدعوم سعودياً، بقدر ما كانت خطوة اضطرارية أقدم عليها الجنرال، فإنها جسدت أيضاً ذريعة لغضب رئاسي عارم أدى لإيقاف الجولة الخامسة من الحرب وإتباعها بفاصل إقصائي لرجال علي محسن في بعض الألوية والقطاعات العسكرية كالاستخبارات مثلاً..
بالإضافة لنزول لجان تفتيش إلى ألوية الفرقة تولت إسقاط أسماء من لم يكن موجوداً من الضباط والصف والجنود، ليقطع مشروع الاجتثاث (العسكري) بهذه الخطوة 60% من أهدافه، وهي نسبة ما لبثت أن ارتفعت إلى حيز الـ(70%) إثر تنحية علي محسن من قيادة الحرب السادسة وانكسار اللواء (105) الذي كان يضم قيادات حرب المناطق الوسطى! علاوة على سقوط محافظة جديدة في يد الحرس الجمهوري ألا وهي (البيضاء) بعد رحيل لواء العمالقة عنها ليلاقي مصيره في صعدة..!
* ماذا تبقى للجنرال إذن!
بضعة ألوية مترهلة في صعدة، وأخرى غير موثوقة الولاء في صنعاء وبعض المحافظات، ذلك هو ما بقي للجنرال علي محسن من قوة عسكرية كانت ضاربة ذات يوم..
بالمقابل.. أضحى الحرس الجمهوري متواجداً في المحافظات الرئيسية، مشكلاً مع معسكرات الأمن المركزي المنتشرة في عموم المحافظات قوة ضاربة تجسد ملامح عهد السلطة الجديد بعد أن تطوى صفحة الرئيس والجنرال..!
* القيادة والسيطرة وصلاحيات القائد العام
ذريعة الفشل في الحرب الخامسة، مضافاً إليها كل التطورات المعروضة باختصار آنفاً، تسببت بتحويل الجنرال علي محسن في الحرب السادسة من قائد للمعارك إلى مجرد قائد ميداني لجبهة الملاحيظ ينفذ التعليمات!
فالعميد أحمد، قائد الحرس الجمهوري، أضحى هو القائد الفعلي للمعارك من داخل العاصمة صنعاء بمعية رئيس هيئة أركان الجيش ونائبه لشؤون العمليات وقائد سلاح الطيران، حيث جرى تكوين غرفة عمليات للحرب تحت اسم (القيادة والسيطرة) تتولى إدارة وتوجيه القوات المسلحة بكافة تشكيلاتها خلال يوميات الحرب..
بهذه الخطوة يكون قائد الحرس الجمهوري قد حاز على لقب (الرجل الأقوى) في الجيش، الذي ظل حكراً على الجنرال علي محسن الأحمر لسنوات طويلة..
دلالات وجود أحمد على رأس غرفة القيادة والسيطرة لا تقتصر على حيازة لقب الرجل الأقوى فحسب، إذ تحمل تأكيداً ضمنياً على ممارسة العميد أحمد للصلاحيات الممنوحة لمنصب القائد العام للقوات المسلحة والأمن الذي لازال شاغراً منذ وصول الرئيس إلى السلطة..
فيما مضى كان الجنرال محسن يمارس (عملياً) كثيراً من صلاحيات هذا الموقع الشاغر. قرار تعيين أحمد علي قائداً عاماً للقوات المسلحة والأمن، كان على وشك الصدور وفقاً لصحيفة إيلاف، إلا أن حسابات سياسية حالت دون ذلك، إيقاف القرار لم يمنع من الناحية العملية انتقال جميع صلاحيات وسلطات المنصب إلى أحمد عبر تكليف رئاسي شفهي..
* أسباب رفض التوريث
كيف انتهى الوضع بعلي محسن إلى هذه المرحلة بعد أن كان رجل الجيش الأقوى؟ هل هو راض بمصيره؟ هل سيرفع راية الاستسلام في وجه المد العاتي لمشروع التوريث؟ ثم لماذا لا يوافق على التوريث بدلاً من متاهة الحروب؟ هل يرجع رفضه لشعوره بأنه الأحق بخلافة صالح في حكم البلاد بعد رحيله، أم لخوفه من فقدان موقع كحاكم ظل، أم إن الإيمان بمبادئ الثورة هو الدافع..!؟
تساؤلات عديدة أضحت تفرض ذاتها لاسيما مع التطورات الأخيرة. محاولة الإجابة عنها تبدو مخاطرة معروفة المآل مسبقاً، فالإجابات الدقيقة لا يملكها سوى الجنرال والرئيس وبعض المقربين منهما، وفيما عدا ذلك تظل التكهنات والفرضيات سيدة الموقف متأرجحة بين الصواب ونقيضه.
بالاستناد إلى الافتراض التكهني، يمكن القول -كإجابة للعلامة الاستفهامية الأولى- إن الرجل لم يأل جهداً للحيلولة دون بلوغ أعتاب هذه المرحلة، افتعال الأزمات، جسد أكثر الخيارات انتهاجاً وفاعلية، لكنها –أي الفعالية- اتصفت باللحظية والآنية..
استخدام الجماعات، واللجوء للمعارضة، وطلب العون السعودي، وتأزيم الجنوب، إجراءات تشي بإجابة واضحة للتساؤل الثاني، إذ لو كان الرجل راضياً بمصيره لما لجأ لاستخدام كل هذه الأوراق..
كإجابة ثالثة، يبدو الرجل عاقداً العزم على استكمال طريقة المناهض للمشروع الأسري الصالحي الذي يجري تنفيذه تحت يافطة إعطاء الفرصة للشباب..
وعليه.. فالاستسلام يقطن في ذيل الخيارات، إجابة رابع التساؤلات: في وضعه الحالي ربما يقبل بصفقة تقيه مصير الاجتثاث على طريقة (عش اليوم لتحارب غداً)، وبالتالي ليس مستبعداً إذا اتصفت الخيارات بالمحدودية قبوله بالتوريث وفق اتفاق لا يشمله فحسب بل يشمل حلفاءه في (المركز المقدس) وبصورة تحفظ مصالحهم ومكتسبات العهد الصالحي الوافرة..!
آخر الإجابات: يزعم مقربون أنه ليس طامحاً إلى خلافة صالح مستدلين بقدرته على انتزاع الحكم لو كان يريد ذلك في حقب مضت. معارضته للتوريث دافعها قد لا يرجع لإيمانه بمبادئ الثورة، للمسألة علاقة بتعقيدات كثيرة أبرزها الخوف على وضعه النفوذي والسلطوي كحاكم ظل، بالتوازي مع صعوبة ابتلاع رئيس وشركاء كانوا مجرد أطفال أمام الجنرال يحتضنهم بين يديه ويمنحهم حق (الجعالة)..! من التعقيدات أيضاً الشعور بأن الدولة التي صنعها بكفاحه ستؤول بشكل كلي للحظيرة الغربية ولن يبقى للإسلاميين موطئ قدم فيها..
* عامر ومحسن والنهاية الواحدة
بين إحصاء أنفاسه وقطعها، تكمن النهاية التي تتجه صوبها الأمور، قطع الأنفاس ظل خياراً فعالاً بدليل محاولات الاغتيال المتعددة، سبب اتخاذه في فترة مضت، وفق ما يتردد، الحيلولة دون التآمر على الجيش التقليدي وتفكيكه..!
النجاة الدائمة التي أوحت بصعوبة تنفيذ الخيار، جعلت تفكيك الفرقة والجيش التقليدي هو البديل، ليتراجع بذلك خيار قطع الأنفاس لصالح إحصائها، وهو ما لن يتأتى إلا بخلع الرجل لبزته العسكرية والتخلي عن منصبه والقبول بمصير التقاعد، إما إلى المنزل لتأليف المذكرات والالتقاء بزملاء الدراسة على طريقة (كانت لنا أيام)، أو الخروج إلى منفى اختياري، وفي كلتا الحالتين سيحصون عليه أنفاسه وحركاته وسكناته للتأكد من تقاعده قولاً وفعلاً..
هنا تبرز المقارنة الحقيقية بين المشير عامر والجنرال علي محسن، فالأول نزعت سلطاته مع سبق الإصرار والترصد، وجرى إقصاؤه بالقوة، وفرض عليه خيار الإقامة الجبرية قسراً قبل أن ينتقل إلى العالم الآخر وسط تشكيك كبير في رواية انتحاره..
أما الثاني فلا زال حتى اللحظة في طور نزع السلطات يقاوم جموح رغبة الإقصاء ومشروع الاقتلاع، لكنه مهما صمد أو قاوم، فاحتمالات النصر والعودة لمجد سلطة ما قبل حرب صعدة تظل ضعيفة، على الأقل من الناحية العسكرية وليس السياسية والقبلية والتجارية..
شخصياً، لن يفاجئني الجنرال محسن ذات يوم، إذا أفصح في مذكراته عن ندمه الشديد على إخلاصه وولائه المطلق للرئيس علي عبدالله صالح. السبب ببساطة يرجع للألم الذي عادةً ما يضطرم بين ضلوع من وجد نفسه يلاقي جزاء سنمار، فلولاه –علي محسن- ما صعد صالح إلى السلطة أو بقي فيها إلى وقتنا الراهن، ولولاه لنجح انقلاب الناصريين ولأصبح صالح في عداد الملتحقين بالبرزخ آو الماكثين في منفى الاغتراب السياسي..
* البطولة والتكلفة الباهضة
ربما كان فاسداً مستغلاً سلطته للإثراء الشخصي، وربما كان أيضاً تقليدياً مناهضاً لمشروع الدولة المدنية الحديثة، وربما كان سفاحاً كما يزعم الحوثيون، وربما.. وربما...الخ، لكنه في نهاية المطاف سيصبح بطلاً شعبياً، أو هكذا يبدو الأمر على الأقل من وجهة نظري..
فملامح النهاية التي تقترب تؤكد أن ذكراه ستجد طريقها نحو التخليد رغم كل سيئاته ومساوئه، تماماً مثل الرئيس الشهيد صدام حسين الذي قضى نحبه بشموخ الأبطال وشرف المؤمنين وهو مشهد محيت معه كل فضائع نظامه الحاكم ضد العراقيين (مع فارق التشبيه طبعاً)..
في نظر الكثيرين، علي محسن يناضل الآن، بغض النظر عن الدافع الحقيقي، للحيلولة دون إعادة النظام الملكي إلى اليمن في ثوب التوريث، أي أنه يحاول الإبقاء على رمزية الثورة السبتمبرية عبر منع النجل من وراثة سلطة الأب. نهايته على حال النضال هذه، سواء كانت بالإقامة الجبرية أم المنفى أم الالتحاق بالرفيق الأعلى، ستصنع منه بطلاً ثورياً يوازي علي عبدالمغني وعبدالفتاح اسماعيل..! بل ربما يترحم عليه أعداؤه ذات يوم بعد إدراكهم أن التكلفة الباهضة لإقصائه (دولة الحوثي) أضحت وبالاً وهاجساً يقض المضاجع ويحبس الأنفاس وكفى!