عرض مشاركة واحدة
قديم 01-08-2003, 05:04 PM   #1
ابن حضرموت
حال نشيط

افتراضي التنبيه على آداب الخطاب للإمام محمد بن عبدالله بن شيخ باعلوي

فأول ما ينبغي أن نبدأ به التنبيه على آداب الخطاب ؛ أعلم أيها الأخ أن ذوي العقول لا يقدمون على فعل إلا بعد الرؤية التامة ، والفكر الصحيح ؛ فلا يخلُوَنّ شيءٌ من أعظم أعمالهم عن قصد ونظر ، عبادة كان ذلك أو غيرها .. فلا يفعلون شيئا عبثا ولا عادة ، ويؤسسون أعمالهم على المقاصد الصالحة ولا سيما في الكلام . فإن له أسرارا لطيفة ، وحكما عجيبة ينبغي لذوي العقول والأفهام أن يتفطنوا لها ، فينبغي للإنسان أن يعمل الرأي قبل الكلام ، فيجعل لسانه من وراء قبله ، فلا يقل شيئاً حتى يزنه بميزان العقل .. فإذا وفق العبد لفهم هذا كان هذا مبدأ أمره صلاحاً ، وآخره نجاحا ، وليرفق الإنسان في كلامه ، ولا يكثر من الكلام .. وإن كان حسنا ، فإن الشيء إذا أُكثِر منه سمُج ! وكذا لا يكون مهذارا ولا صخاباً .

وليقطع الكلام والنفوس تستحليه قبل أن تمجه الأسماع ، والذي ينبغي للإنسان أن يراعيه ولا يغفل عنه أن لا يتكلم بشيء لا فائدة فيه ، كالأشياء القبَلِيّة المنقضية التي لا يتعلق بذكرها غرض مطلوب وأهل المعرفة يسمّون هذا النحو من الكلام (( الكلام الميت )) وإنّما يتفانى في هذا أهل الغفلة وأصحاب العقول الضعيفة ، إنما حسب الإنسان من الكلام ما تمس الحاجة إليه ، ومنه قيل : نصر الخطأِ خطآن والكلام في الماضي تضييع زمان ، ويجتنِب من الكلام ما يحرك النفوس ويثير الشرور ، فإن النفوس تطالع النفوس وبعضها يحسّ بأحوال البعض ، فمتى صدر عن الإنسان كلام ظاهره حسن لكنه عن نفس ثائرة ودخيلة سيئة حرّك نفس المحاذي وأثار شرّها

واعلم أن الأهواء تحرك الأهواء ، وتثير شرها ، فالأهواء كامنة في الأنفس كمون النار في الزناد ، إذا قابلت هواء محركا تحركت ، فقد يكون الإنسان قارّا ساكنا حتى يقابله صاحب هوى فيتحرك هواه ، وكذا يتنزل الكلام من باطن المخاطب على قدر أحوال الباطن سكونا وانزعاجا ، لتعلق أحوال الباطن بظواهر الكلمات والألفاظ ، ألا ترى أن الإنسان يلقى صاحبه بكلام ظاهره الخشونة والمساءة ، لكنه عن نفس طيبة فلا يؤثر في نفس المخاطب ولا يسؤ وه ، وهذا الكلام بعينه إذا صدر عن نفس ثائرة ، وضمير سيئ أزعج المخاطب وحرّك شرّه ! فليراع الإنسان ذلك من نفسه ومن غيره إصلاحا وتسكينا ومن أحسن ما قيل في تبيين سر الكلام قول سيدنا علي – كرم الله وجهه - : مغرس الكلام في القلب ، ومستودعه الفكر ، ومقوّيه العقل ، ومبديه اللسان ، وجسمه الحروف ، وروحه المعنى ، وحليته الإعراب ، ونظامه الصواب !!

وأعلم أن تأثير الكلام في نفس السامع على قدر إصداره من نفس المتكلم ،فإن الكلام صادرا عن قوة نفس .. أثّر في السامع تأثيراً قوياً ، وإن صادراًً عن ضعف نفس .. أثّر في السامع تأثيراً ضعيفاً ، فلأجل ذلك ينبغي لكل أحد أن يعتبر حال نفسه قبل إصدار الكلام ؛ ليصدر كلامه عن نفس ساكنة .. يلاطف صاحبة بالكلام ملاطفة ليأخذ به قلبه ، ويسُرّه ولا يغضبه ، ويشهد لهذا قوله تعالى ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ وكذلك قوله تعالى : ] ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم [ ثم أنظر إلى قوله تعالى ] وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم [ ، وهذا إشارة الى تعظيم المنّة على من مُنِحَ هذا الخلق .. فافهم واجهد على التخلق به ، فإنه خلُق الخواص ، فانظر أيها الأخ إلى هذه الأخلاق العالية ، فتخلق بها ونافس عليها .. فدارِِ الناس مداراة ، واحذر ثوران النفوس ؛ فإن النفوس إذا ثارت رجعت إلى طباعها فمالت إلى الشرور وإبداء المعايب وإذا رضيت انبسطت ، وتهيأت بإصدار الخيرات . واهجر الخلاف والمنازعة جهدك وطاقتك باطناً وظاهراً ، فإن لم تستطع بباطنك فليكن بظاهرك ، وحاسن صاحبك محاسنة ، فإن الخلاف أصل الشرور والبليات ، وهو – كما قيل - : الخلاف يهيج العداوة ، والعداوة تستنزل البلاء ، فعليك أيها الأخ بالوفاق ، وتسكين الأنفس ؛ فإن القلوب إذا اتفقت تيسرت الخيرات ، وتنزلت البركات . قال علي – كرم الله وجهه - : عوّد نفسك حسن النية ، وجميل المقصد .. تدرك في مساعيك النجاح . فرب نيةٍ أنفع من عمل فافهم ، واهتم بإصلاح أخلاقك تُصِب مراشدك في أمرك ، فالعلم بالتّعلُّم ، والحلم بالتّحلُّم ، كما قيل :

لذي الحِلم قبل اليوم ما يقرع العصا () وما عُلِّم الإنسان إلاّ ليعلما

وليحفظ الإنسان منطقه ، وليجتنب فاحش الكلام أن ينطق به ، أو يحكيه عن أحد ، فإن عيبه في عاجل الأمر عليه لا له ، وله فيه أوفر القسمين : ألا ترى إلى قول الشاعر :

عر اعر لا ينطقون الخنا () ولا يحفظون الكلام المعيبا

يروم الفتى منهم جهده () فإن قال ، قال خطيباً مصيباً

وكذا ينبغي للإنسان أن يمسك عن الكلام في حالتي الغيظ والغضب ، لأن الكلام حينئذ يكون إلى الزلل أقرب ، لانزعاج النفس وغليانها ، ولكن يصبر حتى يسكن جأشه ، ويذهب انزعاجه .
  رد مع اقتباس