11-12-2009, 06:43 PM
|
#8
|
حال جديد
|
ثالثا:ضيق الأفق المذهبي في تكريس الصراع والطائفية
قد يأتي إنسان ويقول: إن الحركة الوهابية قد كانت دعوة إلى إصلاح العقيدة لا غير وأنها لا علاقة لها بالماديات والتخطيط لاستغلالها، أو أن الحركة التزمت مذهب السلف ولم تحد عنه قيد أنملة، فلا حاجة لها إذن بالمفكرين ولا أصحاب الكلام، ولا ...الخ. وهذا المبرر صادر فعلا من طرف علماء الحركة[34] وقد يبدو موضوعيا إلى حد ما لو صحت النية والمنهج، لأن هذا النوع من الإصلاح هو الأساس في إحداث التغيير الاجتماعي ويدخل ضمن العامل الثقافي في التغير الاجتماعي، لكن يبقى ما هو الأسلوب الذي سلكته الحركة الوهابية في ترسيخ العقيدة في النفوس كما أنه يتساءل ما هو المستوى المنهجي الذي انطلقت منه؟
إن محاربة الوهابية لعلم الكلام والفلسفة والتصوف بهذا المصطلح في رأيي قد أمال الكفة ضدهم من حيث التقييم العلمي الذي يفرض نفسه عليهم. وذلك بالرجوع إلى القرآن والسنة فمثلا حين نسمع قول الله تعالى :"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".
نفهم مباشرة من هذا الخطاب الحث على طلب العلم والاستدلالات واستعمال العقل استعمالا منظما وممنهجا وهادفا لغاية سامية، هي الكشف عن حقائق الكون وتفسيرها. وبذلك تتجلى لنا معاني القرآن الكريم التي لم ندركها للوهلة الأولى ويتجلى إعجازه سواء لمن ينظر أو من يجرب.
إذن، فالقرآن الكريم أعطى لنا الحرية في البحث والتعليم والغوص بالكامل سواء في العلوم النظرية أو التجريبية، لكي تتجلى لنا الآيات ويعضد بعضها بعضا لتطمئن قلوب مريضة، وتسمو أرواح متشوقة إلى إدراك الأسرار التي أودعها الله سبحانه وتعالى في أغوار هذا الوجود، إضافة إلى الحرية في التعبير والإصلاح المتجدد والموافق لروح النص القرآني والحديثي.
إن انعكاس منهج الوهابية الفكري على مجتمعها كان انعكاسا واضحا وذلك أنه أصبغ عليها صبغة سطحية وسكونا فكريا، فلا حركة تنطلي بأعراضه.
نعم! إن الحركة الوهابية قد حررت عقولا وأزاحت وثنيات وطهرت بقاعا حسب زعمها ولكن عقول من يا ترى تلك التي استطاعت الوهابية أن تصلحها وتطوعها لصالحها، هل عقول الفقهاء المتمذهبين، أم عقول المفكرين المتكلمين والفلاسفة أم عقول العامة البدويين؟
فحسب ما يبدو لي أن العامة البدويين كانوا أصحاب نصيب الأسد في هذه التبعية أما غيرهم فنذر استجابته للحركة الوهابية رغم انزلاق كثير ممن يسمون إعلاميا بالعلماء في منحدرهم وخاصة في فترة ظهور البترول ووفرة الإغراء بالمال والمناصب والشهرة! وسبب هذا الاستنتاج، هو رجوعنا إلى كتابات الوهابيين واستقراؤنا لنصوصهم بحيث نجد أنهم لم يأتوا بجديد ولم ينتجوا فكرا ولا فقها بالمعنى اللازم، وإن صدرت عنهم بعض الفتاوى التي يكاد يبين فيها بعض التفتح المذهبي إلا أنها لم تكن ذات شأن يذكر، فأهم كتبهم تضمنت الكلام عن التوحيد، والذي يسمع بعناوين هذه الكتب قد يتبادر إلى ذهنه أنها تعالج مواضيع أشكل على العلماء حلها أو كانت مجال التدقيق واستخراج معانيها باجتهاد علمي، لكننا حينما نتفحصها نجد أنهم يستتبعون الآيات والأحاديث بعضها ببعض ويردفونها بشروح قصيرة، بحيث لم يخوضوا في تأويل ولا بحث واسع في المدلولات اللغوية أو الإمكانات العقلية والتضادات، بل إنهم أخذوا الآيات على ظواهرها وشرعوا في الاستشهاد بها على مذهبهم في التوحيد وموقفهم من جسمية الروح والتواصل والمحبة كما سبق وبينا معتقدهم باختصار في المقال السابق أورد على سبيل المثال بعض أنواع التأليف عندهم يقول محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله:[35]
"القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركوا زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" سورة العنكبوت: 65 .
وهذا الأسلوب في الإسقاط يكاد يطابق حرفيا ما ورد في حق الخوارج كما رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين حيث يقول :"وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله" وقال: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين".
ولقد كان لهذه المنهجية في الكتابة المتقطعة دور خطير بوضع الأمور في غير محلها، وذلك أنا رأينا كلمة الشرك تطلق على كل من يشتبه في معاملته الروحية حيث اتفق وهو شيء يستلزم الحيطة التامة في إصدار مثل هذه الأحكام كما هو منصوص عليه شرعا وكذلك إضفاء المقارنة بين مشركي الجاهلية وبعض المسلمين لوجود نوع تشابه في بعض المظاهر[36]. كما أن الوقوع في الشرك مستبعد عن المسلمين بالنص النبوي وقسمه كما سبق ذكره.
هذا وقد تسربت هذه المنهجية إلى العلاقات العامة ودخلت في أوساط التركيبات الاجتماعية وأخذها العامة بمفاهيمها السطحية حتى صار كل من يقف أمام قبر إلا وهو عرضة للرمي بالشرك، وبهذه المناسبة أورد حادثة ذكرها المستشرق الرومانسي "لامرتين" في كتابه: السفر إلى الشرق voyage en orient يحكي فيها مناظرة وقعت بين وهابي ومسيحي حول التوحيد.
وبعد إلقاء الأسئلة من طرف الوهابي وإجابة المسيحي له، قال الوهابي ما مترجمه:
"- إن الترك قد جعلوا من نبيهم إلها. وصلوا إلى قبره مثل المشركين، لعنة الله على المشركين، ولا يصلح لهم إلا السيف".
إلى أن قال:
"- كنت أعتقد لحد الآن أن المسيحيين كانوا أكثر الناس أساطير وخرافات لكني الآن مقتنع أنهم أقرب الناس إلى الحق من الترك"[37].
وهذه الحكاية وإن كانت لا تخلو من سموم المستشرقين إلا أنها تصور لنا مدى سذاجة هذا الوهابي الذي انخدع بتعمد المسيحي الإجابة المطابقة لعقيدة الوهابية، وهو الشيء الذي يشير إليه "لامرتين" في متخلل الحوار الذي جرى بين الرجلين. كما تبين لنا سرعة الحكم بالكفر على بعض المظاهر التي كانت تبين على بعض الطوائف الإسلامية، وبالتالي كيف استساغ هذا الوهابي أن يفضل المسيحي على إخوانه من الأتراك. وهذه السذاجة والصلف والجمود الفكري قد انعكس على عقيدة الوهابيين أنفسهم وعرضوا أنفسهم لأن ينعتوا بالمشبهة والمجسمة والحشوية وكذلك التقارب بين تصوراتهم وما عليه المسيحيون من تجسيم وتشبيه في بعض القضايا وخاصة الصفات والاستواء على العرش وما إلى ذلك في أخذها على ظاهر مادي يتنافى مع عقيدة التقديس والتنزيه. متأثرين في ذلك وبشكل مشوه ببعض آراء الكرامية وابن تيمية[38].
إن هذا السلوك نحو المخالفين في المذهب, وهذه السرعة في التكفير، كانت وراء انعدام التجانس الطائفي في الأقاليم الوهابية، والذي استتبعته حروب دامية تقشعر منها الجلود وتشمئز من الاطلاع على أخبارها النفوس، والذي يقرأ كتب المؤرخين الوهابيين يجد العجب العجاب مما يسيء إلى سمعة الحركة الوهابية ويؤشر على خطرها ونزعتها للعنف، وقد كنت خلال بحثي أتصفح كتابا لابن بشر: "عنوان المجد في تاريخ نجد"، فلم أجد صفحة تقريبا إلا وفيها قتال مرير وكر وفر حتى خيل إلي وأنا أقرأ هذا الكتاب كأنني أتناول كتاب الأساطير الذي يصور لنا حروب "سيف بن ذي يزن" مع العفاريت. فكان الأولى بالعلماء الوهابيين أن يحذفوا هذه الكتب من قائمة المراجع التاريخية عوض أن يساهموا في نشر مثل هذه المهازل التاريخية!.والله الهادي على الصواب.
|
|
|
|
|