عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2002, 03:25 PM   #1
حسن البار
شخصيات هامه
 
الصورة الرمزية حسن البار

Post خريبـــة "الاصالة والتراث" في ذاكرتي ...

خريبـــــــة "الأصالة والتراث" في ذاكرتـــــــي :

بسم الله الرحمن الرحيم

عشت طفولتي كأي طفل من اطفال قريتي الجملية .... أسرح وأمرح بين جبالها وفي بطون أوديتها ...

الاسم المعروف لقريتي الحبيبة .... {{ الخريبــــــة }} .... ويحكى ان نبي الله ( هادون ) عليه السلام مر بها فوجد إمراءة عجوزاً تستريح في خيمة ... سألها عن حالها : فقالت انني أسكن هذه ( الخرابة ) فقال لها : ( بورك لك من خُريبة ) . ومن هاهنا جاء الاسم ... ويوجد قبر هذا النبي في قرية ( هدون بدوعن ) وتبعد عن الخريبة 5 كيلومتر تقريبا وله زيارة سنوية في 15/ شعبان من كل عام ...

عاشت معنا خريبتنا أيامنا كما عشناها ، أستمتعت معنا باوقاتنا كما تذوقناها ... أصبحت جزءا من أرواحنا ووجداننا لانقوى على العيش بدونها ...
اذا تأملت جبالها ترى ابداعا غاية في الحُسنِ والجمال . على تغاريد العصافير نستيقظ ، وعلى اشعاعات اضواء القمر الصافية نتسامر ونرقد ...

شاءت الأقدار ان يكون بيتنا أعلى بيوتها . يعجز القلم عن وصف جمالها الفاتن ، وحسنها الساحر ، وطبيعتها الأخّاذة التي تأسر القلوب وتجتذبها ، ذلك عندما تكتفي فقط بالنظر من نافذة البيت الى جبال وسفوح وبيوت ونخيل قريتي العامرة ...

قيم وأخلاق متأصلة ،،، معاني وأسرار متجذّرة ،،، ترابها مسك ،،، أحجارها يواقيت ،،، أنهارها بنكهة رحيق العسل الدوعني المصفى ...

أهالي قريتي بين عابد وعالم وطالب علم . وما عداهم صادق في محبته لهم "والمرء مع من أحب" ، أنوار العبادة والتقى والزهد والصلاح في أهلها ظاهرة ، كرم في اخلاقهم ، سماحة في نفوسهم ، طيبة في قلوبهم ، من أعتاد زيارة بيوتها وجبالها ومعابدها ومساجدها يشعر بانوار تتلألأ وأفئدة تجتذب وقلوب تطير ... لا يمتلك من يكتب له الله زيارة هذه المواطن سوى عينيه يتأمل بهما هذه المعالم وهذه الآثار وهذا التراث الذي تركه رجالها لمن سياتي من بعدهم ، أما الارواح فتطير في سماء الجذب الروحي . والصفاء القلبي .. لتشاهد من حقائق العلوم ما خفي عنها وتنكشف لها استار الحقائق لتشاهد بدائعها ...

يستيقظ أهالي ( خريبتي الجميلة ) في الصباح الباكر ، جميع النساء لا وقت لديهن للعودة الى فراش النوم بعد اداء صلاة الفجر . يتجهن جميعهن للقيام بمهام البيت من اعداد وجبة الافطار ( باشعال النيران في التنانير ) المخصصة لاقراص الخبز ، والقيام بتنظيف وكنس البيت ( الدار ) من الأعلى الى الأسفل "وكل أسرة تسكن في بيت متكامل بمفردها" ، وبعضهن يخرجن أيام مواسم التمور ( الرطب ) لاخذ ما تيسر لهن من ثمار النخيل المنتشرة في اسفل القرية . أما الرجال فمنهم ( وهم الاكثرية ) من هم على هذا الحال في استيقاظهم ومنهم من يعاود النوم حتى الساعة السادسة والنصف اذا طال سباته ...
تجتمع الاسرة كلها لتناول وجبة الافطار بخبزه وتمره وقهوته وعسله ( ان وجد ) وأصناف أخرى لتكتمل مائدة الافطار ...

في بيتنا جنّة ، لا أغادر البيت حتى أطوف بها واستنشق عبير زهورها ورياحينها واقوم باصلاح ما يحتاج الى الاصلاح فيها ... أحببتها وأحبتني ... واستأثرتها فاسرتْني ، كانت أشجار الليمون أعظم أشجارها وللرمان والكروم جزء من جمالها ، النعناع والرياحين والازهار وبعض البقوليات والفواكه أهدت لنا أحلى واطيب ثمارها ، عاشت في وجداني ، وعشتُ في جذورها ، اذا تساقطت أوراق الاشجار تساقطت معها الدموع ... واذا نبتت مرة أخرى عادت معها الآمال والاحلام ، لم يبقَ منها سوى ذكريات محفورة في القلب وبعض الصور الفوتوغرافية ...

سوق الخريبة:
من أكبر الاسواق في وادي دوعن ان لم يكن أكبرها ، يقصده الناس من كل جهات الوادي ، فالبدو بجمالهم المحملة بالحطب والفحم ( السخر ) ، ومن شبام وسيئون تجار المواشي والاغنام وفي مقدمتهم ( عبيد حم ) "شخصية معروفة من مدينة شبام" ، أما تجار العسل الدوعني النقي فتجدهم يصولون ويجولون باقراصهم المعبأه في العلب المعروفة والمخصصة لذلك ، وهناك زوايا وأركان في السوق مخصصة لجلوس أشخاص معروفين لا يتركونها الا حال مرضهم او سفرهم ، تجارها من الصالحين الأخيار ، فمنهم التالي لكتاب الله طوال وقته واذا جاءه المشتري وضع علما على الآية التي وقف عندها ليستانف القراءة عندما يغادر المشتري ، ومنهم الذاكر لله فترى شفتيه تتحركان طوال الوقت بذكر الله ، ومنهم صافي السريرة لطيف المعشر يلطّف لهم اوقاتهم بطرافته وخفة دمه ، ومنهم الحريص على عمل الشاي في وقت معروف لتوزيعه على جيرانه من أصحاب المحلات ومنهم ... ومنهم ... ومنهم ، وقلّما تجد من يعتمد في تصريف بضاعته على الغش والكذب ...

جامع الخريبة :
له تاريخ كبير في الدعوة الى الله ... أسسه الشيخ / عبدالله بن أحمد باسودان .. وأقام الرباط العلمي فيه ( رباط باسودان ) وقد تخرج من هذا الرباط كثير من العلماء وطلبة العلم وكان علما بارزا ومنبرا علميا لامعا لنشر العلم والدعوة الى الله ، وقد بشرني أحد الاخوان أن هناك مؤلف سيصدر قريبا عن هذه الاسرة العريقة ....

في طفولتي وفي بداية شبابي كان لي حظ وافر من التلقي والأخذ في هذا الجامع ، فقد سخّر الله لهذا البيت علما من اعلام الدعوة الى الله الذين أفنوا أعمارهم وأوقاتهم في سبيل الدعوة الى الله مخلصين النيّات محتسبين الأجر بسخاء نفس وكرم أخلاق وهمم عالية ...
مهما خرجت مبكرا في آواخر الليل تجده قائما في محراب المسجد الجامع يصلي ويتهجد ...
اذا نعتّه بأجمل الخصال ووصفته بأحسن العبارات فلن تفىَ معشار حقه ...
في محياه آثار العبادة والصلاح ، اذا رأيته تذكرت الخالق ، واذا تأملت وجهه رأيت نوراً يتلألأ وصلاحا ظاهرا ، واذا إستمعت اليه وجدته عالما محققا ، وسيدا وقورا ، وشهما كريما .
خصص هذا السيد الكريم كل يوم بعد صلاة المغرب لتعليم أهالي ( قريتي المتواضعه ) أمور دينهم ، ففي ليلة السبت ترويح للقلوب بقرأة شرح قصيدة ( الرشفات ) للسيد / عبدالرحمن بلفقيه والتي شذى بجزء منها حفيد الشاعر : ابوبكر سالم بلفقيه ومطلعها :
اخواننا بالمسجد الحرام **** منّا اليكم أكمل السلام
والشرح للشيخ عبدالله بن أحمد باسودان . وكذلك ما تيسر من كتاب الامام الحداد ( النصائح الدينية والوصايا الايمانية ) ، أما ليلة الاحد وليلة الاثنين فدروس في الفقه ومن الكتب التى كانت تقراء (( الياقوت النفيس ،، المقدمة الحضرمية ،، منظومة الزبد وغيرها من كتب الفقه ) ، ليلة الثلاثاء في السيرة النبوية ، أما ليلة الاربعاء وليلة الخميس ففي تفسير القرآن الكريم ، و يقوم سيدي الامام بالتدريس وتفصيل المسائل وشرحها مع نصح وتوجيه وأرشاد للعامة والخاصة رحمه الله رحمة الابرار وأسكنه الله الفراديس العالية من الجنان هذا هو خليفة الهادي والنور الساطع في ارجاء الوادي / حامد بن عبدالهادي الجيلاني .
كان رحمه الله سراجا ونورا يضئ لأهالي قريتي بل ولجميع أهل الوادي والبوادي فقلّما تجده يوما خاليا من وفد يأتي ليسأل عن مسألة في الفرائض او الرضاع او في مسائل الفقه الاخرى فيجزل للوفود الترحيب ويكرمهم أيّما إكرام ويجيبهم على اسئلتهم تفصيلا واذا أحتاج الامر الى كتابة الفتوى لا يتردد سيدي في كتابتها وبعد توقيعه عليها يعطيهم اياها لعرضها على أي عالم آخر اذا أحبوا التأكد منها ، واحيانا يأتي الخصوم لعرض قضاياهم المعقدة فيقوم سيدي بمساعدتهم على حلها بالحلول المرضية والعادلة .. محتسبا في ذلك الأجر لوجه الله ( لا يطلب على ذلك جزاء ولا شكورا ) ، وقد حضى رحمه الله بالاحترام والتقدير من الجميع بمن فيهم المنتسبين آنذاك الى الحزب الاشتراكي وهم المحاربين للدين ورجاله ، ولكن هذا السيد الكريم أخلص لربه وصدق في توجهه فرعته العناية الالاهية والحفظ الرباني من كل الاشرار .
أما ليلة الجمعة فتقرأ فيها شمائل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وقصة المولد النبوي في المسجد الجامع وفي بقية مساجد قرى الوادي المبارك ، فاذا مررت بين المغرب والعشاء في هذه الليلة بجوار أي مسجد تسمع اصوات الاطفال والرجال يشدون بمدح المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وتكرار الصلاة والسلام عليه ، وبعد الفراغ من المولد توزع بعض الصدقات ويهبها المتصدقون الى أرواح موتاهم ...

الليالي في الخريبة :

بعد صلاة العشاء يتجه جميع الناس الى بيوتهم لتناول وجبة العشاء والتسامر مع أسرهم وأهلهم ، فلايطول السمر كثيرا عند الغالبية ، فتجدهم يخلدون الى النوم قبل الساعة التاسعة – التاسعة والنصف مساء والبقية وهم قليلون يطيلون السمر الى الحادية عشر او ما يناهزها ...

تتنقل الاسرة في فصول أيام السنة الى أكثر من موقع في غرف البيت ، فأيام البرد الشديد داخل الغرف مع أحكام تام لجميع المنافذ المفتوحة في الغرفة ، وعندما يقلّ البرد شيئاً فشيئا ويبدأ فصل الصيف يتسامرون ويباتون في البرندات ( جزء مسقوف في الريم ) ، وعندما يشتد الحر فالجميع في ريومهم ( أسطح مفتوحة من توابع الغرف ) ...
اذا أستيقضت قبيل الفجر تشاهد النجوم منتشرة في السماء الصافية ، لياليها المقمرة يذهلك منظر خيوط أشعة القمر التي تنساب في أجمل حلية تزين اجواء قريتي العامرة . أما الليالي السود فلا تقوى على رؤية أقرب الاشياء اليك ماعدا نجوم السماء ...
سكون الليل غاية في الهدوء ، لاشئ يطرق السمع عدا صوت الريح وما ينجم عنها من أصوات غصون الاشجار المتمائلة بفعلها وغير ذلك من الاصوات المنخفضة ، تتجلى عظمة خالق هذا الكون في النفس وتستشعر الوحدانية المطلقة للمبدع العظيم ، وأنت في هذا الحال من التفكّر والتأمل والتمعّن والاستشعار ما تلبث أن يطرق أسماعك أصوات بارزة شجيّة وجميلة تنبعث من مآذن المساجد تناجي بارئها وخالقها ومولاها في هذا الوقت المتأخر من الليل بـ :
(( يا أرحم الراحمين أرحمنا ،،، يا أرحم الراحمين أرحمنا ،،، يا أرحم الراحمين أرحمنا ... أرحمنا وأرحم والدينا , وارحم مشائخنا , وأرحم معلمينا ، وأرحم جميع المسلمين . عافنا وأعفُ عنّا وأسترنا وأجبرنا وعلى طاعتك وشكرك وذكرك أعنّا . على الاسلام والايمان جمعاً توفّنا ، توفّنا وانت راضٍ عنا ، يا حي يا قيوم إرحم من لا يدوم فأنت الله الحي الدائم القديم ... لا اله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ... عفـــــوك يا اللـــــــه )) . تسمى هذه الادعية ( التراحيم ) ...
من أرد ان يغذي روحه لا توفوته تلك اللحظات وهذه الاوقات ، فلربما رفع أكف الضراعة ودعا ربه بقلب حاضر وخاشع وباكي حينها تتغشاه التجليات الربانية والانوار الالاهية لصبح وليّا لله ولينتقل الى مرحلة القرب والاخلاص والاطمئنان ، فهي هبات ومنح يعطيها الله من يشاء ، وتستوى القسمة بين الرجال والنساء ، فالسعيد من تعرض لاوقاتها وحرص على أن ينال نصيبا منها والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ...
يستمر سماع هذه الادعية من مآذن المساجد حتى يحين وقت آذان الفجر ...
يقول بامخرمة في وصف أهل دوعن : (( من توضاء وصلى منهم الفرض برهن ))
فالمسألة بسيطة والأمر هين وأبواب القبول مفتحة ولايحتاج الاقبال سوى لنيات صالحة وقلوب نقية وأعمال خالصة ... ... ...

أكتفي بهذا القدر ،،، وفي الحلقة القادمة سنستعرض ان شاء الله { بعض أئمة وأعلام القرية المعاصرين والقدماء ، ثم ( رمضان " موسم العبادة والخير " ) كيف يستقبله الناس وأين يقضون أوقاته وكيف يودّع مع ما يتخلل ذلك من اجتماعات واذكار واوراد مرتبة عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وفيها من العبر والدروس الشئ الكثير } .
الى ذلك الوقت لكم مني الشكر الجزيل والاعتذار الدائم وطلب السماح على تطفلي بطرق ما ليس لي به إختصاص ، المحبة وصدقها لها شأنها يجبرني أحيانا على بعض ذلك ... أمثالنا اخطاءهم كثيرة ومتنوعة ومثلكم من يغض الطرف عنها فأجعلو ما أنتم أهله لما ستشاهدون ... والعفو منكم ...
التوقيع :
الناس في الدنيا معادن
  رد مع اقتباس