عرض مشاركة واحدة
قديم 06-16-2007, 09:30 AM   #12
سالم محمد بلفقيه ((الشرقاوي))
شخصيات هامه
 
الصورة الرمزية سالم محمد بلفقيه ((الشرقاوي))


الدولة :  Saudi Arabia
هواياتي :  القراءة والسباحة وتصفح الانترنت
سالم محمد بلفقيه ((الشرقاوي)) is on a distinguished road
سالم محمد بلفقيه ((الشرقاوي)) غير متواجد حالياً
افتراضي

الحلقـــــــة الثانيــــــــة


الخوف من لا شيء



يجهل الأسباب التي تدعو إلى التوبيخ ـ الخبز اليومي ـ الصادر من الأوصياء المخولين بتربيته وشقيقه الأصغر نظرا لغياب الأب في المهجر. توبيخ دائم عند الخروج من المنزل والعودة إليه وعند تناول الطعام والخلود إلى النوم ، فهو متهم مع شقيقه في كل حدث لا يحبذه الكبار ولم يشهد عليه شاهد ، كإفراغ علبة السكر الصغيرة من محتواها من لدن مجهول أو اختفاء بيضة من ثلاث يبضنها دجاجات ثلاث في غرفة الرّحى أو شك في صلاة من غير وضوء . عقدة الخوف من لا شيء لازمته حياته خلال أطوارها حتى بلغ سن الكهولة ، وكان يرتجف من الداخل كلما قابل الثري العربيد الذي عمل لديه محاسبا ومشرفا على بعض أعماله الذي يفاجئه بغضبه وسوء ظنونه ، بعد وشاية كيدية أو نتاج شك .
فمنذ أن أدرك من حوله وما حوله لم يأنس قط بأحد ، وإن كانت جدته من الأب تسليّه بعطفها الفيّاض في لحظات الصفا والتّجلّي يشعر معها بقليل من المؤانسة التي لا تستمر طويلا فالمنغصات لا تدع لحلم طفل أن يطول في ديار يأتيها المدد من ديار بعيدة ، وليس ذاك بسب مفاجآت الدهر المؤلمة من جفاف وقحط في قرية جلّ أهلها فقراء يعاني نفر منهم من الرجال والنساء من داء السّل ، أو بسب حالة اليتم لغياب أمه وذهاب معرفتها بالدنيا وهو في الثانية من عمره ، ولا لأنه يتعرض للإذلال كلما أقحمه أحد رجال العشيرة مع فتىً آخر في صراع كصراع الدّيوك كل يوم تطلع فيه الشمس ، فرجل العشيرة يمرّن ابن العشيرة على الجرأة والإقدام والاكتساح وعدم الاستسلام أو السكوت على الضيم أو القبول بالهزيمة ، فيفتعل خصاما بين البراعم ، بل لقسوة وغلظة وتوحّش من حوله نتيجة لظروف المعيشة القاسية المصاحبة لجهل مطبق يعيش أصحابه في بلاد شبه صحراوية ، يسكن جزء كبير منهم الجبال ومن تحضر منهم استوطن الوديان وسفوح الجبال ، فلا شفقة على طفل باكي ، لا يلتفت إليه أحد إلا عندما يكون مريضا ، مدّعين أن ذلك الشعور نابع من إيمان بأن كلّ أذى يحل بإنسان فيه صالح ومن يدري....؟ وأن الصغير سيكبر وينسى.
يتحدثون عن المرأة باحتقار ، فهي في المقام مذلة وعار، وإنه من آداب الحديث ومن اللباقة أن يسبق ذكرها عبارة: [ الله يعزّك ] أو [ الله يكرمك ] وهما الجملتان اللتان تسبق ذكر الحمار أو دورة المياه ، غير أنهم يقدسون الأم فيحنون لها الرؤوس ويتسابقون بلهفة ورغبة إلى برها وكسب ودّها ورضاها ، معتقدين يقينا بأنها صاحبة حق وفضل كبيرين. النساء في المسمى: [ عار ] ، والعجيب أنهم يقاتلون دونهن كما فعل عمرو بن كلثوم مع المنذر بن النعمان.
الدفء العاطفي معدوم وأواصر القربى ليست وثيقة ، وكيف ستكون دافئة ووثيقة وهو الذي ينعتونه وشقيقه الأصغر بـ [ السواحلية ] أي بالمولود في شرق أفريقيا [ كينيا ] تصغيرا واحتقارا لأنهم من بلاد زنوج لا يدين أهله بالإسلام ، فهما نكرة في الوسط الحضرمي النقي ، وإن انحدرا من أبوين حرين كريمين ينتميان إلى معاوية الأكرمين.
اللحظات التي يشعر فيها بالأمان هي تلك التي يقابل فيها معلّمه في الكتاب ، إمام مسجد القرية ، المعلم أحمد ، المؤمن ، ذو القلب الرحيم ، ولعلها تعود لأسباب ثلاثة: الأول: أنه يبتسم في وجه الصغار. الثاني: أنه يمتدح السواحلي كلما قابل أباه أو جدته من الأب العجوز الصارمة طالبا ـ بأدب ووقار ـ الحد من معاناة الطفل [ السواحلي ] وشقيقه لمعرفته بما يحدث لهما ، والسبب الثالث: أنه يقرأ بصوت مؤثر دوما في صلاة الجهر سورة قريش بترتيل مؤثر فيشعر بالاطمئنان اللحظي عندما يسمع الآية: [ الذين أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ] ، كما أنه يشعر بأن لفتة المعلم الكريم نحوه فيها عطف الأب لحرمانه من الولد ولرغبته الشديدة في تنشئة الصغار نشأة إسلامية . إنه يشعر أيضا بشيء من التنفيس والطمأنينة عندما يؤم معلم الكتاب المصلّين ويقرأ بصوت رخيم، سورة [ قريش ] فيشعر بالاطمئنان ليقينه بالرغم من حداثة سنه بأن الله يرحم عبده بالإطعام والأمن ، وهناك بعض نسوة من كبار السن يعطفن عليه لمعرفتهن بمأساة اليتامى ، خاصة اللواتي لديهن خبرة بعلاقات زوجات الآباء مع من فقد أمه . يجد هنا قليل من الدفء فيشعر بالأمن والأمان والطمأنينة .
لكن تيّار العم سعيد الفلاح ممن يروون القصص والأساطير لا يساعد على زرع وخلود الطمأنينة في نفس طفل يخاف ظلّه. للعم سعيد الأثر الكبير في زرع الخوف ، فما أن يجلس الصغار حول هذا الرجل العجوز ، القصير القامة ، الكبير العمامة حتى يبدأ الخيال في رسم أشباح من وحي ما يسمع عن شخصيات ورموز وجنّ وأحداث قصة جديدة تتحدث عن فتوة وبطش ومغامرات ووشايات وأسود وكلاب وذئاب وطعن وأصوات وحوش يقلدها العم سعيد بالصوت والحركة في أحداث يجيد حبكها وروايتها هذا الفلاح الأمّي الذي يترقب وصوله الفتيان مساء كل خميس إلى [ المراغة ] وهو مكان ينيخ به الجمّالون جمالهم في الطرف الشمالي من القرية.
في الليالي المقمرة كان يفترش الأرض مع مجموعة من فتيان وفتيات القرية ، يجلسون في صمت ، منصتين إلى راوٍ يقص عليهم حكايات وقصص وأساطير وغير بعيد يقع الطلل المهجور الذي بني قبل مائتي عام ، كما يروى ، على ربوة في بقعة موحشة ، تشرف على أشجار النخيل ، تتجمع فيها الكلاب التي يشتد نباحها ليلا فيعرف القوم أن هناك قافلة أو مشاة في الطريق الذي يبعد عن الطلل نحو خمسمائة متر أو أن هناك كلب غريب ، وغريب الدار ـ بالطبع ـ تنبحه الكلاب .
هذا الطلل المتهاوي مكون من ثلاثة أدوار ، يدّعون أن سكانه من الجن ، ويؤكد البعض من الصغار والكبار بأنهم سمعوا أصوات تنبعث منه ليلة البارحة ، وبعضهم ينقل عن أمه أو جدته أو شخص سمع . إنها أصوت طبل ومزمار ورقص قائم على أشده ، وأكثرها إثارة وألغاز تلك الروايات التي تتحدث عن الجنّية عاشقة أحد الأنس أو العكس وكيف يختلي العشيقان فيمارسان الحب الإنسي الجنّي ، ومنهم من يدعي أو ينقل عمن رأى بأن هناك جمل بدون رقبة يتجول ليلا وغالبا ما يأتي من الخلف ، والمروع هي تلك الثعابين التي تبتلع صغار الأغنام.
سمع عن قصص وأساطير تزرع في النفوس البريئة الخوف والرهبة رواها لهم العم سعيد ، وغيره فتأصلت عقدة الخوف في أعماقه في مرحلة مبكرة من حياته ، منها قصة ذلك الطيب ، السمح ـ على غرار ما يراه في نفسه ـ الذي هاجر من بلده لأول مرة ابتغاء المعيشة فكان ما كان من ظلم وعدوان على المهاجر الطيب ، السمح المسكين ، حيث ادّعت عاهرة في قرية لم تطأها قدماه من قبل بأنه أوعدها بالزواج فمكنته من نفسها فحملت ثم هرب ، وادّعى أعور آخر بأن هذا الرجل هو الذي فقأ عينيه وهرب . حبسه السلطان والقصة المأساوية طويلة . إن تلك القصص والروايات الشعبية التي يرويها العم سعيد بأسلوب تصويري بديع وإن كانت في معظمها أساطير ، إلا أنها ذات تأثير من نوع خاص على طفل في ريف وغير بعيد عنه يسكن الجن الذين تروى عنهم أحداث ، تثير في نفوس الصغار الرعب .
تنتهي فكاهة ومرح العم سعيد عندما تمتد يد أحد البراعم إلى عمامته الكبيرة . إنه ينتفض وكأنما زحف إلى عمامته ثعبان ، ويقال أن له صلعه تغير ملامح صورته ، لذلك يتضايق من كشف رأسه ، ومنهم من يقول أنه يحتاج إلى وقت طويل لإعادة العمامة إلى وضعها السابق .
إن لحظات الفرح التي تنسيه سواد أيامه ووحشة لياليه تلك التي يقابل فيها معلمه الهادئ المداعب الباسم في وجه الصغار ، وأطول لحظات الفرح الممزوج بالخوف تلك هي التي يجلس فيها العم سعيد على الأرض فيحك فخذه الأيمن ـ كعادته ـ ليروي قصة جديدة فيها أحداث عشق وهيام أو يكمل الحلقة العاشرة من قصة غرامية هام فيها العشيقان بحب بعضهما حبّا يصل إلى درجة الجنون. ما أعذب تلك الأنغام التي يتغنّى بها العم سعيد في قصص الحب تلك ، وما أجمل تلك الأيّام.. وما أفزع أيام الثوار الجدد..... ومن حيث تجد الأمن السياسي تجد الخوف.
اتهامات خطيرة بدون دليل من ثوار لا يعرفون الشفقة........
ثم هاجر وكان ضحية وشايات كيدية........
لذلك يخاف من لا شيء في الديار الشرقية...
يخوفون الأطفال من العسكري ومن الطبيب [ من حقنة البنسلين ] .
الفتى يخاف أباه كل وقت.
والمرأة تخاف من طلاق مفاجئ وإن كانت مخلصة للزوج.
لذلك يجد الاطمئنان في سورة قريش ، معلقا آماله بفاطر السموات والأرض:

بسم الله الرحمن الرحيم

لإلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا ربّ هذا البيت . الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ سالم علي عبد الله الجرو ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

شكرا لمن اهداني البطاقة الجميلة .

التعديل الأخير تم بواسطة سالم علي الجرو ; 07-14-2007 الساعة 07:36 AM
  رد مع اقتباس