عرض مشاركة واحدة
قديم 01-25-2010, 01:40 AM   #27
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

افتراضي


السفر إلى إندونيسيا

رفع الشاب علي أحمد باكثير جناحيه عن حضرموت حاملا معه أشواقه لأمه ولموطن مولده، وحبه للفتاة نور سعيد عوض باسلامة، وهموم قومه في وطنهم ومهاجرهم. وفي 15/8/ 1345هـ الموافق 17/2/1927م يغادر باكثير سيئون عاصمة السلطنة الكثيرية الحضرمية التي تقع في قلب وادي حضرموت في رحلة شاقة على الجمال والحمير تستغرق أياماً إلى مدينة المكلا الساحلية عاصمة السلطنة القعيطية الحضرمية (وصف هذه الرحلة في مسرحيته همام أو في بلاد الأحقاف).

كان البحر وسيلة اتصال الحضارم بالعالم الخارجي. فلم تكن السيارات قد ظهرت بعد، ولم يكن بعد قد أنشئ مطار لأي من السلطنتين الحضرميتين. وهكذا كان السفر إلى الجزر الإندونيسية والهند يتم غالباً عبر عدن، وأغلب الظن أن هذا ما فعله باكثير في رحلة عودته إلى إندونيسيا وإن لم يرد ذكر عدن فيما اطلعنا عليه من شعره ونثره عن هذه الرحلة. فبعد إبحار يومين من المكلا إلى عدن، فالرحلة من ميناء عدن إلى إندونيسيا عبر سنغافورة على متن بواخر شركات تجوب المستعمرات البريطانية كانت تستغرق حوالي خمسة عشر يوماً. وهكذا نجد أن رحلة باكثير من سيئون إلى سورابايا استغرقت أكثر من عشرين يوماً أكثرها في البحر، وهي المسافة التي كان يقطعها المئات بل الآلاف من المهاجرين الحضارم إلى جزر الهند الشرقية في ذلك الوقت.

وصل علي أحمد باكثير إلى إندونيسيا وقد تفاقم الخلاف وانتشرت الفتنة التي أشعلها المستعمر بين قومه الحضارم الذين دخلوا منذ قرون إلى تلك الجزر النائية طلبا للرزق الحلال لا يحملون معهم سوى ما اشتهروا به من سمعة الصدق والأمانة. كانت جزر الهند الشرقية هي البلاد الوحيدة التي انتشر فيها الإسلام على يد قوم باكثير بالقدوة الحسنة دون أن تطأها سنابك خيول الفاتحين، أقاموا فيها دولا ونشروا حضارة الإسلام ولغة القرآن، وأصدروا بها الصحف والمجلات والكتب، وأحدثوا نهضة فكرية وثقافية للحرف العربي لم تلق حقها من البحث والدراسة إلى الآن. كان باكثير على علم بأنه يغادر حضرموت من هَمًّ أصغر إلى هَمًّ أكبر في إندونيسيا (شغله كثيرا واحتل مساحة كبيرة من أدبه في مراحله الحضرمية والعدنية والحجازية)، و نظم في هذا الموضوع العديد من القصائد التي يذم في بعضها عيوب قومه وفي بعضها الآخر يشيد بمحامدهم مُفاخرا بها:



أثرى بها قومي وشادُوا دولةً




للدينِ طاولت السَّماءَ سُمُوقا




نشرُوا بها (القُرآن) فازدادت بهِ




مَرأى على المرأى الأنيقِ أنيقَا




لم يُلهِهِمْ همُّ ابتغاءِ الرّزق أن




قضوا لدِينهم القَويمِ حقُوقَا




تركوا لهمْ بين الأهالي حُرمةً




كادُوا بها أن يعبُدُوا المخلوْقَا(8)



كان باكثير يرى أن الخلاف المصطنع بين العلويين والإرشاديين هدفه إشغالهم عن رسالتهم في خدمة دينهم، ذلك لأن العلويين والإرشاديين هم جميعاً من أبناء الشعب الحضرمي يدينون بمذهب واحد هو مذهب الإمام الشافعي، وخلافاتهم جانبية لا تمس جوهر العقيدة أو المذهب مثل قضية الكفاءة في النسب عند الزواج وتقبيل الأيدي واستخدام لقب «السيد». وهي أمور رأى السادة العلويون أنها يجب أن تؤدى لهم وحدهم بحكم نسبهم النبوي الشريف. وقد ثار على إثر ذلك جدال طويل، ومعارك طاحنة في المجالس والمنتديات وعلى صفحات الصحف والمجلات في المهجر، وأسست (جمعية الإرشاد) التي انضم إليها كثير من أبناء طبقات المجتمع الحضرمي هناك سنة 1332هـ/1914م لترفع لواء المعارضة لتلك الدعوة ثم ما لبث العلويون أن أسسوا (جمعية الرابطة العلوية) سنة 1345هـ/1927م، واحتدم الجدل بين الطرفين ووصل صداه إلى قادة الدعوة والإصلاح في العالم الإسلامي فكتب الأمير شكيب أرسلان في مجلة (الفتح) التي يصدرها الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، وكتب الإمام محمد رشيد رضا في مجلته (المنار) مقالات للتهدئة، وأرسل الملك عبدالعزيز آل سعود مبعوثاً منه لإنهاء الخلاف.

ثم وصل مفتي حضرموت العلامة السيد عبدالرحمن ابن عبيدالله السقاف إلى إندونيسيا في 9/8/1345هـ الموافق 18/2/1927م. وليس مصادفة -في رأيي- أن يكون علي أحمد باكثير هناك في هذه الفترة الحرجة، ولا نعتقد أن الأسباب العاطفية وحدها هي التي دفعته للسفر في هذا التوقيت بالذات، ونرجح أن لأستاذه السيد محمد رشيد رضا دوراً في ذلك. ولعل مفتي حضرموت- الذي كان متعاطفا معه في آرائه ويعيش معه في سيئون نفسها- قد أبلغه بعزمه على السفر للصلح بين الفريقين. ومما يؤكد رأينا هذا بأنهما كانا على اتفاق، أن باكثير كان في مقدمة مستقبلي علامة حضرموت عند وصوله إلى مدينة بتافيا ثم اصطحابه له في 30/8/1346هـ الموافق 21/2/1928م إلى مدينة سورابايا (مسقط رأس باكثير) حيث ألقى خطابا بليغا على جمع كبير من العرب في مسجد الصرنج في ليلة 18 رمضان 1346هـ الموافق 9 مارس 1928م في محاولة لإخماد الفتنة وتوحيد الصف ثم غادر مفتي حضرموت المسجد تلك الليلة إلى بيت آل باكثير حيث ألقى علي أحمد باكثير أمام حشد المدعوين على شرفه قصيدة تقع في 58 بيتاً يحييه ويشكره فيها على جهوده لجمع الشمل، ولموقفه الوسطي الرافض للتعصب ومنها قوله:



لله درك من تقي




يسعى لتسوية الخصام




ما قام قبلك من دعا




لسوى التحزب والصِّدام




فارفع نداءك يا خطيب!




فإن أمتنا نيام




داء الجمود انساب منهــــــم




في اللحوم وفي العظام




قم جد في هذي السبيـــــــــل




انهض لتحقيق المرام



إلى أن يقول:



أنا قلت ما قد قلت عن




قلب يؤججه الضِّرام




يهوى الرقي لحضرموت




لمستوى المدن العظام




ويسوؤه هذا الجمو




دُ على شبارقها القدام (9)



كان باكثير معه لا يفارقه في كل تنقلاته إلى المدن ذات الكثافة الحضرمية حتى تم التوصل إلى اتفاق طلب مفتي حضرموت أن يكتبه باكثير بخط يده وقد كان. ورحبت الصحف العربية التي يصدرها الطرفان بذلك الاتفاق وفي مقدمتها صحيفة حضرموت -كبرى تلك الصحف- في عددها (161) الصادر في 16/3/1347هـ الموافق 31/8/1928م، وقد ظهرت آثار هذا الاتفاق متكررة في شعره على نحو ما يقول مشجعا ومفاخرا بما أنجزه قومه:



مضى زمنُ الجمودِ فودِّعوه




ووافاكمْ زمانُ العاملينَا!




زمانٌ ليس يعلو فيه إلّا




عصاميٌّ جرَى في السابقينَا




وإن لنا مواهب سامياتٍ




بني الأحقافِ أدهشتِ القرونَا




ألا فاستعملوهَا في المعالي




تنالوا في الورى المجدَ الأثينَا




فقد لعبتْ بأدوارٍ كبارٍ




جُدُودكمُ الكرامُ السالفونَا




ولو ثقّفت يوماً (حضرمياً)




لجاءك آيةً في النابغينَا(10)




* العودة إلى حضرموت

وفي 25/10/1346هـ، الموافق 15/4/1928م بعد أن أمضى أربعة عشر شهراً في كنف والدته عاد منتشيا إلى حضرموت بموافقة والد الفتاة الشيخ سعيد عوض باسلامة على زواجه من محبوبته (نور)، وفرحا بمشاركة مفتي حضرموت في إقرار اتفاق السلام بين الفريقين المختلفين من بني قومه. ومن واقع مراسلاته التي بين أيدينا نعلم أن زواجه بمحبوبته تم في 2/1/1347هـ، الموافق 20/6/1928م فقرت به عينه وتحققت أمنيته.

وأحس الشاعر العاشق أن الزمن قد شُغل عنه. واكتملت سعادته حين رزقه الله بمولودةٍ سماها (خديجة) وفاءً لزوجة أبيه السيدة خديجة بنت عمر محمد مهدمي التي عوضته عن حنان الأم ومحبتها منذ وصوله حضرموت. وانتقل للعيش في بيت بناه على ربوةٍ صغيرة في قلب سيئون أطلق عليه اسم « دار السلام » حيث عدَّ ظفره بحبيبته من جهة والاتفاق الذي أبرم بين بني قومه في إندونيسيا من جهة أخرى بداية سلام حقيقي في حياته، وعبر عن مشاعره في هذه الفترة القصيرة من سعادته الزوجية في عدة قصائد بلغت ذروتها في أول مسرحيةٍ يكتبها في مصر، وهي مسرحية (إخناتون ونفرتيتي) الشعرية 1357هـ/1938م حيث يشعر العارف بقصة زواجه ومأساتها أن مناجاة إخناتون لزوجه ما هي إلا صدى صادق لتجربة المؤلف الشخصية.

* إصدار صحيفة التهذيب

وعاش شاعرنا في جنة زوجه الحبيبة أجمل سنوات حياته إذ نشطت قريحته وانقدح زناد فكره بالعديد من المشاريع والأعمال والقصائد، فحقق أجمل أعماله الإصلاحية فيما بثه من تعاليم وفكر في مجال التربية والتعليم وتطويرهما من خلال إدارته لمدرسة النهضة العلمية بسيئون، وشرع في تأليف كتاب نقدي تاريخي بعنوان (شعراء حضرموت)، وراسل المجلات العربية الفكرية ونشر في بعضها نتاجه. واستكمل رسالته الأدبية والفكرية اتجاه وطنه بإصدار صحيفة شهرية أطلق عليها اسم (التهذيب)- وفي اسمها دلالة على رسالتها التربوية- وتُعّد هذه الصحيفة اليوم خير مصدر للتعرف على فكر باكثير الإصلاحي السلفي في وطنه، وتوضح الخطوط العريضة لخريطة التفكير عنده، إذ تحدد مصادر تأثره الفكري والعقدي في هذه المرحلة المبكرة من حياته وتضع النقاط على الحروف للأهداف التي كان يعمل لتحقيقها في مجتمعه. كان إصدار هذه الصحيفة التي شاركه فيها جماعة من المتنورين من أبناء جيله عبئاَ كبيرا عليهم. فلم تكن في حضرموت حينذاك مطابع وإنما كان يسهر عليها مع زملائه يخطونها باليد وتوزع في نطاق محدود وتعلق أعداد منها في المساجد وأماكن تجمع الناس.

صدر العدد الأول من (التهذيب) في 1/8/ 1349هـ، الموافق 22/12/1930م، والأخير في 1/5/1350هـ، الموافق 14/9/1931م، أي أنها لم تستمر أكثر من عشرة أشهر قلبت عليه بجرأتها المواجع القديمة، ولقيت مقاومة ممن أسماهم بالجامدين الذين لم يستوعبوا رسالتها أو من الذين أحسوا بخطر رسالتها عليهم.

جعلت الصحيفة شعارها الآية الكريمة }ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر|. ولم يضع باكثير اسمه عليها لوضوح توجهه العقدي وإنما كتب عليها (يحررها نخبة من أفاضل سيئون) وجعل المدير العام المسؤول عنها رجلاً من أفاضل أهل البلاد هو الأستاذ محمد ابن حسن بارجاء الذي كان يسهر الليالي ـ إيمانا برسالتها ـ يخط أعدادها بحروفه الجميلة. وقد أرسل باكثير أعداد هذه الصحيفة مجتمعة إلى أستاذه محب الدين الخطيب بالقاهرة حيث طبعها في مجلد واحد في مطبعته السلفية وكتب له مقدمة تُبارك توجهها بعنوان « ألوكة وادي الأحقاف» وصدّرها محب الدين الخطيب بسؤال وجواب من شعر باكثير على النحو التالي:



« س: ما هو التهذيب؟




ج: قبــس تألـــق من ســــنا حــــريــة




سيكون فاتحة النهوض الحضرمي



والطابع العام للصحيفة سواء من حيث الموضوعات أو الاستشهادات والمأثورات التي ترد في قضاياها تدل على مدى تأثر باكثير بروح « العروة الوثقى » التي أصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في باريس، وروح مجلة « المنار » التي أصدرها تلميذهما محمد رشيد رضا في القاهرة بأنه لا منقذ للمجتمعات الإسلامية الرابضة في التخلف إلا بتصحيح العقيدة ونشر العلم وإيقاظ الهمم. ومن هنا لا يعدم الدارس لحياة باكثير وفكره في حضرموت أوجه التشابه بينه وبين محمد رشيد رضا في المعالم البارزة للاتجاه الإصلاحي عند كلٍ منهما وعملهما على محاربة البدع وحث الناس على التخلي عن التوسل بأصحاب القبور، ودعوتهم إلى التوجه لله وحده. أكد لي أثر هذا التوجه المجلدات العديدة من مجلة « المنار » التي وجدتها بمنزله في حضرموت والحواشي والتعليقات الموجودة على بعض صفحاتها بخطه تدل على أنه وجد في «المنار» ما وجده أستاذه محمد رشيد رضا في «العروة الوثقى» من خلال الإيمان بأن إصلاح الأمة يأتي أولاً من خلال التربية والتعليم وتصحيح العقائد. فلا عجب إذن أن نجد «تهذيب» باكثير تزخر بهذه الموضوعات التي تقع في صميم مشكلات مجتمعه الحضرمي آنذاك، وهي موضوعات كتب بعضها باسمه الصريح والبعض الآخر باسم مستعار. وقد أبلغني بعض رفاق صباه أنه كان يحرر معظم موادها ويكتب افتتاحياتها. فنجد له مثلاً مقالات عن ( قراءة البخاري في شهر رجب) و(ذكرى المولد النبوي) و(مذهبي في زيارة القبور والتوسل). كما لم تخل كتاباته من تناول بعض القضايا الاقتصادية والسياسية والأدبية. ففي افتتاحية العدد السابع يكتب مقالاً بعنوان (حركة الماكينات الرافعة في حضرموت) التي يدعو فيها لتطوير أساليب الزراعة وتنميتها باسمه الصريح، وفي العدد نفسه يكتب مقالاً باسم مستعار بعنوان (حول اضطهاد إخواننا مسلمي طرابلس) وهو عن الهجوم الوحشي الإيطالي على تلك البلاد والفظائع التي ارتكبها المستعمر بأهلها. وكان هذا المقال صدى لما كُتب عن هذا الحدث في مجلتي (المنار) و(الفتح) وخاصةً ما كتبه الأمير شكيب أرسلان في الأخيرة. وقد حيا باكثير الأمير شكيب أرسلان بعد ذلك بقصيدة طويلة نشرت في حينها في مجلة (الفتح) العدد 296 بتاريخ 5/2/1351هـ الموافق 9/6/1932م وبعث له شكيب أرسلان من جنيف في 10/6/1351هـ، الموافق 11/10/1932م، برسالة إعجاب وتقدير.



ومن اتجاهات التجديد التي أدخلها باكثير على نظام الحياة التربوية والتعليمية في حضرموت الأناشيد المدرسية، فما أن حل موعد الاحتفال السنوي للمدرسة التي يديرها حتى نظم للتلاميذ نشيداً مُلحّناً يقول في مطلعه:



بنهضة العلم شخص العلم قد نهضا




وعنصر الجهل في أيامها انقرضا




وقد توطد ركن الدين وانتشرت




أعلامه، وبدا صبح الهدى وأضا




اليوم يوم به ( سيئون) زاهية




مملوءة فرحاً إذ نالت الغرضا(11)



* الصدام والموت والهجرة:

فكان هذا النشيد وحده مدعاةً جديدة للثورة عليه وتأليب العامة ضده. واحتدم صدام الشاعر المصلح مع الجامدين في مجتمعه بازدياد هجومهم عليه فما كان منه إلا أن رد على هؤلاء بخطبة طويلة ألقاها في يوم 4/1/1349هـ، الموافق 31 /5/1930م في الاحتفال السنوي للمدرسة في ذلك العام فكانت أول خطبة جريئة من نوعها في التصريح بموقفها السلفي التنويري ألقيت على ملأ من الناس في حضرموت ناقش فيها الاعتراضات التي ثارت عليه وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما علم هؤلاء بتلقينه التلاميذ في المدرسة نشيداً ملحناً من نظمه قائلين: إن هذا النشيد تقليد جديد وتشبه بالإفرنج. فرد باكثير بأن التسرع في الأحكام والتحليل والتحريم أكبر مخالفة لنهج السلف، وقال: (قد يشكل على بعض الناس أمر هذه الأنشودة التي لقنتها إدارة المدرسة لتلاميذها يوم الاحتفال، ويظن أنها مخالفة لهدي السلف، ويسهل علينا أن نجيب عن ذلك بما أجاب به بعض كبار العلماء لما سئل عن ذلك فقال: «إن كل زمان له مميزات خاصة به، وعلى العاقل أن يراعي تطور الزمان وتقلب أحواله» وهذا الجواب في غاية الحسن والسداد. وهنا يجمل بي أن أقول: إنه يجب على من أراد أن يحافظ على سيرة السلف أن يعرف أولاً حقيقتها، والله يعلم أنهم لم يبلغوا تلك الرتبة العالية، ولم يصلوا إلى تلك المنازل السامية إلا بعنايتهم التامة بإصلاح قلوبهم وتطهيرها من رذائل الصفات وقبائح النزعات، واعتمادهم في كل ذلك على العلم الحقيقي الخالص من الشكوك والأوهام، فإذا ورد عليهم أمر لا عهد لهم به لم يسرعوا في الحكم بتحليله أو تحريمه، ولم يرفعوا صوت الإنكار على فاعله بمجرد النظر إليه، بل عرضوا ذلك الأمر على نظر العلم أولاً ووزنوه بميزان العقل، فإن رأوه منابذاً للعلم مخالفاً للعقل مضراً بالناس تحققوا أنه مما لا يرضى به الله ورسوله...».

وحدد باكثير في خطبته أن مجتمعه ابتلي بداءين نتيجةً لداء «التسرع» في الحكم بدون علم وهما داء «الجمود» وداء «التقليد». وعدّ الجمود أكبر خروج على منهج السلف لأنه يقتصر في العلوم الشرعية على الفقه وفي العربية على النحو، وسد النوافذ دون بقية العلوم الدينية والدنيوية، ورد على الذين يرفضون العلوم الأخرى وخاصةً تلك التي أدخلها في مدرسة النهضة بقوله: «إن التاريخ هو ديوان العبر وإن جزءاً كبيرا من كتاب الله تعالى تاريخ. وإنه لمن العيب الفاضح والعار الشائن على الرجل المسلم أن لا يعرف تاريخ الإسلام وما تقلب فيه من الأدوار... ولو تأملنا قليلاً لعرفنا أن فن الإنشاء من أهم الفنون، وأن العالم الذي لا يستطيع أن يعبر عما في ضميره أو يكتبه بعبارة فصيحة لا ينتظر أن ينتفع بعلمه أحد ولو بلغ من سعة العلم والبسطة فيه ما بلغ». وروى للمستمعين قصة مقاومة مصطفى لطفي المنفلوطي لشيوخه الأزهريين الذين حاولوا إبعاده عن الأدب واستشهد بقوله عن شيوخه الأزهريين: «وهم لا يعلمون ـ أحسن الله إليهم ـ أنهم وجميع من يدور به جدار مسجدهم حسنة من حسنات الأدب الذي ينقمون منه.. فلولا الأدب ما استطاع أئمتهم فهم آيات الكتاب المنزل واستنباط تلك الأحكام التي دونوها لهم وتركوها بين أيديهم.. ولولاه لما استطاع علماؤهم اللغويون أن يورثوهم هذه العلوم اللغوية التي يدرسون اليوم نحوها وتصريفها وبيانها في مجالس علمهم...».

أما آفة التقليد فهاجمها بضرب المثل بالذين يتبعون آراء غيرهم في الحكم على علماء الإسلام المحدثين دون ترو أو تمحيص فيصيبون رجاله بجهالة. ودافع عن الإمام محمد عبده الذي سماه « الشيخ الإمام حكيم الإسلام » وبرأه من الافتراءات التي كتبها عنه الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني صاحب كتاب (جامع كرامات الأولياء) وتصديق بعض الناس في حضرموت لهذه الافتراءات وتبنيها دون التأكد من صحتها. ونافش باكثير جمهوره بمنطق بسيط يحقق إنصاف الإمام محمد عبده فقال: «... هل تعرفون حقيقة الشيخ النبهاني تماماً؟ الجواب: لا نعرف عنه إلا أنه من كبار العلماء وأعيان الصالحين. من أين لكم معرفة ذلك؟ الجواب: أننا عرفنا ذلك من مطالعة كتبه فكلها نافعة وغالبها في مدح النبي (صلى الله عليه وسلم). أرأيتم لو كتب عنه أحد العلماء بمصر بأنه زائغ مبتدع وفاسق ماذا كنتم صانعين في أمره؟ الجواب: لا نبالي بذلك، فقد عرفناه عالماً صالحاً بكتبه. إذن لماذا لم تفعلوا ذلك في حق الشيخ محمد عبده فتطالعوا كتبه أولاً وتقرؤوا رسائله وكتاباته في الدفاع عن الإسلام...»(12).

وسنجد أن هذه المفاهيم والمؤثرات جميعاً تظهر بوضوح في شعره فهو في رثاء حافظ إبراهيم يذكر الإمام محمد عبده ويشيد بدور جمال الدين الأفغاني والتكامل الذي شكلاه حين يقول:



وقفتُ بين رسوم الدين أندُبُه




وقوف باك على آثار مُرتحلِ!




وقلتُ: لولا (جمال الدين) قام به




لما وقفتُ على رسم ولا طللِ




ولو تخلف عنه (عبدُهُ) نفساً




لطَارَ طائره من قبضةِ الأملِ




يا روّح الله أرواحاً سمتْ صُعداً




من بعد ما حَلَّت الإسلام من عطل




واستخرجته نقياً من معادِنهِ




كالتبر ما فيه من طبعٍ ولا دخلِ



ثم يدافع في القصيدة نفسها عن العقيدة السلفية النقية، ويرفض تهمة تعيير دعاتها بالوهابية:



والمصلحون إذا ما ذكروا اتهموا




من ماجن غزل أو شارب ثملِ




يُعيرون (بوهابيةٍ) خَلُصتْ




أنقى من اللبن السلسال والعسل




وبينهم علماء السُّوءِ في دَعَة




بالدجلِ عن واجب التذكير في شغل(13)



وبمقدار ما عانى باكثير في حضرموت على مستوى العقيدة والفكر ولم يلن عوده ولم تقهره العقبات والاعتراضات فقد عانى على مستوى العاطفة والقلب، ولم تسهل له الطريق في الزواج ممن أحب ولم تقهره العقبات عن هذا الجانب وإنما قهره الموت، فما كادت تمر على هذه السعادة والحيوية والنشاط ثلاث سنوات ونيف حتى تصاب ملهمته وزوجه الحبيبة بمرض عضال أقعدها لما يزيد عن ستة شهور حتى وفاتها في 15/1/1351هـ الموافق 20/5/1932م، ولهذا قرر الهجرة من حضرموت فوصل عدن قادما من المكلا عبر البحر في 21/ 2/ 1351هـ الموافق 25/ 6/1932م. وغادر عدن التي أقام بها تسعة شهور إلى الحجاز بالمملكة العربية السعودية في 29/11/1351هـ الموافق10/3/1933م، وذلك وفق وثيقة سفر حكومة الشحر والمكلا (السلطنة القعيطية الحضرمية فيما بعد) التي وصل بها عدن، وجواز السفر الهندي البريطاني الذي خرج به من عدن إلى الحجاز التي أقام بها حوالي أحد عشر شهراً ليلقي بعصا التسيار في مصر التي وصلها في 28/10/1352هـ الموافق 13/2/1934م. وهكذا كانت حياة باكثير العاطفية والفكرية في حضرموت مأساة مؤلمة ظلت آثارها مرتسمة على حياته وأدبه حزناً ودمعاً وشعراً، وسيكون لنا مع قصة الحب ومأساة الموت في حضرموت وقفة مستقلة، طويلة ومتأنية إن شاء الله >

الهوامش:

(1) مسرحية (همام أو في بلاد الاحقاف)، الطبعة الأولى،المطبعة السلفية،1934م، القاهرة،ص31.




(2) المصدر السابق ص52.




(3) من قصائده المخطوطة التي سننشرها في الطبعة الثانية من ديوان (أزهار الربا في شعر الصبا). تحقيق د.محمد أبوبكر حميد، دار المناهل بيروت، ط1، 1987م، ص87.




(4) صحيفة التهذيب، العدد 6 الصادر في 1/1/1350هـ، مجموعة السنة الأولى، المطبعة السلفية، القاهرة،ص115.




(5) مسرحية همام أو في بلاد الاحقاف، مصدر سابق، ص28.




(6) جعفر محمد السقاف، حديث شخصي في سيئون بحضرموت في 15/8/1985م، راجع قصيدة باكثير (الأخلاق عند الغزالي) بديوان أهار الربا في شعر الصبا، ص229.




(7) البقية المخطوطة لديوان (أزهار الربا في شعر الصبا).




(8) باكثير، علي أحمد، ديوان (سحر عدن وفخر اليمن)، تحقيق د.محمد أبوبكر حميد، ط1، مكتبة المعرفة جده،2008م،ص103.




(9) البقية المخطوطة لديوان (أزهار الربا في شعر الصبا).




(10) ديوان (سحر عدن وفخر اليمن)، ص98.




(11) باكثير، علي أحمد، ديوان (أزهار الربا في شعر الصبا)،




(12) صحيفة التهذيب، العدد الأول 1/8/1350هـ، مجموعة السنة الأولى، ص16.




(13) ديوان (سحر عدن وفخر اليمن)، مصدر سابق، ص154

التوقيع :

عندما يكون السكوت من ذهب
قالوا سكت وقد خوصمت؟ قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى- لعمري- وهو نباح