عرض مشاركة واحدة
قديم 02-23-2010, 12:47 AM   #44
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

افتراضي


صناعة السفن الخشبية
حرفة أتقنها أجداد الحضارم وتخلى عنها أبناؤهم


2010/2/22 المكلا اليوم / وليد التميمي


يعج ميناء المكلا بارتال من السفن الشراعية الخشبية، الرابضة على أرصفته المتواضعة، والتي قد توحي لدى البعض بأنها نتاج صناعة محلية، لكن المفاجأة التي قد لا يتقبلها أو يستوعبها العقل والمنطق أن كل سفن النقل والتصدير والشحن التي تفرغ حمولتها في الميناء، أو تتوقف ليلتقط ربانها أنفاسهم ويتزودا بالمؤن والوقود، ليست لها أي علاقة بالحضارم سواء أسماء ملاكها في بعض الأحيان.
فالحرفة التي أتقنها أجدادنا الأوائل منذ القرن التاسع عشر، تسربت من أيدينا وانضمت لقوافل المهن والحرف الشعبية التي شيعت إلى مثواها الأخير بعد أن استغنى أن تم الاستغناء عنها دون أسف أو مبالاة، القائمة تطول ولسنا بحاجة لتعداد مفرداتها، لكننا سنكتفي بتقليب صفحات ماض ناصع(انقرض)، ولم تصمد من بقاياها حتى الأطلال الجاثمة.

عزانا الوحيد ذكريات استقينها من وجدان شخص عاش في خضم مراحل متعاقبة، سافر عبر البحار واجتاز المسافات على صفيح المحيطات والمسطحات المائية، أجزم كل من طرقنا بابه ودعوناها ليسعفنا بفصول من القصة (المأساة)، أنه الوحيد القادر على إشباع نهمنا المتصاعد للتعرف على ما آل إليه مصير مهنة لم نكن ندرك أنها قد طوت صفحاتها وللأبد.

أنه العم عوض محمد باريسا المالك والمدير لوكالة لمعاملات الشحن والتصدير البحري، تجاوز عقده السابع، وقضى من محصلتها قرابة (40) عاما يزاول المهنة التي كان يمارسها والده، مجلساته لكبار البحارة والملاحيين وصانعي السفن في حضرموت والهند وصولاته وجولاته في موانئ العالم منحته.

كما وافراً من المعلومات، التي حاولنا أن نستثمر جانباً منها بعد أن زرناه في مقر عمله المزينة جدرانه بعشرات الصور النادرة والجميلة لسفن الصيد الخشبية والشراعية التي سبق وأن أرست قواعدها في ميناء المكلا، هذه السفن بالجملة حسبناها في بادئ الأمر حضرمية فسألناه عن جنسياتها؟، فهالنا عندما قال أنها صناعة هندية في الغالب والبقية خليجية –عمانية وإماراتية- وسفينة واحدة فقط (الرشيق) حضرمية الصنع.

صناعة.. سادت ثم بادت

وأردف بعد ذلك قائلا ً:" صناعة الحضارم للسفن والسنابيك في الماضي كانت تشمل مجموعة تتراوح ما بين (8-10) أفراد، وترتكز على الخشب واللوح والمسمار وتدخل مادتي الغراء أو الصمغ في صناعة قوارب الصيد إلى جانب المخدر والبلطة والمطرقة والمنقب، وفي السنوات الأخيرة انقرضت هذه الحرفة

نهائياً وباتت السيادة بالكامل لقوارب الفيبر جلاس، وكان من بين أشهر الأسر التي اضطلعت بصناعة السفن الخشبية في حضرموت أسرة آل المحافيظ في المكلا وال بن ربيد وال بازياد في الديس الشرقية، وهذه الأسر نجحت في ابتكار صناعة خاصة بحضرموت دون التأثر أو الأخذ من نماذج صناعات السفن الخشبية الأخرى كالهندية والكويتية والعمانية على سبيل المثال، فلكل طرف أفكاره المستقلة عن الأخر.

( العبري والسنبوق والساعية)

والفرق بين مصطلحات( العبري والسنبوق والساعية)، بالنسبة للساعية فهي عبارة عن سفن تستخدم للحمول من البواخر إلى الميناء تكلفتها تقريباً كانت ما بين (150-200) ألف شلن، بعملة أيام زمان، وسعة حمولتها ما يقارب (30) طن، والسنبوق سعته (1000-2000) طن تقريباً وبإمكانه اجتياز خطوط ومسافات طويلة محملا ً بالبضائع المختلفة، وقارب العبري خاص بعمليات اصطياد الأسماك وسعر القارب بدون ماكينة ما بين ( 6000-8000 ) شلن وحمولته (30) طن.

وفي الماضي كانت السفن الحضرمية الشراعية تسافر من الديس الشرقية والحامي إلى عدن وجيبوتي والهند لشحن بضائع سعتها (200) طن تقريباً.

هلاك حرفة

ويؤكد العم باريسا أن: مصدر تسميات السنابيك عائداً لملاكها، ويوحي بقوة احتمال السنبوك وتميزه عن غيره وخصوصيته.

ومن أبرز التسميات المحلية للسفن الحضرمية التي انقرضت ( القادري، السرك والرشيق والبس، والمحروس) وسعة حمولتها تقدر بـ( 150) طن تقريباً، واليوم ضاعف الهنود من حمولات السفن المصنوعة من الخشب عشرات المرات لتتعدى سعتها الـ(2000-2500) طن.


وقال: أن صناعة السفن الخشبية الكبيرة عادة ما تستغرق عامين من الزمن تظل طوال هذه الفترة معرضة لأشعة الشمس حتى تلتحم ألواح الخشب التي تثبت بدورها بالابوال الحديدية، وأجود أنواع الخشب المستخدم في صناعة السفن في حضرموت كان الماليزي والإندونيسي.

ويؤكد العم باريسا أن قارب( الأمين) يعد أخر القوارب التي صنعها الحضارم وطاف في مياه البحر قبل أن تزول هذه الحرفة نهائياً، حيث أصبح الأمل المعقود في صناعة السفن الخشبية على أيدي الحضارم مجددا ضئيلا ً إن لم نقل معدوماً بالمرة، بعد وفاة الرموز التي مارست هذه المهنة، وتخلي أبناؤهم عن مزاولتها نتيجة لصعوباتها وضالة مردودها المادي.

صمود واستمرارية

وعلى الرغم من ظهور المحركات التشغيلية للسفن الخشبية بطاقة البترول والديزل والتي اختصرت مسافة السفر إلى النصف، يضيف العم باريسا:إلا أن ذلك لم يحول دون الانقراض التدريجي لهذه الحرفة، وعلى مستوى اليمن لازالت هذه الصناعة قائمة في الخوخة والحية والصليف بالحديدة المتمسك أهلها بصناعة القوارب والزوارق الخشبية وحمولتها ما بين (70-100) طن.

قوة تحمل وطول عمر

وعن المميزات والفروقات ما بين السفن الخشبية وقوارب الفيبر جلاس، أشار العم باريسا أنها تكمن في أن الأولى أكثر قوة ومتانة وقدرة على التحمل واستمرارية في العمر والخدمة تتراوح ما بين (30-40) سنة، وتحتاج لعمليات الصيانة كل عام حسب تعرضها لمخاطر الرياح والسفر لمسافات بعيدة، بينما الثانية تعد صغيرة الحجم وحمولتها لا تتجاوز الـ(30) طن، وتستخدم لأغراض الصيد فقط، كما أنها تتعرض للتلف في وقت مبكر نسبياً وقد لا يتجاوز عمرها العشر سنوات.

أمير البحر ومرجعية الميناء

أما أبرز المؤن والبضائع التي كانت تصدر من ميناء المكلا إلى عدن ودول الخليج على ظهر السفن الخشبية فقد كانت التمباك من مديرية غيل باوزير، والحناء، في حين كان الميناء يستقبل سفن محمله بمواد غذائية كالأرز والطعام والحنظل والصليت، وبعد عملية إنزالها إلى الميناء كانت تخزن في مخازن بدائية تمهيداً لتوزيعها مباشرة على الأسواق التجارية في مختلف مناطق حضرموت آنذاك، حيث كانت إدارة الميناء في ذلك الوقت تخضع لضوابط رسمية يترجمها فعلياً مجموعة من موظفي الدولة من بينهم عوض علي جابر، الذي كان يعد أمير البحر ومرجعية للعاملين في الميناء، ومحمد باغفار مدير الجمارك.

وذكر العم باريسا أن ورود أسماء سفن وموانئ دون غيرها في بعض الأغاني في الموروث الشعبي الغنائي من بينها ( القادري، والسرك) عائداً إلى شهرة وعراقة هذه السفن التي تعرضت في فترة من الفترات للإهمال وألقيت لعقود من الزمن على الشاطئ في عرض البحر واستخدم خشبها في نهاية المطاف كوقود للطبخ.

وأشار في ختام حديثه:أن سفينة القادري التي يعتقد بأنها من أقدم السفن الخشبية الحضرمية ظلت تمخر عباب البحر لمدة ( 10) أعوام تقريبا، و قدرت حمولتها بـ(200) طن.

ختامها.. مسك

ولعلاقة الحضارم الوطيدة بأمواج البحر وارتحالهم عبر تياراته بحثاً عن الرزق جعلنا نفضل اختتام موضوعنا بسرد نموذجين من الأهازيج والمواويل التي يتغنى بها الصيادون الحضارم في رحلاتهم البحرية، لعل فيهما سلوة لكل محب وعاشق لتراث الأجداد وتسجيل لزمن بحري ثري، ومن ذلك قول الشاعر خالد محمد عبدالعزيز:

يانوخذه با معاكم 00000000000 لو هو على صنبوق معشوق



وقول شاعر أخر:

المسن يابومحمد بغا قوة وبأس0000000000 من معه صنبوق خاسع يطلعه اليباس

وتبقى مثل هذه الأبيات الشعرية.. عاملا ً محفزاً للصيادين على الصمود في وجه التحديات والأخطار العاتية المحدقة بهم، وتشرق في دواخلهم شمس الأمل، وتنفض عن أجسادهم دواعي اليأس والقنوط من رحمة الله، وتسعفهم بمدد يمنحهم القدرة على مواجهة الغلو الفاحش أسعار الوقود، وتفشي ظاهرة اختفاء وهروب الأسماك نتيجة العبث الذي طال مراعيها و الاصطياد الجائر الذي تخلفه سفن الاصطياد العشوائية
.
التوقيع :

عندما يكون السكوت من ذهب
قالوا سكت وقد خوصمت؟ قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى- لعمري- وهو نباح

التعديل الأخير تم بواسطة حد من الوادي ; 02-23-2010 الساعة 12:51 AM