عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2008, 06:28 PM   #27
أبوعوض الشبامي
شخصيات هامه
 
الصورة الرمزية أبوعوض الشبامي

افتراضي

الفصل السـادس

القصيدة الكلاسيكية والشعر العامي العربي

عند ظهور الإسلام كان شعر البطولة العربية الذي تضمنته القصيدة الكلاسيكية قد بلغ مستوى من التطور خلال تاريخ طويل ، ومن خصائص القصيدة الكلاسيكية إنها تعالج أغراضا تقليدية على نسق متوارث مسلسل حتى تصل إلى الغرض الرئيسي الذي يريد الشاعر أن يعبر عنه، وليس من الضروري الآن الدخول في بحث مستفيض حول هذا الشكل الفني المعروف إلا أنني وأنا أتناول هذه المادة الأدبية الحيـّة الحضرميـّة ، أعتقد أنني سأقدم أسـسـا للبحث حول ما كانت عليه القصيدة الكلاسيكية قبل أن تصل إلى شكلها المكتمل.

أن البحث حول تاريخ القصيدة الحضرمية بالاستناد على لهجة عربية لأي بلد عربي غير الجزيرة العربية سيكون قائما على أرضية هشة ، كما أن الاعتماد على ما يسود في مدن الحجاز حيث حدثت تطورات تاريخية كثيرة يجعل المرء يشك فيما يحصل عليه من مواد يعتقد أنها من الأشياء التي لم تندثر ، بينما هي في الواقع ليس إلا تطورات وتأثيرات سائدة دخلت على اللغة العربية الفصحى ، أما في جنوب الجزيرة العربية فقد بقيت معالم الحياة والحضارة العربية القديمة كما هي باستثناء تغييرات طفيفة ، وهي حقيقة يمكن توضيحها بمقارنة المواد الثقافية المعاصرة بالعاديات الحميرية في متاحفنا ، وقد كان السفر إلى( بيحان ) قبل عشر سنوات يعني الدخول إلى العصور الوسطى أو بالأحرى الدخول إلى العالم القديم ، ولا تزال كنده التي أنجبت أحد أعظم الشعراء القدماء تعيش في المناطق العربية من حضرموت( أنظر ص31من المقدمة ) كما لا يزال اسم( دمون ) الذي يشير إليه إمرؤ القيس في أشعاره باقيا كاسم البلدة في ضواحي تريم ، ولازال الحضارمة يرددون أن امرأ القيس كان ينتمي إلى هذا المكان ولم أجد ما يدعوني إلى الشك في هذا الرأي.

ومن خلال تناولنا للأغاني والقصائد أعتقد أنني سأقدم دلائل كافية وشواهد تشير إلى أن البعض منها عريق جدا وموغل في القدم ، وسنجد أن العامل الديني هو عامل إسلامي حديث نسبيا ، ولا أعني بذلك الأشعار نفسها بل أعني التقليد المتبع في نظمها وهذا يطابق ما نقوله عن المعمار في حضرموت ، فإذا لم يكن هناك بناء قديم جدا فأن الأسلوب المعماري هو المقصود بالعراقة والقدم ، وهو نفس الحال بالنسبة إلى الأضرحة والشعائر والطقوس الدينية المتعلقة بها والتي تمثل بدون شك شيئا قديما حقا.

وقد دار نقاش مستفيض بين العلماء والباحثين حول وجود وموطن لهجة ما قبل الإسلام والجزيرة العربية ، وحول الظاهرة الغريبة في عدم وجود آثار كافية الوضوح عن اللهجة السائدة في شعر ما قبل الإسلام ، وقد تم افتراض النظرية المتعلقة بوجود أسلوب شعري عام تأسس وساد قبل الإسلام ، وتم التوصل إلى هذه النظرية كما أعتقد من مقارنة الأسلوب الشعري لدى شعراء من مختلف بلاد العرب القديمة ، ومن الأشياء التي أثارت دهشتي أثناء استعادتي لقراءة شعر ( الروله Rwala ) في مجموعة موسل الشعرية اكتشاف أن معظم شعر( الرولة ) يمكن أن يكون مفهوما لدى الحضارمة الأميين في أسلوبه وعاطفته ، إذا تجاوزنا الاختلاف بين الشعر الفصيح والمعاصر والقديم ، وشعر الحماسة والبطولة العامي ، يمكن بقدر كبير استعمال حركات الأعراب ، وأعتقد أيضا أنه في الإمكان نظم أشعار يمكن قراءتها باعتبارها عامية أو فصحى ومع التزام الأسس العروضية لكل من الشعر الفصيح والعامي ، وأن ذلك مبادئ تكميلية أكثر من كونها متعارضة مع المبادئ العروضية للشعر العربي القديم ( الكلاسيكي )، ومن السخف أن نشك في صحة الشعر العربي القديم أما مقالة مرجليوت فأنها قد مست الموضوع مسا رقيقا ، كما أن الاحتمالات التي وردت بها تدحضها أقل المحاولات للتعرف على جزيرة العرب المعاصرة، بحيث يجعل تلك المقالة غير جديرة بالدفاع عنها، فـلـو نظرنا إلى قصـــيدة ( بني مغراه ) ، وهو نوع من الشعر تبدو أسباب قدمه وعراقته متوفرة ، سنجد أن براعة استهلال الشعر يتناول أحيانا مواضيع مختلفة مثل الدخول في موضوع القصيدة ، وغالبا ما يكون هذا الاستهلال تقليدا متعارفا عليه حيث يستهل الشاعر قصيدته بقوله: ( بني مغراه ) ثم يدخل في حديث الغزل ، والقصيدة في هذه الطريقة تشبه القصيدة الكلاسيكية التي غالبا ما تشتمل على تلك الموضوعات المألوفة وتمر عليها مرورا سريعا حتى يبدأ الموضوع الأساسي ، ولا يقتصر الأمر على قصيدة ( بني مغراه ) فقط في التزام هذه الموضوعات المألوفة قبل الدخول في الموضوع بل يتعداه إلى كثير من أنواع القصائد الأخرى.

وقد كنت بين الحين والآخر أشير إلى عراقة موضوع شعري بعينه فمثلا أشرت إلى الفترة الزمنية المتعلقة بقوم ( أبي زيد الهلالي ) ، والتي من الممكن أن تكون بدايتها في هذه المنطقـة من الجزيرة العربيـة وهي أيـام لازال الحديث مستـمرا عنها عن طريق الروايـة الشفويـة المنقولـة أبا عن جد.
وهناك ( التهويد ) (رقم 11) وهو نص ليس له علاقة مباشرة ببقية النصوص على أية حال وقد أشرت إلى أمثال هذه النصوص لمجرد التأكيد على بقـاء واستمرارية تناقل بعض الآثار الأدبية بالتواتر والرواية الشعرية.

وهناك مجموعة من المواضيع الشعرية تـتـناولها قصائد مستقلة وأحيانا أخرى بشكل تستهل بها القصيدة قبل الدخول في الموضوع المقصود ، ومن هذه القصائد الشعر الذي يدور حول المطر والسيول ، التي تروي الحقول ، وقد أورد الهمداني قصيدة من هذا النوع ولذي أيضا قصيدة عن ( السيل ) حصلت عليها من بلاد( الصبيحي ) ( المحمية الغربية ) ، ولكنني لم أقم بنشرها هنا، وكثير من قصائد جنوب الجزيرة العربية يستهلها الشاعر بإشارات إلى السيل خصوصا تلك التي أشار إليها أحمد بن فضل العبدلي(1) ..

ومن الشواهد الواردة بهذا الكتاب كثير من الإشارات إلى السيول والغيث أو السحاب والمطر والرعد ، وفي القصيدة الثانية عشر يلاحظ المرء إشارات خاطفة إلى موضوعين في قول الشاعر مثلا:

بني مغراة تحوَّ ل ولو خاطرك محنـُون

فالتحويل ( الحول ) لا يكون إلا بهبوط السيل وهي مناسبة للعزاء والسلوان ، مما يشير إليه الشاعر بنفس الدرجة من الاختصار وهو انشغال القلب وانزعاجه وهي إشارة مختصرة جدا إلى السهر والأرق الذي يعاني منه من شدة الوجد والحب ، أما قصيدة الأسفار والبلدان فهي موضوع آخر ربما نجد له أصولا وجذورا في القصيدة العربية الكلاسيكية.

ويظهر هذا الخليط من المواضيع التقليدية فالقصيدة التي تحصلنا عليها من ( رحيّم ) وهي القصيدة العاشرة تدور حول ( زيارة هود ) ، ولكن الشاعر يستهلها بمقدمة دينية إسلامية البيت ما قبل الخامس ، ثم إشارة إلى السهر والأرق ، ثم إلى رجاء ( الرحمة )، (وهي كلمة تعني المطر) ، ثم إشارة إلى ( السلف الصالح ) ، أما قصيدة ( عبدالحق ) ( رقم13) فتحتوي إلى إشارة إلى المطر والسيل وتوسل إلى الله و إشارة إلى النبي والصحابة ، ثم يعالج جزء من القصيدة موضوع ( الصيد ) ، والجزء الآخر موضوع ( المحبوبة ) أما القصيدة السادسة والعشرون وهي أشهر القصائد في الشعر الشعبي فتعالج عددا من الموضوعات أيضا ، ومع اعتبار شكل القصيدة وتكوينها فأنه من المألوف أن تعتبر القصائد التي تعالج مواضيع منفردة ( مقطوعات شعرية ) ، أو أجزاء من قصائد بل كأنها مجزوءة من قصائد كاملة ، ويبدو من المعقول أن نعتبر القصيدة مكونة من عدّة قطع ولنتذكر أن معظم القصائد القديمة كان تنظم مصحوبة بالغناء ، فيشرع الشاعر في تناول مواضيع مألوفة وبعبارات جاهزة يرددهـا الشاعر وينشدها المستمعون معه بصورة تلقائية

حتى يكون الشاعر قد تهيأ عاطفيا وسرت فيه حرارة الشعر فيدخل في موضوعه بقوة ودقة وتصويب ، ولا أعني بهذا أن القصيدة الكلاسيكية منذ بداية الإسلام كانت تنظم بهذه الطريقة إذ يبدو أن الشعراء ينظمون أشعارهم في لحظة التهيؤ والاستثارة ، فتكون لديهم قطع شعريــة كما هو متـوقع من مجتمـع بلغ درجة عالية من التطور الحضاري غير معتمدين على الأداء الارتجالي وحده ، على أن شكل القصيدة يعتمد أساسا على الظروف المواتية للشعر في لحظة الارتجال ، واليوم تقف القصيدة ذات الموضوع الواحد جنبا مع جنب مع القصيدة الكلاسيكية الفصحى وشعر ( بني مغراه ) ، وأعتقد أن النوعين الأخيرين هما نتاج تطوير مختلف ومن مصدر شعري عام ومشترك ، ومن التهور إصدار حكم في أسبقية أحدهما على الآخر.

والقضية التي أريد أن أطرحها وباختصار هي أن القصيدة العربية الكلاسيكية شكل شعري متطور كما نعلم تحتوي على مجموعة من المواضيع منسقة تنسيقا متعارفا عليه ولكنها مأخوذة بأكملها من المواضيع المبسطة في الزامل البدوي، و( الدان ) و( الرجز ) ويكاد أن يكون كل مابقي من شعر ما قبل الإسلام ، وهو شعر البطولة والفروسية الحربية وشعر الغزل الذي نظمه شعراء القبائل البارزون مسبوكا بأسلوب شعري ولغة فصيحة ليست متداولة في الحياة اليومية ومن خصائص شعر البطولة والحرب والمهاجاة أن يكون مفهوما بشكل عام كما انه في نفس الوقت يبتعد عن العامية التي قد يعتقد أن بها شيئا من الإسفاف والهلهلة. وأعتقد أن ضياع كثير من الشعر العامي ، شعر الفلاحين والباعة والذي يمتد إلى ما قبل الإسلام يعود إلى أسباب اجتماعية ، ويعود أيضا إلى أن مجموعة من الحضر قد رافقوا القبائل في هجرتهم إلى خارج الجزيرة العربية ولم يبق إلا القليل من ذلك الشعر الذي خرج عن نطاق شبه الجزيرة العربية(2)، وعندما يتوفر لدينا قدر أكبر من الشعر العامي في بلاد العرب فسيكون في مقدورنا تصور ومعرفة الشكل الحقيقي والذي كانت عليه القصيدة قبل الإسلام واختبار هذه الآراء التي بنيناها على دراسة شعر جنوب الجزيرة المتوفر لدينا الآن.(3)
_________________________________

الهوامش
(1) أنظر كتاب ( المصدر المفيد ).
(2) يمكن الافتراض طبعا أن ( الحضر) كانوا ( موالي ) للقبائل عند خروجهم من بلاد العرب أنظر الفصل الثاني. حين تناولنا التقسيم الطبقي وشعر ما قبل الإسلام.
(3) أنظر ما ذكره لا ندبرج في اللغة العربية ولهجاتها La Langue Arabe of Sel Dialects (ليدن1905م) حيث أن قراءة لك ذلك متعلق بهذا الفصل.























.
التوقيع :
  رد مع اقتباس