عرض مشاركة واحدة
قديم 10-11-2010, 05:47 PM   #1
الديس الشرقية
حال جديد

افتراضي مدينة الديس الشرقية

دَخلة الديس الشرقية


ففي عام 1337هـ و أثناء فترة هدنة مؤقتة و صلح بين الدولة القعيطية و التحالف الحمومي، و بينما كان عدد كبير من أفراد التحالف بما فيهم عدد من زعمائهم يتسوقون في مدينة الشحر و هم مطمئنون، أصدر حاكم الشحر أمراً لجنوده العبيد و يافع بإلقاء القبض على كل أفراد الحموميين و أودعهم السجن. و قد بلغ عدد من أودعوا السجن يومها بـ400 حمومي و سيق 27 من الزعماء و فيهم المقدم سالم العليي الملقب حبريش زعيم التحالف الحمومي إلى ساحة بوابة العيدروس ((سدة العيدروس)) بالشحر حيث أعدموا ذبحاً بالخناجر و دفنوا خارج البوابة خلف مقهى بحرق اليوم ((الفندق السياحي)) بمسافة 100 متر تقريباً شمال البوابة.
ذهل الناس للحادثة، و نظروا إليها بأنها خرق لاتفاقية الصلح و حضر للذمة و نقضاً للعهد و هي صفات وصم بها الحكم القعيطي، و اعتبرها التحالف الحمومي بل القبائل انه عمل مشين منافي لأخلاقياتها. و لذلك وصف الشاعر معلاف فعلة القعيطي وأنصاره ((بخبيثين العمالة)).
أعتقد الحكم القعيطي بأنه قد وجه ضربة قاسية لن تقوم للعشائر الحمومية بعدها قائمة. و كادت أن تكون فعلاً كما قدره الحاكمون، لكن مبادرة شجاعة قام بها نجل سالم بن حبريش و هو علي بن سالم شحذ بها الهمم و لملم الصفوف الممزقة البائسة، و لقب لموقفه هذا بسلطان الجبل. ينظر البعض إلى عملية الاستيلاء على الديس الشرقية ((دخلة الديس)) في14 رجب 1344هـ الموافق 1924م من قبل بادية الديس الحموم على أنها سطو و تدمير. و هؤلاء متأثرون بما قرءوه و اطلعوا عليه من كتابات المؤرخ/ صلاح محمد البكري في كتابه تاريخ حضرموت السلمي بجزئيه الأول و الثاني، و ينسون أن البكري كان المؤرخ و الناطق بإسم الدولة القعيطية. و نرى أن الأمر يختلف كثيراً عن ما ذكره البكري حول النظرة إلى العملية. إذ لم تكن بادية الحموم مصاصة دماء و عاشقة حروب. و لكن عمليتهم هذه كانت ردة فعل عنيفة تهيأ الحموم للقيام بها في خلال سبع سنوات 1337 - 1344هـ، عُرفت بينهم بسنوات التحريض و الاستعداد، و يعرفها البعض منهم بسنوات الأمان و السلم، و هو سلم ظاهري مكنهم من تثبيت عوامل النهوض و الانتقام. تدلنا على ذلك أشعارهم المتناثرة و خاصة أقوال الشاعر أحمد معلاف الناطق باسم البادية و الشاعر عوض بن سبيتي المناصر لهم.
فبعيد إنهاء مراسم الحداد دعا علي بن سالم مجلس الشدائد لقبيلة الحموم، آل عمر لتزكيته رئيساً على القبيلة، ثم دعا مجلس الشدائد للتحالف الحمومي، و هم قبائل بيت علي، بيت سعيد، بيت عبيد، بيت حسن و هؤلاء بيت آل عمر، و يتحالف معهم بيت غراب و بيت عجيل و بيت شنين و الجامحة لانتخابه زعيما للتحالف، و قد تم له الفوز بالرئاسة بموافقة أعداد كبيرة من أفراد التحالف. و في مهرجان لختان صبيان بيت علي، أقيم في منطقة نائية بعيداً عن أعين الدولة القعيطية في شِعب بالقرب من غيضة نسم مقر زعامة القبيلة و يسمى العكرة و هو الموضع الصعب المرتقى في اللهجة الحمومية، و كان تاريخ هذا المهرجان في عام 1340هـ. إذ رأى الحاضرون في شخصية علي بن حبريش الرجل الشجاع القادر على تجاوز المأساة و ضم صفوف الجميع تحت رئاسته. إلا أن زعامته لبني قومه لم تتم ببساطة كما كان يأمل فقد لقي معارضة من ابن عمه الأكبر، غير أن مجلس الشدائد و عامة أفراد القبيلة كان ميالاً لعلي لعدة خصائص كانت فيه، و هي الإقدام و سرعة البث في الأمور. حكاية في ذلك، هي أن مجلس الشدائد عندما لمس ميل البعض لابن العم، فكر أحد شيوخهم في معضلة، و طلب حلها من الاثنين، و هي تقديم عصا مربوطة ربطاً محكماً بحبل حول العصا و بها عدد كبير من العقد، فلم يستطيع ابن العم فك عقدة العصا. و لكن عندما قُدمت إلى علي بن حبريش، أخرج خنجره و ضرب بها عقد الحبل الطوي فانفكت. و أُعتبر هذا الفصل حسن إدراك في الأمور و فاز بالرئاسة.

تمكن علي بن حبريش من جمع الصفوف، و عقد تحالف مع ابن عبدات المناوئ للسلطة، آل عبدالله، و أرسل رجاله يعبثون بالأمن في الطرقات العامة. وعندما تهيأت الأسباب للقيام بفعل انتقامي، قرر احتلال الديس. كان هذا القرار من البداية لم يأتي متأخرا، كما يرى البعض، لسببين:
أولهما: أن في الديس عدد كبير من يافع، جنود و أنصار الدولة القعيطية. و قد أساءَ البعض منهم التصرف و المعاملة مع أهالي الديس. و بذلك فقد فكر في حالة التذمر القائمة آن ذاك و استفاد منها.

ثانيهما: أن موقع الديس بعيد عن سرعة تواصل المدد الحكومي القعيطي، أي بإمكانه السيطرة على الديس قبل وصول أي إمدادات حكومية، التي تفوق في عدتها ما عنده من سلاح بسيط.
و لكي يحقق هذا الهدف، دعاء مجموعة إلى الالتقاء بموضع شمالي قرية الضياعين، التي يسكنها آل العيدروس وسطاء الدولة القعيطية. و اوهم آل العيدروس بأنه إنما يلتقي مع بعض مستشاريه للتشاور حول وساطتهم إلى الحكومة القعيطية، لفك سراح السجناء من التحالف الذين لازالوا مسجونين منذ عام 1337هـ، و قد فتكت الأمراض بهم و مات منهم عدد كبير، و ذلك ليغطي زحفه إلى هدفه المنشود. و أكد هذه التغطية عندما ارتحل و قومه، بعدما استكمل تجمعهم من ذلك المكان إلى مكان آخر، وهو المسمى ((عين ون)) المشرف على وادي خرد. و عندها بعث بخمسة و عشرين شخصاً من عقلاء القوم إلى الشحر بواسطة آل العيدروس للقيام بالمفاوضة الموهومة. صدق آل العيدروس قول الحموم كما صدق الحاكم ناصر بن أحمد بوبك هذا الطلب، و قضى معهم أياماً في التفاوض و لم يقطعه إلا عندما وصل إليه نبأ احتلال الديس من قبل البادية. و خرج الخمسة و العشرون مفاوض من الشحر دون علم آل العيدروس الوسطاء. ففي الوقت الذي تحرك فيه المفاوضون إلى الشحر، تحرك علي بن حبريش إلى الديس الشرقية، يصحبه كما تقول الروايات البدوية، ثلاثمائة و خمسين مقاتلاً من مختلف قبائل التحالف - يرى صلاح البكري انهم ألف مقاتل - و سلك طريقاً داخلياً تحميه السهول الوسطى. أي انه مر بوادي خرد الأعلى، و مر بقرية المقد و من سهل مول الليمة ووصل إلى مضايق الصيق، شمال الديس. سارع بن حبريش فأرسل قوة للمرابطة في القارة البيضاء لقطع الطريق الساحلي المؤدي إلى الشحر. و بالفعل، فقد اصطدمت بأفراد من يافع و قضت عليهم. كما أرسل قوة إلى مشارف القرن، ميناء الديس لنفس الغرض حيث اصطدمت بستة عشر جندياً طلب حاكم الديس حضورهم لتعزز حماية المدينة بعد أن بلغته أنباء المسيرة الحمومية. و قد قتل خمسة عشر فرداً منهم و نجا السادس عشر بعد أن قاوم مقومة شجاعة و لم يتابعوه أثناء انسحابه و انفلاته من مصيدتهم. في نفس الوقت الذي بعث فيه القائد الحمومي و حداته لقطع الاتصال، بعث بأفراد إلى داخل المدينة لاستطلاع أحوالها الدفاعية. كما بعث مع أحدهم طلباً لحاكم الديس لتزويد القوة الحمومية بالطعام، موهماً إياه بأنه لا يرغب في الهجوم على الديس و إنما وجهته المقصودة ميناء قصيعر، و ذلك بهدف طمأنة الحاكم و صرفه عن المقاومة. إلا أن الحاكم كان متيقظا و مستهيناً بالقوة الحمومية فحمل الرسول الحمومي مشط من الرصاص قائلاً له:"قل لبن حبريش لا يوجد عندنا إلا مثل هذا". و لا شك أن بن حبريش كان متوقعاً مثل هذا الجواب.
في نفس مساء ذلك اليوم، وبعد أن أسدل الظلام أستاره وخيم على المدينة، وزع قوته إلى ثلاثة محاور، إحداها من الغرب و معظمهم مقاتلين من بيت شنين، و محور من الغرب من بيت غراب و المحور الثالث كان من الشمال يضم الفئات الأخرى من التحالف بقيادته.

كان يحيط بالديس من الشرق و الشمال الشرقي سور مرتفع تنتصب فيه قلاع محصنة، يتمركز بها عدد من المقاتلين. أما الجبهتين الغربية و الجنوبية و الشمالية الغربية فبدون أسوار، ولكن تحيط بالمدينة قلاع أخرى متناثرة. كانت دفاعات الجزء الشمالي الشرقي قوية و عنيفة، فتسلل أفراد من المحور الحمومي و تحت تغطية من النيران إلى السور، و ثقبوا فيه فتحة واسعة مكنت أفراد المحور من العبور من خلالها إلى داخل المدينة و هاجموا الحصون من الداخل حتى اسكتوا مقاومتها، وتم لهم بذلك احتلال الديس لمدة ثلاثة أيام، نهبوا فيها الحوانيت خاصة تلك التي يملكها اليافعيون، واسروا من الجنود اليافعيين تسعة و عشرين جندياً نُقلوا إلى الجبال حيث تقطن البادية، ثم أطلقوا سراحهم بعد أيام، و يرى البعض بعد أشهر. ثم رحل الحموم عن الديس و عادوا إلى مواقعهم مهللين بالنصر. و لربما سأل سائل : لماذا أطلقوا سراح أسراهم، دون مقابل؟ ولماذا رحلوا عن الديس بعدما سيطروا عليها؟
يقول بعض شيوخ البادية انهم أطلقوا سراح الأسرى لكي يبرهنوا للحكومة انهم اكثر وفاءاً للعهود و الإنسانية منها. وقد ينظر البعض إلى هذا على انه سذاجة، توحي بضحالة التفكير. و هي فعلاً سذاجة في عرف الساحة الآن، و لكنها في عرف القبائل و أخلاقياتها التي تعتبر أساس مقوماتها الاجتماعية و الثقافية و التربوية. أن ذلك يجب أن يكون كما أرادوا لأنهم لا يؤذون أسراهم و يشترطون المقابل لاطلاقهم. و لكن التبرير المقنع هو أنه قد دارت مناقشات و اتصالات لاطلاق سراح اليافعيين مقابل من بقي في السجن من الحموم، و إن لم تشر إليه الإخباريات و الوثائق.


أما بالنسبة لسرعة الرحيل عن الديس، فذلك أن البادية كما يتحدثون عن أنفسهم، أنهم ليسوا طلاب حكم، و لم يغزوا الديس و يحتلوها إلا لإبراز قوتهم في المقاومة ضد الحكم و انتقاماً و ثأراً لمقتل رؤسائهم، الذين يعظمون و يؤرخون حادثتهم بقولهم: "سنة مقتل اليوه حدث كذا" و نحن نقول: "سنة الدخلة ولد فلان".
  رد مع اقتباس