عرض مشاركة واحدة
قديم 06-27-2012, 05:22 PM   #33
أبو صلاح
مشرف قسم تاريخ وتراث
 
الصورة الرمزية أبو صلاح

افتراضي

الهجرين في حضن جبل فارد جاثم على الأرض كالجمل البارك من غير عنق

نفضوا عن أرجلهم غبار "صيف" وهم يتنفسون الصعداء.لم ترق لهم الإقامة طويلاُ في بلدة"صيف"التي خلفوها وراء ظهورهم غير نادمين، واتجهوا صوب جهة المشرق، يسيرون ببطن الوادي ،وعلى جانبيه في جو حار مشمس تزيد درجة حرارته عن 39 درجة مئوية ،يطفئون حر الضماء من مياه السقايات البارد التي تنتشر كرؤوس المنارات البيضاء على طول الطرق التي تسلكها الدواب والمارة من الناس ،أوقفها أهل الفضل والرحمة من سابقي أهل حضرموت يرجون بها وجه الله 0
بعد مسيرة ساعتين من تحركهما من "صيف "فإذا بهما يقابلان اثنان من السادة العلويين وصفاهما بأنهما يحثان السير في اتجاه القافلة ،وكان قد وصفهما (الكولونيل" دانيال فان در ميولين أيضا )بأنهما ) في هندام حسن ) وهما مرسلان إلى السيد علوي العطاس رفيق رحلتهم إلى وادي حضرموت.
كما أن السيد أبو بكر بن شيخ الكاف في تريم قد أرسل سيارتين في طريقهما إلى حريضة توقعا أن القافلة لابد أن تكون "حريضة "هدف رئيس من أهدافها خاصة وأنها المدينة التي يقطنها جُل ّ عائلة "آل العطاس"ولهم بها مقام كبير يقصده زوار حريضة باستمرار0
قال المؤلف : (000فواصلنا مسيرنا الآن بهمة جديدة. وعبرنا مرة أخرى إلى الجانب الأيسر من الوادي, وهو الجانب الذي تقع فيه "صيف". وأصر الجنود اليافعيون على أن هذا الجانب غير آمن, وترجونا أن ننتظر وصول الجمال قبل أن نواصل.)
و أخيرا ظهر لهم جبل الهجرين بحافته الحادة المتميزة وقمته المسطحة, كسفينة ترسو في الفضاء، وحيث ترقد عند سفحه بساتين النخيل. قال: ( اندفعنا الآن بعزم جديد, بالرغم من الحرارة وحيواناتنا المجهدة. وعندما وصلنا إلى حافة الأرض المزروعة, اعتقدنا أننا وصلنا إلى نهاية رحلتنا, لكن ما زالت هناك مسافة علينا قطعها)
وخلال تلك المسافة التي كانت تفصلهم عن الهجرين كانوا قد توقفوا في محطات ،شربوا الماء البارد من أقداح الفخار،ثم واصلوا السير مع الدواب من الحمير التي ترافقهم في رحلتهم وهي متعبة لم تستطع مواصلة السير عبر قنوات المياه الجافة (أي السواقي )،فرحموها وآثروا السير على الأقدام، قال :( 000لم تستطع الحمير مواصلة السير أكثر من ذلك, فترجلنا منها. )
غير أن أحد الجنود اليافعين القساة لم يأبه بتعب حمار الكولونيل دانيال الذي ترك ركوبه شفقة عليه بعد أن اتعب فحدثت مشادة بين عصبية يافع وقوة هولندا الاستعمارية فأنظر ما حدث قال: (فاقتاد أحد الجنود اليافعيين حماري من لجامه إلى المؤخرة, وعندما وصل إلى هناك حاول أن يمتطيه خلسة. لكننا لمحناه, فصحت فيه لنزل منه, لأني نزلت منه لتوى رأفة به. فصاح إليه رفيقه اليافعي الذي كان يسير أمامي بألا يطيع أمري. فصحت فيه غاضبا ليصمت, وقلت له لقد دفعت أجر الحمير وأنا المسئول عنها. وعندما رد على بصفاقة قائلاً "أمسك لسانك", ضربته بصندوق على أذنه. فالتفت نحوى غاضبا وهو يمسك بندقيته وقال "هل أسكت على ضربك لي؟" فقلت له "سوف تطيع أمري فأنت تحت قيادتي". فتراجع عبد الله إلى المؤخرة وهو مقطب الجبين, بينما ركزنا أنظارنا جميعا على بندقيته.)
ولم يمض وقت طويل حتى جاء رفيقه بطلب الصفح عنه. وقال:( " لا تغضب منه فهو متوتر قليلاً". )
فرد الكولونيل بقوله :(ومن يستطيع أن يظل غاضبا لفترة طويلة من هؤلاء الأغرار الشرسين البدائيين؟. )
لم تسعفه قبليتة وعصبية العسكري اليافعي ، وحتى أن اعتذاره كان فيه مهانة له أمام هذا الأجنبي المستعمر في الأصل ، ومن ثم لأنه كان أجيراً عنده ؛لا ممثلاً للأمن ونظام الدولة القعيطية ووزيرها المحضار0
وبالنظر إلى تلك الواقعة والتأمل في بعض جوانبها ،تجد أن فيها ما يمثل صورة من صور رجالات الأمن والعسكر في السلطنات القعيطية والكثيرية السابقة التي حكمت حضرموت0
وفي كل الأحوال فقد انتهى الأمر في مساء تلك الليلة الساخنة بعد أن أعطي كلا الجنديين اليافعيين أجرتهما وصرفا أمرهما، و استغني الكولونيل عن خدماتهما : ولهذا قال :(000, أعطينا الجنديين اليافعيين مكافأتهما التي انتظراها بشغف, وافترقا من النصارى كأحسن ما يكون الأصدقاء.)
وحتى وصول القافلة إلى الهجرين،فقد مر الركب أثناء سيرهما على مسجد وبجانبه قبة وزير ماء للشرب على الطريق ،وبئر زراعية بها نسوة من الفلاحات يعملن في الزراعة ،قد استوقفهن مشهد رجال من النصارى الحُمر البشرة كما هو الشائع عند العوام . على أنهن ما إن شاهدن غرباء حتى سارعن بتغطية وجوههن ، وكن يضعن فوق رؤوسهن قبعات عريضة من السعف [مظلة ] للوقاية من حرارة الشمس0
وأخيرا وصلوا الهجرين :
الهجرين هي المدينة التي لا تغيب عن المشاهد والمنارات التاريخية في حضرموت كلما ذكرت ،وهي التي كما قيل "أشهر من نار على علم "، لا تغفل الكتابات التاريخية عن ذكرها ، لما لها ولأهلها الكنديون الذين سكنوها في الغالب منذ قديم الزمان كما ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب ،وبن عبيد الله السقاف في "إدام القوت" وكان قد وصفها بأحسن وصف وجدته في (إدام القوت معجم بلدان حضرموت قال : (هي واقعة في حضن جبل فارد جاثم على الأرض كالجمل البارك من غير عنق ، تحف بسفوحه النخيل من كل جانب ، متجانف طرفه الغربي إلى جهة الجنوب وطرفه الشرقي إلى جهة الشمال 000)
استقبلته المدينة المصلوبة على رأس جبل[ الباحث الهولندي وصديقه ] وبدأ بالصعود في طريقها المعبد نحو سفح الجبل، حيث تقع الهجرين، ويقود إلى بوابة هذه المدينة ممر معبد أيضا , وكانت تتحكم في الماضي بحكم موقعها في الطريق الرئيسي من الساحل إلى حضرموت. (الشوارع داخل المدينة أيضا شديدة الانحدار وتعطى المدينة انطباعا بالاضمحلال. وبها قليل من المنازل العالية أو الجميلة, واللون الأبيض الذي هو علامة الرخاء يكاد لا يوجد حتى في منزل واحد. يطغى على المدينة اللون الرمادي والبني مثل الجبال التي تقف أمامها. )
لاحظ أن انطباعه عن المدينة ومظهرها العام ،قد يفضي أليك بانطباع سيء فيما قاله عنها ماذا قال؟ : (توقفنا أمام منزل بطابقين يقع في شارع جانبي. يقال إن السيد محمد بن سالم بن عبدالرحمن الكاف, الذي نحمل له رسالة تعريف من مضيفنا في دوعن, يسكن هنا. وأخذوا منا الخطاب, وأغلق الباب مرة أخرى, وانتظرنا في الشارع. وعندما طال انتظارنا قلنا لأنسنا بقلق لعل الإفرنج غير مرغوبين في هذا المنزل.)
وهذا من سوء ظنه فيما يبدو،وإن اكتشف حقيقة الأمر وخطأ تقديره للموقف بعد ذلك ، قال :(000 ولم يكن الأمر كذلك, فقد كان هناك حفل زواج بالمنزل في ذلك الوقت, والمنزل مزدحم بالنساء فكان لا بد من إزاحتهن خلف الأبواب قبل أن يسمح لنا بالدخول.)
ولم ينته الأمر عند هذا الحد ،فإنه كما عهدناه من سابق في مواقف أخرى ينظر دائماً إلى سلبيات ومثالب وعورات القوم حين ينزل عليهم ؛وكأنه يحاول أن يكتشف ثمة ما يعيب ، من المواقف المظاهر والمناظر غير الجميلة التي يكتشفها في زيارته، وقلما يثني على أحد و يستحسنه ، إلا في حدود من يعرفه من خواص الجمهور فقط الذين تعامل معهم في حضرموت ؛وأدوا له مهام خاصة لتسهيل رحلته إلى وادي حضرموت ،على الأقل في ما مر بنا من زيارات سابقة في دوعن والشحر وشحير قال: ( 000 وبعد الانتهاء من هذه المرحلة, أخذونا إلى شقة تدل معالمها على أنها كانت مكتظة فقد كانت دافئة ومتسخة. ورغم أننا زحمنا المكان إلا أن بعض الفضوليين أقحموا أنفسهم علينا. ويبدو أن صاحب المنزل وابنه الذي يسيل المخاط من أنفه قد ادخروا الماء لكل الأغراض إلا للاستخدام. ولكن نظرته الودودة واستقباله الحار سرعان ما جعل كل شيء طبيعيا.)
يعود للاعتذار لنا معشر الحضارمة العرب بشكل مؤدب في تعبير منه غير مزري ولا فض أنظر لقوله : (
لعله من المناسب أن نتقدم بالعرفان لحفاوة العرب. فمن من الغربيين كان سيخفى امتعاضه إذا توقف حفل زواجه بمجيء قافلة من الناس المرهقين الجوعي؟ ومن منا كان سيفتح كل داره فورا للمسافرين "أبناء الطريق" ويقوم بنفسه بإحضار الماء لإطفاء ظمأهم, ويعد لهم في الحال الطعام الذي يقيم أودهم؟)
جميل منه هذا،وعلى كل حال نقول له الخيل أعلم بفرسانها، فلم يضرب لأحد من الناس مثلاً في كرمه إلا وحاتم الطائي وهو من العرب، ، وكعب بن مامة، في الإيثار،وقوله تعالى: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " سبأ: 39 وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه " إن الله عز وجل كريم يحب الكرم و معالي الأخلاق ، و يبغض سفسافها " .
وكما هي عادة أهل الأرياف يحبون المعاشرة والمآكلة عند قدوم الضيف ،فاجتمع الناس في هذا المنزل بمدينة الهجرين من طوائف شتى لايفصلهم عن بعض عنصرية لون، أو حواجز طبقية، بالرغم من حضورهما في المشهد الاجتماعي لواقع حضرموت ولهذا وصف الواقع للمرة الثانية بأنه ديمقراطي،- كما تعلم في حلقة سابقة عن البدو في شحير - قال:( الحياة هنا ديمقراطية. ففي غرفة الاستقبال المحشوة بالناس, يجلس العبيد والخدم والأطفال وصاحب الدار معا ويشربون من نفس الإناء. ويعبون لأنفسهم القهوة في نفس فناجين الآخرين دون غسلها. وكرس مضيفنا نفسه لخدمتنا. كان يتغيب دائماً ليتأكد بنفسه أن التحضير للوجبة يتم دون إبطاء.)
وحتى موعد تقديم وجبة الغداء،ولعلها الصبحة أو المشطة كما في العادات الحضرمية ،لم تلبث النساء في الغرفة المجاورة لجلوس الضيوف ،يشدون بأغاني العرس مع الشرح النسائي الحضرمي المعروف، و كن في مرح دائم بالرغم من الحر القائظ الشديد في صيف مايو في تلك السنة -1931م -,
ولم يدر في خلدهن أن هذا الإفرنجي سيكتب عنهن كل شيء فيما بعد 0
وأخيراً جاء ت ساعة الراحة والغداء : (فقد قام مضيفنا الحاذق في هذا الأثناء في هدوء بإعداد غرفة لنا في ركن قصي من المنزل الشاسع. كان يرى إرهاقنا, فهمس لنا أن نتبعه حتى نهرب من فضول الزوار الذين لا ينقطعون. فأهل المدينة هؤلاء الذين لا يمكن أن نحمى أنفسنا منهم, لن يجروا على الدخول إلى هذه الغرفة الهادئة. واستلقينا فوق السجاد على الأرض, وسوف يهتم مضيفنا بألا يزعجنا أحد لمدة ساعة. ثم أحضروا لنا الطعام في هدوء, ولم نستيقظ إلا عندما كان الأرز الأصفر ينتظرنا في الصحون المفطحة حول مائدة الطعام المستديرة على الأرض, وبجانبه اللحم والطبيخ. وأمام كل واحد منا قطعة مستديرة من الخبز.) ولقد ظن صاحب المنزل أن الغداء قد لايكفي ،وبكل أدب واحترام تقدم ألينا واعتذر عن قلة الأكل المقدم لنا, ثم بدئوا يأكلون قال : (000 وانهمرتا على الأكل وننحن نردد "بسم الله الرحمن الرحيم".)
والصحيح الثابت من آداب الأكل في السنة النبوية أن تقول (بسم الله ) فقط إن كنت مستناً بسنته صلى الله عليه وسلم 0
قد لاحظ الضيف على الوجبة خاصة الأرز أنها مشابهه لما كان عليه الآسيويون في جاوا والهند وسيلان وهذا صحيح ،لأنها في الأصل نقلت مع الهجرة إلى حضرموت قال : (إن عادة طبخ الأرز واللحم مع كمية كبيرة من البهارات لا بد أنها جاءت من جاوا والهند. فهم يكثرون من البهارات التي لا يألفها الضيوف الأجانب) 0
كان مضيفهم يجيد التحدث باللغة الملاوية, ويهوى الحديث عن "شيربون" التي تقع في شمال ساحل جاوا, حيث حققت أسرته نجاحا ملحوظاً ويتمنى أن يعود بضعة أشهر عندما ينتهي حصاد التمر. ويمتلك والده عشرين منزلا هناك. وهو يعرف مائة وخمسين رجلا سافروا من الهجرين ليبحثوا عن حظهم في جاوا.
قال : ( 000 واطلعت قبل مغادرتنا على الجواز الهولندي لمضيفنا وأقربائه وكتبت عناوينهم ووعدت بأن أقابلهم فيما بعد في "شيربون", فهم يستحقون ولو اهتماما بسيطا من جانبنا, فقد كنا مشدوهين بالحفاوة البسيطة الصادقة التي لقيناها في هذا المنزل, خصوصاً بعد تجربتنا المريرة في "صيف".)
هل لاحظت ما أسلفت ذكره من طريقة وأسلوب الزائر مع غيره من الناس !؟
وعندما حانت ساعة الرحيل : وقف مضيفهم عند عتبة الباب في وداعهم بعد أن طلب منهم المبيت أيضا في الهجرين بإصرار شديد. (000لكن علوي العطاس كان تواقا إلى رؤية أسرته في موطنه, ولذلك قررنا أن نواصل السفر إلى "المشهد" بعد الظهر. )
و مما أثار الانتباه تجمع من يتحدث الملاوية من أهل الهجرين الذين أخذوا يتبادلون الحديث بها ببضع كلمات مع ممثل الحكومة الهولندية كما وصف نفسه "بالأبيض " التي تستعمر بلاده جاوا موطنهم الثاني في تلك الفترة (000 وعند وداعنا لم تحط بنا وجوه تعلوها الكراهية والاحتقار, ولا التعابير المسيئة للنصارى الذين يجب ألا يسمح لهم بتلويث الأرض, بل كان خروجنا عبارة عن موكب انتصار صغير, وتزاحم حولنا الصبية وهم يمتلئون حماسة, وكل واحد منهم يحاول إبراز معرفته بلغة الملايو.)
ولنا لقاء إن شاء الله في المشهد وآل العطاس دمتم بخير لكم تحياتي0

التعديل الأخير تم بواسطة أبو صلاح ; 06-30-2012 الساعة 06:04 PM
  رد مع اقتباس