عرض مشاركة واحدة
قديم 12-11-2011, 02:51 AM   #14
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

افتراضي


رسالة من عدن حول "الربيع العربي"

- بقلم : د. عبدالله المدني

السبت, 10 ديسمبر 2011 22:46

الخليج – لندن " عدن برس " -

تلقيت رسالة إلكترونية من مواطن يمني من عــَدن، يعقـّب فيها على ما كتبته مؤخراً حول ما يـُسمى بـ "الربيع العربي". ولأن ما جاء في الرسالة مهم وكـُتب من وحي ما شاهده صاحبها بنفسه خلال السنوات الأربعين الماضية من عمره من أحداث وتطورات عصفت بالبلاد العربية، رأيت أن أشارك القارىء الكريم فيه.


يبدو المواطن اليمني في تعقيبه محبطاً ومتشائماً من كل ما يجري اليوم على الساحة العربية تحت مسمى "الثورات الشعبية" أو "الربيع العربي"، بل يكاد يجزم بأن ما سيأتي لاحقاً أسوأ بكثير مما مر سابقاً على نحو ما كشفه لنا التاريخ العربي الحديث في مصر والعراق وسوريا وليبيا. أما السبب، كما يقول، فهو أن شعوبنا العربية وساستها وأحزابها وتنظيماتها لا تعرف معنى ومضامين الديمقراطية التي تطالب بها في الساحات والميادين، لأنها ببساطة شديدة لم ترب على هذا القيمة النبيلة وما يشتمل عليها من عدالة ومساواة وتسامح وإيثار وحوار حضاري واحترام للقانون وللآخر المختلف، وبالتالي فهي معرضة للانحراف نحو الفوضى والتسلط باسم الديمقراطية.

وأستطيع هنا أن أضيف على لسان كاتب الرسالة ألا مستقبل للديمقراطية في أي مكان، إلا بوجود الديمقراطيين، وهؤلاء للأسف عملة نادرة خصوصاً في مجتمعاتنا العربية التي باتت تكتظ بالإقصائيين والطائفيين والموتورين سياسياً، وبالتالي فإن من يزعم بأن الديمقراطية لا تناسب إلا المجتمعات المتقدمة التي اخترعتها وروجت لها ورسختها في الأرض على مدى عقود من العمل المؤسساتي والسياسات المنهجية، قبل أن تقطف ثمارها، لا يقول باطلاً.



ولنأخذ في هذا السياق عدن (مسقط رأس صاحب الرسالة) كمثال. فهي كانت، إلى ما قبل الانسحاب البريطاني منها في منتصف الستينيات تقريباً، جنة من جنان الدنيا بالمقارنة بما حولها، ومؤهلة أكثر من غيرها لتكون كياناً واعداً في جنوب الجزيرة العربية بفضل ما تركه المستعمر فيها من بنية تحتية جيدة نسبياً، وكوادر بشرية متعلمة ومدربة، وأجواء ثقافية تنويرية متسامحة، ولبنات أولى لإقامة مجتمع سياسي ديمقراطي تعددي، ناهيك عن موقعها الاستراتيجي المثالي كحلقة وصل ما بين الشرق والغرب، وروح شعبها الخلاقة.



ولا أبالغ لو قلت إن عدن كانت وقتذاك مؤهلة لتصبح مثل أو حتى أفضل من سنغافورة، لو وجدتْ الحكومة الوطنية المحنكة والسياسي المتمتع بالرؤية الصائبة لقيادتها بعيداً عن العنتريات، والشعارات والأحلام الرومانسية. بل من المؤكد أنها كانت ستسلك درباً مختلفاً لو تمسك شعبها بما رسمته لها الإدارة الاستعمارية قبيل انسحابها، والمتمثل في كيان اتحادي تحت مسمى "اتحاد الجنوب العربي" الذي شمل سلطنات ومحميات ومشيخات جنوب اليمن، وكان شبيها إلى حد بعيد بما رسمه الإنجليز لمستقبل سلطنات الملايو قبيل انسحابهم منها عام 1957، وذلك حينما أسسوا لنموذج ملكي غير وراثي فريد تحت مسمى "الاتحاد الماليزي"، يتداول فيه سلاطين الولايات الحكم مداورة في ظل نظام ديمقراطي تعددي.



غير أن حظ عدن كان مغايراً لحظ سنغافورة والملايو بسبب التدخلات العربية في شؤونها، وخصوصاً من قبل الأنظمة العربية الثورية التي حرضت على الكيان المذكور ووصفته بالمؤامرة الامبريالية، بل وجندت كل ما تملك من أجل أن تكون لها كلمة وموقع قدم في خاصرة شبه الجزيرة العربية لترويج أجنداتها البائسة.



وهكذا رأينا انهيار حكومة اتحاد الجنوب العربي سريعاً، وغياب الزعيم المحنك ذي الرؤية الثاقبة، مقابل بروز العشرات من الساسة والتنظيمات المرتهنة للإيديولوجيات الشمولية، والأفكار القمعية، والشعارات الفضفاضة من تلك التي كان يؤمن، بها نظراؤهم في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، علما بأن كل واحد من هؤلاء لم يكن معنياً بالجنوب العربي كوطن وشعب واقتصاد ومستقبل قدر اهتمامه بأن يكون زعيماً يصارع الآخرين على كعكة السلطة، أو مُنفـّذاً وحيداً لما يعتقد أنه الأصوب والأفضل.



من الأسماء التي برزت في تلك الحقبة المفصلية من تاريخ الجنوب العربي أتذكر المرحوم "عبدالله الأصنج" زعيم اتحاد نقابات العمال، والمرحوم "عبدالقوي مكاوي" الذي صنعته الناصرية ليكون صوتها هناك، والمرحوم "قحطان الشعبي" المتماهي مع أفكار المتطرفين من القوميين العرب (جماعة جورج حبش ونايف حواتمة) والذي صـُفي جسدياً على أيدي رفاق له أشد تطرفاً.



في برامج هؤلاء وغيرهم من رموز تلك المرحلة لم نقرأ شيئاً عن الديمقراطية أو ما تشتمل عليه من قيم نبيلة، مقابل تركيز شديد ومكرر على شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.



حينما أتذكر تلك المرحلة، التي كنا فيها أسرى لما تذيعه إذاعة صوت العرب(خصوصا برامجها الموجهة للجنوب العربي وأغنية "إسكندر ثابت" الثورية التي يقول مطلعها "سلامي ألف للدولة، وللعسكر، وللشجعان في الأشعاب والبندر") وأسرى لتخرصات مذيعها الأشهر "أحمد سعيد"، المدغدغة للعواطف، أعلم كم كنا مخدوعين، وكم أسكرتنا الرومانسية الثورية التي لم نستفق منها إلا بعد أن غزا الشيب مفارقنا. حينها فقط أدركنا قيمة الديمقراطية في حياة الأوطان والشعوب، وأدركنا معها أن الديمقراطية الحقة لا تأتي بين يوم وليلة، وإنما هي حصيلة تجارب تراكمية طويلة، وأن احتمال فشلها كبير في المجتمعات الموبؤة بالطائفية والعصبيات والنزعات الإقصائية واختلاط السياسي بالديني.



من سوء حظ عدن أنها لم تنجب شخصاً مثل "لي كوان يو" الذي تصدى لمشاكل بلده (سنغافورة) بعد الاستقلال عن بريطانيا بحكمة وروية، وابتعاد تام عن الضجيج والصراخ والشعارات الرنانة ودعوات التخلص من الإرث البريطاني الإمبريالي (رغم أنه بدأ حياته السياسية اشتراكياً)، مقابل التركيز على تمتين السلم الأهلي، وبناء هياكل الدولة المدنية الحديثة، وتحقيق النمو والازدهار الاقتصادي، قبل الشروع في الانفتاح السياسي. وهذا يشبه ما فعله نظيره الماليزي "تنكو عبدالرحمن" وخلفاؤه من بعده (ولا سيما مهاتير محمد) حينما رسخ المجتمع الديمقراطي التعددي وأركان الدولة المدنية الحديثة، وأطلق عجلة التنمية الاقتصادية، بصورة معاكسة لما كان يقوم به نظيره الإندونيسي "أحمد سوكارنو" من تكميم للأفواه، وتهديد للجيران، وتبديد للثروات.



ويمكن القول إن الزعيم الهندي "نهرو" - رغم ما يؤخذ عليه حول سياساته الاقتصادية الاشتراكية - سبق نظيريه السنغافوري والماليزي، ونجح قبلهما لجهة بناء هياكل دولة ما بعد الاستقلال الحديثة المؤطرة بالديمقراطية والعلمانية والفيدرالية، وذلك رغم ضخامة التحديات والضغوط الداخلية والخارجية في الحالة الهندية.


باحث ومحاضرأكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين


[email protected]هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


نقلا عن " الاتحاد " الاماراتية
التوقيع :

عندما يكون السكوت من ذهب
قالوا سكت وقد خوصمت؟ قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى- لعمري- وهو نباح