عرض مشاركة واحدة
قديم 01-25-2010, 01:38 AM   #26
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

افتراضي


علي أحمد باكثير
رائد التنوير الإصلاحي في حضرموت


2010/1/24 المكلا اليوم / كتب: الدكتور / محمد أبوبكر حميد


بدأ علي أحمد باكثير حياته العملية في وطنه الأصلي «حضرموت» مديراً للمدرسة الوحيدة في مدينته سيئون سنة 1344هـ/ 1925م، بعد أن درس أمهات الكتب العربية في اللغة والنحو والعقيدة والأدب على يدي عمه العلامة الشيخ محمد بن محمد باكثير (1283-1355هـ/1866-1936م)، ونهل من مكتبته الثرية العامرة التي وردت معظم كتبها من مصر.
واطلع في هذه الفترة المبكرة من عمره على مؤلفات ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب فقاده ذلك إلى الإعجاب بأعلام المدرسة السلفية الحديثة ودعوتها لإصلاح المجتمع الإسلامي متمثلةً في شخصيتي السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ومجلتهما الشهيرة (العروة الوثقى) التي تتلمذ عليها في مكتبة عمه.


فلا عجب أن يتصل بمن عاصرهم من قادة هذه المدرسة السلفية التنويرية في مصر فيراسل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) و السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلة (الفتح) إعجابا بفكرهما وبمجلتيهما الذائعتي الصيت في العالم الإسلامي آنذاك، كما راسل الأمير شكيب أرسلان في جنيف، ووجد أنه آن الأوان أن يدعو في وطنه حضرموت لما دعوا إليه، وأن يكون امتدادا لهم حتى يعين وطنه على اللحاق بركب الحضارة بالعودة إلى المنابع الأصيلة، ومحاربة الجهل والتخلف ودروشة الصوفية والبدع الباطلة والمعتقدات الفاسدة.

* التجديد التربوي والفكري

آمن باكثير بأن لا سبيل لتحقيق غايته في خدمة مجتمعه إلا بالعلم، وذلك من خلال الأساليب الحديثة في التربية والتعليم وإنشاء جيل جديد لا يفكر بطريقة آبائه، فبدأ عمله في المدرسة بوضع نظام جديد للتعليم يعتمد على الفهم لا الحفظ، ويعمل بوسائل التربية الحديثة، وقد عبر عن هذا الاتجاه في شعره الذي نشره بين تلاميذه:



إن برنامج تدرسيكم




ليس برنامج قوم مرتقيـن




ترهقون النشء بالحفظ فمن




حفظ تقرير إلى حفظ متون




ليس في ذاك لهم من صالحٍ




إنه يقتل فهم الناشئيـن(1)



وكانت المدرسة قبل أن يتولى إدارتها تقتصر على تدريس الفقه والحديث والنحو بالأسلوب التقليدي في الحشو الذي لا يتفق مع سن التلاميذ وقدراتهم على الفهم، فبسَّط أسلوب التعليم وأدخل عليه مواد جديدة كالتاريخ والجغرافيا والإنشاء والأدب والشعر، فثارت عليه ثائرة بعض الجامدين، وعدّوا فعله ذلك مروقاً على ما تعودوا عليه في تعليم الأبناء، وعدّه الغلاظ منهم خروجاً عن منهج أسلافهم وأوغروا عليه صدور العامة. وكانت بالنسبة لبعضهم فرصةً للنيل من هذا الشاب الذي جاء يبشر بأفكار جديدة، فاتهموه بأنه يريد أن يعلمهم دينهم فكان يدافع عن نفسه ويبسط ذلك في أشعاره الكثيرة:



أنا لم أدع إلى غير الهدى




وإلى غير نهوض المسلميـن




أنقمتم دعوة الناس إلى




سنة المختار خير المرسلين؟(2)



ومن حسن الحظ أننا عثرنا على مذكرة يوميات كان يسجل فيها كل يوم تقريباً ما يحدث في المدرسة وما يستحدثه فيها إدارياً وتربوياً وتعليمياً. وما كتبه في تلك المذكرة يعد وثيقة مهمة للتجديد الذي أحدثه في تاريخ التعليم الأهلي في حضرموت في تلك المرحلة المبكرة التي سبقت ظهور التعليم النظامي الرسمي من جهة، كما تكشف هذه اليوميات عن جانب آخر في عبقرية هذا الشاب الذي كان في السابعة عشرة من عمره واستطاع بجدارة علمية واقتدار إداري وتربوي أن يصبح مديراً لمدرسة هي فريدة من نوعها في تلك البلاد.



كتب هذه المذكرات على مدى ثلاثة شهور في كراسة تحمل اسم (المذكرة اليومية المصرية لسنة 1925م)، وهي من دلائل التواصل التعليمي والثقافي بين مصر وحضرموت وقتذاك. كان أول يوم في هذه اليوميات 26 ربيع الأول 1344هـ، الموافق 14أكتوبر 1925م، وآخر يوم فيها 16 جمادى الثانية 1344هـ، الموافق 31 ديسمبر 1925م. ولعل نموذجاً مما كتبه من ملاحظات على منهج التدريس في أول يوم من هذه اليوميات يوضح لنا مدى وعي هذا الشاب النابغة بأحدث طرق التدريس فكان مما دوَّنه في ذلك اليوم قوله:

* لا يسوغ تقرير رسالة النحو لكتابة وحفظ ذلك التقرير؛ لأن ذلك مما يجعل التلامذة يتكلون على الألفاظ ولا يعبؤون بالمعاني فينشؤون على ذلك وهو مذموم.



* تقريب فهم مسائل النحو بكتابة أمثلتها في السبورة ليشاهدوا ذلك مشاهدة حية.



* تعليم الحساب على النسق الجديد وهو إجراء المسائل عند تعليم القواعد، لا تعليم القواعد فقط.



لاحظنا أن القسم الثالث منحطون جداً في الإملاء فبحثنا عن سبب ذلك، فوجدناه ناشئا من قلة اعتناء الأساتذة بفن الإملاء، ومن تعليمهم إياه في الألواح الأردوازيه (الألواح الصغيرة)...... ولا يناسبهم إلا تعليمهم في السبورة وشرح مثل هذه الأشياء ليس يليق باليوميات».

ونفهم من هذه اليوميات أنه كان يقوم بتدريس عدة مواد منها الحساب والنحو والإملاء).

ونظم في هذه الفترة العديد من القصائد التي يدعو فيها زملاءه الأساتذة والطلبة في المدرسة إلى الصحوة والتجديد والجد في طلب العلم، ويحذرهم من الجمود على القديم ويأمرهم أن ينطلقوا إلى العلوم العصرية، فيلقي في المدرسة قصيدة طويلة في 76 بيتا نظمها على مطلع قصيدة البرعي الدالية الشهيرة (تنبهوا يارقود) يقول فيها:



تنبهوا يا رقودُ




إلى متى ذا الجمود؟




إلى متى ذا التواني




إلى متى ذا القعود؟




أحوالنا في انحطاط




وعلمنا لا يزيد




(فقه) و(نحو) وباقي الـ




علوم منا طريد(3)



ومن حربه على الجمود ودعوته إلى إنشاء جيل يتسلح بالعلم، يُذكِّر باكثير مجتمعه أن التعليم لا يفيد بدون تربية، والتربية لا تكتمل بدون تعليم المرأة لأنها المدرسة الأولى للطفل، فيصرخ داعيا لهذا الواجب الشرعي:



كيف السبيل إلى النهو




ض وأمهات النشء عور؟




أبدون تربية الإنا




ث تفيد تربية الذكور؟




أيلدن أحياءً وهن




من الجهالة في قبور؟




كلا ورب العرش كيف




يكون من ظلماء نور؟(4)



وكان من أوائل من دعا لتعليم البنات في حضرموت:



فيم غادرتم البنات على جهلٍ




وقمتم تعلمون البنينا؟




هل أقمتم مدارساً للواتي




إذ أقمتم مدارساً للذينا؟ (5)



ويروي لنا السيد جعفر بن محمد السقاف أحد تلامذته في هذه المدرسة أنه تعلم تحسين الخط على يديه. وكان باكثير قد تعلم فنون الخط في هذه المدرسة نفسها على يد أستاذه العلامة محمد بن عوض بافضل الذي انبهر بعبقرية تلميذه فأنشأ بيتاً من الشعر وكتبه على السبورة بخطه الجميل وطلب من التلاميذ أن يتدربوا على كتابته:



(عليٌ) من نوادر ذا الزمانِ




له فهمٌ وغوص في المعاني



ويقول السقاف عن نزعة باكثير السلفية: (ثم عرفته في زاوية عمه العلامة محمد بن محمد باكثير بمسجد قيدان بسيئون حيث كنا نصلي التراويح، فكنت أراه ينكب على قراءة «إحياء علوم الدين» للغزالي في فترات استراحات ركعات التراويح العشرين. وبعد انتهائه من قراءة إحياء علوم الدين وجدت أنه كتب بخطه المرسوم على الصفحة الأخيرة من المجلد الأخير:



خسر العلم منك أفضل هادٍ




مذ تشربت نزعةً صوفية)(6)



وفي هذه الفترة تشتد الحملة عليه وتزداد معاناته على المستوى الشخصي والفكري والاجتماعي، حيث فقد سنده الأكبر والده الشيخ الوجيه أحمد بن محمد باكثير في 10/7/1343هـ، الموافق 3/2/1925م. وكان قد تزوج زواجاً غير موفق في 8/3/1344هـ، من فتاة تدعى سلامة أحمد عوض شيبان أنجبت له طفلة في 29/4/1345هـ، توفيت بعد عدة أيام من ولادتها وبموتها كان الانفصال عن أمها. وقد تزامن عناد المنكرين لفكره والحاسدين لنبوغه مع هذه الظروف وبلغ ذروته أثناء سعيه للزواج من فتاة أخرى يحبها، وكان لهؤلاء دور في ذلك صوره بوضوح في باكورة مسرحياته وهي مسرحية (همام أو في بلاد الأحقاف) وأثناء اشتداد هذه المحنة عليه في سيئون بحضرموت يهزه الشوق لأمه في سورابايا مسقط رأسه بإندونيسيا، فينظم قصيدة في 25/12/1344هـ الموافق 6/7/1926م في 26بيتاً يعبر فيها عن هذا الحنين ويؤكد إخلاصه لحضرموت مهما واجه من صعاب فيها:



سُرباي ودُّك في فؤادي لم يحُل




غيري يحولُ وداده وسوايا




سُرباي إنك موطنٌ لولادتي




ومحلُّ تربيتي ومهدُ صبايا




لكن لي وطنا يعز فراقه




كيف السبيلُ لذاك وهو حمايا؟




هو حضرموتُ وما عنيتُ سوى رُبا




سيؤون فهي مرابعي ورُبايا




فيها بلغتُ الحُلمَ، فيها أبصرتْ




(نُورَ) المعارف والهدى عينايا




وعرفت أحوال الحياةِ وسرها




وتلوت من سُور المكارم غايا



ثم يعرّج على ما أصابه في وطنه من ظلم الجهلة بالدين والمتخلفين والجامدين على التقليد:



سيؤون لي وطن وديني حبها




ولو أنها قطعت لديك عُرايا




إن مسني ضيمٌ بها فلأنني




جاورتُ فيها المُخبثين طوايا




ما إن رأيتُ أقلَّ منهم خبرة




وأشدَُّ تقليدا وأسمجَ رايا




جهلوا العلوم فأنكروها إذ رأوا




أجسامهم من بُردهن عَرايا




هجم الجموُد عليهمُ فاستسلموا




وغدوا لغُزاة الجمودِ سبايا (7)



وتبلغ هذه الظروف الصعبة ذروتها سنة 1345هـ/1926م فتضطره للسفر إلى إندونيسيا حيث يوجد والد الفتاة وحيث توجد والدته للاستعانة بها في نيل وطره.

يتبع
التوقيع :

عندما يكون السكوت من ذهب
قالوا سكت وقد خوصمت؟ قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى- لعمري- وهو نباح