عرض مشاركة واحدة
قديم 04-09-2013, 05:08 PM   #683
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

افتراضي


المكلا اليوم | الصفحة الرئيسية

دورين إنجرامز والكشف عن واقع حضرموت من الداخل قبل سبعين عاما


4/9/2013 المكلا اليوم / كتب: د. عبدالقادر علي باعيسى

صدر عن مكتبة الصالحية للنشر والتوزيع بغيل باوزير، م/ حضرموت، الجمهورية اليمنية هذا العام 2011م كتاب أيامي في الجزيرة العربية- حضرموت وجنوب الجزيرة 1934-1944م لدورين إنجرامز زوجة المستشار البريطاني بالمكلا لدى السلطنة القعيطية هارولد إنجرامز وترجمه الأستاذ نجيب سعيد باوزير الذي كان يهمه نقل أفكار المؤلفة بدقة من خلال حرصه – فضلا عن دقته المعروفة- على مراجعة الترجمة عن اللغة الانجليزية من قبل الدكتور خالد يسلم بلخشر. والكتاب إذ يقدم صورة عن حضرموت في تلك الفترة فإن بلاغته لا تقوم في ذاته حسب، وإنما فيما يثيره من تصور بين الوضعين الماضي والراهن من خلال ما كان بحضرموت وما مر بها في إطار المتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي شهدتها.

وهو كتاب جاذب في طريقة عرضه وأسلوبه وخباياه، فحضرموت بعيون الغربيين الذين يركبون الجمال والحمير لأول مرة في حياتهم، ويشعرون بأن (حظهم كان سعيدا) لأنهم يتعرفون على وطن صخري صحراوي ككل جنوب اليمن الذي يبدو ((من الجو أشبه بمنظر سطح القمر ليس فيه ما يسر الناظر))(1) تتحول إلى جمال خاص عند معاشرتها، فالعزلة قد تعني القمة والتفرد وخصوصية الألوان. وكان على الحضارمة بدورهم أن يدعوا دورين إنجرامز من عزلتها لنطق الشهادتين، وكان ذلك يرسم للأوربيين الخارطة النفسية والثقافية لأهل البلد الذي كانوا يراقبونه بحساسية شديدة وعن قرب من خلال تقلبهم في الوديان والهضاب والقرى. كانوا في بداية تعرفهم يمتدون بمحاذاة الأرض وفي الوقت نفسه بمحاذاة النفوس، وكلما توغلوا في الأرض توغلوا في معرفة الإنسان والعادات والتقاليد الاجتماعية حتى دخلوا البيوت ليكتشفوا في كل مرة أنهم يدخلون في سلام أكبر ومحبة.

ويدخلون في خطر مخيف أيضا بسبب الصراعات القبلية، فحضرموت في ذلك الوقت بلد يحمل جزءا من اسمه بحق (حضر الموت) وكان شيئا مزعجا أن يوقف البدو الحضارمة السيارات قبل ثمانين يطلبون ((مائة ريال ماريا ترينزا ))(2) ليستقروا في النهاية على عشرة ريالات، وكأنهم كانوا ينظرون إلى الثراء الذي توحي به هيئة الأجانب وبيوت الأثرياء من آل الكاف التي يقصدونها في تريم، ولعل ذلك كان لشظف شديد يعانونه، ولم يكن (( في عام 1943م حكومة ذات إدارة منظمة لا في السلطة القعيطية ولا الكثيرية وكان السلطانان هما اللذان يسيران الأمور شخصيا تقريبا بمساعدة سكرتير ومسؤول خزينة وقاض وقائد قوات)) وإن كان للجهاز العسكري للسلطنة القعيطية شيء من الهيبة(4).

كانت دورين تخاطر، والمخاطرة متعة أوربية بامتياز، فقد سافرت مع السيد علوي العطاس إلى وادي عمد في إطار جهود زوجها لإقناع قبائل الجعدة ٍبالسلام والهدنة في وقت كانت فيه البلدان والناس في حالة استنفار دائم وتوجس من أي رصاصة تأتي من مكان مجهول، حتى الزراعة كانت تتوجس كثيرا من الإحراق، ولولا رحلة امرأتين على جمل عربية وغربية ( دورين وجميلة من العاملات الجميلات في بيت العطاس بحريضة ) ورفع هذه الأخيرة صوتها بالحداء للجمل لبدا لنا وصف الحال أكثر مأساوية وكآبة.

كان على الكاتبة أن تقطع رحلة جغرافية كبيرة ورحلة ثقافية كبيرة، وكان عليها أن تقطع رحلة ثقافية أخرى بين الرجال والنساء في مجتمع يبدو غير قلق على حاله وغير مهتم بأوضاعه إلا ما يتصل بشؤون التناحر بين القبائل، ومن ثم الأمن. والحق أنه في مثل ذلك الوضع لا يخطر على البال إلا الأمن الذي كانت تتمتع به بصورة أكبر من غيرها مدن الدولة القعيطية والكثيرية (المكلا وتريم وسيئون) حيث تبنى القصور ويسود الأمان والسلام والغناء ولعب الورق، وما عدا ذلك فليس إلا الثأر والبق والبعوض في القرى يستقبلك في غرف الاستقبال وكأن كلا يبني مملكته في حضرموت في ذلك الوقت، وربما كان البق هو الوحيد من بين كل الممالك والكائنات يهنأ بمملكة الدوام دون تهديد ذلك لأن أساليب مكافحته لم تكن رائجة عصرئذ، والحقيقة أن الحكومة البريطانية كما تقول دورين اهتمت بعدن فقط وأهملت ما عداها من المحميات المتشعبة المشاكل، حتى بدا الوقت كما لو كان متوقفا في حضرموت، والذي كان يتحرك هو زمن داخلي في الغرف والبيوت الفارهة عند الدخول بالشاي الداخل حديثا إلى البلاد، والغذاء الأندونيسي الجديد على المطبخ الحضرمي، والحديث عن طريق السيارات الترابية البكر التي تشق الجبال والوهاد داعية السائح للتوقف عندها للاستمتاع بمشاهدة الزمن الواقف حد اللمس، وكلما تم التحرك نحو المناطق الداخلية مشيا على الأرجل كان الزمن أثقل، وكانت حركة الجمل دالة تقريبا على الزمن نفسه الذي قطعه الإنسان العربي من العصر الجاهلي إلى بداية القرن العشرين، فكما انتظمت حياة الناس على هيئة واحدة انتظمت حركتهم وأفكارهم على هيئة واحدة.


ومع هذا فإن ما كانت تهتم به دورين إنجرامز هو الإنسان بنيويا في لحظة تاريخية معينة ومكان محدد، وكانت الجرأة الغربية، والثقة العالية بالنفس التي قد يشوبها شيء من الاستعلاء المبطن توجه طريقتها في كيفية النظر إلى الآخرين والتعامل معهم، فكان يهمها جدا أن تتكلم بالعربية لتفهم انفعالات الناس، بل باللهجة المحلية، بل أن تلاحظ اختلاف اللهجات، وهي في الغالب تصدر تعليقات لاذعة على ما تشاهد (( وتنفسنا جميعنا الصعداء عندما لاحت لنا صيف البلدة الصغيرة القذرة التي يبدو أنها لم ترق لأي من الرحالة الأوربيين ))(5) وتسحب هذا الحكم العام إلى داخل البيوت بالتفصيل (( ويمكن أن يكون ضعف البصر نعمة إذا كنت في بلدة مثل صيف ، فعندما أخلع النظارة لا أعود أرى الوسخ الملتصق على الجدران ولا حشرات البق في الحمام، ولكن هذه المغالطة البصرية لم تمنع عني الحك الفظيع الذي كان سمة الليلة التي قضيتها هناك ولم أتأسف عندما طلع الصباح وغادرنا صيف متجهين إلى الهجرين ))(6) ولا تعدم أن تجد تعليلا مقبولا لما شاهدته لا يخلو بدوره من قرص (( ويعود السبب في القذارة التي تعيش فيها هذه القرى وأهلها إلى شحة الماء فإذا انقطعت الأمطار لبعض الوقت لم يعد هناك ماء كاف لغسل الملابس وتنظيف البيوت لأن معظم كمية الماء المتوفرة تذهب للشرب والطبخ ووضوء الصلاة ، ولكن عندما ينشأ المرء في بيئة قذرة فإنه يكون من الصعب عليه أن يشعر بما هو فيه ))(7).

وفي هذه الأجواء كانت الحمير أكثر حضورا في الطرق والقرى وحتى المدن، وإن كانت السيدة دورين لم تستطع التكيف مطلقا مع ركوب الحمار لأن وزنها كان ثقيلا عليه ولأن ساقيها الطويلتين كانتا تتدليان على جانبي الحمار حتى لتكادا أن تلمسا الأرض(8) ولكن الحضرمي الذي ألف المعاناة حتى اعتادها قد يعزّ عليه حتى ركوب الحمير فمشى حافيا لابسا (( فانلة قذرة تملؤها الثقوب وعلى رأسه كوفية أكثر قذارة )) (9) والبق يخدش الجميع ويهجم عليهم من مخابئه في شقوق الغرف، وأن يسيل الدم في ذلك الوقت من البق أو القنابل أو القبائل فالفرق غير كبير جدا.

ما كانت دورين انجرامز تصف فقط، ولكنها تتأمل من خلال الوصف، وتتأمل بصورة خاصة في الأشياء الخاصة، وما كانت تسترق النظرات بل كانت تنظر بملء عينيها، وتكتب والنظرة لم تغادر عينيها بعد، ولا تتوقف ريثما تستذكر شيئا، وإنما تعيش جدل الكونية الاستعمارية والخصوصية المحلية من غير أن يبدو عليها اضطراب، كما لو كانت في لندن تماما، لا تشعر بالخوف، رغم أنها مع الرجال الغرباء وسط البراري الحضرمية البعيدة.

ولعلها كانت تفخر ضمنيا بأن قومها يحدثون نقطة تحول في البلد، وأن متغيرات سياسية واجتماعية بدأت تحدث في عهدهم ولو على سبيل المجاز، لتصبح جزءا من الواقع بعدئذ، وإن بدت في أول الأمر جزئية وهامشية، ومن ذلك ما أوردته من أن بعضا (( من آل الجعيدي الذين يهاجرون إلى حيدر أباد يعودون معهم بصبيان هنود تحت ذريعة تربيتهم تربية دينية سليمة ثم يبيعونهم كعبيد ، لقد عايشنا هذا الأمر معايشة حقيقية بعد ذلك بعدة سنوات ، إذ حدث أن أحد أفراد هذه القبيلة تزوج بنتا هندية وأحضرها مع ابن عمها إلى وادي عمد حيث باعهما على الفور لأخيه سدادا لدين ، وهذا الأخ باعهما بدوره لشخص آخر من القبيلة . ظلت المرأة المسكينة التي لا تعرف إلا قليلا من العربية في حالة من اليأس حتى رأت ذات يوم طائرة ووقر في ذهنها أن هذه الطائرة لا شك قادمة من مكان ما ينعم بوجود حكومة قوية . تقصت المرأة حتى سمعت عن هارولد فحملت ولدها وهربت لاجئة إليه . كان هارولد آنذاك في سيئون فأحضرهما إلى المكلا حيث عاشت المرأة معنا إلى أن تم الاتصال مع أسرتها في الهند فأركبناها على باخرة ، وكان برفقتها ابنها وصبي هندي آخر كان قد أخذ كعبد هو أيضا ))(10) .

وشيء آخر يمكن حمله على هذا المعنى المستهجن استنكرته دورين وهو أن سلمى (( اكتشفت أن زوجها سقاف، كان يعاشر الجارية قبولة وأنها حامل منه ، ومما زاد من غضب سلمى أن زهر [ إحدى سيدات البيت ] كانت تعلم بالأمر كله ولم تخبرها عنه . في اليوم التالي تركت سلمى البيت حانقة وذهبت إلى بيت أمها في تريم ، وقالت إنها لن تعود إلى البيت إلا إذا ذهبت قبولة لأن السيل قد بلغ الزبى. كانت سلمى تعلم أن لسقاف زوجة أخرى يذهب إليها عصر كل يوم، ولكن معاشرته لخادمة تشاركهم العيش في نفس البيت كان يفوق قدرتها على الاحتمال. كنت متعاطفة مع سلمى ولكن يبدو أن فاطمة كانت قد ضاقت ذرعا بها، فسقاف، كما تقول، لم يفعل شيئا غريبا وأنه كان يريد ولدا وهو ما لم تحققه له سلمى فكان لا بد أن يشعر بالخيبة والخذلان ))(11) وكم كانت جملة فاطمة عن سقاف أنه لم يفعل شيئا غريبا!! صادمة، إلا إذا كانت قبولة من الإماء المملوكات لسقاف الكاف فانبهم الأمر على السيدة انجرامز.
كان شيء من الخوف والسيطرة يشيع في جو حضرموت عصرئذ يشبه ذلك الجو من الانقباض الذي كان يشيع (( في ( الحريم ) كلما أحست النساء بوجود السيد أبوبكر [ الكاف ] هناك لأنهن كن يهبنه ))(12) وزاده انقباضا وخوفا ذلك الجو الذي أشاعه القصف البريطاني بالقنابل على القرى الحضرمية، وإن حاولت دورين إنجرامز تسويغه بصورة كاريكاتورية تدعو للضحك، من قبيل أن تلك المزارع والبيوت الطينية التي ضربت كانت خالية من البشر!! فلماذا ضربت إذن؟ أو أن قنابل تلك الأيام إذا ما قورنت بقنابل اليوم تكاد تكون مجرد حجارة ! فلماذا رميت إذن ؟ هل لمجرد الممازحة الانجليزية الباردة ؟! (13).

ولعلني كنت أشفق على صديقي المترجم قليلا من ترجمة الكتب الأجنبية المتعلقة بحضرموت التي يقوم بها عادة عرب من مصر أو الشام لأن المجتمع الحضرمي ما يزال متقاربا وأشبه بالعائلة الواحدة وأنه يراعي بعضه بعضا في الحشمة والأخلاق، فكلام من هذا القبيل عن منزل السيد عبدالرحمن الكاف )) وهو منزل كبير متشعب في غير تنسيق وتشرف على جناح النساء فيه شيخة الزوجة الأولى للسيد عبدالرحمن، كانت شيخة في الثلاثينات من عمرها، وهي امرأة جميلة وذات وجنتين بارزتين وعينين واسعتين وفم لافت كثيرا ما يبدو مبوزا (14)(( يبدو محرجا كمن يدس نفسه في أمر ليس يعنيه من أسرار البيوت.

وكامرأة كانت دورين إنجرامز تركز على البيوت وخفاياها الداخلية، والنساء وعلاقاتهن فيما بينهن، والأثاث، ولعلها بذلك كانت تقدم خدمة لزوجها هارولد انجرامس لمعرفة كثير من الحقائق الداخلية للرجال الحضارمة، وكان يهمها أن تعرف الأشياء بعمق، وفي أدق وأخص تفاصيلها حتى ما يجري في النوم من الشخير وطبيعة الغطاء والموقع أو المكان الذي تفرش عليه البسط، عن مدى اتساخه أو نظافته. وربما نجحت في هذا انطلاقا أيضا من كونها امرأة تحب التسلي بالحديث. وكانت تشعر بانسجام أكبر أن تعد نفسها جزءا من المنطقة تعاشرت مع أهلها، وبدا ذلك شيئا مسعدا بالنسبة إليها، وكان ما تكتبه لافتا بالنسبة إلينا كقراء ورجال شرقيين يشوقهم ما تلاحظه عيون النساء لاسيما الأجنبيات عن نسائنا وخباياهن الداخلية التي يخفينها عن الرجال عادة، أكثر مما تلاحظه عيوننا التي نغضها كثيرا عن الملاحظة احتشاما أو استعلاء.

وكعادة الأوربيين لا يتحرجون عن وصف الشخصيات كما رأوها من غير مجاملة قد يتعذر على ابن البلد كتابة مثلها لعلاقات الود والتقدير السائدة بين الناس ))كان قريبا السيد حامد اللذان انطلقنا أنا وقانص في صحبتهما إلى سيئون، على طرفي نقيض، فأحدهما واسمه السيد حامد بن مصطفى كان طويل القامة لطيفا ولديه قدر من الثقافة، بينما كان الآخر وهو السيد سالم بن أبي بكر قصيرا بدينا مرحا وعلى شيء من الغباء)) (15(

كان يسعدها أن تلاحظ، ولكن كان يضايقها أن تتحول هي إلى فرجة للآخرين (16) أو أن يسألوا عن أشيائها الشخصية (17) ربما لسبب ذاتي خاص جدا، وربما لأن الغربي يرى بأنه الأحق بأن يعرف ما عند الآخرين دون أن يعرفوا بالضرورة ما عنده حتى إنها كانت تتعذر للقارئ عن عدم إجابتها عن بعض الأسئلة التي واجهتها في رحلتها بأن الأسئلة كانت متلاحقة لا تدع لها فرصة للإجابة، وربما لأنها كانت تكتب كتابها للأوربيين أساسا ، فلن يبهرهم ما تقوله عن نفسها وعاداتهم فهم أدرى به، وإنما يبهرهم ما تنقله من أجواء الشرق جغرافية، ومناخا، وإنسانا، وأرضا، ووسائل مواصلات، ومرافقة في السفر، ورحلة، وطبائع المرافقين في الربع الثاني من القرن العشرين.

والواقع أن الأمانة والدقة غلبت على النقل إلى حد كبير إلا ما يلاحظ من عدم قدرتها أحيانا على فهم بعض القضايا الدينية، كقولها ((وقد ذكرني هذا بسيد عجوز كان قبل أن يصافحني يلف يده بعناية في عمامته خوفا من أكون حائضا، وكانت سعود عندما تلعب الورق مع أخيها الأصغر علوي وهو أصغر أبناء السيد أبوبكر الكاف الثلاثة تعمد أحيانا إلى إغاظته عندما يريد أن يصلي بأن تلمس يده وتتضاحك وهي تقول الآن عليك أن تتوضأ ثانية لأنني حائض)) (18) وكان المترجم قد أشار إلى أنه في المذهب الشافعي السائد بحضرموت ينقض لمس المرأة الأجنبية الوضوء سواء كانت حائضا أو غير حائض، فلا يتعلق نقض الوضوء بالمرأة الحائض فقط كما أشارت دورين إنجرامز.( 19 (
كانت الصورة في الكتاب بانورامية جامعة بين السياسة والمجتمع والاستطلاع والرحلة والانثروبولوجيا.


والحقيقة أنك عندما تقرأ حديثا عن العادات والتقاليد ممزوجا بحديث عن البلاد وجغرافيتها وتنتقل من الحديث عن الرجال إلى الحديث عن النساء أو العكس تشعر بمتعة عالية، وكأن حياتنا التي ألفناها أو ألفها آباؤنا تنقل إلينا بصورة جديدة أو بتركيب جديد، والحق أن الحكي والوصف هو نوع من إعادة التركيب للبلد حتى إنه يمكن للكتاب أن يعين على بناء الرواية لمن يتعلمون كتابة الرواية، ولكن مع إضافة الكاتب شيئا من الحوار لاستحضار الحالة على تلك الشاكلة التي ذكرتها دورين من ذلك الزمان ((سألتني إحداهن إن كان عندي أطفال من لحمي ودمي، وعندما أجبتها بالنفي تناولت فنجان القهوة الذي كنت أشرب منه، وبصقت فيه، ثم أعادته وهي تقول: أنا شريفة إذا شربت من هذا فسترزقين بطفل، ولم يكن هناك مفر من الرضوخ، وأفرغت الفنجان في جوفي ( 20 )((.

وبينما كان هارولد زوجها يرسل تقاريره السياسية إلى الحكومة البريطانية كانت هي تكتب تقاريرها الناعمة التي جعلتنا لا نخرج بحصيلة كاملة عن مجتمعنا، ولكن بحصيلة كيف ينظر الآخرون إلينا؟ وما الذي يركزون عليه عند مشاهدتهم لنا؟ وكيف يحللون مجتمعنا ويحكمون عليه إيجابا وسلبا؟ في ( صعوبة حصوله على لقمة العيش ) وفي ( طبيعة البلاد الصحراوية ) وفي ( الهجرة ) وكنت ألتمس فيها رؤيتها الواقعية للأشياء، ولم تكن وجدانية قط، كانت رؤيتها واقعية ممزوجة بالوجدانية، وكأوربية كان يهمها أن تشير إلى علاقات الحب بين النساء في ظل غياب أزواجهن الطويل في الهجرة.

كان المجتمع خالي البال من هموم العصر والتطور مستمرا في احتفالاته وطقوسه التقليدية بشكل تلقائي من غير أن يقلق على وضعه أحد ، وإنما كان وزير السلطان (( قلقا على زوجته لأن شهيتها للأكل كانت ضعيفة)) (21) حتى عندما حدثت المجاعة لم يكن أغلب الشعب يعرف لماذا جاع.

وربما كانت النساء أكثر سعادة في لبسهن ومعيشتهن ((خاليات البال من هموم الحياة، إذ لم يكن هناك أي مشاكل حقيقية عليهن مواجهتها، مادام الأزواج موجودين من أجلهن)) (22) يعشن لحظات من متعة النظر والسعادة عندما يشاهدن دورين في بيوتهن ويتحدثن إليها ناظرات إلى شخص مكتمل الثياب مثلهن!!.

كان التطور شاقا على مستوى الإنسان وعلى مستوى الجغرافيا، ولكنك تشعر بارتياح أن ثمة تطورا بدأ يبزغ في النصف الأول من القرن العشرين ، وأن علينا أن نتعب أكثر لنعرف الطريق، وألا ننقطع، لأن طريق التطور لا يعرف العودة إلى الوراء أبدا، وفي ذلك إنصاف أي إنصاف، المهم أن تهيأ الإمكانات البشرية والمادية المناسبة للتطور، وألا نخرج إلى الحياة كمن يخرج للعمل بغير إفطار -ولم تخرج الانجليزية أبدا بغير إفطار- فسرعان ما يداخله الإرهاق والتعب، وإن كان متشوقا إلى معرفة الطريق بعد ذلك فعليه أن يقف مكانه حتى يجد ما يتزود به في صحراء مقفرة ، كما كانت دورين إنجرامز تنتظر قطع سمك القرش الكبيرة ( اللخم المتن ) في الصحراء.

وكان ما قدمته دورين إنجرامز في المجاعة شيئا جيدا، ولعل طريقة تعامل المجتمع الحضرمي الودودة جعلتها تخلص لهم ذلك الإخلاص في أزمتهم حد تنظيفها الأوساخ من تحت المرضى من الأطفال والعجزة الذين أمرضهم الجوع الشديد وأودى بأرواح الكثير منهم في مجاعة الحرب العالية الثانية، وتتعاطف معهم في محنتهم ((كنت أنا ورحيمة نقوم باستمرار بتغيير خرق القطن الممتلئة بالأوساخ أو نقوم بغسل مؤخرات المرضى، وبالرغم من أننا كنا في البداية نستفظع كوننا قد انحدرنا إلى القيام بمثل هذا العمل إلا أن ) الممرضات ) البدويات اللاتي ألحقناهن بالعمل معنا سرعان ما اقتبسن الطريقة منا وشكلن فريقا من المعاونات اللاتي أصبحن يقمن بالعمل عن طيب خاطر)) ( 23 ) كانت تفتح كل يوم صفحة جديدة لتتعرف على شيء من شظف حياتهم ما كانت تعرفت عليه، ولأنها تفاجأ بالأشياء لأول مرة عنيت بتسجيلها في الناس والمكان والأشجار والأرض والمرض والبيوت والنساء والمجتمع والسياسة والشخصيات والسيارات.

والسؤال الأساسي هل كان أولئك الإنجليز يخلصون لبلادهم أو يخلصون لحضرموت، الواقع أنهم كانوا يخلصون لبلادهم من غير أن تخلو دورين نفسها من نزعة إنسانية، فقد كانت اجتماعية وعازفة موسيقية وممثلة مسرحية وإنسانة، وقد جاء في بعض بيانات النعي التي قيلت عند وفاتها ((كانت دورين امرأة ذات نزعة إنسانية صادقة وكانت تمتلك تلك القدرة الفريدة على التواصل مع الآخرين )) (24) وليس أدل على النزعة الإنسانية من حديثها عن معالجة مرضى المجاعة في حضرموت، كما بدت نزعتها الإنسانية وتقديرها لمن عاشرت من النساء لاسيما في بيوت السادة آل الكاف في قولها ((إن حظي السعيد هو الذي أتاح لي أيضا أن أقضي وقتا طويلا مع النساء، وخصوصا مع أسرة آل الكاف التي أبدت نحوي لطفا وكرما لا أستطيع أن أفيه حقه مهما وصفت. وقد ترددت لسنوات في الكتابة حول حياتهم خلف الأبواب المغلقة، لأنني كنت مدينة لهم بالكثير الكثير كأصدقاء أكرموا وفادتي وقدموا لي يد المساعدة، وشعرت أن مثل تلك الكتابة تنطوي على إساءة بالغة لكرم الضيافة. ولكن بعد أن مرت الآن سنوات طويلة على ذلك العهد فإنني أود أن يشاركني الآخرون متعة وطرافة الحياة التي عشتها مع تلك العائلة والنساء الأخريات أيضا في مختلف مناطق حضرموت. وإن أي شيء أكتبه هنا عن أصدقائي هؤلاء لا أقصد به الإساءة ولكنه في الحقيقة تعبير عن التقدير والإكبار لصلابتهم في مواجهة ألوان المعاناة والمشاق، ولصبرهم على حياة الإحباط، وللطريقة والحفاوة التي استقبلوني بها في بيوتهم )) (25(.

كانت لغتها رقيقة، وحاولت تجنب الرؤية النقدية المباشرة إلا ما بدا عن طريق الوصف الذي لا يخلو في بعض الحالات من مسحة شعرية ممزوجة بنشوتها الخاصة، أو تشاؤمها الخاص، أو استعلائها الخاص، كمزايا أعانتها على تركيز الانتباه مع الحفاظ على خط علاقتها الودية مع النساء، وقدرتها على مواجهة الآخر المختلف والتفاعل معه، وكانت في أثناء ذلك تنتقل بصورة غير مباشرة إلى مجال السياسة، وتعمد إلى تطوير رؤيتها الإنسانية عن واقع المعاناة في حضرموت وتعيد اكتشافه في نفسها حتى لو كلفها أن ترتق مؤخرات المرضى السائلة بالخرق القطنية واللفافات مؤكدة وجودها كإنسانة في حضرموت قبل أن تكون زوجة مستشار سياسي مستعمر.
-
لقد قدمت تجربة ثرية بالنسبة إلينا في الكتابة عن حضرموت قبل ما يقارب السبعين عاما، وقد تراكمت من بعد قراءتها الأيام، وبقي ما كتبت دالا على بداية التشكل وخروج الفكرة عن حضرموت المعاصرة بأقلام غير أهل حضرموت، كما سبقتها في ذلك كتابات رحالة غربيين من قبل كانت دورين تشير إليهم بين آونة وأخرى، ولعلها تلتقي معهم في بعض التشابهات لتغدو تلك الفترة جزءا من ظلال الحماية أو الاستشارة أو التاريخ الاستعماري الانجليزي الذي ألقى بثقله على هذا البلد وأسهم في إخراجه إلى التاريخ المعاصر وإن بوسيلة سلبية هي الاحتلال، لكن تلك المرحلة بإيجابياتها وسلبياتها تشكل ناقوسا منبها لأجيال عديدة لاحقة يعطي إشارة واحدة هي أن حضرموت في وحدتها وتماسك أبنائها لا في تشرذمهم وتشتتهم واقتتالهم على مفترق الوديان والنيران كما كان قبل مائة سنة، وجاء هارولد إنجرامز للإصلاح بينهم خدمة لبلده، فالكتاب في معناه الخفي الذي يمكن قراءته من واقع اللحظة الراهنة دعوة لاستكشاف الذات وتجاوز سلبياتها وبناء تصور تحليلي عنها بوعي من غير خجل من حقائق التاريخ.

وما تم تسطيره على يد هذه الكاتبة التي مفصلت كثيرا من الحقائق وكشفتها وقاربت بينها يضعنا أمام مسؤوليتنا علنا نجيد القراءة بعيدا عن الانسداد التعصبي السياسي الآن، الذي جاء بديلا عن التعصب القبلي سابقا، لإنتاج التكامل بين عناصر المجتمع و تدعيم مقارباته في التعامل والسلوك الحميد بعيدا عن الإسقاطات الهلامية الوهمية التي نراها في أحزابنا وأنفسنا والتي تمنعنا من فهم الواقع وتحد من طاقاتنا الإبداعية فلا نتذكر من حضرموت إلا أهواءنا وانفعالاتنا التي حاول تأجيجها الواقع السياسي المعاصر، والأولى بالقراءة أن تعيدنا إلى ذاتنا لقراءتها صحيحا وتنشيط قوانا المختلفة لخير البلد بعيدا عن نطاق ذواتنا الاجتماعية أو السياسية التي نقدمها المرجعية فوق حركة الواقع، بوصف الأفكار عندما تسيطر انطلاقا من الانفعال الحزبي أو المذهبي تقدم الذات في صور متوهمة بعيدة عن الواقع، وإن بدت أنها متلبسة به.

إن تاريخية التفكير مسألة لا يمكن أن تنتهي بسهولة، وأقصد بتاريخية التفكير الآلية التي درجنا عليها لإنتاج الأفكار وعرضها، وهي تنشط عادة في إطار المجتمعات التقليدية وغالبا ما تفتح إمكانات جيدة لتحقيق الذوات والشخصيات بشكل جامد ( شيوخ القبائل مثلا) حتى يبدو بعضهم أشبه بـمثال عال لا يمكن زحزحته أو الإساءة إليه، وإن كانوا لا يفهمون شيئا في أمور كثيرة معاصرة متمركزين حول ذواتهم كرموز فارغة من محتواها التاريخي الذي كان لهم سابقا، فضلا عن محتواها المعاصر بفعل قيم اجتماعية وسياسية صنعت لهم.

ويسندهم في ذلك خطاب تاريخي أيضا وخطاب معاصر لا يعدو أن يكون في جوهره خطابا تقليديا معدلا بمقتضيات العصر يقدم الأحكام المعروفة وقلما يهتم بالآراء الجديدة ذلك لأنه ينجم عنها تغييرات مفاجئة بالنسبة لهم غير مقبولة تؤثر على مصالحهم وتتجاوز الفهم المألوف أو المتداول للأفكار والآراء مما يظل معه الوعي الجديد منبوذا ومقصيا وإن بدا ظاهريا أنه موجود بـإسقاطات إعلامية تسقط عليه أو شكلية خطابية تمررها الأروقة السياسية غالبا من مثل هذه العبارة المكرورة (وقد شهد المجتمع حالة كبيرة من التطور) مما يزيد من تعزيز الركود تحت يافطة إيجابية و بريق إعلامي لا يصل إلى الفعل الحقيقي ولا يسمح بترجمته في واقع الحياة كبديل حقيقي لنظام الواقع السائد ولا يسمح بتعميقه بكتابات المفكرين المصلحين وإنما بخطب الساسة التي غالبا ما تكون انفعالية ووهمية (فارغة المحتوى من كلماتها البراقة(.

ولا تقدر تلك المواقف على استقبال وتقبل الرأي الناقد الذي يحمل موضوعية واضحة وآفاقا للتفتح وينطلق من معاناة الناس في المجتمع ومن اعتجان الأتعاب والمعاناة تاريخيا رغبة في التطور.
وفي أثناء تلك الحالة فإن الحوار هو الذي يعمل على تنشيط الوعي التاريخي والمعاصر والمقاربة بينهما لتتولد حالة خاصة من التفاعل نأمل أن نشهدها في مقاربات الأحزاب السياسية في حضرموت بحيث تتضح متانة أو ليونة العلاقات القائمة من خلال مردودات التفاعل ونتائجها على المجتمع التي على أساسها سيقوم التغيير وينزاح مبدأ الذاتية إلى الوراء ليدخل هو نفسه في حركة التغير الدائم والتحول المستمر.

الهوامش:

1) أيامي في الجزيرة العربية- حضرموت وجنوب الجزيرة 1934-1944م ، دورين إنجرامز . ص24.
2) نفسه ص49
3) نفسه ص33-34
4) نفسه ص34
5) نفسه ص87
6) نفسه ص88
7) نفسه ص89
8) نفسه ص81
9) نفسه ص 87
10)نفسه ص111
11) نفسه ص115
12) نفسه ص66
13) نفسه ص93
14) نفسه ص53
15) نفسه ص37
16) نفسه ص85
17) نفسه ص86-87
18) نفسه ص87
19) نفسه هامش ص74
20) نفسه ص100
21) نفسه ص72
22) نفسه ص67
23) نفسه ص236
24) نفسه ص18
25) نفسه ص19-20
(نشر في مجلة المكلا الصادرة عن مكتب وزارة الثقاة بالمكلا- حضرموت العدد (11) اكتوبر- ديسمبر 2011م، والعدد (13) إبريل- يونيو 2012م).
التوقيع :

عندما يكون السكوت من ذهب
قالوا سكت وقد خوصمت؟ قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى- لعمري- وهو نباح