عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2011, 02:15 AM   #1
ابوشيخ الشبامي
حال نشيط
 
الصورة الرمزية ابوشيخ الشبامي

افتراضي حليلة الشعر بين الخيال والواقع

حليلة الشعر بين الخيال والواقع:-

ما إن نسمع قصيدة جميلة من شاعر شعبي مبدع ، ألا ويطلق البعض عليه عبارة (عنده حليلة ) وهم يقصدون أن الجن يلقون على لسانه الشعر، أوأنه مقترن بجنية تلقي في روعة الشعر.
فهل للحليلة حقيقة في الواقع ، أم أنها من توهم الشعراء ، وكيف يمكن أن نتقبل ذكر الحليلة أوالتابع من الجن التي وردت في القصص الشعبي ، وهل حليلة الشعر خاصة بالشعر الشعبي أم أن الشعر الفصيح يمكن أن يكون من إيحاء الجن .
لقد ارتبط ذكر حليلة الشعر غالبا بالشعراء الشعبيين ، وصيغ عدد كبير من القصص الذي يكاد يكون أشبه بالخرافة أو الأسطورة ، ومن تلك القصص الشعبية التي تذكر الحليلة عندما توحي لصاحبها بالشعر، قصة الشاعر الكبير صويلح بن صويلح وهو من سكان صيف يخاطب الحليلة بعد أن غاب عنها فترة طويلة في الطائف فجاءته زائرة فقال لها :
يالحليلة وراش اليوم قد لونش اغبر*** شفت راسش بيض والشيب سينة بسينة
عبرتي ع بحور النيل والبحر الاحمر**** لي فيه الصدف واللول عينة بعينة
ردت الحليلة عليه ، فقالت :
جيت لجلك إلى الطائف في الليل لغدر* جيت من حجر بن دغار لما كنينة
بحذرك هت كلام الصدق ونته تحذر* ماالقناصة تبى مخلوق يخزم حذينة
وحيث صدقنا أو لم نصدق هذه الحكاية فإن كثيرا من العامة يصدقها ويؤمن بها ، وربما تصبح الحليلة قرينة للشاعر فتمنعه النوم أحيانا ، أو تجره إلى أماكن غريبة في ظلام الليل ، لكن مع ذلك تكون له عون ونجاة في أحلك الظروف عندما يتبارى بالشعر مع أقرانه فإذا هي تلقي في روعة من جزل الكلام وحسن القول فيغلب ولايغلب .
لكن هل يلزم أن يكون لكل شاعر حليلة أوقرين من الجن ، هذا الذي لايكاد أحد يقول به ، ويوجد كثيرمن الشعراء ينفي أن يكون له علاقة بالحليلة ، ويصف مايحدث له أثناء قول الشعر بالهاجس .
وتابع الجن هذا هل هو ذكر أم أنثى ؟ إن غالب القصص الشعبي تذكر أنثى الجن (الحليلة ) دون ذكر للتابع ، مع أن القصص الخرافية التي وردت عن الشعراء الجاهليين وعلاقتهم بالجن تروي أن من يلقي في روعهم الشعر هم ذكور الجن ، على نحو ماتروى القصة التالية عن الأعشى ميمون بن قيس أنه كان متوجها إلى اليمن لمدح بعض أمراء القبائل وفي طريقه لليمن أظلم عليه الليل وهو بواد مقفر، وكان على أثر سماء (يعني مطر) فاحتمى في احد الكهوف وإذا به يرى رجلا واقفا أمامه كثيف اللحية وكانت بيضاء فقال الأعشى: من أنت فأجابه أنا عابر سبيل، وأنت ، قال الأعشى: أنا شاعر وأتكسب بشعري قال له: الشيخ ماذا قلت من شعر قال الأعشى قلت :
ودع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وهذا البيت مطلع معلقته الشهيرة ، استوقفه الرجل الكبير وقال : من هريرة هذه ، قال الأعشى : اسما انطلق في روعي فقلته ولا أعلم من هريرة تلك . فواصل إنشاد معلقته إلى إن قال :
تقول ماوية إن جئت زائرها * ويلي عليك وويلي منك يارجل
فأستوقفه الرجل الكبير وقال : ومن ماوية تلك ، قال الأعشى : مثل أختها اسما انطلق في روعي فقلته ...
قال له الرجل الكبير : هل تعلم من هريرة وماوية قال لا . فنادى الرجل الكبير اخرجي يا هريرة ويا ماوية فخرجتا فكان طولهما لايتعدى شبرا واحدا قال الأعشى من أنت يا رجل قال أنا هاجسك وملقي الشعر على لسانك أنا مسحل بن أثاثه وهؤلاء بناتي هريرة وماوية.
وهذه القصة من القصص الخرافي والأسطوري عن الجن وعلاقتهم بشعر الأنس ، وهو ماتفنن فيه وتفرد به رجل أديب يسمى ابن شهيد الأندلسي الذي ألف رسالة سماها (التوابع والزوابع ) وذكر فيها بعض الشعراء وعدد لهم تابع من الجن يلقي في روعهم الشعر .فالعلاقة بين الشعر والجن تخمين عربي عريق ، وكما ينقل عن أبي زيد القرشي (من عبيد لولاهبيد) وهبيد هذا هو شيطان الشاعر عبيد بن الأبرص ، فقد كانت العرب تعتقد أن لكل شاعر شيطان يهجيه الشعر.
وهذه الثقافة سادت لدى العرب لاعتقادهم بأن الشعر شيء خارج عن طاقة الفكر البشري ، فلاغرو أن ينسب إلى الشياطين لاعتقادهم بأنها تمتلك قوة عليا ، أعلى من قوة البشر الجسدية والفكرية والوجدانية .
والانسياق وراء هذه الترهات ، فيه شيء من تهميش العقل ، والانعتاق من التفكير السليم ، إذ أننا بقولنا هذا نجزم أن مصدر شعر الإنس من نتاج الجن ، وبذلك نجرد الفكر البشري ـ وهو الأرقى ـ من غزارة إنتاجه ، وقوة حدسه ، ويصبح بذلك شعراؤنا ناقلون لكلام الجن . ونحن لا ننكر أن في الجن شعراء وخطباء وفيهم المبدعون .. ولكن لا يعقل أن ننسب إبداع الإنس لهم ونسلب الإنس حقهم في الشاعرية والعواطف والإبداع اللفظي ، ولو قلنا أن كل شاعر له ساقي بدونه لا يمكن أن يقرض الشعر لسلبنا الإبداع عن الإنس ، ويقتضي الحال أن نقول بذلك أن الشاعر الإنسي ما هو إلا أداة في يد الجني يهجو عنه ويمدح بدلا عنه ويتغزل نيابة عن عواطفه...
فإذا ما أيقنت كغيري من المثقفين بأن جميع ماقيل عن علاقة الجن بشعر الإنس هو من الخيال ، وأن جميع قصص توابع الجن لشعراء الأنس هي أسطورية ، فمن يحدث عامة الناس ، ومحبي الشعر الشعبي بعدم وجود (الحليلة ) ومن يقنعهم أن مايحدث للشعراء إنما هي لحظة رقي فكري ، وإبداع وجداني ، يقول الشاعر في تلك اللحظة ما لايستطيع أن يقوله في غيرها ، بل من لديه الجرأة أن يرد جميع القصص الشعبي التي تذكر حكايات الجن مع شعراء الأنس .
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
ابـــوشـــيــــــخ الشبـــــــامــــي
  رد مع اقتباس