عرض مشاركة واحدة
قديم 12-09-2011, 02:32 PM   #1
باشراحيل
مشرف قسم الأدب والفن ورئيس لجنة المسابقة الشعر يه

افتراضي عبدالقادر الكاف.. رسم الحب بالكلمات وجعل شعره وطنا للعاشقين

في موكب رحيل الشاعر والملحن الغنائي البارز


عبدالقادر الكاف.. رسم الحب بالكلمات وجعل شعره وطنا للعاشقين


رياض عوض باشراحيل

الأعلام أو الرموز في الثقافة عموما وفي الشعر والفن والطرب هم أولئك الذين يعطون في حياتهم أكثر مما يأخذون ويسعون نحو تغيير الواقع بقدر ما يستطيعون أو فوق ما يستطيعون ، إنهم يريدون الحياة أن تتجه نحو الأفضل ، وبقدراتهم وعطاءاتهم وطاقات مواهبهم لا يغادروا الحياة إلا بعد أن يضيفوا لها أشياء ، فيدفعون ثمنا غاليا من حريتهم ومن صحتهم، وقد يدفعون حياتهم كلها ثمنا لما يحلمون بتحقيقه من تغيير وما يؤمنون بإذكائه من مثل وقيم وأهداف عليا في الحياة . ومن هؤلاء الناجحين والأعلام شاعرنا الكبير الراحل عبدالقادر الكاف .

وبرحيل شاعرنا عبدالقادر الكاف إلى جوار ربه يوم الاثنين الموافق5/ديسمبر/2011م عن عمر ناهز (59) عاما انطوت صفحة من أجمل صفحات تاريخ اليمن الشعري والغنائي ، وسكت القلم الذي خط الطريق السليم وعشق الشعر والغناء في الحب والصبابة والعشق والقضايا الاجتماعية عشق كل ذلك في وقت مبكر وهو مازال طري العود يافعا ، واجتاز معرفة كبيرة بتاريخ وطنه العربي وأعلامه فترك لنا غصة ودمعة على هذا الرحيل المبكر .

وعبدالقادر الكاف من مواليد مدينة العلم والعلماء " تريم " بحضرموت في 26/12/1952م ، أخذ شاعرنا من مدينته "الغنّاء" وأريافها النقية الجميلة صفاء الروح ونقاء الطوية ، ومن مجتمعه الحضرمي الإخلاص والأمانة والوفاء ، ومن حب "تريم" وأهلها حب الأرض والوطن والناس وحب الطبيعة والشعر والفن . عاش شاعرا وملحنا و مبدعا فذا يكتب الشعر ويصوغ الألحان العذبة الشجية ويرسم الحياة بكل تلاوينها في سطور فنه وأنغامه ، ومنذ طفولته عاش حضرمي الأصالة والانتماء والهوى يماني الهوية لذلك كتب عن وطنه مثلما كتب عن العواطف والمشاعر الإنسانية أحلى وأرق قصائده الغنائية .

وقد تميز شاعرنا باطلاعه الواسع وقدرته الفائقة على الإحساس بشعرية اللغة وتذوق الشعر ونقده لذا اتسم شعره بصفات السهل الممتنع وكان ذكيا في استخدام الألفاظ البسيطة في خطابه الشعري الذي يدخل إلى القلب والوجدان مباشرة دون استئذان ، ونجح في تضمين قوافيه كلمات عادية يومية يستخدمها الناس صباح مساء كما تفوق في إذكاء التعابير الرقيقة المشحونة بالإحساس والعواطف النقية السامية في شعره لذلك تجاوز بأعماله الغنائية الراقية أسوار وطنه وهام بها حبا المطربون وجمهور الطرب في جزيرة العرب . وقد غنى له الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه أغنية (مغرم صبابة) وعبدالمجيد عبدالله (الحب الجديد) ود.عبدالرب إدريس (أنت السعادة) والمطربة اللبنانية هيام يونس (يالله بعودة قريب) والفنان محمد البلوشي (كل شي معقول) وعبدالمنعم العامري ( ضاع القمر) وعبدالرحمن الحداد (على ميعاد) وكرامة مرسال (هكذا الحب من ربك كما الرزق مقسوم لا تدور لمعدوم ) وحسن باحشوان ( ياحبيبي حياتك اغتنمها مثل كل البشر) ومحفوظ بن بريك ( ربيع الهوى عوّد وذكراك عوّد) وسالم العامري (شمس الضحية غابت) وغيرها .

لقد ترك شاعرنا الكبير (أبوحداد) في نفوسنا أعمق الأثر لما كان يتمتع به من البساطة والتواضع ودماثة الخلق ولطف المعشر وحسن المعاملة وكان من أكثر الناس صدقا وتهذيبا وحبا للآخرين وعاش حياته بكل زخمها وتحديها كصاحب رؤية وصاحب قضية دفع ثمنها أكثر من مرة . وبعد أن طويت صفحات حياة هذا الشاعر المجيد يجدر بي أن اقلب في ذكرياتي لأفتح صفحة من حياته تكشف تعرضه في شهر ابريل عام 2009م لظلم كبير وكيف واجه الاضطهاد في مدينته ويبدو أن هذه المواجهة قدر الأوفياء الذين يتمسكون بصدق المواقف والأصالة في محاربة الفساد وخدمة قضايا وطنهم وشعبهم من خلال فنهم . فقد حكى لي الشاعر الكبير في اتصال هاتفي عندما حادثته أثر علمي بتوقيفه بعض الوقت في مركز شرطة تريم أفادني بحكاية أفراد من الفاسدين بالشرطة حاولوا ابتزازه ومقايضته للحصول على مغنم كما يبتزوا كثير من الناس وينجحوا في الحصول على مطالبهم بعدا من الناس عن الإيذاء والوقوف أمام أقسام الشرطة وتشويه السمعة ، ولكن هيهات للفاسدين أن ينالوا من هذا الطود الشامخ والجبل الراسخ ، لا يمكن لأبي حداد أن يعينهم على الفساد وهو الرجل النزيه والمبدع الذي يحاربه في فنه . فقد جهل هؤلاء مقام شاعرنا ومنزلته الحقيقية بين أفراد أمته وفهموا الشاعر الكبير فهما خاطئا ربما توهموا بساطته وتواضعه وسجاياه الحميدة ضعفا ففعلوا ما فعلوا حتى اصطدموا بتوجيهات عليا أوقفتهم عند حدهم . وكان هذا المشهد كافيا لإحداث شرخ في وجدان الشاعر الكبير وذبح أحاسيس (أبوحداد) - عليه رحمة الله - .

وقد ذقت طعم الجرح الحقيقي الذي أصاب شاعرنا ولاح بوضوح في انفعاله ونبرات صوته وفي أبيات قصيدته التي سمعتها منه في ذات المكالمة فكتبت متأثرا بما جرى لشاعرنا مقالا حمل عنوانا ساخرا نشر في جريدة الأيام الغراء في العدد (5706) الصادر بتاريخ 23/4/2009م تحت عنوان (( المكافأة والتكريم في شرطة تريم .. عبدالقادر الكاف يعلن : موطني أصبح شتات)) وكان المقال دفاعا عن الشاعر وإدانة لمن أقترف هذا الفعل المشين مطالبا بشدة محاسبة من تجرأ وتسبب في هذا الإذلال والإهانة من أولئك الذين لا يعرفون وزنا لقيم الرجال ولا للقامات الشامخة من أمثال عبدالقادر الكاف ذلك مما جعل شاعرنا وفي صدى للحادثة في وجدانه وفي رد فعل مباشر لها أن يقول :

«منزلي أصبح شتات ... فيه ما يهنا السبات ...
والأمل اللي زرعته ... بين أحشائي زراعة ...
للأسف تم اقتلاعه».


فـ«المنزل» هو الوطن الذي يتمزق ويتشتت ويختطفه أصحاب النفوذ، حيث أضحى اليوم مصدراً للخوف لا للأمان وللقلق والنأي عن الراحة، و«الأمل» هو وحدة الوطن التي زرعها الشاعر في أحشائه وللأسف تم اقتلاعها بعد أن استغلت من قبل متنفذين لأهداف غير وطنية ولا صادقة ولا نزيهة .
ولعل مثل هذه المواقف التي تحدث للشرفاء من الشعراء أي كان باعثها اجتماعي أو سياسي والتي تعكس الإحساس بالاضطهاد والذل في الوطن ، هي التي تجعل الشعراء يفكرون بل ويصرحون لفرط حزنهم بترك الأوطان والابتعاد عن الديار على ما في قلوبهم من الحب العظيم لها . فالشاعر العراقي عبدالغني الجميل عندما أحس بالذل في وطنه العراق قال :

دع العراق وما فيه لساكنه ** وأرحل وخل لئام القوم تأويه

وذات الإحساس قد ساور الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار – عليه رحمة الله – في ظروف سياسية ما ، فصرح من صميم وجدانه قائلا :

الدار مفروشة ومرشوشة رشوش ** لكن حواليها العقارب والحنوش
أنا ما سكنها خير لي منها عريش ** أسكت ولا تنبش جروح الناس تنبيش


فلنغادر من هنا سطور الأسى ونطوي صفحة الدموع والأحزان رغم آثارها بالقلب والوجدان لسبب بسيط هو أن عبدالقادر الكاف وإن رحل من ضيق الحياة الدنيا إلى رحابة الحياة الأخرى إلا إنه ترك لنا ثقافة وفكرا وإبداعا وفنا لن يرحل ، سنظل به نتذكره وسيبقى عبدالقادر الكاف إبداعا ومبدعا خالدا على مر الزمان .

ولنمضي مع هذا الطود الشامخ الذي سار على درب الرموز من المبدعين الذين لا ينساقون وراء السائد ولا يقبلون بما هو مطروق من الفكر والتعبير وإنما يبدعون بالتمرد حينا والتحدي والمخاطرة أحيانا أخرى ويغوصون في أعماق الإنسان ومشاعره لاستخلاص ثمار الحياة وتجاربها ورحيق المشاعر الإنسانية في إبداعهم ذلك مما يحقق خاصية التأثير في عقول وقلوب الناس . وعلى ضوء قدرات شاعرنا الكبير وتميزه الفكري والفني ، الشعري واللحني أضحى عبدالقادر الكاف مدرسة فنية مستقلة من مدارس الغناء الحضرمي ومعينا ينهل منه المطربون ويرد إلى موارده جمهور الطرب في جزيرة العرب .

وبالتحليق في آفاق الإبداع الفني الأصيل للشاعر نجد أن عبدالقادر الكاف قد أطربنا بروائعه الغنائية وبث الفرح والسرور في قلوبنا وأسعدنا بتحليقه في سماء الطرب الصادق وعبر عن أشجاننا وأشواقنا وحبنا للطبيعة وذكرياتنا في الحياة حين صدح بأغنيته التي غناها العديد من المطربين وشدا بها شاعرنا منتشيا :

ربيع الهوى عوّد وذكراك عوّد ** وزاد الشجن والشوق لا غصن نوّد
وانت دوب علي محجوب ** مكانك عنود
كفى ياحبيبي متى باتعود


وكم تشجينا الحكمة الخالدة التي زرعها شاعرنا في صميم غنائيته التي غناها محمد البلوشي "كل شي معقول " والتي استعطف فيها محبوبه استعطاف العاشق المتيم الرقيق فقال :

ربمــا مليــت مني يا رشيــق ** ربما حصلت لك غيري عشيق
ربما غروك أصحاب الفضول ** كل شي معقول
الزمن غدار والحكمة تقول ** كل شي معقول
**
خاف قلبك بين أحضاني يضيق ** خاف طيرك فوق غصني ما يليق
خاف ما شي لي أنا عندك قبول ** كل شي معقول
الزمن غدار والحكمة تقول ** كل شي معقول


ومن أغنيته التي أطربنا بها الفنان عبدالمجيد عبدالله "الحب الجديد" على ما في هذا النص الشعري من رمزية رائعة اخفت مقاصد الشاعر الحقيقية تجاه الأوضاع التي تحيط به جاء قول شاعرنا متعجبا ومندهشا ومتسائلا :

أيش جابك من بــلادك لا بلادي ** أيش لي خلاك تسكن في فؤادي
أحس شي في مهجتي لك غير عادي ** كل ما أشوفك يزيد ...
يا ذا الحب الجديد ** يعتصر قلبي ويأخذ ما يريد
يا ذا الحب الجديد


ومن أغنية التي شدا بها الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه والتي شبه فيها محبوبه بالربيع الدائم لقلبه بل ولحياته كلها وذلك بقوله في صبابة وعشق وهيام :

مغرم صبابه يا حبيبي هايم ** والنفس لا هامت غدت مجنونه
انت لقلبي كالـربيـع الــدايم ** وايام عمري واشهره وسنينه
ابات طول الليل قاعد قايم ** مشغول في شعري معك ولحونه
وانت على فرشك مريّح نايم ** واللي يحبك ما تنام عيونه


لقد أحب شاعرنا مسقط رأسه مدينة تريم التي نشأ فيها وترعرع بين شوارعها وحاراتها وبيوتها القديمة كرمز لوطنه اليمني ، وأحب حضرموت وجعل المفردات الحضرمية قاموسا خاصا به ، كما أحب أمته الإسلامية والعربية ورسم حبه لها بالكلمات في صور بارعة الجمال وجعل شعره وطنا للحب وللعاشقين في كل مكان .

رحم الله الشاعر الكبير عبدالقادر الكاف .
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس