عرض مشاركة واحدة
قديم 01-26-2002, 01:45 AM   #1
شيخ القبايل.
حال قيادي

Lightbulb مبدع في زاوية النسيان (اوراق لم تنشر من قبل)

بسم الله الرحمن الرحيم
كثير من المبدعين وجدوا فرصتهم للظهور وللعطاء .. ومبدعون كثر كذلك طوتهم صفحات النسيان فلم يدر عنهم احد ابدا
وكثير من الشعراء الفحول استطاعوا كسر طوق التجاهل واثبتوا بما يقولونه وجودهم الخاص .. فكأنهم نخبة مصطفاة بين اكوام من الغثاء يسمونهم الشعراء ، ظهروا زبدا رابيا فوق سيل .. رفعتهم الى السطح سلطة السلطان .. او رنين الدراهم ، واخرون حاصرتهم مبادؤهم عن طرق الابواب وبذل الكلام الرخيص لمن يستحق ومن لايستحق .. وظلت موهبتهم حبيسة الاوراق .. وربما يئسوا في لحظة من جدوى بث المشاعر فمزقوا ورقهم وطووا سجلاتهم .
واليوم اكتب عن شاعر مرهف الاحساس جزل الكلام سهله ممتنعه يجهله الكثيرون .. عدا القليل من اترابه ، يبث بينهم معاناته ويلملم في مجالسهم جراحه .. ثم يطوي اوراقه عنهم اذا طاب فلم يترك فرصة لغيره ان يحتفظ بشعره ، ويؤوب اليها ليمزقها فقد انتهى دورها في نظره .
ولقد مضى في درب الغربة الطويل القاحل مثله مثل كثير من بني وطنه – حضرموت – باحثا عن اللقمة الحلال ، ساعيا على اهل وعيال وكان اكثر بني وطنه معاناة من الغربة لأنه شاعر . و مضى جل عمره بين اسمره وعدن والحديدة .. ثم اوى الى بيحم الصفراء في ايامه الاخيرة ليودع الدنيا تاركا خلفه وصية مؤمنة تدل على انسان متواضع لربه ومتواضع بين خلقه . رحمه الله .
ذلكم هو احمد بن عمر بن عبدالله باذيب .. الشبامي المولد والمحتد . الذي توفي عام 1980 م .. وهو غير احمد بن عمر باذيب صاحب كتاب الابريز في الرد على الانقريز المتوفي عام 1256 هـ تقريبا .
ذكر لي ولده ، هو خالي ، الشاعر ابو احمد سالم باذيب انه كان لايترك احدا يحتفظ بشعره !.. وان اصدقاء والده ذكروا انه كان يكتب الشعر فصيحا وحمينيا . ويشارك في مجالس الدان الخاصة .. وانه كتب مرة ميزانية العام المالي لاحدى الشركات التي يقفل لها حساباتها السنوية : شعرا .
ولم يقع في أيدينا الا اربع قصائد رقيقة اثنتان فصيحتان واخريتان حمينيتان ، ووجدناها بالصدفة لدى اخيه ، هو جدي ، عبدالله بن عمر باذيب , نزيل جدة . وذاك بعد وفاة الشاعر . رحمه الله . وسوف انقل لكم بعض من بعضها . باذن الله في هذا المقال . ورزق الشاعر بثلاث بنات ثم كان اخر عنقوده ولده الوحيد سالم ، الذي استمر به اسم ال عمر بن عبدالله باذيب ، حفظه الله وحفظ بنيه . واجمل القصيدتين الفصيحتين وجهها لولده الذي لم يزل غريرا صغيرا آنذاك ، وفيها يقول :
شِبْلي .. وكلَّ مُنايَ من عمري * قَرّي به يا أعيني قَرِّي
أهداك لي ربُّ السما كرماً * بعد انتظارٍ ملّهُ صبري
ريحانةُ الدنيا وزينتُها * جعل الحياة تفيض بالبِشْرِ
بوركت من قبس تألقُهُ * أملاً يبدّدُ ظُلْمَةَ الهجْرِ
وكأنني شفقُ الغُروب على أفُقٍ .. و أنت بشائرُ الفجرِ
*
والحقيقة انني لم اقرأ من شعر العرب وصفا رائعا للابوة والبنوة مثل هذا البيت الاخير .. الرائع .. وفيه يكتب قصيدة كاملة تغني عن المطولات .. ويرسم لوحة لونتها الافراح والاحزان في آن . واختلط فيها الزمان مع تمايزه بين شيخ كبرت سنه وانحنى ظهره يربت على رأس صبي يشب نحو العنفوان . في التصاق روحي كامل ، وتشابه كبير بين الاضواء الخافتة .. الا انها أنوار تغيب وأخرى لما تزل تتأهب للشروق والسطوع . وقد وحدهما المكان في لحظة هي قصيرة جدا جدا ..لا تطول ابدا .. يعقبها الفراق لحظة بعد لحظة .. والآفاق في عناق كجناحين اذا وقفنا بينهما عند نقطة النون اللانهائية المستحيلة حيث تنتهي الارقام وتبدأ ، يغمرنا الضوء الشديد الساطع حتى لاتحتمله العيون .. الا انهما افقان متباعدان مختلفان تماما للناظر فهذا غروب وذاك شروق ولن تراهما مجتمعين بعد ذلك الا ان تشرق شمس الظهيرة في دار ينتظرها المشتاقون . وتتوحد الاعمار عندئذ!!
هي لهفة المشتاق الضمآن وقد ارتوى .. وهي معاناة الغريب يتناساها بعدما عاد . فاستظل بين النخيل مطمئنا ومفارقا من جديد .
*
وفي قصيدته الثانية وقد عنونها ( ذكريات ) يقول :
يا ساقيَ الصهباءِ هاتِ ، هاتِ انسني همّ الحياة
هات اسقنيها حيّةً ، من غيرِ قتلٍ أو مماتِ
اني سئمتُ الذكرياتِ ، فما أمرّ الذكرياتِ
وسئمت كلَّ مباهجِ الدنيا وكلَّ المغرياتِ
و مسارحَ الصبواتِ والندواتِ مُنْتجعَ الهُواةِ
و مراتعَ الغيدِ النواعسِ يلتقينَ مع الّلَدَاتِ
و خمائلَ الأملِ العريضِ غرستُ فيها أمنياتي
لم يبقَ لي فيها سوى الآلامِ والعيشِ الفُتاتِ
و شماتةِ الأعداءِ .. كمْ ألقى الشماتةَ من عِداتي
و أودُّ لو أنْ طالَ بي ليلي فأغرقَ في سُباتِ
إني سئمتُ الذكرياتِ فما أمرَّ الذكرياتِ
يا أرْبُعٌ فارقتُها و أنا حليفُ تحسّراتي
شهدتْ عُهودَ طفولتي و صِبايَ و اكتملتْ نُواتي
هل تسمعُ الأيامُ أو يَصغو الزمانُ الى شَكَاتي !؟
فيها أحاسيسي* وكلّ مشاعري**و مقدساتي***
شبلٌ يشُبُّ عن الصّبا ، أخشى عليه العادياتِ *
و حرائِرٌ قُرْحُ المحاجِرِ في مُداراةِ القُساةِ **
و ذخيرةٌ أودعتُها بين المقابرِ و الرّفاتِ ***
يروي ثراها وابلُ الغُفْرانِ من سُحُب الهِباتِ
*
ومرة اخرى نرى الاب الحنون , ورب العائلة المُشفق , يئن من بعده اسرته ، ويقرض اصابعه قلقا على احوالهم .. كيف هم الآن؟؟ ويهزه الشوق الى داره ووطنه هزا عنيفا .. حتى يتمنى لو انه بليد الاحاسيس فلا يستغرقه الأرق والقلق .. او أنه يستطيع الاستغراق في منام دائم لايصحو منه الى آلامه ابدا .
ألَمٌ نحُسّ بنغزاته في قلب الشاعر مع كل لفظة يزفرها .. او آهةٍ يشهقها .. لا تهدأ المشاعر المتدفقة على الالفاظ .. او تترهل القافية عاجزة عن الامتداد بنَفَس القصيدة الحزين .. وخفقات قلبه المحزون تدق في صدورنا .. وانفاسه الحرّى تلفح وجوهنا .. انها عاطفة لا يعرفها إلا مَن فارق – كشاعرنا – وطنا او حبيبا او ولدا . والزمان لا يصغو الى شكاته .
ولعل بعض ابناء شبام لديه شيئا من شعره فنرجوا ان ينشره بهذا المنتدى أو حتى يشير الى وجود شعر له لديه ويكتفي ابيات قليلات من أي قصيدة يجدها .
ولكي لايطول بنا المقال استودعكم الله آملا ان أجد فرصة اخرى لعرض قصيدتيه الحمينيتين التى ترسم ناحية أخرى من شخصية الشاعر الفذ احمد بن عمر بن عبدالله باذيب رحمه الله رحمة الابرار .. وروى ثراه وابلُ الغفران من سحب الهباتِ
والله من وراء القصد .
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس