وادي دوعن الجميل من أهم روافد وادي حضرموت وأبرزها إذ يتفرع الوادي الرئيس إلى فرعين مهمين ، كلاهما جناحي الوادي الكبير ونبض الحياة فيهما ،(وادي الأيمن ووادي الأيسر) ويقال عادة (ليسر وليمن )،وكلاهما ينحدرا من مرتفعات غرب الهضبة الجنوبية لوادي حضرموت الكبير[ راجع لي موضوع عن وادي حضرموت أكبر وديان شبه الجزيرة العربية 0 حصري على سقيفة الشبامي والجغرافيون العرب ] وقد كنت في ماتقدم ذكره – من الموضوع السابق - قد ذكرت أن الأجنبيان الكولونيل" دانيال فان در ميولين والرحالة الجغرافي"لدكتور. هـ . فون فيسمان)
قد نزلاء وتوقفا في "المصنعة " مقر حاكم دوعن "عمر باصرة "رحمه الله احد ولاة السلطان القعيطي الذي تولى حكم أجزاء واسعة من وادي حضرموت ومنها وادي دوعن إضافة إلى المناطق الساحلية ،وتحت حماية بريطانيا العظمى التي كانت تحتل مدينة عدن وترتبط بمعاهدات حماية مع سلاطين المحميات الشرقية والغربية حتى عشية استقلال الجنوب عام 1967م 0
وكانا- الزائران – قاما في الصباح الباكر من اليوم التالي لهما في دوعن بالتجوال بين بساتين النخيل والقرى الصغيرة الواقعة بالقرب منها في واجهة سفح الجبل الذي تشع منه الشمس. ولكنهما حين عبرا قرية "القرين" اندفع نحوهما أبناء السيد محمد بن عبد الله بن طه البار وهو "المنصب"الشهير المنتمي للسادة العلويين الحضارمة من مواطني دوعن ويعدون أهم المرجعيات الدينية في منطقتهم ،إذ يتولون كثيراً من الأمور الدينية ومنها أيضا حل المشاكل الاجتماعية والسياسية بين قبائل المنطقة ، وإن تقلص دورهم بعد تأسيس الدولة المركزية 0
وعلى كل حال فقد نزلوا ضيوفاً على المنصب "السيد محمد بن عبد الله بن طه البار "وسنرى كيف وصفوا المنزل وضيافتهم فيه في تلك الفترة قال
يستحق المنزل بحق مشقة الزيارة. فرغم حداثته إلا أنه حافظ على النمط القديم. كل النقوش الخشبية على الأبواب والنوافذ والزخرفة فوق الألواح الحديدية المطلية بالقصدير ورؤوس المسامير حضرمية أصيلة. والمنزل مبني من الطين فوق جلاميد من الصخر. والطوابق المأهولة مطلية بالجير الأبيض وكذلك السياج الصخري والسطوح وأركانها المزخرفة. )
وقد استنتج الكولونيل الهولندي من وجهة نظره أن العلاقة قائمة مابين بناء المسجد من جهة ، والمكانة الاجتماعية والثروة التي جمعها المنصب من المهجر الآسيوي (جاوة) وبفضل الإسلام الذي يدينون به على حد قوله ، لكنه قد لاحظ الفرق شاسعاً بين المنطقة الفقيرة التي اغلب أهلها من الفقراء وبين الأثرياء الذين جمعوا هذه الأموال من هناك قال : (يوجد دائما بجانب منازل الأثرياء مسجد بمئذنة, مطلي باللون الأبيض الخلاب. وهناك ممرات تصل المنزل بالجانب الأرضي وكذلك بسطح المسجد. تقام صلاة المغرب والعشاء في فصل الصيف فوق السطح, هنا يجلس العالم في الأمسيات ويقوم بتحفيظ القرآن للصبية الذين يتحلقون حوله. والسيد الذي جمع ثروة في المهجر يقوم أولا ببناء المسجد ثم بعد ذلك المنزل. أليس هو مدين لوضعه المتميز في بلاده للإسلام, ولعون الله للثروة التي نجح في جمعها في المهجر؟ والنتيجة هي هذه المساجد الفارهة في بلاد حضرموت الفقيرة.)
استغرق الرجل في وصفه للمنزل والأرضية التي قال عنها أنها دائما مزينة بخطوط متموجة حفرت في الطين قبل أن يجف،ثم وصف الغرف الكبيرة (المحاضر بو أربعة وبوستة بو ثمانية ) كما يطلق عليها عادة في حضرموت وهي لاتوجد عادة إلا في قصور السلاطين والمناصب وبعض شيوخ القبائل في حضرموت لارتفاع تكلفة بناءها الكبير ،وحجم المنزل أو القصر وسعة غرفه دلالة على حجم وكبر صاحبه ومنزلته في المجتمع الحضرمي ،وهي غالبة ماتكون مطلية بالجص والنورة ،وربما مزخرفة من الداخل والخارج ، وتعتمد على أعمدة خشبية مزخرفة بالنقوش والرسومات الجميلة (أسهم ).
كما لاحظ أن الألوان المفضلة هي الأحمر الغامق والأسود والأبيض, وهي التي يطلى بها السقف.
ويدخل الإنسان المجلس أو غرفة الاستقبال عادة عبر باب يقع وسط أقصر الجدران، وتوجد على جانبي الباب صناديق خشبية, تحفظ فيها مراتب النوم والمخدات أثناء اليوم. هذه الصناديق الثقيلة مزخرفة بشكل بديع بحديد مطلي بالقصدير, وهي في الغالب الزينة الوحيدة في الغرفة.
ويستمر الزائر في وصفه للمنزل قائلاً : ( 000فتحات الشبابيك صغيرة منخفضة الارتفاع. ومزالج الخشب والبراويز في منازل الأغنياء منحوتة، والأرضية مغطاة بحصير بسيط مصنوع من أغصان النخيل, (الحصير – سلقة )يفرش فوقها الأغنياء السجاد. توضع مساند على الجدران للاتكاء عليها.)وقال أيضا : ( ووضعت في منزل البار مرايا في السقف وهو تقليد حديث وقبيح.)
ولاحظ الزائر اهتمام الأسرة بأخذ صوراً تذكارية للصبية الذين كانوا يحيطون بالضيوف : (أخذنا المزيد من الصور للصبية والأطفال حتى ندخل البهجة للأسرة0 كان معنا في المجلس رقيق الخدمة وأطفالهم بألوانهم السوداء الفاحمة, يقدمون القهوة والشاي والحلوى الوافرة ويتجاذبون معنا الحديث, لكنهم يقفون في الخلف في تواضع شديد.)
كانت تجارة العبيد رائجة في تلك الفترة ،ومن نتائجها أن وصلت حضرموت آلاف من الأفارقة المخطوفين من شرق وغرب إفريقيا في ذلك الحين ،فكانت قوافل الرقيق الذين يتم اصطيادهم من قراهم واماكن تجمعاتهم وملاعبهم خلال يقظتهم ونومهم بواسطة بعض رجال السفن والمغامرين تذهب بهم للسواحل العربية ومنها حضرموت :قال : (شاهدنا عدة أشكال من الزنوج في الطرقات والمزارع, مما يدل على وجود أعداد كبيرة منهم في وادي دوعن. ويعملون في الزراعة والخدمة المنزلية.)شاهد الزوار صوراً من الثراء والرفاهة و البؤس والمرض الذي يفتك بعدد كبير من السكان لانعدام الخدمات الطبية والعناية بغالبية السكان في القرى والأرياف،
بذلنا ما في وسعنا لمعالجة عدد كبير من المرضى الذين توافدوا علينا بعد الظهر طلبا للدواء أو لتنظيف جروحهم وقروحهم. لم نستطع أن نقدم إلا القليل, وعلى أي حال ما هي الفائدة من العلاج مرة واحدة. يوجد في كل حضرموت وما حولها طبيب واحد حصل على تدريب غربي. ويعود الفضل هنا أيضا إلى السيد أبو بكر الكاف الرجل المستنير الذي استقدم هذا الطيب الشاب الهندي, لكن مركز عمله في مدينة تريم البعيدة . ويذهب الأغنياء أحيانا إلى عدن لاستشارة الطبيب, كما أن البعثة الطبية في الشيخ عثمان بالقرب من عدن معروفة للقلة.)
ويمكن نقل المريض من الأثرياءوالمقتدرين على دفع المال بسرير يحمله مجموعة من الرجال الأجراء على الأكتاف من وادي حضرموت حتى مدينة المكلا عبر طريق قوافل الجمال الذاهبة إلى المكلا براً ،أو السفر به من المكلا حتى عدن بالبحر لظروف النقل والمواصلات الصعبة في تلك الفترة0
وفي كل الاحوال كان من المقرر اللقاء بالسيد مصطفى بن أحمد المحضار أحد أقرباء الوزير القعيطي في قرية القويرة القريبة من القرين بوادي دوعن بهدف تسليمه رسالة من الوزير المحضار أحد أهم رجالات الدولة القعيطية قال
ذهبت مع السيد علوي قرب المغيب إلى "قارة المحضار" ["قويرة المحضار" , وهو تصغير قارة.] على بعد نصف ساعة, حيث يعيش السيد مصطفى بن أحمد المحضار, الذي نحمل له رسالة من الوزير في المكلا. استقبلنا استقبالا وديا للغاية. فقد شاهد السيد المسن بعض أنحاء العالم, ويرى الحياة في حضرموت موات. كنت مدفوعا للحديث باستمرار, ثم أصبح الجو وديا حتى أخذني إلى منزله الآخر الكبير وتجول بي في كل أنحائه, بعد أن تأكد أولا أن كل زوجاته الصغيرات قد أغلق عليهن الأبواب ووضع المفاتيح في المفاتيح في حزامه. وانتقمت الزوجات بأن قمن بالتمعن في الأجنبي من فوق السطوح. يبدو من مطبخ المنزل الواسع بجدرانه العالية أنه مزدحم بالسكان. تناولنا العشاء في شرفة السطوح, بعد أن عاد السيد وحاشيته من صلاة العشاء ي المسجد المجاور للمنزل. واستدعى المحضار ابن أخيه الوزير وكنا نحمل له أيضاً رسالة من والده في المكلا, وبعد أن قرأها دعانا أن نكون ضيوفه في اليوم التالي. قبلنا الدعوة للإفطار سنتحرك إلى نقطة توقفنا التالية في "صيف".) هذا ما سيكون لقاءنا القادم بأذن الله0