قلنا في مقالة سابقة، إن هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف، الذي لا نهاية له، والذي يحوي هذا العدد الهائل من المجرات، والنجوم، والشموس، والكواكب، والأفلاك، يحكمه قانون واحد، لولا هذا القانون، لتبعثرت أجزاؤه، ولانهارت مكوناته، ولانفرط عقده، ولما كانت الأرض، ولا كانت السماء: إنه قانون الجاذبية.
هذا القانون ينص، كما يقول العلماء، على أن: كل كتلة في هذا الكون، تجذب الكتلة الأخرى، بقدر حجم كتلها، وبقدر المسافة في
ما بينهما.
د.محمد راتب النابلسي يقول: لو أن هذا القانون وحده كان هو المسيطر، وما دامت كل كتلة تجذب أختها، فلابد أن يصبح الكون كله كتلة واحدة، فما الذي يحول بين تكتل الكون وتبعثره؟
قال: إنها آية في كتاب الله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ).
ومعنى هذه الآية - وقد شرحناها شرحا تفصيليا في مقالتين - أن كل شيء يدور، ويدور في مسار مغلق، يدور ويرجع إلى مكانه الأول. هذه الحركة الدورانية المستمرة، ينشأ عنها قوى نابذة، هي التي تكافئ القوى الجاذبة، ومن هذه الحركة ينشأ ما يسمى: التوازن الحركي.
وفي هذا دليل عقلي ومنطقي على أن الله سبحانه وتعالى موجود، وأنه واحد، وليس هناك آلهة متعددة، تتوزع بينها الاختصاصات والأدوار، إذ لو تعددت الآلهة لاختلفت، ولتنازعت، ولذهب كل إله بما خلق، ولفسدت السماوات والأرض.
يقول الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)..
لهذه الآية معنيان دقيقان:
المعنى الأول: لا توجد أعمدة، وإنما السماوات مرفوعة بقدرة الله سبحانه وتعالى الباهرة، ولكي تدرك عظمة الله سبحانه وتعالى المتجلية في ذلك، نضرب لك
هذا المثل:
أنت إذا دخلت إلى محل تجاري، فشاهدت قميصا معلقا بلا خيوط، يأخذك العجب العجاب، وتقول: كيف علق هذا القميص، بهذه الطريقة، وكيف تأتى لكم ذلك، ومن الذي علقه؟! إلى أن تكتشف أن هناك خيطا شفافا دقيقا جدا علق هذا القميص به.
أنت إذا رأيت شيئا معلقا بلا عمود، بلا قاعدة، وبلا أساس، يأخذك العجب العجاب. هذه السماوات، بعظمتها، واتساعها، وعلوها، وارتفاعها، وبالكواكب والأفلاك والنجوم التي تسبح فيها، من علقها، ومن رفعها؟!
قال تعالى:
(اللَّهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)..
هذا المعنى الأول..
المعنى الثاني: هناك عمد، جمع عمود، ولكنكم لا ترون هذه العمد. كقوله تعالى عن الجن، حيث إنهم يروننا ولا نراهم:
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ).
ليس معنى قوله سبحانه (لاَ تَرَوْنَهُمْ) أنهم غير موجودين، أو غير مخلوقين، الجن موجودون، ولكننا لا نراهم، ولوشاء الله سبحانه وتعالى لرأيناهم.
قوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، معناها أن الأعمدة موجودة، ومخلوقة، ولكننا لا نراها، ولا يتأتى لأحد أن يراها.
قال بعض العلماء: هذه الآية الكونية (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) إشارة إلى قوى الجذب في ما بين المجرات، والكواكب، والشموس، والأفلاك السابحة في السماء، وغيرها من الكتل والأجسام الكونية الضخمة.
والجاذبية في الأرض، أشار الله إليها بقوله تعالى:
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً).
جعل الله سبحانه وتعالى الأرض لنا قارة، وثابتة، وساكنة، وذلك بفعل الجاذبية الأرضية، التي لولاها لما استقر شيء على سطح الأرض. الهواء منجذب إلى الأرض، والبحر منجذب إلى الأرض، والأنهار منجذبة إلى الأرض، وناطحات السحاب التي شيدها الإنسان منجذبة إلى الأرض، وكل شيء تقع عينك عليه منجذب إليها، الإنسان لو طار في الفضاء، وتجاوز طبقات الغلاف الجوي، ووصل إلى نقطة انعدام الجاذبية، لانعدم وزنه، (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً).
آية أخرى تشير إلى هذه الجاذبية، قال تعالى: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ).
يقول د.النابلسي: إذا تعطلت الجاذبية التي في الأرض، ألقت الأرض ما فيها، وتخلت، وتبعثر ما فيها، وخرج منها، ولم يعد.
فهل يخامرك شك مع هذا في أن القرآن ليس إلا كلام الخالق، عز وجل، ذاك الذي خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما هذا القانون، الذي لولاه لما كانت هناك أرض، ولما كانت سماء.
نعود إلى قوله تعالى:
(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).
د.النابلسي يقول: لو أنك التقيت مهندسا وقال لك صديقك: هذا فلان، ماذا يفعل اسمه؟، تقول له: تشرفنا أهلا وسهلا، أنعم وأكرم، قال لك: هذا المهندس فلان الفلاني، كلمة المهندس فلان الفلاني ربما رفعته في نظرك إلى مستوى أعلى، فإذا قال لك: هذا المهندس أنشأ أطول جسر في العالم بين قارتين، جسر معلق تسير من تحته السفن مهما عظمت، وتعبره ثلاثمئة ألف ناقلة في اليوم!، جسر بين آسيا وأوروبا على البوسفور، وإذا قيل لك: هذا هو فلان الفلاني الذي صمم ونفذ هذا الجسر، تمتلئ تعظيما وإكبارا له، فإذا قيل لك: وهو الذي أنشأ نفقا تحت البحر بين فرنسا وبريطانيا، تحت بحر المانش، نفق تحت البحر تسير فيه السيارات، وهو الذي أنشأ قاعدة في بحر الشمال لاستخراج النفط، في البحر قاعدة فيها موظفون، وفيها آبار، وفيها نفط، وهو الذي نقل بناء من مكان إلى آخر، بناء ارتفاعه عشرون طابقا نقله مئة متر.. وهكذا، كلما ذكر لك هذا الصديق عن هذا المهندس أعمالا ضخمة وجليلة قام بها، يكبر في عينك، وتمتلئ نفسك إعجابا به.
هذا مهندس، هذا مخلوق من بني جلدتك، أعمل عقله فصنع المعجزات، فإذا قال الله عز وجل لك، وهو الصادق سبحانه، على لسان رسوله الأمين:
(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)..
ماذا سوف تكون ردة فعلك؟! لابد أن يقع في قلبك تعظيم وإكبار لله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الخلق بدقة وإحكام، وبقوة غريبة، وقدرة عجيبة..
والحمد لله رب العالمين.