قصيدة ( محاولات لالتماس التوبة )

[علي أحمد بارجاء]

نشرت هذه القصيدة في الملحق الثقافي لصحيفة ( الثورة ) اليمنية العدد 12675 بتاريخ 12 ربيع الثاني 1420هجرية الموافق 26 يوليو 1999م .
و أقدمها اليوم عبر هذه السقيفة لكل المغتربين اليمنيين :


(( محاولات لالتماس التوبة ))

" عاد إلى وطنه بعد غياب طويل , استقبله أخوه في المدينة , عادا إلى قريتهما , و عندما أطلا على القرية , وقفا و دار بينهما هذا الحوار " :

_ ما هذه الأصوات ؟
_ هذي زغردات !
_ ما الأمر ؟ عرس ها هنا !
أم عاد مغترب إلى أطفاله بعد الشتات ؟
أم أن أما حاملا وضعت ؟
_ و هل يعنيك هذا الأمر ؟
_ كلا .. إنما مذ غادرت قدماي هذي الأرض
لم أفرح كهذا اليوم
_ لم تفرح !؟
_ و إن حاولت داهمني شعور بالبكاءِ
الحزنِِ
و المللِ الرهيب
أذكر قريتي
أمي
أبي
زوجي
و أطفالي الذين تركتهم و مضيت
أبحث في بلاد الله عن وطن بديل
يشتري جلدي
وما فكرت في بلدي
أناني أنا ..
صدقت قول الشاعر العربي:
" إذا غامرت في شرف مروم
فلا تنقع بما دون النجوم "
صبرت
صابرت
اعتصرت الصبر
كنت :
" كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها و أوهى قرنه الوعلُ "
و لكن .. آه ..
( يبكي نادما )
_ بالله دع هذا الحديث الآن
لم أعهدك فياض المشاعر
مسرف الأحزان !
اغسل ذكريات الأمس
جفف دمعك الرقراق
امض الآن نحو الدار
_ أين الدار ؟
خذني .
لم تعد قدماي تحتملان هذا الانتظار
شوقي يسابق خطو نبضاتي
ما ليديَّ ترتعشان !!
أشعر بالدوار
امسك أحاسيسي
_ تمالك ..
إنها خطوات
اقرأ بعض آيات من القرآن
واسجد شاكرا لله أن قد عدت
_ لكن ..
هل ترى أمي ستعرفني
أطفالي
أبي
زوجي
_ أجل .. هيا ..
_ انتظر .
بالله قل لي :
كيف أبدو بعد أعوام من
الأسفار
بعد الغربة الملعونة البلهاء
_ تبدو مثلما طفل يفتش عن بقايا حضن أم
عن يد ناعمة التربيت
عن ثدي ينام على عذوبته
_ و هل في قريتي حضن و أثداء و أيد ناعمات ؟
هل في قريتي دفء كعاطفتي ؟
_ هذي القرية المهزولة الأحلام
مذ غادرتها ذات صباح
لم تزل عذراء
لم تنزع براقعها العتيقة
لم يعانقها الرحيل إلى الشواطئ
هذي قرية مأثومة بالحب
للوطن الجميل
بالشوق المسهد كل يوم
انظر إليها
لوحة مرسومة بأصابع الحسرات
أشجان منمقة كأهداب النساء
حكاية لا تنتهي
ادخل إليها صامتا
و اجعل تحيتها ابتسامة أمك المحبوسة الأنفاس
ألقِ قميصك المبتل من عرق الطريق إلى أبيك
يرتد إلى عينيه نورهما
توضأ بين أيدي والديك الحانيات
و اقرأ على صدريهما سفر الهداية
بعض آيات من الندم اللذيذ
أبواك نهرا بهجة
شلال أفراح
محيطات انشراح
_ و زوجتي ؟
_ نغم حبيس في ثقوب الناي
موال ينام على شفاه الصمت
آهات بلا شكوى
كانت مذ عددت على أصابعها شهور الغربة الأولى
تهيئ قلبها لمفاجآت لقاك
عيناها استحالا شرفتين مطلتين على الطريق
أَوَ كنت تحسبها تطيق
و أنت مقذوف وراء البحر ؟
_ ها قد جئتها
و يداي فارغتان
إلا من تجاعيد على وجهي
و شيب في خطاي
و قبلة لملمتها من ذكريات الأمس
من أحراج أشواقي القديمة
من أساي
_ اخلع أساك هنا
فهذي الزغردات الآسرات
تنساب من شرفات دارك
إنه عرس الصغيرة من بناتك يا أخي


سيئون , صيف 1998م

[أبوعوض الشبامي]

قصيدة جميلة نظمت بالشعر الحر وإن كان هناك ثمة تحفظ فهو على العنوان ( محاولة لإ لتماس التوبة ) فالهجرة للإنسان ضربا من ضروب السعي في طلب الرزق أو العلم أو فرارا من اضطهاد ديني اوعرقي أوسياسي . وليس ضربا من ضروب الذنوب التي تحتاج من المهاجر محاولة إلتماس التوبة ..!! خاصة اذا هاجر الرجل منا برضاء من زوجته وقبلت منه عن قناعة بأن يسعى في الأرض ملتمسا الرزق ..!!
ونحن قوم جبلنا على الهجرة ولعل ايضا الشاعر ابوالطيب المتنبي كان يعنينا بقوله :

[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="burlywood" bkimage="" border="double,2,seagreen" type=0 line=200% align=center use=sp char="" num="0,black"]
أبني أبينا نحن أهل منازٍل .... أبدًا غراب البين فيه ينعقُ
نبكي على الدنيا وما من معشر... جمعتهم الدنيا ولم يتفرقُ
[/poet]


طالما أن الغاية تبرر الوسيلة و هدف المهاجر ليس ما هو دون النجوم وإن كنت استشهدت بقول الشاعر المتنبي حول تبرير بعد الغاية وعلو الهمة :

[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="burlywood" bkimage="" border="ridge,2,green" type=0 line=200% align=center use=sp char="" num="0,black"]
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بمادون النجوم
[/poet]

وهنا لا ينبغي ان نمر مرور الكرام على هذه القصيدة دون ان نسجل في هذه العجالة خواطر وانطباعات بعد ان شدتنا المقاطع الأخيرة منها :



[poet font="Times New Roman,4,black,normal,normal" bkcolor="burlywood" bkimage="" border="groove,2,seagreen" type=3 line=200% align=right use=ex char="" num="0,black"]
- وزوجتي
نغم حبيس في ثقوب الناي
موّال ينام على شفاة الصمت
آهات بلا شكوى
كانت مذ عددت على اصابعها شهور الغربةالأولى
تهئ قلبها لمفاجآت لقاك
عيناها استحالا شرفتين مطلتين على الطريق
أو كنت تحسبها تطيق
وأنت مقذوف وراء البحر؟

- ها قد جئتها
ويداي فارغتان
إلا من تجاعيد على وجهي
وشيب في خطاي
وقبلة لملمتها من ذكريات الأمس
من أحراج اشواقي القديمة
من أسَاي
اخلَعْ أساك هنا


[/poet]




- وزوجتي
نغم حبيس في ثقوب النّاي

يجب ان اسجل هنا إني وقفت أمام جملين شاعريتين رائعتين كل الروعة يقف القارئ بصددها وقفة المتأمل . لقد جاء فيها من الإبداع والصورة الجميلة والتشبيه المبدع الموفق وفيها نفحات رمزية صوفية عميقة تذكرني بمقدمة قصيدة الشاعر الصوفي مولانا جلال الدين الرومي ( توفى سنة 672هـ ) في ديوانه الشهير ( مثنوي ) المترجم من اللغة الفارسية يقول جلال الدين :


[poet font="Arial,4,black,normal,normal" bkcolor="burlywood" bkimage="" border="groove,2,green" type=0 line=200% align=center use=sp char="" num="0,black"]
- استمع إلى هذا الناي يأخذ في الشكاية ....... ومن الفرقات يمضي في الحكاية
- منذ ان كان من الغاب إقتلاعي ........ ضج الرجال والنساء في صوت إلتياعي
- ابتغي صدرا يمزقه الفراق ....... كي ابث شرح آلام الاشتياق
- ونار العشق هي التي نشبت في الناي ...... وغليان العشق هو الذي سرى في الخمر
- والناي صديق لكل من أفترق عن أليفه ....... ولقد مزقت انغامه الحجب عنا
- فمن رأى كالناي سما وترياقا........ ومن رأى كالناي نحيبا ومشتاقا
[/poet]


ويقال بأن الناي ونحيب الناي في لغة الصوفي جلال الدين الرومي يحمل معاني ودلالات عميقة بحكم ان الناي يخرج منه أعماق اننيه وهو اشارة الى قول عالم صوفي ان ( مثل المؤمن كمثل المزمار لا يحسن صوته إلا بخلاء بطنه ) والناي تعبير عن غربة ( الولي ) في هذه الدنيا وهو اقسى انواع الغربات يعبر عنها بالناي وانين الناي عن معاناة ( الولي ) وغربته وسط الناس . وشوقه للقاء محبوبه وخالقه الذي أفنى نفسه فيه .!!
لكن كيف لو تصورنا أن هناك ( نغم حبيس في ثقوب الناي ) وناي لا يستطيع ان يبوح بأنينه ولا يستطيع ترجمة آثار الغربة والمعاناة الداخلية التي تعيشها هذه الزوجة ومن وجهة نظر شاملة ؟
نعم مسكينة هذه الزوجة التي حبست انينها في ثقوب الناي وحبست موالها على شفاة الصمت وحبست آهاتها دون بوح ولا شكوى ...!!

والجملة الشاعرية الثانية هي ( إخلع أساك ) وهنا يأخذنا معنى الخلع في الخطاب الديني الى قصة موسى الكليم في حضرة قدسية الرب حين امره ( بخلع نعليه ) ويشير بعض من المفسر ين أن المقصود ب (اخلع نعليك ) أي اترك الدارين واترك العالمين من خلفك وتوجه الى حضرتي بقلب خالي منخلع عن العالمين لا يفكر إلا في .
وايضا يأتي مصطلح الخلع عند الصوفية هو ترك التفكير في الدنيا والمشاغل والتوجه كلية الى محبة الله والتقرب الى الله .
وفي القصيدة جاء ( اخلع اساك هنا ) لعلها تحمل نفس المدلول والإشارات الصوفية ولا سيما أذا علمنا أن الشاعر ابن بيئته ولعله تأثر بالبيئة الصوفية في سيئون واستفاد من التعابير والإشارات الصوفية .
وهل قبل ان يخلع المغترب الأسى تستطيع زوجته أن تخلع عن قلبها حب الدنيا وزينتها ؟ هل قبل ان يخلع المغترب الأسى يستطيع قلبه خلع الطمع عنه وخلع حب الذات وخلع نزعات التملك والتميز والمظاهر الفانية ؟؟ إذًا قبل أن يخلع المغترب الأسى عليه ( خلع النعلين ) ويوقن في قرار نفسه ان الذي خلقه سيتولاه (وإن جرى جري الوحوش غير رزقه لن يحوش )
وكل غربة تهون الا غربة الدين ..؟؟

هذه ملاحظات وانطباعات عابرة وفي عجالة لهذه القصيدة الرائعة وشكرا للشاعر .



.

[جمال العطاس]

قصيدة لايمكن لقارئ تخطيها ( القارئ المغترب)والوقوف على كل فواصلها
عندما يتحول الاغتراب الي خطيئة تستدعي التوبة والرجوع.
يقول الشافعي ( رحمه الله )

[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="http://www.alshibami.net/saqifa//backgrounds/3.gif" border="double,2,gray" type=0 line=200% align=center use=sp char="" num="0,black"]
تغرب عن الاوطانِ في طلبِ العُلى= وسافر ففي الاسفارِ خمسُ فوائدِ
تفرّجُ هَمٌّ واكتسابُ معيشةٍ=وعِلمٌ وآدابٌ وصُحبَةُ ماجدِ
[/poet]

هل هو هذا اغترابنا الذي قصده الشافعي . قطعا لا..وألف لا وان حدد
الشافعي ( اكتساب معيشةٍ ) من الخمس ..
أغترابنا هو ماقصده الشاعر الاغتراب الذي يستوجب التوبة..
لابد لي من وقفة متعجلة عند فواصل محددة في هذه القصيدة.

1) ( قريتي ) ..... (أمي / أبي ) ...( زوجتي / أطفالي ) !!

وماذا بعد ذلك ..أبيع جلدي الي وطن بديل ومقابل ماذا ؟؟

ويداي فارغتان
الا من تجاعيد على وجهي ( الزمن )
وشيب في خطاي ( الوهن ) والاحساس بالخيبة

2) انه عرس الصغيرة من بناتك ياأخي ..
كم يحمل هذا المعنى من الابعاد .

( الاغتراب _ الزمن _ الطفولة_ الفرح _ الندم )
توليفة من الدلالات المتضادة أحيانا..
وهذا مايجعل الشاعر يلتمس التوبة ..

قصيدة تستحق الوقوف كثيرا
شكرا استاذنا لانملك الا اعجابنا وتصفيقنا

شكرا أبو عوض الشبامي على الطرح الخلاّق وتناوله البعد الديني ( الصوفي ) في هذه القصيدة.

[شبامي اصلي]

[poet font="Simplified Arabic,5,red,normal,normal" bkcolor="" bkimage="http://www.alshibami.net/saqifa//backgrounds/4.gif" border="solid,2,white" type=0 line=200% align=center use=sp char="" num="0,black"]
بالله قولك هذا سال من عسل=ام قد صببت على افواهنا العسلا
ام المعاني اللواتي قد اتيت بها=ارى بها الدر والياقوت متصلا

[/poet]

لافُـضك فوك ياابىعبدالرحمن انك تعهدني لا ارتاح لقراءة الشعر الحديث ولكن اذا كان مذاقه مثل هذا الذي كتبته عن الاغتراب فسوف أغيّر رأيي
وللامانه قولها صدق من قال ((اعطي القوس باريها))أو ((اعطى الخباز الخبز ولو أكل نصفه))

وصراحة انضمامك الى السقيفه سيثرينا بكل ماهو بديع وجميل وذو فائده


لك اصدق تحياتي

[حاتم الطائي]

ماشاء الله عليك يااستاذ علي ... لو كنت على ايام حاتم كان اكرمناك 500 ناقة حمراء و 100 راس من الغنم ... وبانخلي القصيدة من المعلقات في سوق عكاظ ...
احسنت وابدعت.

[علي أحمد بارجاء]

شكري الجزيل لكل من غمر القصيدة بالإعجاب و علق عليها , و قد قدمت القصيدة صورة من صور الاغتراب , و هي ليست الوحيدة في بابها طبعا , فقد كُتِب في مآسي الاغتراب و آثاره السلبية كثير من الشعر و النثر , و لعلي أتذكر قصيدة من روائع ما كتب في هذا الباب للشاعر طاهر عاطف , من أبناء مدينة المكلا , و كان ينشر شعره في صحيفة الشرارة سابقا .
و الاغتراب ظاهرة تعود بالنفع على الإنسان و الأوطان , ما في ذلك شك , إذا كان المغترب على صلة مستمرة بوطنه و أهله , و لكنه مضر إذا كان كالموضوع الذي في قصيدتي , أو في قصيدة الشاعر طاهر عاطف .
و لا أريد أن يفهم أحد أني أعرض بالاغتراب أو أرفضه كظاهرة عامة , بل أقف موقف المعارض من شكل من أشكاله .
لقد أعجبت كثيرا بطرح ( أبو عوض الشبامي ) الذي أثرى القصيدة و حلل بعض صورها , بروح الناقد البصير , المتكئ على التراث , كما أشكر أخي جمال العطاس و أخي و صديقي شبامي أصلي على ثنائهما , و لا أنسى حاتم الطائي ( رمز الكرم العربي ) على أمنيته , و أقول له : اعتبر أن عطيتك قد وصلتني , فشكرا لك و لكرمك , فيكفيني منك قول هذا .