محاولة رسم صعدة عن قرب.. كنت هناك "انهاتجارة الموت ومقاولي الحرب

[حد من الوادي]

محاولة رسم صعدة عن قرب.. كنت هناك

22/11/2009
كتب نبيل الصوفي

كل يوم نقول نفس الكلام.. أتحدث عنا نحن الصحفيين حين نتعرض للحرب في صعدة.. بالنسبة للسياسيين لامشكلة فالحكام لديهم خصم هم الحوثيون والمعارضة، والاخيرة لديها الأولى وكل يحتمي بموقفه السياسي ليقول مايشاء ويصمت عن الكلام مباحا كان أو حراما. واصل الحرب هناك هي مجرد أحد أعراض الحمى داخل هذا المربع الذي يخرب حياة هذه البلاد اتفاقا كما يخربه اختلافا.. فأطراف السياسة في اليمن لاعلاقة لهم باحتياج الديمقراطية للتغيير في البنى والتصورات وطرق الإدارة.

وبصدق معك عزيز القارئ فحين قررت محاولة زيارة صعدة كان الهدف هو البحث عن كلام جديد أقوله بعد أن قلت في نفسي لو كنت مستمعا لقلت: بس، بعد كل مشاركة أجد نفسي محشورا فيها في هذه القناة أو تلك النشرة أو هذا البرنامج.. فصعدة وحروبها جعلت اليمن شأنا يوميا في الإعلام الخارجي. ونحن نلاحق الكلام ملاحقة، نتنبأ فتخيب التنبوءات ثم نعود للتنبؤ من جديد.. وهلم جرا..

خلال أسبوعين.. قمت بثلاث زيارات بدأت من حرض والملاحيظ ثم حرف سفيان وتوجت بالبقع الذي منه وصلت صعدة آمنا وقضيت فيها ثلاثة أيام، في مدينة مقطوعة عن الدنيا، بموتورات خاصة تجاوز مواطنوها أزمة اكتفاء الدولة بمبرر الحرب لإطفاء الكهرباء مطلقا وبشكل دائم ليل نهار لاشهر عدة، لكنهم لم ينجحوا في الاتصالات حيث يتزاحمون على مراكز الاتصالات رغم أن في جيوبهم أجهزة موبايل.. لكن الخدمة مقطوعة إلا عن رموز الدولة ورموز الحوثيين في نفس الوقت.. في زيارتي الأخيرة كنت اتفقت مع الناطق باسم الحوثيين أني إذا وصلت صعدة سيؤمنون لي التحرك للقاء قيادات منهم، وأظنهم مع قفزتهم الأخيرة نحو الهاوية عبر جبل الدخان السعودي لم يعد بإمكانهم فعل ذلك لذا لم يردوا علي بعدها ابدا.. باختصار أعتقد أن الحرب التي يتحدث عنها الحوثيون ويريدونها لن تبدأ.. لكن حرب الدولة لن تنتهي.. المعركة هناك اقل خطرا مماتعيشه صنعاء كل يوم، وأكثر خطرا من تصويرها مجرد معركة عسكرية.

صحيح إن منطق التاريخ يقول إن من يتربع على عرش صعدة الاجتماعي والديني يصل صنعاء بنفوذه.. لكن الحاضر يقول إن الحوثيين ليسوا مناضلين بالأساس، وصورتهم في الميدان أسوأ بكثير مما هو عندنا في صنعاء.. وهو سوء لايرتبط بأهدافهم، بل بممارساتهم التي لو رشدوها لتحولوا قوة ضاربة في منطقة فراغ بلا حدود.

المظلومون هم المواطنون الذين وجدوا أنفسهم في أتون حرب، بين "أوغاد" كما قال لي رجل مسن في أكام نشور، ودولة هي من تولت الحشد ضد نفسها حين تعاملت مع المنطقة ومرجعياتها الدينية خصوصا بخفة عقل، وبخطاب حشد الماضي ضد الحاضر..
السلطة، لاتدير حربا حقيقية بغير مايتعلق بحشد الرجال والسلاح ومايحيط بهما من حركة أموال وتوفير شغل.. و"مقاضاة اغراض".. وهي جملة لمسن آخر من آل بوجبارة تباهي لي بأنهم قالوا للحوثيين: "مش عندنا تتديولوا".

الجيش يعمل بروح لامبالية، مرهقة من السياسة التي تتقفز بين السلم والحرب لمجرد قرار يتخذ في غرفة في صنعاء.. ويدار دون أقل احتياجات الاحتراف في معركة داخلية.. ينزلون لشراء القات بالمصفحات (لدي صور وليس الأمر أكاذيب).. سلاح أفراده وافراد الجيوش الشعبية المساندة هو من يوتر أجواء صعدة التي لاتحظى بالقدر المستحق من الحزم الأمني لحماية أرواح أبنائها وسكانها من عبث الحرب.

المؤسسات المدنية، وهم.. ربما يذكرون يحيى الشامي أولا ثم يتحسرون على يحيى العمري.. الأول بشأن إدارة الحرب والثاني لأنه أنجز شيئا للمدينة المنسية.. أما المحافظ الحالي فلاذكر له.. ربما هو محاصر أو مشغول أو.. أو.. وأنا هنا لا أدينه بل أرصد غيابه في حديث الناس. وحين ندرك أن أغلب الوحدات المقاتلة هناك هي موجودة منذ إعادة خارطة توزيع الجيش بعد حرب 1994م، ضمن خمسة أولية يقودها قائد محور يتبع قيادة المنطقة الشمالية الغربية، فإذا ثمة أزمة علاقة بنيت من يومها بين الجيش والناس أساسها فقدان التواصل الاجتماعي بين قياداته وبين الناس هناك.. لست أدري هل يعكس الأمر اختلاف التجربة بين قادة ماكان يعرف بشطري اليمن، أم بفساد داخل المحور أصلا.. أقصد إن من عينوا في الجيش هناك من أرباب طريقة إدارة دولة الحزب الاشتراكي، والتي كانت تقوم على الفصل بين مهام الجيش ومهام المؤسسات المدنية عكس قادة دولة الشمال التي تمول مرجعيات المنطقة من مخازن التغذية التابعة للوحدات في رمزية علاقة الجانبين.

المنطقة، واتحدث عن قرابة 50 ألف كيلو متر من مساحة اليمن الميمون تجمع صنعاء بالجوف وصعدة وصولا الى حجة، فراغ للمهربين.. الأخطر هم صاروا بالحرب يغطون عيب دولة تقول إنها تخوض حربا ضد خطر قادم من الخارج!! هم من يوفرون للناس حاجات الحياة غير المتوقفة في المدينة التي تتعايش مع أصوات مدفعية لاتغيب عن سماء المدينة ليلا أو نهارا.. ولم يعد أحد يلتفت الى مصدرها. ومع أن العلم الجمهوري مرفوع على قشلة المدينة وجوار جامع الهادي فإن آثار الحرب بادية على الركن الشمالي الغربي من المدينة القديمة.. تماما كما هو الحال في حرف سفيان.

نعم، يغطي المهربون عيب الدولة، ولأنهم يتولون تمويل المدينة في ظل قطع الطريق بينها وعمران، يقبل الناس على شراء دبة الغاز بين 1700 و4000 ريال، والبترول بين 2500 و 4000.. وبالتأكيد وسط هذه الحركة النشطة المشرعنة ليس لدي شك إنهم قاردون على نقل السلاح والمخدرات ومايكون وحتى المرتزقة مثلما ينقلون الناس الهاربين من الحرب عبر طريق البقع- الجوف المحفوف بمخاطر التقطعات والأرض الرملية الصحراوية وجبل ريدان حيث لاتصدق أن دولة تحشد المليارات لحماية مواطنيها كما تقول ثم لاتحرك آلة شق لتسهيل مرور شاحنة غاز مثلا أو عربة لاجئين.. لابل تحول نقل عربة نفط أو صندوق دواء لصعدة أو للجوف إلى مصدر استرزاق إضافي للدولة ذاتها.. يعرض عليك الناس أوراق الموافقة الرسمية على نقل مثل هذه البضائع بشكل رسمي والتي تبرر بانها لتأمين عدم وصولها للحوثيين.. ثم يقولون لك: المهرب أسرع وأسهل. أما، الإعلام، وآه منه وعليه.. صار مجرد طرف ضعيف يعمل إما بالنوايا الحسنة أو بالموقف الشخصي أو الفكري والسياسي من السلطة أو من الحوثيين. يرسل لنا كل طرف إدعاءاته فنحولها الى حقائق. وننام..

الدمار الميداني أقل من الصورة التي نظنها.. لكن الدمار المعنوي في منطقة مغلقة أصلا أمام العصر أكثر بكثير مما نظن.. يلفتك العمران الذي تبدو فيه صعدة منطقة مغلقة للماضي.. كأنها محمية خاصة بالتراث المعماري لعصر ماقبل الثورة.. وربما لولا التدافع الذي تفرضه حركة اليمنيين نحو الجارة كل يوم من مناطق مختلفة لما كان هناك مطعم المكلا للمندي في كتاف ولا العتمي للصرافة في البقع..

على ذكر البقع، ليس هناك شيئ يمني سوى عمال قدموا من إب وذمار (عتمة ووصاب) وتعز فتحوا محلات للخدمة العامة.. حتى التلفون الأرضي غير موجود.. ويتبايعون بالريال السعودي ولم أجد بدا من اللجواء للاتصالات السعودية لأطمئن أهلي أني تجاوزت منطقة الخطر بين الجوف وصعدة بعد خمس ساعات من أحداث منها تقطعات عجزت عن شرح أني لست موظفاً في الدولة (هي هناك قبيلة في صنعاء ومن يعمل معها يخطف لتسهيل تعاملات مع قبائل أخرى).. ومنها السفر مع مهربين بعد ضياع مع أدلة رافقوني من الجوف بمساعدة كريمة من الشيخ علي العجي ذي الصيت المتزن في منطقة الخوف.

في سفري الأول عبر الحديدة - حجة، تفهمت رؤية أفارقة يسيرون ليل نهار على الشريط الساحلي -قال لي الأستاذ وحيد رشيد أمين إصلاح عدن ووكيل محافظتها إنه رأى في افريقيا كيف يسير الناس هناك بالأسابيع وليس فقط بالايام على أقدامهم من منطقة لأخرى لذا لايفهمون استغرابنا: كيف يسافرون من دولة لأخرى على أقدامهم؟

قلت تفهمت ذلك وهم يردون علي بالإشارات وجملة: سعودية عربية بالإنجليزية، لكني لم أفهم أفواجاً منهم في طريق البقع صعدة.. كانوا يقولون لي: سعودية عربية فأقول لهم، هي بالاتجاه المعاكس لأن البقع حدودي أصلا فيردون علي: "صدعة".. هكذا ينطقونها معكوسة.. ولا استبعد أن نرى مجاميع منهم وآخرين من اليمنيين الذين يموتون جوعا وهم يحاولون الدخول للجارة الكبرى فيمنعون وقد صاروا عصابات سواء بإسم الحوثي أو بدون تبحث عن الرزق بالسلاح. وقد أخافني لاجئو الملاحيظ في حرض وأنا أحاول الوصول الى صعدة منها.. قالوا لي إن الحوثيين لايتركون سيارة تمر من المنطقة إلا استولوا عليها..

يقوم الحوثيون بتفخيخ المناطق عبر الغاء مرجعياتها العملية والاجتماعية وبالطبع بعد تهديم شكل هش من حضور الدولة عبر المديريات.. ينصبون محاكم خاصة، ينفذون أحكاما بشعة بحق مناوئيهم.. لكنهم يفعلون ذلك فقط حين يفتر حضور الجيش وإذا فلو رأوا دولة تدير حربا فعلية.. حربا هدفها السلام فعلا وليس مجرد تحريك الآليات لكانوا توقفوا من الحرب الأولى.

تشارك الدولة الحوثيين في صنع المآسي للناس.. أم العساكر التي قنصها حوثيون لأنها تقدم الخبز للجنود طريحة الفراش مشلولة لأنه ليس لديها حق الدواء.. وعشرات أسر مرمي بأبنائها في السجون لشبة ونصف تهم.. وتقربك الدولة من الحوثيين أميالا حين تحول انتماءك لصعدة تهمة فتوقفك في كل نقطة.. الأدهى إن هناك من اشتكى من مرارة إجراءات خاصة قبل الموافقة على سكنه في غرفة في فندق في صنعاء أو عدن أو غيرها..
هي انطباعات.. فأنا الآن أكثر قلقا من الكتابة الموضوعية.. وإن كنت أعد القارئ بها قريبا.

*نقلا عن صحيفة الوسط