ابن سلمان والعشق في حضرة الكلمات

[عمر خريص]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ

للشعر زهو وحضور في افئدة محبيه وسامعيه ، حينما يتساقط رطبا جنيا من نخلة الابداع السامقة لموهبة شاعر مجيد ، شاعر يمتلك القدرة على الابهار ، والطواف بنا في مدن العشق الساحرة ،والرؤى الحالمة ، ولا نعجب اذا رأينا الشاعر سالم عبدالله بن سلمان يبسط لنا موائده المشتهاة من فاكهة الشعر الطرية ، ويطعمنا بيديه لقيمات الحرف المتوهج في الذات الشاعرة ، ففي ديوانه ألاول ( العشق في حضرة الكلمات) نراه عابدا خاشعا في محراب الكلمة ، ولعل انشاده الممتد منذ عام 1967م ( وهي اقدم تاريخ تؤرخ به قصيدته الغريب ) رغم تقطعه وتباعده لازال يتمتع ببوح الوحي الشعري الجميل ، مترنما وعازفا على أيقونات الالهام الصافي لا تكدره شائبة شطحات الناثرين الجدد، وهو هكذا متألق الى وقت اصداره ديوانه الذي نحتفي بصدوره ، وهو ولاشك اضافة جديدة الى ديوان الشعر اليمني والعربي عامة .
واذا كان الشعر في الأصل غناء ، فلن نستغرب سمة الشاعر الغنائية او ننكرها ، بل هي مطلب ملح في الشعر ومحمدة تذكر ، مثلما نوه بذلك الدكتور عبدالله البار خلال تقديمه للديوان اذ يقول ص22:ـ ( أتراه لهذا كانت (الغنائية) سمة شعره ؟
لعل الأمر كذلك .
والغنائية تتجلى في شعر ابن سلمان من جهات توميء اليها دوال النص ، منها انحصار الضمائر من حيث الشيوع في ضميري (المتكلم) و (المخاطب) فقل لذلك ضمير (الغائب ) لصلته بالنزوع الى الملحمية ، وهو مالا يتماهى مع اندفاق (الذات المتكلمة) في شعر ابن سلمان مع حركة الحياة في تدفقها الامامي دون النكوص الى الوراء .).ثم قال ( والغنائية في الشعر محمدة . وفي شعراء الحداثة من آثرها على سواها من خصائص الشعر فأرتضاها) .
ولكننا نرى ابن سلمان في ديوانه هذا ، لم تجرفه موجة الحداثة العاتية التي لا تبقي من الشعر شي ولا تذر ، بل نراه يحتضن عمود الشعر ولم يبتعد عن موروثه الشعري الكبير قيد انملة ، وان اراد ان يجدد فغاية مافعله هو استرساله في تفعيلاته وأيقاعاته الشعرية على طريقة الشعر المرسل كما اراد له باكثير ان يكون وكما اخضر عوده وأثمر على يد بدر شاكر السياب ، وقد يقول قائل حداثي :ـ ان بن سلمان لم يتحرر بعد من قيد العمود وربق القافية ؟ ، وهي دعوة مغلفة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، ولا اظنها ترفع الان واصنام الحداثة تتهاوى كما تهاوت قبلها احلام اصحاب النظريات الواهمة في الادب والسياسة .
والقصيدة في عرف شاعرنا لم تكن بحر وقافية ، او نغم وتفعيلة فقط ، ولكنها كائن حي ينبض بالحياة وتغذي الروح الشاعرة بأسباب الكينونة وتمده بموجات الدفء والقوة معا، وقد كان مكاشفا لذلك المعنى حينما فاتحنا بفاتحته في بداية الديوان بقوله :ـ
أنت ايتها الكلمات
ياحظي من الدنيا
ويافرحي الذي يخضر
........... بالبوح
فتخضر بأعماقي أغصان الحياة
ويغني في دمي صوت
شفافي الصدى
وبأعماقي يمتد صداه
فاذا الدنيا على شفة الشاعر
بوح وغناء وصلاه
فامنحيني في سخاء
هذه اللحظة من عمري ..
تساوي في انسراب
الزمن الهارب عمرا وحياة
وانا الشعر حياتي ..
نبض عمري
في ابتهاجي وانكسارات الحياة .
بل نراه ايضا في قصيدته ( العشق في حضرة الكلمات) والتي تحمل عنوان المجموعة وهي مهداة الى صديقه الشاعر (محمد حسين الجحوشي ) نراه يتوهج وجدانه عشقا وحبا لترتيل صديقه ويذوب في همهمات الحرف والكلمة الشاعرة ، اسمعه وهو يقول :ـ
وكلما استمعت لحظة اليك
وأنت في براعة الترتيل للقصيد !
تطيل تارة .. وتارة تعيد
أحسها تغوص في دمي
تهزني ...
يسلبني رنينها الذي
يدب في العظام كل شي
كأن صوتك الذي يهب في انسجام
يعيد لي .. ولادة القصيدة
توترة بكل نبضها لديك
تدفقت بكل سحرها عليك
وانسابت الحروف ثرة
تجسد الجراح
فمرة احسها مريرة
ومرة نواح
ومرة ثالثة ..
للحب كله وللأمل
تفجرت ينبوع مغنى وصداح
مدهشة هي القصائد
التي تمس في حرارة
مواطن الشغاف .
وهو لا زال يؤكد هذا المعنى بل نراه يجعله عنوانا لديوانه ، ولكننا هل نفهم من هذا أن ابن سلمان يقول الشعر للشعر ؟ ، ام أن هناك هموما وقضايا مثقلة بها كاهله عبر عنها واعرب عن موقفه منها ؟
ديوانه يقول ان هناك هموما وقضايا عبر عنها ، وله فيها رؤى ومواقف تجلت في ثنايا نصوصه الشعرية ، ونستطيع ان نقول ان الشعر ايضا موقف لدى شاعرنا ابن سلمان ، فقضية العرب الاولى تشغله وتؤرقه ، ويحملها هما وجرحا ينز انينا وبكاء ، انها فلسطين التي تعيش في حدقات العيون وتلافيف القلوب ، وفي قصيدته (غضب ..وصخب ) يهديها الى روح الشهيد الطفل (محمد الدره) يقول :ـ
كيف لي أن اجسد
وقفتكم
وانتفاضتكم
وصمودكم والغضب ..
كيف لي والحجارة نابضة
في اكف الصغار ولا تضطرب
والدماء الزكية شلالها
على كل شبر لم ينسكب
كيف لي ومحمد ذاك الفتى
العربي الصغير
على ارضها يموت
ولا من مجير.. سوى حفنة من خطب .

اما في قصيدته (حوار الى الزمن العربي ) فلا نراه يحاوره بل ينوح بين يديه ويسكب انثيالاته واحزانه ، ولعله يجتر انماط الوجع والانين ، ويستشرف اشراقات التاريخ العربي المجيد، عسى ولعل يشعل فتيل الايقاظ في ضمير انسان هذه الامة ، وهو هنا لم يكن محطما ولا يائسا ، بل لازال يترقب شعاع الامل البازغ في محيا ذلك الانسان الواهن صاحب الميراث العظيم ، فهو يقول له :ـ
أين من عصرنا زمن
كنت سيده
وكنا على ساحه ..
جذوة من طموح جليل
كانت الخيل والسيف
والمجد .. في قبضتك هنا
أو هناك
شموخ بكل الدنا
جنوح بكل سبيل
كنت ان قال حاكمك المبتغى
للسحابة في افقها
امطري ذهبا
واقصدي نحو أي مدى بالرحيل
سياتي الي جباؤك منسكبا
ومنهمرا .. غابة ونخيل .
ولا نراه يكتفي بسبر اغوار شعبه وضخ دفقات الحمية في شرايينه بل هو يقدم معاني صادقة وتعريفات حتمية في قصيدته (قصائد قصيرة جدا) وهي وان كانت تقليدا الا انه اتى لنا بمعادلة قد عرف لنا محاورها واتخذها عنواين فرعية للقصيدة وهي ( الشهيد ـ الوطن ـ الأمل ) هكذا هو رتبها ولعل له نظرة فلسفية اجازت له ضرورة التقديم رغم اني ارأى الترتيب العكسي اجدى واصح ، وهو في (الشهيد) يكشف لنا عن مكنونه فيقول :ـ
في تقاسيمه واحد
مثل أي أحد
غير ان بداخله
نخوة لا تحد
تصطفيه وتجعله
وجهة للابد .
اما الوطن فيقدمه لنا في لوحته قائلا :ـ
نحتويه بأضلاعنا
نخبؤه في سواد العيون
ونحمله في اهاب البدن
دفقة من دماء الشباب
وهوى صارخا بالجنون
ايها الوطن المجتبى
لك من دمنا ومن عزمنا
وثبة .. ماتشتهيه من ثمن .
واما الأمل الذي هو وقود المراحل ونبراسها النير فيصفه لنا بقوله :ـ
شاسع افقه
ومداه طويل
ومن اجله تطلق الروح أشواقها
فنميل ..
الى نزهة العمر او رحلة المستحيل !
ولكننا رغم كل الذي .. نرتأيه
كل الذي نبتغيه
نحيها .. نزهة .. اورحلة ..
نصاحبها ..
فتكون الملاذ الجميل .
واذا غنى ابن سلمان للوطن فقد عنى لذاته ايضا غنى لاشواقه واحلامه وغنى لاحزانه واشجانه ، واني اخاله الان وهو ينسج خيوط شعره في موطن اغترابه منذ اعوام خلت ، واني اراه وقد طوق البؤس ملامح وجهه ، وهاهو يلف شوارع المدن التي خلت من دفء الحنان والشعور بالامان ،وفي قصيدته (الغريب ) سكب على نهج الخليل اصدق اشجانه ، وهو هنا ينبري شاعرا متمكن من صناعته وجودة بضاعته ، وهذا هو سبيله اذا لم تتناوشه السبل ، قال في الغريب :ـ
ظل في دنياه ســــــــرا غامضا ** يسأل الدهر فلا يلقى جــــــــوابا
أي سر ياترى قد راعـــــــــــــه ** فغدا من فعله القلب مـــــــــــذابا
أشقاء ام غـــــــــــــــواء أم منى ** أم مصير فيه كم لاقى العــــــذابا
أم هو الوهم دهــــــــــاه فانبرى ** باعثا في النفــــس وهما واكتئابا
أم ظنون رافقته مـــــــــــــنذ أن ** راح يرجو من أمــــــانيه اقترابا
والى اخر هذه القصيدة العصماء التي بلغت تسعة عشرة بيتا ، سكب فيها عصارة جهده وخبرته في دنيا الاغتراب ونراه فيها متأملا في تسألاته واستفسارته ، وهو هنا لا يضاهي تأملات ابو ماضي ولكنه سبقه الى اليقين فأستانست نفسه المؤمنة ، واستتر قلقها خلف الايمان الراسخ في روح هذا الشاعر ، وله في ديوانه تجليات شعرية تحتاج الى تقصي وملاحظة ، وفي مقدمة الدكتور البار دراسة شاملة بعنوان ( ابن سلمان شاعرا) هي جواز سفر الى شعر ابن سلمان ، وحسبي هنا الاشارة والاشادة والاحتفاء بمقدم هذا المولود الجديد في عالم الابداع الشعري .

[شيخ القبايل.]

شكرا لك استاذ عمر
وشكرا على حضورك الدايم هنا بكل جديد

[عمر خريص]

العفو اخي محمد

ارجو من الله ان اوفق في ما اكتب
وان ينال ذلك استحسانكم
لك تحياتي .