التراث الحضرمي بين التفاخر والذم ...!!

[أبوعوض الشبامي]

.

خلال اجازتي في شهر مارس الماضي وصلت الى بريدي الخاص رسالة من سيدة اسمها (( أم فهد )) قرأتها متأخرة ، تقول فيها أنها قرأت موضوع (( جر الذيول )) لأبي عوض الشبامي سبق أن كتبته هنا ووضعته ايضا في منتديات أخرى وانها تطلب مساعدتها وهي بصدد عمل بحث للتخرج واختارت ان يكون بحثها عن (( الثياب النسائية الحضرمية )) وأحلتها للموضوع المذكور واحلت رسالتها للأخت (( احساس حضرمية )) للاطلاع وربما تستطيع مساعدتها لأنه سبق لها أن ساعدتني مشكورة بمجموعة من الصور عن الثياب واسماء المناطق التي ترتدى فيها ...!!

وفي الاسبوع الماضي وصلت بريدي رسالة من أخ يطلب مساعدته بأن أدله على كتابات وقصائد عامية حضرمية لأنه بصدد اعداد دراسة عن (( المدح والهجاء )) في الشعر العامي الحضرمي ، وبما أن هذا الموضوع يثير حفيظة البعض في ضل اجواء انبعثت فيهاالعصيبات القبلية من جديد (( خاصة في تناول الهجاء )) والذي يثير حساسية كثير من الأسر حين يتم الاستدلال بالشعر القديم لذكر صفات ذميمة كانت تتميز بها بعض القبائل والعائلات (( كالغدر والعيب والخيانة والجبن والبخل .... الخ )) ولا شك أن هناك كثير من القصائد تناولت هجاء القبائل والافراد والعائلات ... وربما طوى معظمها النسيان خشية انتقام المهجو .

ولكن لو تمعنا في قراءة الشعر العامي الحضرمي فإننا نلتمس فيه اسلوبا فريدا يلجأ إليه الشعراء، وهو التفاخر بأنفسهم وقبيلتهم وفي نفس الوقت ذم خصومهم أوغيرهم . أي اللجؤ الى اسلوب الرفعة لهم والتهبيط لغيرهم وهذا في حذ ذاته يجمع بين (( المدح لهم والهجاء لغيرهم )) وباسلوب غير مباشر .

ذلك أن بداية مدخل كل شاعر الى حلبة الزامل أو المساجلة عادة ما تسبقه (( العزوة - الصيحة - الهوكة - تنصوره )) وهي تعبير يلجأ اليه للإعلان التفاخري والتميز القبلي أو العائلي . كقولهم في عزوتهم (( همدان - كندة - سيبان ... الخ )) الغلابة كم من قبيلي كسرنا نابه ... الخ الا تلاحظون معي كيف جمعت هذه (( العزوة )) بين المدح القبلي والتفاخر بالنصر المزعوم وإن لم يكن كذلك ..؟؟ والدعوة للرفعة القبيلة من جهة وبين ذم وهجاء وتهبيط القبائل الأخرى من جهة أخرى ...؟؟؟ المدح صورته تتجلى في انتصار القبيلة (( الغلابة )) والهجاء للغير يتجلى في صورة (( المغلوب )) مكسور الناب ...!!

وربما نعطي نموذجا أكثر وضوحا إذا ما تمعنتم معي في قرأءة ابيات هذا الزامل واستخلصنا الترابط بين مدح وفخر الشاعر بنفسه أو قبيلته وهجاءه لغيره قال الشاعر المرشدي:

نا المرشدي أنا الموت عزرائيل
نا الظلم في يوم القيامــه

نا القبوله باروتها والميل
ورصاص ما منه سلامه

فما كان من الشاعر الحالكي الا ان يجاريه بالرد عليه :

نا الحالكي جهال مقدر كيل
ولقيت في راسك فدامه

نا غصن ولد الفحل وانت الخيل
والزيت في مطيتك علامه

فكلا الشاعرين مدحا قبيلتهما وفي نفس الوقت هجاء كل واحد منهما الآخر ، إنها الثقافة الاجتماعية السائدة حيث يرى كل قبيلي بأنه على منعة وعزة اكثر من غيره ..!!

ولم يقتصر هذا الاسلوب الذي يجمع المدح والهجاء في الاوساط القبلية بحكم دعوى القبائل بأنهم أكثر عزوة ومنعة وقوة من غيرهم ... أوانهم يحافظون على حدود القبيلة واراضيها بالقوة... !!

بل جارى شعراء الحارات والبلدات الحضرمية شعراء القبائل حيث كان لشعراء الحارات (( الحافات )) والبلدات في ما يعرف سابقا صراعا يسمى صراع الحافات (( الحويف )) على الحدود المصطنعة بين (( الحويف )) دعوة الى تميز وتفاخر كل حارة او بلدة على اختها ، وهذا جزء من انعكاسات ثقافة المنظومة الاجتماعية على بعضها البعض ،، ولنتمعن في شعر الشبواني بين ما قاله شاعر احدى الحارات في الشحر اثناء صراع الحدود الوهمية بين سكان الحارات من جهة او بينهم وبين اهالي غيل باوزير حين كانوا يفرضون عليهم ان لا تتجاوز (( عدة شبواني الغيل )) حجرا ثابتا في احد شوارع الشحر وهو يمثل حدا فاصلا (( حصاة الحد )) كان يجبر (( عدة اهل الغيل )) ان تمر من الجنوب منه لهذا قال شاعر عدة الغيل

يالحصاة الكبيرة رنحي
قافله باتعدي من شبام

باعبر يومنا زندي قوي
ذي السنه ياهيامك بالهيام

المدح في صورة القافلة الكبيرة والمهيبة القادمة من مدينة شبام حضرموت والتحدي بالعبور والمدح بقوة الزند (( هنا الترفيع الاجتماعي )) .. في المقابل (( التهبيط الاجتماعي )) بالتهديد والوعيد والتصغير .


وايضا من نماذج الشعر الذي يجتمع فيه المدح والهجاء هذه المساجلة من شعر الدان الحضرمي حيث تتراء لنا صورا شعرية رسمها لنا الشاعر خميس الكندي في ابياته المشهورة حين كانت بريطانيا سنة 1945م تقصف بطائراتها بلدة الغرفة لتجبر بن عبدات على الاستسلام قال كندي:

ردوش يالغرفة كما برلين
مستر جرامس هو وشمبرلين
بن صالح مبارك لقالش رسم لي قاوم اقرانه

هم قايسوش العبر
من رمي القنابل باتودين
أربع تضلي فوقها يخوين
يسرحن من لندن ولا يلهين
يقذفن على الغرفة قنابل محرقه الله عانه

فالغرفة المذكورة هي البلدة التي تحصن فيها (( بن عبدات )) وقد اطنب الشاعر خميس سالم الكندي المدح لها ولبن عبدات للصمود والشجاعة التي اظهرها امام الغارات البريطاينة ...!!
أما (( العبر )) فهو ناحية في غرب حضرموت تقطنه قبيلة الصيعر .. وفي ااشارة الشاعر له من باب الاعارة والذم والهجاء سرعة استسلامه لبريطانيا ....!!!

وهناك نماذج كثيرة إن اسعف الوقت صاحبكم (( ابوعوض الشبامي )) سيزود هذه السقيفة بها ، وربما يكون فيها فائدة لمن رام فائدة وبحثا و فهما لمميزات اساليب الشعر العامي في حضرموت . واراد الخوض فيه بمنهجية علمية ، وعقلية بحثية اكاديمية.