المحضار مرآة عصره (( رياض باشراحيل ))مركز تحميل سقيفة الشباميحملة الشبامي لنصرة الحبيب صلى الله عليه وسلم
مكتبة الشباميسقيفة الشبامي في الفيس بوكقناة تلفزيون الشبامي

العودة   سقيفة الشبامي > الدين والحياه > سقيفة الحوار الإسلامي
سقيفة الحوار الإسلامي حيث الحوار الهادئ والهادف ، لا للخلاف نعم للإختلاف في وجهات النظر المثري للحوار !!
التعليمـــات روابط مفيدة Community التقويم مشاركات اليوم البحث


موسوعة السحر والشعوذه والصوفيه في حضرموت

سقيفة الحوار الإسلامي


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-14-2010, 02:41 PM   #1
الفارس الملثم
حال نشيط

افتراضي موسوعة السحر والشعوذه والصوفيه في حضرموت

أثر القبورية في نـشـر الأمـراض الاجتماعيـة
وفيه أربعة مباحث:
المبـحـث الأول
أثر القبورية في نشر السحر والكهانة في اليمن
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: إثبات أن من الصوفية (القبورية) من يتعاطى علوم السيمياء وأسرار الحروف والأوفاق:
إن التفريق بين السحر والكرامات لا يكاد يميزه كل أحد بل أنه ليشتبه على أكثر العوام في كثير من الأحوال، وقد يشتبه على بعض أهل العلم حيث يتعجلون في إصدار الحكم قبل الخبرة والدراية التامة بأحوال من تجري الخوارق على يديه، وذلك لأن بعض السحرة قد بلغ مبلغاً كبيراً من الدهاء والمعرفة بحيث يُخفِي أعماله الخبيثة، ويتظاهر بالأعمال الصالحة، فإذا نظر إليه الناظر أحسن به الظن وسلكه في عباد الله الصالحين، ثم إذا ظهر على يديه خارق ظن أن ذلك كرامة له، فمن هنا حرص بعض الساعين إلى الجاه والمكانة والتصدر والتسمي بأسماء الولاية والاتصاف بصفاتها عند الناس أن يتظاهر بالزهد من جهة ويستخدم بعض أنواع السحر من جهة أخرى ليحسب من الأولياء، ولقلة العلم وغلبة الجهل ورواج الخرافة وما يحصل عليه من سمعة ويلتف حوله من مريدين وربما يزكيه بعض الأخيار اغتراراً بحاله،لهذه العوامل مجتمعة فشت أنواع من السحر لدى بعض مدعي التصوف وبعض القبوريين.
يقول ابن خلدون- رحمه الله – في المقدمة: (الفصل التاسع والعشرون " علم أسرار الحروف " وهو المسمى لهذا العهد بالسيمياء نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة فاستعمل استعمال العام في الخاص، وحدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه، وزعموا أن الكمال الإسمائيَّ مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها ساريةٌ في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام.
والأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره وتَعربُ عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء، لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله، تعددت في تأليف البونيَّ وابن العربي وغيرهما ممّن اتبع آثارهما، وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الرباينية في عالم الطبيعية بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة على الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان .
وما قاله ابن خلدون عليه أدلة كثيرة، فإن من مؤسسي التصوف جابر بن حيان الذي قيل أنه أول من تسمى بالصوفي، ومعاصره أبو هاشم الكوفي الذي قال صاحب طرائق الحقائق فيه أنه " مخترع الصوفية " ، كانا يعانيان السحر والجفر وهو من أنواع السحر أو الكهانة وكذلك علم الكيمياء . وجاء بعدهم الحلاج وقد نسبه إلى السحر كثير من العلماء ، والصوفية يعتبرونه من أكابر قدمائهم وأفاضل أوليائهم، وقد سبق إثبات نسبته إليهم وثنائهم عليه .
واستمرت علاقة الصوفية بالسحر، يقول الدكتور كامل الشيبي: (وقد دخلت هذه الكتب السرية في التصوف، وقد نقل لنا الأستاذ سعيد محمد حسن أنه:" كان تناول هذه الكتب وشرحها موضع اهتمام المشتغلين بالسحر والطلاسم، وكثيراً ما أسهم الصوفي الكبير محيى الدين بن عربي وحجة الإسلام الغزالي بنصيب كبير في الاشتغال بهذه الكتب ") .
وقد صرح الصوفية أنفسهم بأن من علومهم علم الحروف وعلم الأوفاق، فابن سبعين يقول في رسائله: (وهذه السيمياء تنقسم إلى خمسة أقسام: الكاذبة منها الذي يذكرها مسلمة المجريطي صاحب رسائل " إخوان الصفا "، والمشكوك منها الذي يزعم ابن مسرة أنه وصله، والصحيح منها الذي إذا وصف للفقيه سماه " كرامة " وإذا ذكر للحكيم سماه " تصريفاً " وإذا ذكر للمقرب المحقق سماه فتنة) .
ويقول أحمد بن محمد الصاوي في حاشيته على " شرح الخريد البهية ": (سيدي محمد الخلوتي أخذ عن الشيخ دمرداش فأحبه وقربه وشغله بالطريق وأخلاه - أي أدخله الخلوة - مراراً وظهرت نجابته، وجَدَّ واجتهد، واشتهر وتلقى عنه علم الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل فأتقن ذلك) ، وأحمد الصاوي شيخ الطريقة الخلوتية في زمنه،كما أن تلك " العلوم الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل " من علوم السحر والكهانة.
وهناك حقائق أخرى ذكرها الشيخ محمود القاسم كلها تثبت علاقة الصوفية بالسحر وعملهم به واستخدامه لإظهار الخوارق التي يقولون للناس إنها كرامات.
ومن أكبر تلك الحقائق ما ذكره الشيخ أحمد البوني في كتابه " شمس المعارف الكبرى " وهو من أشهر الكتب التي يعتمد عليها من يتعامل بالسحر في هذه الأيام والأيام الخالية، حيث ذكر سنده بعلم الحرف الذي هو موضوع الكتاب، وقد نقل عن البوني أسانيده بعلم أسرار الحروف الذي يمثله شمس المعارف وكانت تلك الأسانيد تدور على أقطاب الصوفية كما أن البوني نفسه قد ترجمه النبهاني في جامع كرامات الأولياء فقال في ترجمته: (أبو العباس أحمد بن علي البوني من كبار المشايخ ذوي الأنوار والأسرار، وممن أخذ عنه المرسي، فمن كراماته أنه كان مجاب الدعوة توفي سنة (622هـ) قاله المناوي) .
وواضح من هذه الأسانيد أن رجالها هم رجال التصوف وأقطابه ومن بينهم القطب أبو مدين المغربي الذي صدَّر التصوف إلى حضرموت.
المطلب الثاني: إثبات أن من صوفية اليمن من يتعاطى تلك الأنواع من العلوم:
عرفنا من المطلب السابق أن الصوفية المتقدمين والمنتشرين في البلاد الإسلامية سيما مصر والمغرب كانوا يتعاطون أنواعاً من السحر والكهانة، ويتعلمه المتأخر منهم عن المتقدم،كما يتناقلون سائر العلوم، وبما أن صوفية اليمن إنما أخذوا بطريقهم وسلكوا منهجهم فإنهم ساروا على طريقهم في تعلم السحر والكهانة واستعمالها، وإليك شواهد تثبت ذلك عليهم وليس على شواذ منهم ولكن على أناس وصفوا بالولاية التامة وربما بالقطبية والبدلية.
قال الشيخ عبدالله بن محمد بن سالم باكثير الكندي في رحلته المسماة " الأشواق القوية إلى مواطن السادة العلوية " وهو يذكر تنقلاته بين تريم وما حولها وأخذه عن كبار شيوخها وأئمتها: (ثم زرنا العالم الجليل المنور سيدنا عبدالله بن محمد بن عقيل مطهر - وذكر إجازته لهم في بعض الأذكار ثم قال: وأجازنا أيضاً في الأذكار والأدعية التي في شمس المعارف الكبرى والعمل بما فيها من الفوائد) .
ولم يكتفوا بمجرد النقل والرواية بل صنفوا فيها، فهذا أحد رجال المشرع الذي قال عنه في مقدمة ترجمته: (سالم بن أحمد بن شيخان بن علي بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن عبدالله عبود بن علي بن محمد مولى الدويلة ، وهو جد المذكور قبله نادرة الأعصار وغرة الأمصار- ثم ذكر له ترجمة مطولة دليل على الاعتناء والاهتمام به وتعظيمه هذا الرجل قال -: ومن مصنفاته في غريب العلوم" مصباح السر اللامع بمفتاح الجفر الجامع " " وغرر البيان عن عمر الزمان "و" المشروط الأسمى الأسنى في شروط الأسماء الحسنى " و" العقد المنظوم في بعض ما يحتوي عليه الحروف من الخواص والعلوم " و" إيوان المقعد الحرفي وديوان المشهد الوصفي " يتضمن ما يتعلق بالوفق المثلث و" مرهم العطف ودرهم الصرف " و" أسفار الهالك في العمل بوبر بن مالك " و" موائد الفضل الجامعة لباباً في موارد الرمل النافعة أحباباً " و" الماء السلسال، الرحيق الأصفى في التعلق بالأسماء التي اقتضت ربوببيتها تخليق الموجودات الإمكانية ومالها منزلة وحرفاً "و " حل المغنم في حَل الطلسم " و" البرهان المعروف من موازين الحروف " و" منتهى الطلب في قسمة الرتب على الكواكب السبعة والرأس والذنب "، و" الجدول العذب الأهنى من شرب الأسماء الحسنى " و" عقد الحكم في ورد الاسم " و" عقد اللآلئ الفخام في ورد الليالي والأيام " و" التحصينات الموانع بالدعوات الجوامع " و"التحبير في التسخير " و" وفق الطبق الوفق " وغير ذلك أضربت صفحاً عن ذكره لا لعلة، والاختصار عن ميدانه عالي الذرا صعب المجرى بنا ولنا أحرى وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد) .
لقد حرصت أن أسوق كلام المصنف كما هو، وفيه من المصنفات ما هو واضح أنه من علوم السحر وما يلحق بها، وفيها ما لم يتضح مع الاحتمال، من الواضح:
1 ) مصباح السر اللامع بمفتاح الجفر الجامع.
2 ) العقد المنظوم في بعض ما يحتوي عليه الحروف من الخواص والعلوم.
3 ) إيوان المقعد الحرفي وديوان المشهد الوصفي يتضمن ما يتعلق بالوفق المثلث.
4 ) مرهم العطف ودرهم الصرف.
5 ) موائد الفضل الجامعة لباباً في موارد الرمل النافعة أحباباً.
6 ) حل المغنم في حَل الطلسم.
7 ) البرهان المعروف في موازين الحروف.
8 ) منتهى الطلب في قسمة الرتب على الكواكب السبعة والرأس والذنب.
9 ) التحبير في التسخير.
10 ) وفق الطبق الوفق.
فهذه عشرة مصنفات التي تبينتها ورجحت أنها في علوم من علوم السحر، وربما بعض مالم أذكره هو من نفس القبيل، وكذلك ما أضرب عنه المترجم صفحاً.
وقد وصفوا البعض منهم ممن بالغوا في مدحه حتى قال الشلي: (شيخ بن عبدالله العيدروس  الشيخ الإمام، والصديق الهمام رأس الرؤوس، وبهجة الجلوس، ذو المكارم التي أبد الدهر لا تبلى، والمجد الذي يعلو ولا يُعلى،و الكشف الظاهر الجلي، والمنصب الشامخ العلي، إمام أهل عصره والمشار إليه في قطره) و في ترجمة هذا الإمام قالنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةوكان له معرفة تامة بعلم الحروف والأسماء كثير التصرف ويقول إن والدي علمني ذلك في حياته وأنا صغير) ، فهذا إذاً على معرفة تامة ويتصرَف بذلك العلم والأدهى أن الذي علمه ذلك أبوه، ومَن أبوه؟
إن أباه هونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةالسيد الشريف محيى الدين وإمام الأولياء والصالحين،وقطب الأقطاب الواصلي، وشيخ المشايخ وغوث الأكابر،وسيد الجماعة، وسلطان الوجود، السيد عبدالله بن أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف كنيته أبو محمد ولقبه العيدروس) هذا هو أبوه الذي علمه السحر! ولا أستبعد أن يكون أخوه الآخر أبو بكر العدني قد تعلَّم ذلك، شأن أبيه وإخوانه ومن يشابه أبه فما ظلم .
ومن هؤلاء الأولياء الذين يعرفون هذا العلم ويستخدمونه (شيخ بن عبدالله بن الشيخ علي  أحد الأولياء الصالحين والمشايخ العارفين مرشد السالكين وقدوة الناسكين) .
قال الشلي: (ويقال أنه كان يعرف علم الحرف علمه إياه بعض السياحين، بعد أن اختبره بأشياء يعجز عن احتمالها أكثر الكاملين، وكان يحكم الوفق الثلاثي ويتصرف به، وله كرامات كثيرة وأنفاس منيرة شهيرة، فكان يأتي بالشيء قبل أوانه، ويحضر بعض الأشياء التي لم توجد إلا في البلاد البعيدة " حكي " أنه أطعم بعض أصحابه فاكهة الصيف أيام الشتاء! وأطعم بعضهم بحضرموت القات المشهور باليمن!!) .
فانظر إلى منهج القوم في الكرامات، هذا الرجل قد صرح المترجم له أنه يعرف علم الحرف الذي هو من أنواع السحر وكان يحكم الوفق الثلاث وهو كذلك، ومعلوم أن مَنْ هذا شأنه بسحره وعلمه بتلك الحروف والأوفاق يأتي بخوارق كثيرة مثل ما ذكره المترجم من كرامات لهذا الرجل وأكثر، ومع ذلك لا يتردد في أن يجعل ما صدر منه وهو من جنس أفعال السحرة أن يجعله كرامات.
فلو أنه لم يعلم بمعرفته بعلم الحروف والأوفاق كان يسوغ له إحسان الظن واعتبار ذلك من الكرامات، لكن بعد معرفته بذلك وإصراره على عدّ ما يصدر منه كرامات يجعلنا ذلك نشك في أكثر ما ينسب إلى أوليائهم من كرامات، ويجعلنا نقيسها على هذا الولي وكراماته، خصوصاً هذه الكرامة المباركة جلب القات من اليمن إلى حضرموت!!.
ومن هؤلاء من أولياء تهامة (يوسف بن أبي بكر القليصي) قال الشرجي في ترجمته: (وكان عالماً عارفاً وكانت له معرفة تامة بكتب البوني، وكان كثير الاشتغال بالأسماء عارفاً بخواصها، وكانت آثار بركة ذلك عليه ظاهرة) .
ومن الذين ظهر لي أنه استخدم السحر وعمل به رجل سماه صاحب تاج الأعراس ووصفه بـ (إعجوبة زمانه وفريد عصره وأوانه والمتحدي بولايته لمعاصريه وأقرانه، الحبيب المحبوب والفرد المطلق المجذوب محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالرحمن العطاس المعروف بالزنقلي، المقيم والمتوفى بقام دَرْمِغْوَرْ قريباً من بندر بمبي بأرض الهند، كان في أول أمره يتعبد في الغابات، وينفر من الناس كما هو شأن السالك المجد،حتى تكمل رياضته، قال: وكثيراً ما يأتي لزيارته أهل جهتنا المهاجرين من حضرموت إلى الهند العارفين بأنساب السادة آل العطاس، فلا يزيدهم على هذا وربما تجرأ عليه بعض من قبائل الجعدة، بالسؤال وقال له: نحن نعرف أنساب آل عطاس، فيقول الحبيب محمد: أين جنبيتك أين خنجرك؟ فينظر إلى قرابه فإذا هو فارغ فيقول: له الحبيب محمد انظر إلى فوق فإذا هي معلقة برأسها في ورقة من ورق شجرة عنب بفتح وسكون كان الحبيب محمد يجلس للناس تحتها وذلق الجنبية مصوَّب فوق رأس ذلك السائل فيندهش عند ذلك ثم يقول له الحبيب محمد: الزم أدبك انتهى.
قلت: وما ذاك إلا لكرامته على مولاه وثمرة إخلاصه في أقواله وأفعاله لوجه الله – قال -: (ومن كرامات الحبيب محمد المذكور أنه يستخدم الآساد على رؤوس الأشهاد ويركب عليها، ويرسلها لحراسة بعض زائريه فتذهب معهم حتى تبلغهم مأمنهم ولا تضرهم بأدنى شيء ثم ترجع إليه ولا تزال عاكفة حواليه، حتى إنها بقيت تحرس ضريحه بعد وفاته ولا تتعرض لزوّاره بسوء وهم كذلك، ويأتون لها باللحوم غالباً كالهدية، وكان يقول لي: إنه لا يستريح إلا بحضرة الذكر أو قراءة المولد النبوي ومَن جاور عنده يحثه على الطاعات وأداء الصلوات في أوقاتها، وإذا علم أنه يتهاون بها حالاً يطرده من القرية بالكلية، وقد قال لي مرة في معرض التبجح: مَنْ الذي من الأولياء الأحياء بايبارز عمك -هذا وأشار إلى نفسه- الذي رأسه مثل القروفاني أبرز له، وأما الأموات معنا لهم مدفع شرشرة عمر بن عبدالرحمن العطاس - قال -وكان عادته أنه إذا انتهى السمر أول الليل يختم ذلك بالذكر، ثم يدخل إلى سرير له في ذلك المكان فيرقد عليه، وكان يحذرني أشد الحذر أن يدخل عليه أحد أو يحرك سريره؛ لأنه إذا رقد فيه لم تسمع له فيه حركة ولا نفس ولا صوت، حتى يظهر عمود الفجر الصادق فيرتعش عند ذلك وتتحرك جثته في سريره فيهلل ثم يقوم ويبتدئ في تفقد شؤون المنزل وترتيب أهل الوظائف والحراثة، ولم أره يصلي ظاهراً على أعين الناس، فلما أخبرت أخي صالح يعني صاحب المناقب بذلك قال لي: إنه أي الحبيب محمد المذكور من الذين تتجزأ أشخاصهم شخص منه يعبد الله، وآخر يقوم بخدمته وإصلاح شؤونه ووظائفه العادية، وهذا مقام معروف عند الأولياء، ثم استشهد بقول سيدنا عبدالله الحداد:
وسلِّم لأهل الله في كل مشكل لديك لديهم واضح بالأدلة
ثم قال: وخرج لموادعتي إلى بعض الطريق بمقدار مسافة العدوى، فمرينا براعي غنم فدعاه الحبيب محمد وأعطاه إناء من نحاس وأمره أن يحلب فيه شيئاً من اللبن فأتاني به، فمال بنا الحبيب محمد عن الناس إلى تحت شجرة هي موجودة عندنا في حضرموت بكثرة ثم أخذ شيئاً من ورقها ووضعه فوق اللبن ثم أمرني بقراءة آية كذا من القرآن الحكيم فقرأتها فجمد ذلك اللبن وصار سبيكة من أجود أنواع الفضة وقال لي: (إن أرضكم ****ة المعاش فإذا احتجت إلى شيء من الدراهم فأعمل هكذا وأجازني في ذلك من غير شرط ولا قيد، فقبلت منه الإجازة امتثالاً لأمره واستودعت منه ورجع إلى منزله، وبقيت أنا انظر إليه وأفكر في الدنيا وسرعة زوالها فما غاب عني شخصه حتى حلفت بالله أن لا أفعل ذلك، ولا أعلّمه أحداً خوفاً من الطغيان، فلما أخبرت أخي صالح بذلك قال: إن الدنيا لا تطغينا ولا نطغى معها، فقلت له: إن أردتني أفعل ذلك فعلته وكفرت عن يميني، فقال: إن الدنيا كلها لا تساوي حنثك في يمينك) .
قلت: من خلال النظر إلى تلك الحكاية نجد فيها أموراً:
أولها: ما نجده من المجاهدة الشديدة والرياضة الشاقة التي اتبعها، وهي أمر مشترك بين صوفية المسلمين وصوفية الهند،والذين بواسطتها يصلون إلى مرحلة من الروحانية التي تنخرق لهم بسببها العادة، ويصلون إلى فنون من معرفة الغائبات والتصرف في بعض الكائنات بما يشبه السحر أو به على الحقيقة، وقد ألمح الشعراني إلى أن بعض الطامحين في حصول الكرامات يتبعون تلك الطريقة للحصول على الخوارق .
وثانيها: نجد تلك (الكرامة) التي هي في الحقيقة إرهاب فكري يسلطه على من يعارضه ولا يعترض عليه على جهة التحدي، هذه في نظري ليست من صفات الأولياء الذين يحرصون على الخمول والتواضع وإخفاء كراماتهم إن وجدت، وإنما هي بحال السحرة والمشعوذين أشبه.
ومثل ذلك خدمة الأُسُود، وقد عرف عن أهل الهند أنهم يسحرون الوحوش من أسود وغيرها حتى تطيعهم وتمتثل أمرهم وتخدمهم، وما يحصل في السيرك شاهد على ذلك.
ثالثها: تحديه الأولياء الأحياء والأموات هل من الولاية والتقوى والصديقية أن يكون الولي مخاصماً لإخوانه الأولياء متحدياً لمبارزتهم وغلبتهم؟.
رابعها:كونه لم يشاهده يصلي في الظاهر حسب زعمه، لِمَ لم يصلِّ في الظاهر؟وعند الصوفية قاعدة لتبرير جرائم أوليائهم هي أن ذلك من (الملامتية) أي الذين يعرض نفسه لّلوم حتى لا يظهر عمله خوفاً على نفسه من الرياء والافتتان، وهي قاعدة باطلة، ولكن هذا الرجل لا يجري أمره حتى على هذه القاعدة الباطلة؛ لأنه غير متخفٍ بولايته بل مظهرها متحدياً بها، يستخدمها لإرهاب الناس، فلماذا لا يتخفى بالولاية التي كانت طريق الأولياء حقاً إخفاؤها؟وإنما يخفي الصلاة التي لا يجوز بحال تركها خوفاً من الرياء أو من غيره، بل الرجل المسلم وولي الله مطالب بأدائها مع جميع المسلمين  وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين  ، فالشاهد يقول إنه لم يره يصلي ظاهراً! فكيف يكون ولياً من لم يُرَ يصلي لمدة سنة على الأقل مدة إقامة ذلك الرجل عنده؟! وهل يكفي في إعفائه عن ذلك أن من الأولياء من يتجزأ، فجزءٌ يعبد الله، وجزء يتصرف في إصلاح شؤونه الأخرى؟‍‍‍! هل هذا الأمر يعفي من شاء من الأولياء من الصلاة في الظاهر؟، إذن هو ليس بولي أصلاً أو هو ولي من أولياء الشيطان.
والذي يؤكد الاحتمال الأخير ويؤكد زعمي أن الرجل يستخدم السحر القصة الأخيرة وهي القراءة على اللبن حتى يتحول إلى سبيكة فضة متى شاء!، إنّ هذا من السحر ولاشك ولا يغرنك أن المقروء آية من القرآن فالقوم لاينزهون القرآن عن استخدامه في السحر، وانظر شمس المعارف وغيره ترى كيف تخلط آيات القرآن بالألفاظ الأعجمية التي لا تعرف معانيها، بل بالشرك بشياطين الجن والإنس.
خلاصة الأمر أن هذا ضرب من السحر وإن كان قطب زمانه الحبيب صالح بن عبدالله العطاس قد تمنى لو أن أخاه استعمله.
وفي الهند أيضاً ولي آخر أتقن عدداً من علوم السحر والكهانة هو عبدالله بن حسين بن محمد بن علي بن أحمد المعروف كسلفه ببافقيه، قال عنه الشلي: (وكان - رحمه الله تعالى - من علو همته أنه لا يسمع بشيء إلا وأحب أن يقف على أصله ومادته، ويتطلب أربابه من سائر الآفاق حتى أحكم علم الرمل والهيئة والأسماء والأوفاق، واجتهد في علم الكيمياء غاية الجهد،وجد في طلبه من تهامة ونجد، ويقال أنه ناله وأصاب غرضه من بعض أهل الرياضة) .
ومنهم ولي آخر،قال عنه صاحب المشرع: (محمد بن علي بن هارون بن حسن بن علي بن الشيخ جمل الليل أحد خلفاء الله على عباده، وأمنائه على فيوضات إمداده،أمده الله بمواد نعمه الوافرة، ومنحه نعمه الباطنة والظاهرة)، هذا الولي - خليفة الله على عباده – ذكر في ترجمته تعلمه علم الأسماء الشريفة والاوفاق واستعماله، بما لا يدع مجالاً للشك، قال: (وحكي أنه كان يُحْكِم علمَ الأسماء الشريفة والأوفاق ويتصرف بها، وكان يفتح القفل والضبة من غير مفتاح، ولما مات السيد عبدالله بن الطيب بمكة وكان ماله في مخازن مقفلة ولم يجد الوصي مفاتيحها ففتحها له صاحب الترجمة، وقال عبدالرحمن الجون كنا بطيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فإذا ضاع علينا مفتاح الرباط أو الخلوة فتحه السيد محمد باهارون باسم الله تعالى، وإذ جاء مَنْ به علة أو مرض وقرأ عليه عوفي من ذلك، وكل مَنْ أصابه أذى من أنسي أو جني وأتى إليه يقرأ عليه أو يدعو له فلا يعود عليه، وكل من ضاع عليه شيء أخبره بموضعه،وجاء إليه بدوي فقال له: ندَّ بعيري وطلبته في الأماكن المعهودة فلم أجده، فقال: هو في وادي كذا، فذهب إليه فوجده فيه، وضاع على بعض التجار حمل سمسم فطلب من السيد أن يدعو له فأخبره بمحله فذهب إليه فوجده، وكان كل من خطر بباله شيء بحضرته كاشفه به،كان له شهرة تامة في الحرمين والديار اليمانية، وكانت ملوكها تعتقده لا سيما صاحب دثينة فــإنه لمـا أتى إليه - كانت بلده كثيرة السرقة - فكان كل من سرق أخبره به السيد فعُدم السراق فيها،وأقام بها وولد له فيها أولاد، وكان له مكارم عظيمة وأيادي جسيمة ومنح كريمة...) .
كما قلت سابقاً كونه يوجد من يستعمل السحر هذا ليس غريباً، ولكن أن يجعل ذلك الساحر من أولياء الله هو الغريب والدال على فساد منهج القوم في تعريف وتحديد الكرامات والأولياء، ويشكك في أكثر الذين يصفونهم بالولاية وينقلون عنهم كثيراً من الكرامات وخصوصاً التي لا تليق بأولياء الله حقاً أو التي يحيل العقل وقوعها على يد المستقيم الصالح.
تنبــــيــه:
قد صرح السيد أحمد بن حسن العطاس أن عادة سلفهم العلويين عدم التصرف بشيء من ذلك، كما جاء في تذكير الناس فقال: (وبلغنا أن الحبيب عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه الذي قال فيه الحبيب عبدالله الحداد: والله ما في الأكوان مثل عبدالرحمن، كان له اطلاع على جملة من العلوم الظاهرة والباطنة، وله اطلاع أيضاً على علم الكيمياء وما أشبهه من العلوم، ولكنه لم يتصرف بشيء من ذلك كعادة سلفه العلويين، مع ما عرفه من علوم العقل والنقل والباطن والظاهر، وسلفنا  لا يميلون إلى علم الكيمياء، وليس هو طريقهم، ولا يتعاطون إلا الأسباب الظاهرة، ولا يتوغلون فيها، ولما كنت بمكة وقت الصغر والفراغ تعلمت أنا وجماعة شيئاً من علم الأسماء، وعملت بها ليلة فظهر عليّ أربعة نفر من خدمتها، وقالوا ما حاجتك؟ فقلت: لهم لا حاجة لي إليكم، ولم أعمل بها من بعد ذلك، ثم سألني جماعة، وقالوا: هل رأيت شيئاً؟ قلت نعم رأيت كذا وكذا، فقالوا: أما نحن فما رأينا شيئاً.
ويحكى أن الحبيب عبدالله بن عمر بن يحيى أتاه بعض أهل ذلك الشأن، وأعطاه مسرجة وقال له: إذا بدت لك حاجة فأسرج فيها، فأخذها منه وأسرج فيها ليلة، فحضر حولها أربعة نفر، فسألهم من أنتم؟ قالوا: نحن خدمة هذا السراج، ما حاجتك؟ قال: إيتوني بكيس ريالات من البحر، فغابوا ساعة وأتوه بها تقطر ماء ووضعوها بين يديه، فنظر إليها ثم أمرهم بردها إلى البحر، فردوها وقالوا له: هل لك حاجة أخرى، وإلا فأطفئ الشمعة فإنها تحرق أجوافنا، فأطفأها وذهبوا، فلما أصبح جاء إلى خاله الحبيب عبدالله بن حسين بن طاهر يصافحه فقبض يده عنه، فقال: لم لا تصافحني؟ قال هات المسرجة التي معك، فأتى بها إليه فأمره أن يكسرها فكسرها، زهداً في الدنيا وثقة بالله وما عنده) .
قلت: أما ما ذكره من قصة عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه فيرده ما جاء في تاج الأعراس حيث قال- وهو يتحدث عن عبدالرحمن بلفقيه المذكور-: (ثم توجه إلى مكة ولما كان يوم الوقوف بعرفات وقعت قضية حار فيها أهل الموقف كلهم، وقع رصد على النار فلم توقد لهم ذلك اليوم نار، فاجتمع علماء مكة مع الشريف أي أمير مكة وقالوا: ما لهذه القضية إلا السيد عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه، فقال لهم: دوِّروا له، فدوَّروا له في الموقف، فوجدوه جالساً تحت شجرة متظللاً بثوبه من الشمس، فقالوا له: أجب الشريف، فقال وما ذاك؟ فأخبروه بالواقعة، فقال: لهم هاتوا جريدتين من جريد النخل فكتب عليهن شيئاً وأمرهم أن يتبعوها بالخيل،وقال لهم: تنتهي بكم إلى مكان فيه رجل يكتب "يرصد على النار" خذوا ما بيده وأمحوه، فمشت قبلهم وتبعوها حتى أوصلتهم إلى مكة فوجدوا رجلاً يكتب كما وصف لهم فأخذوا ما معه ومحوه فانحل العقد في الحال) ، فظهر من الحكاية أن الرجل مشهور بذلك ومعروف، ولذلك دل الشريف عليه واستخدم ذلك ونجح فيه.
وأما الحكاية الثانية - حكاية أحمد بن حسن العطاس وتعلمه ما تعلم من علم الأسماء - فهو دليل أن البعض كانوا يتورعون عن ذلك، وأنا أوقن بذلك، وما قلت ولن أقول أن الجميع سَحَرة أو أنهم يعرفون تلك العلوم ويعملون بها.
ومثل ذلك قصة عبدالله بن عمر بن يحيى وخاله عبدالله بن حسين بن طاهر فهاتان القصتان تدلان على أن من القوم من يتورع عن ذلك، وما سبق من حكايات أخرى تدل على أن جماعة منهم وممن يعدون من كبارهم وأقطابهم يمارسون ذلك ويتصرفون به حسب تعبيرهم وما يصدر عنهم من ذلك يحسب عند أتباعهم ومروِّجي دعاياتهم من الكرامات الخارقة وأدلة على قربهم من الله وإكرامه لهم، مع أن هذا مادام صادراً عن ذلك النوع من السحر إنما هو من عمل الشيطان وتسويله،ودليل بُعد عن الله لا قرب منه.
ومما يلتحق بذلك ما هو مشهور مما يفعله المجاذيب المنتسبون لابن علوان مِن طعن أنفسهم بالحراب والخناجر في عيونهم وأماكن أخرى من أجسادهم، فإن ذلك من السحر أو ما يلتحق به، وهم عندما يفعلون ذلك يقولون: (سرك وبحرك يا ابن علوان) أو كما يقولون، أي لتكن هذه الصفات في بحرك أي نتلقاها بحالك أي مما أكرمك الله به من التصريف.
وقد حكم العلامة حسين بن عبدالرحمن الأهدل على ذلك بأنه أحوال شيطانية فقال - وهو يتحدث عن السيد أحمد الرفاعي -: (وتبعه خلق أحسنوا الاعتقاد فيه ولهم أحوال عجيبة من أكل الحيات حية، والنزول في النار وهي تضطرم فتطفئ، ويركبون الأسد، ولهم مواسم يجتمع بها عندهم عالم كثير قلت: الأحوال المذكورة أحوال شيطانية كما ذكره الحافظ ابن تيمية ثم الذهبي فاعلم ذلك والله أعلم) .
قلت: فهذا الحكم ينطبق على أفعال مجاذيب ابن علوان لعدم الفارق والله أعلم.
المطلب الثالث: إثبات أن منهم من يستخدم الجــن:
استخدام الجن دائر بين السحر والكهانة، وقد سبق الكلام عن السحر وأشهر نوع مستخدم منه عند قبورية اليمن، هو علم السيمياء أو علم أسرار الحروف والأوفاق، وسبق كذلك أن منهم من يحسن الرمل وهو من علوم الكهانة، وربما كان هناك أنواع أخرى من تلك العلوم لم يُفْصَح عنها. وأحبُّ أن أضيف هنا أن هناك نوعين آخرين من استخدام الجن على اعتبار أن ذلك من الكرامات.
أما النوع الأول: فهو الاستخدام المباشر للجن واعتبار ذلك من كرامات المستخدم لهم، وعندي عليه حكايتان لشخص واحد ذكرهما صاحب تاج الأعراس.
أما الأولى: فذكرها أثناء كلامه عن مساعي آل العطاس في الصلح بين القبائل قال: (فلما وصل الركب قبيل المغرب إلى محلة تلك القبيلة تشاور رجالها أن يغلقوا أبوابهم في وجه الركب العطاسي، فحاول السادة قرع الأبواب والنداء بأسماء كبرائهم فلم يجبهم أحد فغضب رجال الركب بأجمعهم لهذا الجفاء، ونادى الحبيب أحمد بن حسن بأعلى صوته متحمساً: (أين سالم بن محسن وجنه) وكان حاضراً في مقدمة رجال الركب فعند ذلك التبس الحبيب بحال مهيب وأخذ يحرك يده يميناً وشمالاً فانطلق مزنقب في داخل تلك الديار على أهلها بالصيحات المفجعة التي كادت تجن منها نساؤهم وصبيانهم فخرج رجالهم في الحال إلى محطة الركب، وقدموا لهم العدايل – العرابين - فيما سبق منهم، وما لحق من الخطأ على مقام العطاس، وبات الكل على خير سمر،وعادت المياه إلى مجاريها) .
والقصة الثانية: ما وقع لذلك الرجل نفسه بمكة مع أميرها الشريف عون، قال العطاس: (ومنها ما وقع للحبيب سالم المذكور مع أمير مكة الشريف عون وكان مشهوراً بالبطش من غير تفكير في القضايا، فحينما دخل الحبيب سالم إلى مكة لأداء حجة الإسلام قيل له: إن الشريف عون قد منع دعوى السيادة والمخاطبة بلقب سيد بتاتاً وأنه يعاقب من بقي مصراً على ذلك، فقال الحبيب سالم: إنما جئنا إلى هذه البلاد لنؤدي ركناً من أركان الإسلام ونزور شفيع الأنام ونزداد شرفاً إلى شرفنا، وأنه لا مسوغ لي في ترك لقبي الذي وضعه علماء المسلمين على أهل بيت نبيهم كما أني لا حاجة لي بالشريف عون، فانتشر كلام الحبيب سالم بين الناس وسرعان ما بلغ الشريف عون فاستدعى الحبيب سالم وقال له: أنت القائل كذا وكذا، قال: نعم، قال برهن لي الآن على أنك من أولاد فاطمة عليها السلام فنخس الحبيب سالم الجدار، وقال: صب الماء يا مزنقب من هاهنا، فما تم كلمته حتى ثجا الماء بقوة وأخذ يفترش في جوانب المجلس أي غرفة استقبال الناس ويطفى على الفرش الملكية الثمينة، والشريف يقول: الأمان الأمان، يا سيد سالم أنت سيد أنت حبيب، فضرب الحبيب سالم الجدار ثانياً وقال: يكفي وخرج من عند الشريف والشريف مبهوت مما رآه، فدخل على الشريف بعض أعوانه في ذلك الحين وقال له: إن هذا من عمل السحر ثم دخل عليه أحد علماء مكة في حاجة له فأخبره الشريف بما وقع وما قيل، فقام العالم ونظر إلى الخدم يغرفون الماء وينشرون الفرش المبلولة في الشمس، فقال للشريف: يا مولانا هذه كرامة من الله لهذا السيد فإن السحر لا جرم له وإنما هي خيالات تتراءى للناس كما وصفه الله بذلك في كتابه العزيز في قوله:  سحروا أعين الناس  وفي الآية الأخرى:  يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى  أي والحال أنها واقفة واستشهد له بمجيء الذي عنده علم من الكتاب بعرش بلقيس فانبسط الشريف بجواب هذا العالم) .
فانظر إلى ما هو مغروس في فطر الناس من استنكار ذلك وعدّه من أعمال الشياطين، وقارِنْه بما جاء به ذلك العالم من التأويل واعتبار أن ذلك كرامة باعتبار أن السحر ليس له حقيقة وإنما هو خيال وخداع، وهذا خلاف ما عليه أهل التحقيق من أن الساحر قادر على أن يعمل أشياء لها حقيقة ووجود في الخارج، وأما اعتبار المصنف ذلك من قبيل ما حصل لجلساء سليمان من نقل عرش بلقيس فإنه مع الفارق الكبير جداً، كما أنه ما كان ليسلّم لولا أن الله ذكره في القرآن وهو الخبر الذي لا يُكَذّب.
والنوع الثاني: استخدام الجن لخدمة أضرحة الأولياء، وهذا النوع من أخطر مكائد الشيطان للمتعلقين بالقبور والأولياء، كما أنه كان من أعظم مكائده لعباد الأصنام حيث كان يتلبس بالأصنام ويخاطب عبّادها ويخبرهم ببعض الأمور ويجيبهم على بعض أسئلتهم، وربما حقق لهم بعض ما يطلبونه منها، وفي هذا السياق نفسه نجد أن الشيطان كاد المتعلقين بالقبور وبالذات الذين يدعون أصحابها فنجد أولئك الشياطين يأتون إلى أولئك المستغيثين في صور الأولياء الذين استغاثوا بهم فيوقنون حينها أن الذي أغاثهم واستجاب دعاءهم هو الولي بينما هو أحد خدام ضريحه.
واسمع إلى هذه الحكاية التي يرويها أحمد بن حسن العطاس قال صاحب التذكير: (وقال : سافر الحبيب طالب بن حسين بن عمر بن عبدالرحمن العطاس، وهو أصغر أولاد الحبيب حسين بن عمر إلى صنعاء اليمن، فصرعت في ذلك الوقت بنت للإمام بسبب الجان، فأحضروا أهل العزائم والطلاسم، وبذلوا وسعهم فنطق الجني على لسانها، وقال: لا أخرج من هذه البنت إلا إن جاء حبيبي طالب بن حسين العطاس، فقالوا:وأين حبيبك هذا؟ فقال: هو مقبل عليكم في هذه القافلة التي تجيء من حضرموت إلى صنعاء بعد يومين أو ثلاث.
فأمر الإمام فرساناً من عنده يخرجون لتلقي القافلة، والاستخبار عن الحبيب طالب بن حسين، فلما بلغوا إلى القافلة وجدوه فيها فقالوا له: نحن رسل الإمام إليك لتحضر إلى بيته سريعاً، فقال لهم وما الخبر؟ فأخبروه به، لئلا ينزعج فركب معهم، ولما وصل إلى صنعاء استقبلوه بالإكرام، وطلب منه الإمام معالجة البنت وأدخلوه إلى المنزل المعد لها فحين بدا وجه الحبيب طالب من الباب نطق الجني، وقال مرحباً بحبيبي طالب بن حسين بن عمر بن عبدالرحمن، فأخذ يوبخه، ويقول له: لاحياك الله تعمد إلى هذه الشريفة وتؤذيها وتؤذي أهلها، فقال له:لا تعجل عليَّ واستخبرني أولاً عن بلادك حريضة وأهلها فإني خرجت منها بعد سفرك بأيام، فقال له: هات ما عندك فقال له: بعد مسيرك وقعت الرحمة وسالت الأودية، وشربت حريضة، وفلانة توفيت، وأخبره بأخبار كثيرة، فقال له ومن أنت، فقال أنا من أخدام عمك سالم بن عمر مولى حميشة وأنا من التسعة النفر الذين حضروا المكسر في جربك الفلاني لما اهتريت وقلت:يا سالم بن عمر يا ذخري، وربدنا المكسر حقك، قال له:مرادنا خروجك حالاً من هذه البنت، واعطنا العهد والميثاق على أنك لا تعود، فقال: أما إذا جئت أنت فلا عذر لي عن الخروج، وعاهده على أن لا يعود أبداً، وخرج منها، فقامت البنت كأنما نشطت من عقال، وأكرمه الإمام إكراماً عظيماً، وأعطاه أربعمائة أو خمسمائة من الأشرفيات، وأعطاه جبباً من أكسية الحرير وطاسة شراب، فيها كتابات نفيسة، وهي موجودة عند ذريته إلى الآن) .
وفي هذه الحكاية دلالتان:
الأولى: أن الجن المسخرين لبعض من زعم الولاية أو لبعض الأسر تخدمهم بما يحقق لهم الشهرة والجاه، وعلى ذلك فكثير مما يذكر من كرامات لبعضهم مثل أن فلاناً أصيب بمرض ثم جاء فلان فضربه أو تفل عليه فقام كأنما نشط من عقال وأن فلاناً جُنَّ أو تلبست به الجن...الخ ومعظم ذلك من هذا القبيل فلا كرامة ولا ولاية ولكنها كهانة وتسخير للجن بواسطة السحر أو نحوه.
الدلالة الثانية: أن ما يشاهده ويحس به المستغيث بالأولياء والصالحين من حضور أولئك المستغاث بهم إنما هم شياطين تصوروا بصورهم وأدوا عنهم تلك الخدمة ليعلقوا الناس بأولئك الأولياء، وهذا واضح من سياق الحكاية فالرجل (اهترا) أي دعا ذلك الولي وهو مكروب حيث كسر جربه ويخشى أن يتسع الكسر فاستغاث بمن يعتقد فيه فحضر عنده تسعة نفر لرد الكسر وإصلاح الجرب، ولذلك فسوف يزداد اعتقاداً في ذلك الولي وسوف ينقل ذلك ويشيعة بين الناس وتنتشر له بذلك دعاية كبيرة، وسيترسخ بذلك اعتقاد الناس فيه بأنه ينفع من استغاث به، وهذا هو الشرك الذي لا يخالف فيه أحد من المتقدمين أو المتأخرين ويشهد لهذا الاستنتاج شواهد أخرى:
الشاهد الأول: ما حدثني به أحد أحفاد الفقيه علي بن محمد المالكي صاحب الحوطة من مديرية ميفعة محافظة شبوة والمعروف اختصاراً (بالفقيه علي) قال: كان هناك جماعات من العبيد أو الأخدام كانوا يعتقدون في الفقيه عليّ ويزورونه في مواعيد محددة وربما تأخروا بعض السنين، فإذا حصل ذلك وجاءوا في السنة التي بعدها هم ونساؤهم فإنهم عند دخولهم إلى الضريح يتلبس الجن بنسائهم فيُصرعن حتى يأتي أحد ذرية الشيخ المذكور أياً كان منهم فيضرب النساء قائلاًنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةنقضى يا فقيه علي) وعند ذلك يفقن ويتخلى عنهن الجن دون أي علاج آخر أو قراءة.
وواضح من هذه الحكاية أن أولئك الجن موكلون بذلك الضريح من أجل ترسيخ الاعتقاد فيه بين الناس الذي قد تهيأت نفوسهم له.
الشاهد الثاني: ما حدثني به كذلك أحد أحفاد الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب عينات قال: كان أبي إذا مرض يهتري بجده أبي بكر بن سالم، وفي أحد أمراضه تأخر الشفاء رغم اهترائه المتكرر، فاهترى بشخص آخر فبينما هو كذلك إذ سمع جدلاً بين شخصين لا يراهما، يقول أحدهما: أنا أتولاه، ويقول الآخر: بل أنا أتولاه، أنا أحق به فهو من ذرية مخدومي أبي بكر بن سالم).
إن هذه الحكاية صحيحة إن شاء الله حدثني بها ابن ذلك الرجل الذي كان مريضاً وهو ثقة معروف بالاستقامة وجرى له ما جرى ودلالتها واضحة في التأكيد على ما قلته سابقاً من وجود خدام لأضرحة الأولياء، ولو تتبعنا لوجدنا الكثير والكثير من مثل هذه الشواهد ولكن نكتفي بهذا إذ به يحصل الغرض.
المطلب الرابع: إثبات أن علوم السيمياء وأسرار الحروف والأوفاق من علوم السحر:
تقدم في المطلب السابق استخدام قبورية اليمن لعلوم السيمياء وأسرار الحروف والأوفاق وأنهم شاركوا في التنجيم والتسخير واستخدام الجن، وفي هذا المطلب نثبت إن شاء الله أن تلك العلوم من علوم السحر وبعضها من الكهانة، ثم نردف ذلك ببيان الحكم الشرعي لها.
أما علم أسرار الحروف وعلم الأوفاق فإنهما يرجعان إلى شيء واحد وهو علم الأوفاق، إذ عرّفوا الوفق بأنه: (علم يتوصل به إلى توفيق الأعداد والحروف، واستوائها في الأقطار والأضلاع وعدم التكرار غالباً) ، قالوا: (ومصطلح الأوفاق يطلق على اللفظية والحرفية والعددية والغرض منها هو العددي والحرفي، أما اللفظي فلا يطلق عليه اسم الوفق إلا على طريق المجازية) .
وقد عرّف الأنطاكي علم الحروف فقال: (علم الحرف علم باحث عن خواص الحروف إفراداً وتركيباً، وموضوعه الحروف الهجائية ومادته الأوفاق، والتراكيب وصورة تقسميها كمّاً وكيفاً وتأليف الأقسام والعزائم وما ينتج منها، وفاعله المتصرف، وغايته التصرف على وجه يحصل به المطلوب إيقاعاً وانتزاعاً، ومرتبته بعد الروحانيات والفلك والنجامة) .
وقد صرَّح بأن هذا العلم من علوم السحر العلامة ابن خلدون، والإمام الصنعاني حيث قال - بعد أن نقل تعريف الأنطاكي -: وهذا شأن الأسحار والابتداع، لا شأن الطريقة النبوية والاتباع، ومعلوم أنها طريقة سحرية إذ المطلوب بها أمور دنيوية محضة من جاه عند العباد، وجلب رزق من أيديهم، وإلقاء المهابة في قلوبهم وغير ذلك، ولا يتم إلا بالرواتب بألفاظ غير مأثورة بل غير لغوية، فإن من ألفاظ الرواتب ما ذكر البوني في (اللمعة النورانية) في دعوات الثلث الأخير من ليلة الثلاثاء أن تقول: " هو هو هو هو ولا لا لا لا أو آه آه آه آه آه أو ها ها ها ها ها " وكل دعاء فيها فإنه يلاحظ فيه أحوال الكوكب التي ساعة النداء ساعته، وكل ذلك الدعاء خطاب للنجوم، وإن رأيت فيه ألفاظاً من أسماء الله فليس المراد به الرب تعالى، وإنما هو على طريقة الذين يدعونهم الحكماء وهم المشركون عباد الأفلاك، فإنه قال البوني في " لمعته " في سياق ساعة عطارد: وهي الثالثة من يوم الأحد ثم ذكر خاتم عطارد وأنه عند الحكماء وأن شكله على هذه الصورة ومعدنه الزئبق، وحجاره الزمرُّد الأخضر، وبخوره العنبر، ومداده اللازورد انتهى.
وله في كل كوكب من السبعة مثل هذا خاتم وشكل، وبخور ومداد، وكل مؤمن يعلم يقيناً أن هذا ليس من الشرع المحمدي، وأنه من طرق الكهانة والسحر والخطاب للكوكب وأنه الفعال، فإذا لم يكن هذا من المحرمات فأي شيء الحرام؟!!) وأما ابن خلدون فقد تقدم كلامه في أول هذا المبحث.
ومما يؤكد أن علم الحروف والأوفاق من السحر ما جاء في كتاب " سر العالمين "المنسوب لحجة الإسلام الغزالي حيث قال: (أما السحر فهو عمل وكلام تداولوه بينهم في أوقات معلومة وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة، فإذا أردت أن تولد طلسماً يصلح لما تريد، فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفاً،فإذا اجتمعت لك في التأليف ثلاثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد، فانظر في الإسطرلاب عند ساعة التأليف، فهو يصلح لما دلت عليه الدقيقة من الساعة، ومثال: أ ب ت ث فتأخذ الجيم، والثاء أليق عوضاً عن الجيم، ج ح خ خذ الصاد، ص ط ظ خذ العين، فيصير عقرباً، لتدوير الحروف، فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب تكف خاميتها عنك أذى النساء، ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه الملسوع وتلقي به سواءً بين من أردت، وترش من مائه على سطح المبغض أو طريقه أو داره فإنه ستضرر منه سنة...
" ذِكْرُ كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم " تأخذ أفرداً من شعير حزام، وتقول عليه أربع مرات:" ها طاش ماطاش هطاشنة، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "، وترميه من حيث لا يشعرون، وتنظر ما يصنع الله... وكثير مثل هذا، وقد حصرناها وشرحناها في كتاب " عين الحياة " وهو صغير الحجم كثير الفوائد.
ومما قال: " واعلم أن هذه الصناعة " صناعة الإكسير " هي صناعة ربانية لا يقدر عليها إلا الأبدال والرجال والأبطال الذين كشف الله الرين عن عيون قلوبهم، وهذه لا تصح إلا للطائع... ونحن نذكر خواصاً دالة مظهرة لبدائعها وصناعتها مذكورة في كتاب " عين الحياة ") .
وللتأكد أكثر خذ هذه الشذرة من عقد " شمس المعارف الكبرى " عمدة القوم الذي يروونه بالسند ويجيز فيه أكابر مريديهم قال:
(باب رياضة " قل أوحي " المشهورة)
اعلم أيها الأخ إذا أردت ذلك، صم ثلاثة أيام أولها الثلاثاء ثم الأربعاء والخميس، وهو صيامك عن غير ذي روح، وأن تتبخر بحصى لبان وجاوي ليلاً ونهاراً، وأنت تقرأ السورة الشريفة في مدة ثلاثة أيام ألف مرة في تلك المدة المذكورة... واجتهد أن يكون ختمك من قراءتها ليلة الجمعة الثلث الأوسط من الليل، فإنه يحضر لك خادمها، وهو رجل قصير طويل اليدين، فيجلس قدامك، ويقول لك: " السلام عليك "، فثبِّت جنانك، فإن عليه هيبة عظيمة... والعزيمة والدعوة هي السورة الشريفة بتمامها وكذا البخور. واعلم أيها الواصل أنها من الأسرار المختصة وأنها من كتب الأنبياء والأولياء وأسرارهم، وهي هذه تقول: " بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي... "، اللهم إني أسألك يا منزل الوحي من فوق سموات...، " إلا من ارتضى من رسول... وأحصى كل شيء عدداً " اللهم إني أسألك بحق المساجد لله وبحق عبادك الصالحين... يا خدام هذه الدعوة الروحانيين... أقسمت عليكم بهذه الدعوة والأسماء والسورة بحق أرقوش، كلهوش، بططهوش، كمطهلوش، بهوش، قانوش، أقسمت عليك ياروقيائيل الملك الموكل بفلك الشمس) ، فهذه هي حقيقة علم الحروف والأوفاق ويدخل فيها التسخير.
يظهر مما مثل به لهذه العلوم أن فيها استعانة بالشياطين ووضع آيات الله تعالى في غير مواضعها، والضرر الكبير بعقيدة الساحر وعقيدة من يأتيه ومن يتعامل معه، وحتى أختصر الطريق فإني أنقل كلام نخبة من العلماء يقررون حكم تعاطي السحر وينقلون الإجماع على تحريم تعلم السحر والعمل به وإتيان السحرة.
يقول ابن قدامة في المغني: (تعلم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم،قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته) .
وقال النووي: (عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع).
وقال الذهبي: (الكبيرة الثالثة: السحر؛ لأن الساحر لابد وأن يكفر، قال الله تعالى  ولكن الشياطين كفروا  ، وما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به، قال الله تعالى عن هاروت وماروت:  وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه إلى أن قال:  ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ... الآيات، فترى خلقاً كثيراً من الضلّال يدخلون في السحر ويظنون أنه حرام فقط وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعلم السيمياء وعملهاوهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال) .
وفي كلام الذهبي فائدة كبيرة هي: التنصيص على أن السيمياء من السحر الذي ذلك حكمه.
وقال الحافظ ابن حجر: (وقد استُدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو الكواكب، أما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً) .
المطلـب الخامـس: تعريف الرمل وأنه من علوم الكهانة وبيان حكمه في الشرع:
تعريــف الرمــل:
(هو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال بأشكال الرمل وهي اثنا عشر شكلاً على عدد البروج) ، وقد أدخله بعضهم في علوم التنجيم وعده بعضهم من أنواع الكهانة ولا تناقض فهو مرتبط بالاثنين وقد عد التنجيم من الكهانة.
وإذا عرفت ذلك فالكهانة محرمة بل من أكبر الكبائر، قال العلامة ابن حجر المكي: (الكبيرة الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة، والعشرون، والثلاثون، والحادية والثانية، والثالثة، والرابعة والخامسة، والثلاثون بعد الثلاثمائة: الكهانة والعرافة والطيرة والطرق والتنجيم والعيافة وإتيان الكاهن وإتيان عراف وإتيان طارق وإتيان منجم وإتيان ذي طيرة ليتطير له أو ذي عيافة ليخط له - وبعد أن سرد الآيات والأحاديث في ذلك قال-: (تنبيه):عد هذه المذكورات هو- وإن لم أره كذلك- صريح هذه الأحاديث في أكثرها وقياساً في البقية وهو ظاهر؛ لأن الملحظ في الكل واحد، والكاهن هو الذي يخبر عن بعض المضمرات فيصيب بعضها ويخطئ أكثرها ويزعم أن الجن تخبره بذلك، وفسر بعضهم الكهانة بما يرجع لذلك فقال: هي تعاطي الإخبار عن المغيبات في مستقبل الزمان، وادعاء علم الغيب وزعم أن الجن تخبره بذلك، والعرّاف بفتح المهملة وتشديد الراء قيل الكاهن، ويرده الحديث السابق: عرافاً أو كاهناً، وقيل الساحر، وقال البغوي: هو الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مواقعها كالمسروق من الذي سرقه، ومعرفة مكان الضالة ونحو ذلك، ومنهم من يسمِّي المنجم كاهناً، قال أبو داود: والطرق، أي بفتح فسكون الزجر أي زجر الطير ليتيمن أو يتشاءم بطيرانه فإن طار إلى جهة اليمين تيمن أو إلى جهة الشمال تشاءم، وقال ابن فارس: الضرب بالحصى وهو نوع من التكهين.
والمنهي عنه من علم النجوم هو ما يدّعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك، يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها وظهورها في بعض الأزمان، وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره، فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به ذلك إلى الكفر، أما من يقول: إن الاقتران والافتراق الذي هو كذا جعله الله علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فإنه لا إثم عليه بذلك، وكذا الإخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف بها الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية، وفي حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني  قال: ((صلى لنا رسول الله  صلاة الصبح في إثر سماء – أي مطر – كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر،فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال مطرنا بنوء كذا – أي وقت النجم الفلاني – فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) .
قال العلماء: من قال ذلك مريداً أن النوء هو المحدث والموجد فهو كافر أو أنه علامة على نزول المطر ومنزِّله هو الله وحده لم يكفر، ويكره له قول ذلك؛لأنه من ألفاظ الكفرة.
وروى الشيخان ((أن أناساً سألوا النبي  عن الكاهن أو الكهان فقال:" ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدِّثون أحياناً بشيء أو بالشيء فيكون حقاً، قال رسول الله : ((تلك الكلمة من الوحي يخطفها الجني فيقرها – أي يلقيها في أذن وليه – فيخلط معها مائة كذبة)).
وللبخاري ((إن الملائكة تنـزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قُضي في السماء فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوجه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)) ) .
وفي خصوص الرمل يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح مسلمنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةقوله " ومنا رجال يخطون قال:كان نبي من الأنبياء عليهم السلام يخط فمن وافق خطه فذاك " اختلف العلماء في معناه فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وإنما قال النبي  فمن وافق خطه فذاك ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي  على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه وكذا لو علمتم موافقته ولكن لا علم لكم بها.
وقال الخطابي: هذا الحديث يحتمل النهي عن هذا الخط إذ كان علماً لنبوة ذاك النبي وقد انقطعت فنهينا عن تعاطي ذلك.
وقال القاضي عياض: " المختار أن معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول لا أنه أباح ذلك لفاعله، قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن) .
وبعد هذا التصوير البسيط لتلك الأنواع من علوم السحر والكهانة التي يتعاطاها القبورية أو بعضهم وبيان حكمها من أقوال أئمة أهل العلم وهي كلها محرمة كيف يسوغ تعلمها أو تعليمها أو العمل بها أو إقرار العاملين بها؟ خصوصاً أن لها آثاراً مدمرة في المجتمعات، وإذا كان ذلك غير سائغ فكيف يُجْعل العالم بها والمتعاطي لها ولياً، وما يظهره من خوارق بواسطتها كرامات،إن هذا لشيء عجاب!.
استخـــدام الجن:
وأما استخدام الجن بالصورة التي مرت فإنما هي غالباً تقع بواسطة تلك العلوم، فتلك العلوم عمدتها تسخير الجن، وبهذا تعرف حكم من يدّعي أنه يسخِّر الجن في مصالحه، أو لما يشاء من أغراض سواءً في علاج بعض الأمراض أو إخراج السحر والجن من المصروعين والمسحورين أو كشف بعض المغيبات، أو يستعين بهم على إثبات قدرته ويتحدى بهم من ينازعه ويخوف بهم من لا يقدِّره ولا يحترمه.
وفي خصوص هذا الموضوع يقول الدكتور عمر بن سليمان الأشقر - حفظه الله - في كتابه"عالم الجن والشياطين ": (هؤلاء الذين يزعمون الولاية - والحقيقة أن الشياطين تخدمهم -لابدَّ أن يتقربوا إلى الشياطين بما تحبه من الكفر والشرك كي يقضوا بعض أغراضه.
ويذكر ابن تيمية - مجموع الفتاوى 19/35 -" أن كثيراً من هؤلاء يكتبون كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله ، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما غيرهما، ويذكر أنهم قد يكتبون كلام الله بالدم أو بغيره من النجاسات، وقد يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك، فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به،وإما غير ذلك ") .
وأختم هذا المطلب بكلام جميل حافل بالتحقيق والتدقيق مؤيَّدٍّ بالأدلة من الكتاب والسنة يلقي الضوء على كثير مما مر في هذا المطلب وما سبقه من مطالب، ويتناول مع موضوع هذا المطلب موضوعاً آخر طالما لهج به القبورية ووصفوا أجلَّة أوليائهم به، وهو التقاؤهم برجال الغيب.
قال: ابـن أبي العز - رحمه الله -: (وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه، والأكثر ون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل.
واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة، أو غيرها أو خطابها، أو السجود لها والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك، فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك، فيجب غلقه، بل سده وهو من جنس فعل قوم إبراهيم ، ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله:  فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم  وقال تعالى:  فلما جن عليه الليل رأى كوكباً الآيات إلى قوله تعالى:  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون  واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه فلا يتكلم به وإن أطاعته به الجن وغيرهم، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي : ((لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)) ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك، فقال تعالى:  وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً  قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح  فزادوهم رهقا  يعني: الإنس للجن، باستعاذتهم بهم، رهقاً أي إثماً وطغياناً وجراءةً وشراً، وذلك، أنهم قالوا: قد سُدنا الجن والأنس، فالجن تعاظم في أنفسها، وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة،وقد قال تعالى:  ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون  فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم، وأنها تنزل عليهم ضالون، وإنما تنزل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى:  ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الأنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم  فاستمتاع الإنسيّ بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك، واستمتاع الجن بالإنس تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته وخضوعه له.
ونوع منهم يتكلم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبة رجال الغيب وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين! ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين، لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين.
والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم، وتيقنوا وجودهم، خضعوا لهم.
وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء.
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا يكون الرسول هو ممداً للطائفتين، فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه.
والحق: أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن ويسمون رجالاً،كما قال تعالى:  وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً . وإلا فالإنس يؤنسون أي يُشهدون ويُرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.
ويقول بعض الناس: الفقراء يسلِّم إليهم حالهم، وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل، وما خالفها رد، كما قال النبي نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) وفي رواية ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) .
فلا طريقة إلا طريقة الرسول ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً) .
المبحث الثالث
التمايز الطبقي مظاهره ووسائل تكريسه
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: عدالة الإسلام وتسويته بين النـاس:
إن من أعظم المبادئ التي جاء بها الإسلام العدل بين الناس والتأكيد على المساواة بينهم من حيث الأنساب، فهم كما قال النبي : ((لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) ، وحذر من الفخر بالأنساب فقال: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبّية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب)) ، وأبان الحكمة في جعلهم شعوباً وقبائل وأنها لمجرد التعرف فيما بينهم وجعل علة التكريم والتفاضل بينهم هي التقوى قال تعالى:  يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير  ومع ذلك أكد على أخوَّتهم ووجوب العدل بينهم فقال:  إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون  وأكد وحدتهم فقال:  وإن هذه أمتكم أمة واحدة  وأبان النبي  أن الميزة في الآخرة بالأعمال لا بالأنساب فقال: ((ومـن بطأ بـه عمـله لم يسرع به نسبه)) وأنذر فاطمة فمن دونها من قرابته بأن مجرد قرابتهم له لا تغنيهم يوم القيامة فقال: ((يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لاأملك لكم من الله شيئا)) وإذا كان هناك فضل بالنسب،وهذا الفضل قد حدد وفصل، وجب على الأمة الاعتراف به وأدائه كما ينبغي،كالخصائص التي خص بها أهل البيت من حبهم واحترامهم والصلاة عليهم وحقهم في الفيء والخمس ومنع الزكاة عليهم، هذه الأمور معروفة وقد أقرها المسلمون وعملوا بها أو على الأقل أثبتوها في كتب العقائد والأحكام وطالبوا الأمة بأدائها، وما تكونت بسبب ذلك طبقة متميزة مترفعة على الناس بحكم نسبها في القرون الفاضلة ولا في سائر القرون، خلا في نطاق نفوذ الشيعة؛ فإنها الفرقة الوحيدة التي جعلت قضيتها الأولى تمييز آل الرسول  عن سائر المسلمين، وأسبغت عليهم أوصافاً وقضت لهم بأحكام ومنحتهم مزايا ما أنزل الله بها من سلطان وما ادعاها آل البيت من العلماء الأفاضل في عهد الصحابة والتابعين قبل بروز نحلة التشيع الغالي، وكذلك الترفع على الناس بالعلم أو بالصلاح، فما هي طبقة أبناء العشرة المبشرين بالجنة بين سائر المسلمين وهم أفضل أمة محمد  بشهادة الرسول  لا بشهادة دجاجلة الصوفية أو رجال الغيب الذين هم شياطين من شياطين الجن أو الخضر المزعوم أو المرائي الموهومة أو الكاذبة هل عرفت بين المسلمين طبقة مترفعة عنهم هي طبقة أبناء العشرة؟ كلا والله ما حصل بل كانوا يزوجون الناس ويتزوجون منهم، وكذلك طبقة العلماء والفقهاء هل ظهرت هذه الطبقة في غير نطاق الصوفية والقبورية أو الشيعة الغالية؟ الجواب: لا.
المطلب بالثاني: إثبات وجود طبقات مترفعة على المجتمع باسم النسب والعلم والولاية
قد أخبر النبي  بأن عدداً من أمور الجاهلية ستعود إلى الأمة وتستمر فيها من الفخر بالأنساب والطعن في الأنساب، فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لايتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) وعادت تلك الأمور كلها إلى الظهور ومنها التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب.
ومعقول أن يتفاخر ملِك مستكبر بآبائه وأجداده، وأن يتعاظم تاجر جاهل بماله، وأن يتباهى قبيلي متعصب بنسبه وحسبه، لكن من أغرب الأمور أن يتباهى صالح بصلاحه أو عالم بعلمه أو مدع أنه من آل الرسول ، وهو يعرف طريقهم ثم يتعالى على الناس بذلك!، لكنّ قوماً من اللائذين بهذا النسب والمستفيدين منه هم الذين سنوا سنة التفاخر والتعالي وادعاء أحقية الملك والخلافة بهذا النسب، وهم الذين ضخموا قضية أهل البيت وأحقيتهم بالإمامة حتى جعلوا ذلك أصل عقيدتهم، ومن قرأ أصول الإثني عشرية والإسماعيلية عرف ذلك، وعندنا في اليمن طائفتان تدعيان ذلك، وتسخران كل جـهودهما لتبنيه هما أئمة الزيدية الهادوية الذين ركزوا على الخلافة الظاهرة وجعلوها محور عقائدهم وأحكامهم وبسببها كفَّروا وضلَّلوا وفسقوا واستحلوا أموال مخالفيهم واشتد غضبهم على فرقة المطرِّفية وهي في الأصل منهم؛ حينما خالفت في مبدأ التفاضل بالنسب,وأجازت الإمامة في غير قريش فانتدب لهم معاصرهم الإمام عبدالله بن حمزة ووضع تلك القاعدة الظالمة التي يقول فيها:
أما الذي عند جدودي فيه فيقطعون لِسَنه من فيـه
ويؤتمـون ضحـوة بنـيه إذ صار حق الغير يدعيه
وبناءً على ذلك قام بإبادة فرقة المطرِّفية إبادة كاملة، حتى لقد هدم مساجدهم وقراهم وقتل مقاتليهم وسبى ذرارييهم ولاذنب لهم إلا أنهم خالفوا في ذلك الأصل ، ومن عجيب ما فعل أنه كتب على جدار أو باب مسجده:
أقسمت قسمة حالف بر وَفيِّ لايدخلنك ما حييت مطرفي
وقد وُضِعَتْ في ذلك أحاديث وقُعَّدِتْ قواعد ليس لها أصل.
وفي بلاد الشافعية وخصوصاً في حضرموت قامت خلافة باطنة إمامها القطب وسلاحها البرهان ووسليتها لبسط نفوذها تفريق الأمة وتقسيمهم إلى طبقات، لكل طبقة وظيفتها التي تتكامل مع بقية الطبقات الأخرى في قيام تلك الخلافة الباطنة وترسيخها وحمايتها ومدها بكل ما تحتاجه من دعم معنوي وعسكري واقتصادي، وحتى السلطات السياسية جندت لخدمة هذه الخلافة، وإليك الأدلــة على ذلك من كتب القوم أنفسهم.
قـال ابن عبيد الله في رسالته " نسيم حاجر ": (إن العلويين الحضرميين ومن لفّ لفهم إلى هذا الحين إن لم يكونوا على مذهب الإمامية فإنهم على أخيه، إذ طالما سمعنا ممن لا يحصر عداً أو لا يضبط كثرة منـهم من يقول: إنها لما زويت عنهم الخلافة الظاهرة عوِّضوا بالخلافة الباطنة،فصارت إلى علي ثم إلى ابنه ثم علي زين العابدين ثم إلى الباقر ثم إلى الصادق، وهكذا في الأفضل ثم الأفضل من ذرياتهم،ألا ترى أنهم يقولون بقطبانية هؤلاء،وما القطبانية إلا الإمامة بنفسها، واذكر في الكتاب ما اتفقوا عليه من قطبانية الفقيه المقدم، ما يزعم له بعضهم من الخلافة الراشدة، وتأمل ماجاء في الحكاية (337) من الجوهر الشفاف وما علق به عليها مؤلفه، فإنها صريحة في أن الشيخ السقاف ليس بحنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي، وإن تلك هي صفة القطب الذي يولي من يشاء ويعزل من أراد،لارادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، وماجاء في النور السافر، وتناقله من بعده الشيخ محمد بن أحمد باجرفيل من الاعتذار عن تصرفات الإمام أبي بكـر بن عبـدالله العـيدروس (العدني) وحاصله: أن العلامة بحرق سأله عن تصرفات مالية يباشرها الإمام العدني يقبضها ويصرفها بغير مصارفــها في ظاهر الأمر، فقال له: أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها. انتهى، وذكر هو وغيره أن الشيخ علي بن أبي بكر كان يشهد للعدني بالقطبية وهي الخلافة التامة الباطنية ليس غير، ولاننس ما جاء في عقد الجواهر والدرر للشلي أن الشيخ علي بامحسون كان ناظراً على مسجد سرجيس "بتريم"،فطلب الإذن للتصرف فيما يتعلق بالمسجد من السيد عبدالله بن الشيخ العيدروس الأوسط وقال له: إذا تحقق أنك صاحب الوقت، فأذن له بعد إلحاح، وما أكثر ما يتمثل به أعيانهم من قوله:
ملوك على التحقيق ليس لغيرهم من الملك إلا رسمه وعقابه
وممن تمثل به سيدي الإمام أحمد بن محمد المحضار في قصة طويلة ملخصها أنه حج في سنة وبمعيَّته السادة الأجِلاء: عبدالرحمن بن علي بن عمر السقاف المتوفى "بسيئون" سنة (1292هـ) ومحمد ابن علي بن علوي بن عبدالله السقاف المتوفى وهـو ساجد بمسجد الشيخ عـمر المحضار " بتريم " سنة (1301هـ) وصديقي السيد شيخ بن محمد الحبشي المتوفى" بسيئون " سنة (1348 هـ) فاجـتمعوا بأحد الأمــراء من الأشراف إما في " المخا " وإما في " أبي عريش "، فالعهد بالرواية بعيد، ولما أخبروه عن أمراء بلادهم بعد أن أحفاهم السؤال، قالوا له: إن أحدهم (وهو القعيطي) من حمير، والثاني (وهو الكثيري) من همدان، اقتحمتهم عينه، ولا مهم على خضوعهم لمن سواهم، فقال له المحضار: إنما هم خدام لنا، والأمر أمرنا، وتمثل بالبيت،والقصة مبسوطة بالبضائع،فتراهم لاينظرون إلى غيرهم من الأمراء إلا ما ينظره الفقيه إلى ولاة الضرورة من نفوذ أحكامهم بقدرها خشية الاضطراب.
ومنهم من يرى أنه لا يقوم سلطان من غيرهم إلا كان عليه نظر من القطب صاحب الوقت، فيصير كالنائب عنه ليس إلا وهو موجود في كلامهم بكثرة، ورأيت بخط شيخ مشائخـنا السيد عبد الرحمن بن علي السابق الذكر عن أبيه ما معناه: إن هؤلاء الأمراء لايعدون إلا باغين ظالمين، وما أدري أقال ذلـك من تلقاء نفسه أم كان ناقلاً عن أحد من الأئمة؟ فإن العهد بالإطلاع عليه قد تقادم، وسواء كــان من مقوله أومنقوله فإن له اتصالاً بالقصة التي جرت لهم مع ذلك الشريف) .
وكذلك يقول صالح بن علي الحامد في تاريخ حضرموت: (ولما لدى العلــويين في تـلك العهود من الفضل والعلم يضاف إلى ذلك ماهم عليه من النسك والصلاح والقيام بوظيفة الدعوة والإرشاد وإخماد الفتن، كان لهم من الود والإجلال لدى جميع الطبقات في الشعب الحضرمي والثقة ما خوّل لهم قيادة الشعب وإدارة دفة الثقافة والتعليم فيه، وكوّن لهم بحضرموت سلطة دينية جعلت لهم بين السكان المكان المرموق والكلمة النافذة.
ويعلم باستقراء أخبار ذلك العصر أن الزعامة في العلويين بعد الإمام الفقيه المقدم بقيت في أبنائه يتداولونها، ثم إنها انحصرت بعد الإمام السقاف المتوفى سنة (819هـ) في ذريته خاصة. قال الطيب أبو مخرمة في تـاريخه في ترجمة الإمام السقاف ما نصه: (ولأولاده ونسله إلى الآن الميزة والرئاسة علـى آل أبي علوي) أهـ.
وقد شهدت الدلائل والآثار على أن العلويين في تلك الأزمنة أداروا دفة الحياة الثقافية والإصلاحية بكل إخلاص، وساروا بالبلاد سيراً مرضياً في تواضع لا تشوبه أنانية، وفي نزاهة تامة وذلك ما جعلهم يرغبون عن الإمارة، ويتنحوّن بكل قواهم عن كراسي الحكم، تاركين ذلك عن رضى واختيار لغيرهم، حتى قال البرزنجي:ما في آل أبي علوي إلا أنهم بلدهم لغيرهم، وهم وإن ابتعدوا عن الحكــم ورغبوا عن الولايات اعتباراً لأنها من حظوظ الدنيا أو لغير ذلك، فإنها لاتقوم إلا على تأييدهم، ولا ترسخ قوائمها إلا على إرادتهم غالباً منذ نزلوا بحضرموت، ولذلك لما ذكر الشيخ الشوّاف في منظومته الدارجة السيد علوي بن عبيدالله بن أحمد بن عيسى أشار على ما ذكرنا إذ قال:
والشيخ علوي الأول هو ذاك ذي قد دوّل
والأرض منـها زوّل من كان جاهل بالله
وكلمات دوّل الأرض وزوّل لها مدلولاتها في الإشارة إلى التأثير في إقامة دولة وإزالة غيرها.
ومع ذلك فهم لا يزالون يراعونها عن كثب أشد الرعاية، ويتابعون تطوراتها وتغيراتها في حيطةٍ وحذر، باذلين في كل ذلك إرشاد وتقديم جهد المستطاع) .
وقال أحمد بن حسن العطاسنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةوأهل البيت يستحقون الخلافة جميعهم بالنيابة عن متبوعهم الأعظم ، وإنما لا تظهر بكمالها إلا في فرد واحد، إذا جاءت نوبته المطلقة فحينئذ تحن إليه الأرواح وتعكف عليه الأشباح، بمعرفة خفية وشؤون جلية) .
هذه هي مكانة صوفية حضرموت وبالذات آل أبي علوي عند أنفسهم ومن يدين لهم بالولاء والاتباع، وقد سخروا الخرافة أسوأ تسخير لتثبيت ذلك فأظهروا للناس أن كل قيام دولة أو سقوطها إنما هو بإرادتهم وكل نصر أو هزيمة لقبيلة فإنه مرتبط بسلطتهم أو سلطة أقطاب الصوفية الآخرين " المنطوين فيهم " يقول صالح بن علي الحامد: (ولم تتبدل الدولة " بتريم " حتى شاء الله، وذلك بعد أن رضي العلويون، ورأوا في ذلك المصلحة العامة) .
وتلك السلطة الظاهرة عند أئمة الزيدية قد أذاقت الأمة صنوفاً من القهر والاستعباد والسخرة ضج منها الأحرار وسجلها المؤرخون وحملت المخلصين على العمل على محاربتها محاربة لا هـوادة فيها، ذو الفكري بفكره وذو السياسة بسياسته وذوا المال بماله حتى هيأ الله الانعتاق منها .
وفي بقية المناطق كانت المعاناة أطول وأشمل غير أن وقعها لم يكن بذلك الظاهر المزعج كما هو شأن سلطة الأئمة خصوصاً أن التمهيد لها والتربية عليها وإقناع الناس إن هذا هو واجبهم وأنه في مصلحتهم حيث سينالون بذلك بركة الأولياء وستفيض عليهم إسرارهم وإمدادهم إن ذلك قد خفف المعاناة وأطال أمر الاستسلام لها.
وفي المطلب التالي ما يلقي الضوء على تلك السلطة وأساليب الاستفادة من سائر طبقات المجتمع.
المطلب الثالث: مظاهر التمايز الطبقي:
وقد ترسّخ ذلك التمايز وظهر بعدة مظاهر:
المظهر الأول: تقسيم المجتمع إلى طبقات متفاوتة لكل طبقة ميزاتها وحدودها، وعليها مهام وحقوق يجب أن تلتزم بها،مع أن للطبقة العليا الاستفادة من كل ما هو من حقوق الطبقات الدنيا ولا عكس
الطبقة العليا (السادة): وهي ذات أرفع وأوسع امتيازاً وهم ذرية أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله الذي ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي  ويسمون في حضرموت بـ(آل باعلوي)وهم فيما بينهم يتفاضلون كذلك كما سيأتي رغم أنهم ينتمون إلى رجل واحد.
الطبقة الثانية: المشايخ وهي مرتبة اصطلاحية لا تقوم على نسب معين إذ تنتمي فئة المشايخ إلى عدة قبائل، منهم من تنتسب إلى آل البيت، ومنهم إلى بقية بطون قريش ومنهم إلى غيرهما من سائر القبائل العربية، فميزتهم لا على سبيل النسب ولكن على مقياس التصوف فأكبر أجدادهم إغراقاً في التصوف أرفعهم منزلة وأكثر أجدادهم " انطواءً في أهل البيت " أي تبعية لهم أرفعهم كذلك، مع ما يضاف إلى ذلك من صفة الفقه في الدين التي تحــرص هذه الطبقة أن يكون منها من يتصف بها وخصوصاً في السابق.
والطبقة الثالثة: القبائل حاملة السلاح وهي التي بقيت متمسكة بأنسابها متعصبة لها متماسكة فيما بينها معتمدة على قوتها وحميتها.
الطبقة الرابعة: وهم القبائل العربية التي اندمجت في المجتمع وانشغلت بالحرف المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة وما يلتحق بذلك، وهؤلاء قد يتفاوتون أيضاً فيما بينهم بحسب مهنهم، وهذا التقديم والتأخير قد يختلف من منطقة إلى أخرى، ويسمون القرار أو الحرثان أو المساكين بحسب اصطلاح المناطق المختلفة.
والطبقة الخامسة: هم " الصبيان " أي الخدم و"العبيد" أي الموالي الذين كانوا مماليك وقد يفرق بين هاتين الفئتين فتصبحان طبقتين يقدم الصبيان على العبيد في بعض المناطق، ويقدم العبيد على الصبيان في مناطق أخرى) ، وفي بقية مناطق اليمن تفاوت وإنما قد يكون علة هذا التقسيم بشكل أقل وقد تكون درجات سلم التفرقة أقصر.
والذي يظهر أن أساس هذه التفرقة وهذا التفاضل هو التسلط الروحي الذي فرضه شيوخ الطرق الصوفية يضاف إليه النسب الهاشمي الذي يفاخر به أولئك الشيوخ، وقد لعبت الخرافة دوراً بارزاً في هذا التمايز إذ قد بنى شيوخ التصوف لأنفسهم تلك المنازل وأشادوها بما يبثون في المجتمع من تلك الخرافات والتي هيأوا المجتمع للقبول بـها وتصديقها والعمل بما تدعوا إليه، وهكذا تكونت وتطورت عبر الأيـام فمن جمع بين شرف النسب العرقي والنسب الروحي فهو القمة في الشرف، وكلما كان غالياً في التصوف كثير الشطح والمجازفات والتبجح كان أرفع وأسمى، والدليل على ذلك أن آل باعلوي في حضرموت كلهم من ذرية رجل واحد وكلهم قد اعتنقوا التصوف ودانوا به، بل إن معظمهم إن لم يكونوا جميعهم يرجعون إلى الصوفي الكبير " الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي " ومع ذلك يتفاوتون فيما بينهم، ويرى بعضهم لأنفسهم ميزة على غيرهم لانتسابهم لمن كان أكثر تصوفاً بل أكثر سطحاً ودعاوى، فهذا واحد من آل حامد من ذرية الشيخ أبي بكر بن سالم الذين يعدون أرفع السادة الحضارم منزلة يقول في أبيات له مفتخراً بنفسه وجماعته:
حامدي حامدي ما نا كاف ولاَّ خرد
حامد وترباة رخية ند عشرة يهـــد
يقول هو من آل الحامد وليس من آل الكاف ولا من آل خرد، فآل حامد أشرف وأرفع قدراً من تلك القبيلتين رغم أن الجميع من آل باعلوي.
وقوله ترباه رخية أي من سكان وادي رخية حيث تحولت تلك القبيلة من السادة إلى القَبَلِيَّة وحملت السلاح فلذا فإنه " ند عشرة " أي مقابل عشرة في الحرب والضراب، وهي المعنية بقوله "يهد " أي يقاتل.
وفي المقابل يقول أحد المنتمين إلى إحدى القبائل التي تعد من المستوى الأقل عندهم:
لاجئت باماري صحابي ماشي معي بيرق وقبه
نحنا علـى دين الصحابة والكافـر إلا في الهربه
يقول إذا جئت لأفاخر أصحابي من القبائل المتعالية ليس معي حجة أقدمها؛لأن ميزان التقدم هو البيرق والقبة شعار السلطة الصوفية، فكل ولي معترف به مسلّم له بالولاية والتقدم،فشعار الفضل والتقديم أن يكون على قبره قبـة ولخليفته ومنصب مقامـه بيرق وقـوله في الهربة أي في (أوروبا).
وبهذا يتضح أن للقبورية أثراً كبيراً في هذا التمايز وأنه بقدر الإغراق في القبورية تكون الرفعة والمنزلة؛ ولأن الصوفية من عادتها أن تجعل موضع شيخ طريقتها مقدساً وتسبغ على خلفائه القداسة المقتضية للتسلط؛ ولأن تلك السلطة بحاجة لدعم معنوي ودعم سلاح ودعم مادي وأتباع تظهر بهم مكانة المتبوع فقد جاءت بقية الطبقات.
فطبقة المشايخ وهم الطبقة المثقفة الوحيدة في الغالب بعد السادة فإن مهمتها الدعم المعنوي من نشر لفضائل أولياء السادة وترويج لخرافاتهم وتعظيم لمقاماتهم بين بقية الناس، وكلما كان الواحد منهم أكثر تقليداً وفناءً فيهم كلما كان مقامه أرفع وثناؤهم عليه أكثر؛ ولذا فإنهم يمدحونه بأنه "منطوٍ في أهل البيت "
كما قالوا في الشيخ عبدالله بن أحمد باسودان، أو " خزانة آل باعلوي " كما قالوا في الشيخ سعيد ابن عيسى العمودي وهكذا، وطبقة المشايخ قد حصلت هي الأخرى على امتيازات متقاربة بقدر شهرة جدودها وسعة ولايتهم وسطوع برهانهم.
وأما القبائل فإنها القوة الضاربة في المجتمع،وقد تعمد السادة بدرجة أساسية وربما بعض المشايخ إبقاء هذه الشريحة جاهلة غير متعلمة ليسهل التحكم فيها وتسخيرها في مصالـح أولئك الأسياد، فما من قبيلة من قبائل اليمن الشافعي إلاّ ولها اعتقاد في ولي من الأولياء وتدين بالتبعية لخلفائه وتعطي العهود والمواثيق لكل من يتقلد المنصبة من خلفاء ذلك الولي، وهذا أمر متواتر لا ينكره أحد وقد نص عليه في بعض كتب التاريخ والتراجم وغيرها، ولدى تلك القبائل اعتقادات جازمة أنه متى ما أغضبت القبيلة خليفة الولي أو خفرت ذمة أحد من أفراد ذريته أنها معرضة للعقوبة من ذلك الولي، ولذلك فإنها تبادر باعتذار للأحياء والأموات وتقدم العقاير للأضرحة كما مر شرحه في فصل سابق.
وقد يحرك مناصب السادة والمشايخ مجاميع القبائل ويزجون بهم في حروبٍ يكون المستفيد الوحيد منها هو ذلك المنصب وأصحابه، وكم تراق من دماء وتذهب من أنفس في سبيل ذلك، وقد تسلط قبيلة على قبيلة أخرى يحركها المنصب؛ لإن إحدى القبيلتين خرجت عن الطاعة أو خفرت الذمة، كما أنهم قد يستخدمون تلك القبائل أو البعض منها في تطويع بقية الشرائح المنزوعة السلاح المستضعفة فيما إذا قصرت في أداء ما عليها من إتاوات مالية لمقامات المناصب والأولياء أو للحكام من السادة أو المشايخ، وهكذا فيما لو قصر أحد أولئك المستضعفين فيما هو متعارف عليه من السخرة والخدمة بل وبعض العادات التي تتجلى فيها إهانة للمساكين والعظمة والكبرياء للمتعالين .
وخذ مثالاً على تلك السلطة بذكر بعض الأسر ذات السلطة ومن يتبعها من القبائل، قـال الشاطري: (ومن أبرز العائلات التي تحدرت منها المناصب آل الشيخ أبي بكر بن سالم ولهم وجاهة عظيمة لدى القبائل اليافعية والمهرة والمناهيل وغيرهم، وآل العطاس ووجاهتهم أكثر لدى قبائل الجعدة ونهـد، وآل العيدروس ووجاتهم لدى القبائل الشنفرية والتميمية، وهذه أسر علوية شهيرة، وللمشايخ العموديين وجاهة عظيمة لدى قبائل دوعن، كما أن لآل أبي وزير وجاهة لدى قبائل الساحل، ولآل أبي عباد وجاهة لدى بعض القبائل البدوية، وهذه أسر شهيرة من المشايخ تحدرت فيها مناصب معروفة.
وهناك أسر أخرى علوية وغير علوية لها منصبها ووجاهتها ألتمس العذر لعدم الإطالة بذكرها؛ لأن المقام يقتضي ذلك، كما أني من أجله لم يمكني التفصيل بتعداد أسماء القبائل المتعلقة لنفوذ المناسب، والمهم إعطاء صورة عامة عنها طبق الواقع إذ ذاك، ولكثير من المناصب خدم وحشم وخيول ومماليك، وعلم وطبول قل أن تفارقهم) .
وأما طبقة الحرثان " المزارعون " والتجار فإنها تمثل البعد الاقتصادي، فإنه من المعروف أن أرباب المقامات وخصوصاً المقامات الشهيرة كمـقام منصب آل الشيخ أبي بكر في عينات، ومناصب آل العطاس في حريضة وعمد ومنصب مقام الشيخ سعيد بن عيسى العمودي في "بضة "،وغيرها من المقامات فإنه قد فرض لها على كثير من الحرثان والذين يسمون " فقراء " فقراء الشيخ أبى بكر أو فقراء الشيخ سعيد نصيب معلوم من زكاة أموالهم يوردونه إلى تلك المقامات، هذا بالإضافة إلى النذور والصدقات التي تشترك فيها جميع الطبقات وربما طلبوا منهم طلبات محدده في مناسبات معينة وهم لا يستطيعون بحالٍ رفض الطلب؛ لأنهم يخافون من بطشهم أحياناً بتسليط بعض القبائل عليهم، أو لخوفهم من الأولياء أن يغضبوا عليهم وينتقموا منهم.
وأما طبقة الصبيان والعبيد فإنها للخدمة في شتى شؤون المناصب والمقامات في كثير من الأحيان دون مقابل، ولا يستطيعون أن يرفضوا ذلك كما هو الشأن في الطبقة السابقة بل أشد، وتلك الطبقات المتسلطة لا تجد أي حرج من الاستهزاء والازدراء بالطبقات الدنيا وذمها وإظهار حقارتها، بل إذا أرادوا أن يمثلوا لدناءة الأصل ولؤم الطبع فإنهم يمثلون بهم دون أي تحرج، ولو على مسامعهم، وكمثال على ذلك استمع إلى هذه الحكاية من عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف مفتي حضرموت يرويها عن علي بن حسن العطاس صاحب المشهد والموصوف بالقطبية والعلم والأدب.
يقول ابن عبيدالله واصفاً شعر الحبيب علي بن حسن العطاس: (وله ديوان عذب كأنه اللؤلؤ الرطب وهو يمر في منظومه ومنثوره مع خاطره لا يتكلف ولا يتنطع ولا يدع شيئاً بباله إلا نفث به لسانه وعسل به قلمه، من ذلك أن جماعة من قرار شبام أتوا عنده فأكرمهم وأسبغ قراهم ومعهم جمّال من آل مهري سأل عنه الحبيب عند حضور العشاء فقالوا له: إنه عند المراكيب فأخِرْ عشاءه حتى تفرغ، قال: لا يمكن أن نأكل إلا ويده مع أيدينا، واتفق أن الحبيب دخل شباماً بعد أمة من الزمان واجتمع بكل أولئك في الجامع، ولم يقل له أحد تفضل إلى منزلي وأَبَوْا بلسان الحال أن يضيفوه، فاضطر إلى الخروج من شبام قريب المغرب فلاقاه ابن مهري وعزم عليه وألح وذبح له منيحة ولده، فأنشأ الحبيب قصيدة يقول فيها:
علي بن حسن حوط الحيوار وامسى مزار وامسيت ياجحي جنة بعد ماكنت نار
يالقروى القار ياعرق الحدج يالحـمار حــب القبيلي وقيراط القبيلي بهـار
وإن جئت صر القبيلي مالطف في الصرار
الشاهد من الأبيات قوله: (يالقروى القار ياعرق الحدج يالحمار) فهذا سب واضح فقول "القار" أي المر وهو كناية عن الخبث فقد وصفة بالخبث وكنّى عن ذلك بالمرارة التي شبهها بعرق الحدج " أي الحنظل " الذي يضرب به المثل في عدم الاستساغة، وأفحش مـن ذلك وأظهر جعله هذه الطبقة حميراً ولا يخفى ما في هذا الوصف من الفحش والبذاءة، ووصف أفراد الطبقات الضعيفة بـ " الحمار " عادة مستمرة إلى اليوم من قبل الثلاث الطبقات المتسلطة إلا القليل ممن عصمه الله بالعلم والخوف من الله تعالى.
المظهر الثاني: اعتبار الكفاءة بالأنساب، فالطبقة العليا لا تزوج الطبقة السفلى مـع إعطاء العليا الحق في التزوج ممن هي دونها، وهذا مخالف لأصل العدل والمساواة في الإسلام الذي جعل التفاضل والتكريم بالدين لا بالنسب، وهـو مخالف كذلك لأصل الكفاءة الـتي اعتبرها النبي  حين قـال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسـاد عريض)) وفي رواية كبير)) ، وهــذا المظهر مازال قائماً إلى اليوم إلا ما شاء الله.
ومن الأدلة على أن هذا الأسلوب مقصود، وله أهدافه التي هي ليست مجرد الجهل والعصبية، ماحدث بين الحضارم العلويين والإرشاديين في جنوب شرق أسيا من خصام بل صراع وصل إلى حد القتال وإراقة الدماء وما ترتب على ذلك من آثار كبيرة، وكان السبب في ذلك كله هو إفتاء الشيخ أحمد السوركتي شيخ الإرشاديين بجواز زواج العلوية من غير العلوي، فثارت ثائرة العلويين وأقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل ذلك، وأُلِّفَت ردود كثيرة من كتب ومقالات صحفية وخطب ومحاضرات وغير ذلك، وقد ظهر من مجموع تلك الردود أن هذه الفتوى خطيرة غاية الخطورة على الترتيب الاجتماعي المستقر في حضرموت، وهدم له وإفقاد العلويين ميزة ظلوا محتفظين بها قروناً طويلة.
ولا أريد الإسهاب في هذا الموضوع فمن أحب الاطلاع عليه فليرجع إلى كتب ورسائل الطرفين ومن أشهرها رسالة " صورة الجواب " للشيخ أحمد السوركتي و"فصل الخطاب " للشيخ أحمد العاقب زمبل السوركتي وأبرز مناصريه، وكتاب " القول الفصل فيما لقريش وسائر العرب من الفضل " للسيد علوي ابن طاهر الحداد، وديوان ابن شهاب فله قصائد في الموضوع تمثل وجهة نظر العلويين، وفتوى السيد عمر بن سالم العطاس بتحريم زواج العلوية بغير العلوي ومجلة المنار الصادرة بالقاهرة ففيه مقال ضَافٍ للشيخ محمد رشيد رضا، وكتب التاريخ المعاصرة لتلك الحقبة والتالية لها،
أقول إن مجمل ما دار في تلك المعارك وما ترتب عليها ليؤكد مدى اعتماد العلويين على هذا الأصل واهتمامهم به لما يترتب عليه من ميزة اجتماعية لهم.
المظهر الثالث: التميز بلقب " سيد " الذي كان مختصاً بالعلويين لا يشاركهم فيه غيرهم حتى من المشايخ الذين هم أرفع الطبقات بعدهم، وقد تناولت معاركهم المشار إليها سابقاً هذه الميزة، وقـد جـد الإرشاديون في تعميم هذا اللقب على كل رجل من أي طبقة كانت، وذلك بعد أن فقد معناه اللغوي، فلجأوا للعرف السائد لدى المعاصرين من العرب في شتى البلاد العربية من إطلاق سيد على الرجل وسيده على المرأة المتزوجة، وقد نجحوا إلى حد كبير في تعميم هذا اللقب، والأسوأ من اختصاصهم بلقب سيد اختصاص رجالهم بوصف " الشريف " ونسائهم بوصف " الشريفة " والمبالغة في ذلك، حتى أن بعض الألفاظ أو التصرفات ليدل ظاهرها على اختصاص الشرف بهم وأنـه لا شريف سواهم، من ذلك أن يقف الرجل في بعض المناطق على المجلس الذي يضم عدداً كبيراً من الناس فيقول: (حد شريف في المجلس) أي: هل يوجـد شريف في المجلس؟ فإن وجد أحد منهم قيل له: نعم هو ذاك، وإن لم يوجد قيل له: لا، فانظر كيف يترتب على هذا السؤال وجوابهم نفي الشرف عن جميع الحاضرين.
المظهر الرابع والخامس: تميز العلويين دون سواهم بتقبيل الأيدي ولباس العمائم بشكل خاص لا يشركهم فيه غيرهم، يقول صاحب تذكير الناسنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةوسئل سيدي عن تقبيل أيدي الأشراف هل هو سنة أم بدعة؟ فقال رضي الله عنه: لمّا خرج السادة العلويون إلى جهة حضرموت ميزهم أهل الجهة بعلامتين العمامة، وتقبيل اليد، فالتقبيل بقي إلى الآن، والعمامة شاركهم فيها غيرهم، وكان سيدي إذا قابل أحداً من المشتهرين بالعلم والفضل أول مقابلة يقبل ما بين عينيه ويقول: هذه خاصة للعلم ثم يصافحه، وكان لا يدع أحداً يقبل باطن كفه بل يعاتب كل من أراد ذلك، ويقول: ما الفرق بين باطن الكف وظاهرها؟ أما يكفي ظاهرها عن باطنها،ولا يدع أحداً يصافحه قبل صلاة الصبح ويقول المصافحة بعد الصلاة أولى) .
المطلب الرابع:نماذج من الخرافات التي استخدمها القبورية لتعميق سلطتهم واستعلائهم:
النموذج الأول: ما ذكره الشرجي في ترجمة الفقيه إسماعيل الحضرمي: (أن من قَبَّل قدمه دخل الجنة) .
النموذج الثاني: ما ذكره الشرجي كذلك في ترجمة عبدالله بن عمر الناشري قال: (وبلغ في آخر عمره مبلغاً عظيماً من الصلاح حتى كان يقال: (أن من قبَّل بين عينيه دخل الجنة) .
النموذج الثالث: ما ذكره الشرجي في ترجمة علي بن أبي بكر بن شداد قال: (ومـن كراماته أنه كان يقال: (من مشى خلفه أربعين خطوة غفر له) .
النموذج الرابع: ما ذكره الشرجي في ترجمة الفقيه أبي بكر بن محمد بن عمران قال: (وكانت له كرامات ظاهرة، منها أن بعض الناس رأى النبي  في المنام يقول له: من قبل قدم الفقيه أبي بكر دخل الجنة) .
النموذج الخامس: ما ذكره الشرجي في ترجمة عيسى بن حجاج العامري قال: (ويروى أنه دخل عليه بعض الفقهاء فرأى جماعة من أصحابه يقبلون يده ورأسه عند الدخول وعند الخروج، فقال له: يا شيخ ما هذا التقبيل الذي ليس بسنة؟ فقال له: يا فقيه العبد المؤمن ريحانة الله في أرضه ولا بأس بشم الريحان عند الدخول وعند الخروج) .
النموذج السادس: ما ذكره صاحب تذكير الناس قال: (وجاء في القراءة على سيدي في مناقب الشيخ سعيد بن عيسى العمودي أنه قال: من صافحني أو صافح من صافحني، فهو في الجنة،فقال سيدي أحمد: الحمد لله، قد صافحناه مراراً، فقال الحاضرون: ونحن نريد أن نصافحك، فقام الحاضرون فصافحوه، قال سيدي: وجاءت إليَّ شريفة من الصالحات من دوعن، وقالت: دعني أقبل رأسك فإني رأيت رسول  يقول: من أراد الخير والبركة، فليقبل رأس السيد أحمد بن حسن العطاس، فلم يرض ذلك، ثم جاء رجل آخر من الصالحين المحبين لأهل البيت وقص مثل الرؤيا السابقة، وطلب من سيدي تحقيق الرؤيا فتركه سيدي، وما أراد من تقبيل رأسه الشريف) .
النموذج السابع: قال صاحب تذكير الناس وهو يحكي كلام أحمد بن حسن العطاس فيما يتعلق بتقبيل الأيدي: (وقال: إني إذا دخلت على أحد من الصالحين يعني من أهل البرزخ، أبدأ أولاً بتقبيل قدمه، ثم تقبيل ركبتيه، ثم يده ثم رأسه ووجهه، وحضر عند سيدي جماعة من السادة أهل تـريم، ومنهم الحبيب محـمد بن سالم السري، فطلب الحبيب محمد المذكور من سيدي المصافحة كما صافحه النبي  والتشبيك كعادة السلف الصالحين، فصافحه وشابكه بيده، ثم طلب منه جميع الحاضرين المصافحة فصافحهم جميعهم) .
فهذه سبعة نماذج كلها تدل على تعبيد الناس لهذه الطبقة المتعالية واعتبار أن تقبيل أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم أمر مطلوب من قبل الله تعالى موعود عليه بالجنة ومغفرة الذنوب، وقد أخذ الناس بهذا وتداولوه وتزاحموا عليهم يقبلون رؤوسهم وأيديهم وأرجلهم، بل إن العادة في كثير من القرى والبوادي قديماً أن عوام الناس من شيوخ قبائل فمن دونهم كانوا إذا دخـلوا مجلساً فيه أحد مـن السـادة جثوا على ركبهم وزحفوا كذلك من عند الباب إلى عند ذلك الرجل ثم قبلوه.
المبحث الرابع
انتشار الجهل والأمية في الأمة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حال اليمن قبل انتشار التصوف من الناحية العلمية:
لقد كانت العلوم الشرعية شائعة سائدة منتشرة قبل ورود الصوفية وانتشارها في القرن السابع في جميع البلاد اليمنية زيدية وشافعية، ولكن بعد ورود التصوف وانتشاره بدأ العلم ينحسر في البلاد التي سيطر عليها، فيما عدا فترات متفرقة تكون الدولة فيها قوية محبة للعلم والعلماء فيزدهر العلم إلى جانب التصوف، ولكن لكل منهما كيانه المتميز بل ربما حصل الصراع العنيف بينهما كما حصل في زبيد أيام الدولة الرسولية، ولتصور حالة العلم فيما قبل انتشار التصوف يمكن مراجعة طبقات فقهاء اليمن للجعدي، فقد ذكر أعداداً كبيرة من العلماء من سائر مخاليف اليمن، ومن قرأ الطبقة السابعة من طبقاته علم ذلك، فقد أورد أعداداً من العلماء من زبيد وسائر بلاد تهامة ومن إب والجند ولحج وعدن وأبين وشبوة وحضرموت وظفار وسائر بلاد اليمن الشافعي، وقد ذكر مؤرخو حضرموت أن العلم اندثر في أوائل القرن السادس حتى رحل الشيح سالم بافضل لطلب العلم إلى أماكن عديدة منها العراق، وغيره، وأطال الغيبة حتى ظن أهله أنه قد مات، ثم عاد بأحمال من الكتب فعكف على نشر العلم حتى (حصّل العلم على يديه خلق، حتى أنه ربما بلغ في تريم ثلاثمائة مفتي في عصر واحد) .
ومع أن هذا الكلام فيه مبالغة ظاهرة، إلا أنه يدل على كثرة العلم وتوفره في البلاد، ويشهد لانتشار العــلم وظهوره في حضرموت ما ذكـره الشلي في ترجـمة الفقيه المقدم حيث قـال: (وكان أهل حضرموت مشتغلين بالعلوم الفقهية وجمع الأحاديث النبوية، ولم يكن فيهم من يعرف طريق الصوفية ولا من يكشف اصطلاحاتهم السنية فأظهر الأستاذ " الفقيه المقدم " علومها ونشر في تلك النواحي أعلامها) .
فظهر من مجموع هذه النقول ومما أورده الجعدي في الطبقة المشار إليها كثرة العلم والعلماء وسعة انتشار العلم في جميع مخاليف اليمن، وأن تلك العلوم تشمل علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة وغيرها من العلوم النافعة، ولكن ما مصير تلك العلوم بعد ورود التصوف؟ هذا ما سنعرفه في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: أثر انتشار التصوف في انحسار العلوم الشرعية:
التصوف يعتمد على ما يسمى بالعلوم الباطنة أو علوم " الباطن " والعلوم اللّدنية التي سبيلها الكشف والذوق والـمَرائي، قلت: بل والدعاوى الكاذبة.
وهذه السبل لا يمكن أن يحصل بها علم الشرع قطعاً، إذ منهج تلقي العلم الذي سار عليه الصحابة والتابعون ومن تبعهم إلى يوم الناس هذا هو التعلم والجلوس إلى العلماء والرحلة إليهم والأخذ عنهم بمختلف طرق الأخذ المبينة في مواضعها، وقد ثبت عن رسول الله  ما يدل على ذلك حيث قالنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة(إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه)) .
فلما تمكن التصوف في اليمن وانتشر، عزف الناس أو كثير منهم عن الطـرق الصحيحة واعتمدوا على تلك الطرق الواهية التي هي مقتبسه من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، فتأثر بذلك العلم الشرعي ونضب معينه، ولا يعني هذا أن العلم انتهى من اليمن ولا أنه ليس ممن ينتسب إلى التصوف عالم أو فقيه فهذا موجود، ولكنه ضعيف جداً، أما بعض العلوم كالحديث والتفسير وعلوم العقيدة فقد كادت تنتهي في بعض المناطق، ولم يسجل من هو عـالم بها، مع إقامة الدليل على ذلك من وجود مؤلفات جليلة في ذلك العلم أو تخرج محدثين أو مفسرين على يد ذلك الشيخ.
وأما كثير مما نقرأه من تراجم أقطاب الصوفية وأوليائهم من أنه مفسر محدث فقيه فمعظم ذلك دعــاوى لا دليل عليها في الواقع، وإلاّ فأين مؤلفاتهم فيما يزعمون أنهم علماء فيه من تلك الفنون، وخصوصاً كبار الأقطاب والأولياء الذين تُسبغ عليهم صفات من قرأها حسب أن مؤلفات ذلك القطب تفوق في عددها مؤلفات السيوطي وفي إتقانها مؤلفات ابن حجر وفي تنوعها مؤلفات ابن الجوزي، فأولئك لم يثبت لأحدهم كتاب محرر محقق اعتمده الناس ودانوا به، ولم يذكـروا في كتب مؤرخي العلمـاء ولا في طبقات الفقهاء إلا ما ندر ولا في طبقات المحدثين ولا المفسرين، بل لا يكادون يذكرون في كتب غير اليمنيين من المؤرخين، رغم تقدم تاريخ وفاة بعضهم.
وعلى كل حال فقد اعترف بعض مؤرخيهم بجناية التصوف على العلم وأثره في إضعافه، قال السيد صالح الحــامد في تاريخهنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةومع ما أثره التصوف على العلويين بالخصوص بحضرموت من حيث الاجتهاد في النسك والعبادة وما أثره على الحياة العلمية والأدبية من أثر فعال صرف مجرى النشاط الدراسي للعلم عن مجراه السابق من المبالغة في التمـاس الفقه والحديث، وتلقفه عن الشيـوخ والمحدثين والفقهاء، إلى تلقي التصوف والانقياد والتحكيم للشيوخ الصوفية، والتزام تعليمات ذلك ورسومه، أجل إنه مع ذلك فهو يراعي الأسباب المعاشية ويتخذ في فهم التوكل السبيل الوسط القائم بين الإفراط والتفريط،وبقدر ما فترت الوجهة العلمية شيئاً ما في ميدان الحديث والفقه والفنون العربية في الظاهر حينئذ في أبناء حضرموت، ازداد نشاطهم في مسرح التصوف، وإكبابهم على النسك والعبادة والمجاهدة) .
ثم ذكر تصوف القوم وما نالوا به من محبة الله وما فتح به عليهم مـن أذواق وتجليات ثم قـال: (وبالجملة، فبمقدار ما نقصت العلوم الأخرى كالحديث وفنون العربية والأدب والشعر من إكباب وجدٍّ من جانب المتنورين والخواص بحضرموت في تلك العهود، زاد ذلك في ناحية التصوف والزهادة والاجتهاد في العبادة، أي أنهم بقدر ما فقدوا من كسب العلوم الظاهرة وفنون الأدب، قد حظوا بما منحوه من أذواق التصوف ومشاربه القربية، فكان لهم بذلك خير عوض) .
وهكذا المؤرخ المعاصر السيد محمد بن أحمد الشاطري مع ثنائه على أهله وأهل بلده بالعلم والثقافة وتضخيم ذلك جداً، نجده لا يستطيع إخفاء ما لحق بالعلم من نقص بسبب التصوف الذي هيمن على حياة الناس فها هو يقول: (إلا أنه مـع الأسف نجد في كل جيل لاحق نقص في المستوى عـن الجيل السابق من ناحية الغزارة العلمية، وكمال الاستقامة، وإن كان قد يوجـد فيه أفـراد ممتـازون لا يدانيهم أحد من متوسطي الأجيال التي سبقت، وبلغ الحال بجمهور الأجيال المتأخرة، وحتى عصرنا هذا نقص الوعي العلمي والصوفي إلى درجة جعلت الفرق فاضحاً وواضحاً بينهم وبين جمهور من سبقهم، فشاهدنا كثيراً منهم يشتغلون بسرد كتب التصوف في المجامع ويتصوفون تصوفاً معكوساً، يستغنون بهذا عن الاشتغال بالعلوم الشرعية والعربية والعقلية والكونية، فتقلص ظل العلم والثقافة والعبادة والتصوف الحقيقي بهذا الإقليم الذي هو بأشد حاجة إلى نهضة علمية خلقية تجمع بين محاسن القديم والحديث.
فنحن لا نجازف وإنما نقرر الحقيقة إذا قلنا أن رجال العلم والثقافة كثيرون في هذا الدور ويعدون بالآلاف وأكثرهم يتخصصون في العلوم التي أشرنا إليها؛ إلا أن روح الصوفية الفلسفية التي تأثروا بها جعلت أكثريتهم الساحقة ينكرون ذواتهم ولا يهتمون بالمظاهر ولا بكثرة التأليف رغماً عن غزارتهم العلمية، وعمق معرفتهم، ولا بتنميق العبائر وبهرجة الألفاظ، ونجد كتب التواريخ مشحونة بتراجم العديد منهم ومثلهم في علمهم بعلومهم والتزامهم بالمبادئ الإسلامية، ومـلازمتهم للطاعات وتهذيب النفوس مثل الغني الخبير في فنه بحيث لم يتـرك فـيه زيادة رحمهم الله) .
ولم يكن الأمر مجرد انشغال بعلم الباطن والتصوف عن علوم الشريعة والعقيدة؛ ولكنه وصل الأمر إلى الحط من علوم الشريعة وتفضيل علوم الباطن عليها، وإليك بعض النماذج من ذلك:
النموذج الأول: ما أورده الشلي في ترجمة عبدالرحمن السقاف قال: (وكان يقول لهــم اجتهــدوا في الأعمال القلبية فإن الأوقية من أعمال الباطن تعدل بهاراً من عمل الظاهر، وذكر في بعض الأيام في درسه فضل الفقه فعزم ولده عمر أن يفني عمره في الفقه ويترك غيره من العلوم فلما انقضى المجلس ناداه وقـال لـه: يا عمر اجتهد في أعمال القلوب إن الفقهاء معهم قبس ومع الصوفية جذوة وأوقية من عمل الباطن تعدل بهاراً من عمل الظاهر) .
النموذج الثاني: ما ذكره الشرجي في ترجمة سفيان الأبيني قال: (كان فقيهاً عالماً فاضلاً عــارفاً، اشتغل في بدايته بالعلم اشتغالا كلياً، فسمع ذات يوم قائلاً يقول له: إن أردتنا فأترك القولين والوجهين فترك ذلك واشتغل بالله تعالى حتى ظهرت عليه علامات القبول) .
النموذج الثالث: ما قاله أحمد بن حسن العطاس: (" أهل البيت " طريقتهم العمل ولهم من العلم إلا ما يرشدهم إلى العمل ويحفظه لهم وأما باقي الأشياء يتلقونها من حضرة الفيض ويأخذون العلوم المطلقة والمقيدة من حضرة التقوى المشار إليها في قوله تعالى  واتقوا الله ويعلمكم الله ) .
المطلب الثالث: تجهــيل الأمـــة:
مر بنا في المطلب الثاني كيف أثر انتشار التصوف في انحسار العلم بشكل عام حتى لدى الطوائف الساعية إلى التصدر والعلو، وإذا كان الأمـر كذلك فليس مـن المستغرب أن ينعدم العلم لدى غيرهم من الطبقات؛ بل هذا هو الواقع الذي لا ينكره أحد، ولقد جـأر بالشكوى الكثير مـن الغيورين حتى من السادة والمشايخ أنفسهم، غير أن ذلك لم يجدِ ولم يغير من الواقع شيئاً إلا في الفترة القريبة التي يسميها البعض عصر النهضة الحديثة.
وقد سبقت الإشارة إلى الشكوى المُرة التي أطلقها صاحب نحلة الوطن، أما علوي بن طاهر الحداد فقد بالغ في نسبة الجهل إلى بوادي حضرموت حتى شكك في إسلامهم ونقل عن عبدالله بن علوي الحداد ما يشهد لما يقول، حيث قال وهو يتكلم عن أسباب إنشاء رباط قيدون: (يحيط بقيدون من الجانب الغربي والجانب الغربي الجنوبي أهل بوادٍ في مسافة أيام يكثرون التردد إليها، فإذا كان فيها معهد علمي كان معيناً على ثباتهم على اسم الإسلام، والانتساب إليه، وإن كانوا خلوا من عقائده وأعماله وقد استبدلوا الجبت والطاغوت بأحكامه؛ وإنما بقوا على هذا الانتساب لعدم من يستجرهم إلى دين سواه، ولو وجد لم يكن عندهم ما يمنعهم من اتباعه لا من معرفة ولا تربية، ولا مخالطة لأهله ولا ثبات على شيء من عقائده وأركانه؛ فإنهم قد استدبروه جملة إلا أفراداً لا يبنى على مثلهم حكم، وعلى هذا أكثر البوادي بجهات حضرموت الباقية، حتى لقد قال الحبيب عبدالله ابن علوي الحداد: إنا لانقطع بإسلام أهل بوادي حضرموت، ولا نجد منهم ما يدل على إسلامهم إلا محبتهم للصالحين. أ هـ. وكلامه  يفهم أن أهل زمانه منهم كانوا يحبون الصالحين لما هم عليه من الدين، وتلك محبة دينية لاشك فيها، ولكن أكثر أهل البوادي اليوم لا يعقلون لمثل هذه المحبة معنى، وإنما يعظمون من اشتهر عندهم بأنه يكرم ويلوح ، فالحامل على تعظيمهم الرغبة في الكرامة، والرهبة من اللوحة، سمعت سيدي وشيخي وعمي الحبيب العارف بالله العالم العامل الزاهد صالح بن عبدالله الحداد يقول: جاء جماعة من البادية للزيارة، وجاءوا إلى العرض عشية وأخذ الأخ محمد يعلمهم " مراده به شيخنا الحبيب محمد بن طاهر " فلما ذكر لهم البعث، قال أحد شبانهم: من التقت عليه الصروف ما عاد يثور أي لا يعود فيقوم، ومراده بالصروف جمع صرف وهي الأحجار الرقاق التي تسد بها اللحود، قال: فقال له شيوخه: هه! اسكت ما أحد يكذِّب بكلام الصالحين، فكان عمي إذا حدث بهذه القضية يقول ما معناه: انظر فما هنا رب ولا نبي ولا قرآن، وإنما غاية ردهم: ما أحد يكذب بكلام الصالحين، فبواد قد عادت إلى مثل هذه الجاهلية ما أحقها بدعوة دينية يصرخ بها صاحب علمٍ يهزهم هزاً ولا يكون ذلك إلا بكثرة الدعاة إلى الله ولن يوجدوا بغير تعليم) .
وكفى بهذا النص تصويراً للجهل الذي خيم على البلاد رغم الدعاوى الكبيرة بوجود علماء أعلام ودعاة عظام ومرشدين كبار؛ بل أقطاب وأغواث أقامهم الله تعالى لحفظ الكون وأهله، فأين كل أولئك عن هذه البوادي وهؤلاء العوام لينقذونهم من هذا الجهل البالغ والضلال البعيد؟ إن المتأمل للنص تظهر حقيقة مُرّة هي أن هناك انحرافاً في منهج الدعوة والإرشاد والتعليم، فحب الصالحين الذي جعله عبدالله الحداد دليلاً على إسلامهم بل هو الدليل الوحيد على ذلك في نظره لم يأت من فـراغ؛ بل هـو ناشئ عن تعليم وتعبئة وتربية والذي علمهم ذلك كان بمقدوره أن يعلمهم محبة الله ورسوله ويعلمهم ولو بعض واجباتهم، فلما تعلموا محبة الصالحين ولم يتعلموا ذلك دل على أنّ من يأتيهم ويطـوف بـهم ويلتقي بهم في الملتقيات والزيارات من الوعاظ والمرشدين إنما كانوا يذكرونهم بمحبة الصالحين ويسردون على مسامعهم حكـاياتهم ويعددون كراماتهم، مما أورثهم محبتهم والتعلق بهم والخوف من مخالفتهم أو اسخاطهم، ومن أوضح الأدلة على أنهم قد ربّوا على ذلك خوفهم الشديد من الأولياء مع عدم خوفهم من الله تعالى والتجاؤهم إليهم ونذرهم لهم عند الأزمات والشدائد مع عدم التجائهم إلى الله أو النذر له، كل ذلك يدل على سوء التربية والانحراف في التعلم، وإن دعاة ومرشدي تلك الأزمان بدل أن يعبّدوا الناس لرب العالمين عبَّدوهم لآبائهم وأجدادهم.
وحقيقة أخرى يجب أن تقال وهي: أن ما ذكرناه آنفاً ليس هو الوصف الوحيد للجميع بل إن هناك أفراداً من العلماء والصلحاء كانوا سالمين من ذلك الانحراف فهم يسوؤهم انتشار الجهل، ويودون تعليم الأمة بعض أمور دينها وخصوصاً العبادات؛ ولكننا نجد أن بعض أولئك أيضاً يفرقون بين الناس، فأبناء السادة والمشايخ ومن يلتحق بهم يفتح لهم باب التعليم كاملاً ويحثون عليه ويدفعون إليه دفعاً؛ بينما أبناء الطبقات الأخرى يرون أن يقتصر على تلقينهم ما يحتاجون إليه من أمر العبادات مع منعهم من القراءة والكتابة حتى لا يلجوا باب العلم ويترقوا في سلمه؛ لأن ذلك مضر بهم ومضر بالأمة حسب زعمهم.
وإليك وثيقة مهمة تثبت ما أقول وتجلّي حقيقة تفكير القوم ومنهجهم في التعليم، وهي عبارة عن رسالة أرسلها أحد العلماء الغيورين والحريصين على تبصير الأمة بأمور دينها مما يتعلق بالعبادة فقط، ومع رغبة السيد المذكور في تعليم الناس على اختلاف طبقاتهم؛ إلا أنه لم ينسَ التأكيد على أن يكون ذلك التعليم عبارة عن تلقين فقط دون تمكينهم من الاعتماد على أنفسهم والسماح لهم بالانطلاق في ميادين العلم الواسعة، والرسالة نقلها بنصها محمد بن هاشم في تاريخ الدولة الكثيرية، قال - رحمه الله -: (وإليك مكتوباً عثرنا عليه كتبه بيده الحبيب أحمد بن عمر بن سميط العلوي إلى السادة العلويين بالجهة الشرقية ننقله هنا بنصه تبركاً وإفادة للقراء بمثال من تلك المساعي الطاهرة، قال: (بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة، يخص سادتي الحبائب الأجلاء الأعلام الحبيب عبدالله بن الحسين بن طاهر، والحبيب عبدالله بن أبي بكر عيديد وكافة السادة من آل أبي علوي حفظهم الله وأدام النفع بهم لنا ولسائر المسلمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نعلمكم أنه وصل خط للفقير من السلطان عمر بــن عبدالله بن علي بن مقيص الأحمدي، وعرف بالشأن الذي تصدى للقيام به فالله يبارك له ولنا ولجميع المسلمين في ذلك، ويسخر له على ذلك أعواناً وبطائن من أهل العلم والفضل والصلاح، إذا نسى ذكروه، وإن ذكر أعانوه، ويشرح صدره لقبول نصحهم وإرشادهم في عافية للجميع. وإن رأيتم يا سادتي أن ترشدوه وتعولوا عليه في أن يقيم عُلمة خاصة لتعليم مهمات الدين التي يلزم الكل تعلمها ولو بالرحلة ولو إلى الصين، ويحمل الكل من جهال طبقات الناس على دخولها من شريف وقبيلي وحراف وساني وسائل سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، ويكون ذلك تلقيناً من غير حضور قلم ولا دواة لما فيهما من المضرة لبعض الناس ممن يقل خوفه من الله كما تفيدون ذلك، وُيجعل لذلك ما يُرغِب أهل الفاقة والحاجة في دخولها للتعلم، كما لا يخفاكم أن ذلك من أهم المهمات ومن أقوى داعي لحصول النفحات، ورسّخوها في الجهة، المشار إلى ذلك بحديث إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها. وهذا إن شاء الله من التعرض، ولا ترون علينا فالحاضر يرى ما لا يرى الغائب:
ومن عجب إهداء تمر لخيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائض
والسلام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من المستمد: أحمد بن عمر بن زيد بن سميط) .
المبحث الثالث
التمايز الطبقي مظاهره ووسائل تكريسه
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: عدالة الإسلام وتسويته بين النـاس:
إن من أعظم المبادئ التي جاء بها الإسلام العدل بين الناس والتأكيد على المساواة بينهم من حيث الأنساب، فهم كما قال النبي : ((لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) ، وحذر من الفخر بالأنساب فقال: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبّية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب)) ، وأبان الحكمة في جعلهم شعوباً وقبائل وأنها لمجرد التعرف فيما بينهم وجعل علة التكريم والتفاضل بينهم هي التقوى قال تعالى:  يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير  ومع ذلك أكد على أخوَّتهم ووجوب العدل بينهم فقال:  إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون  وأكد وحدتهم فقال:  وإن هذه أمتكم أمة واحدة  وأبان النبي  أن الميزة في الآخرة بالأعمال لا بالأنساب فقال: ((ومـن بطأ بـه عمـله لم يسرع به نسبه)) وأنذر فاطمة فمن دونها من قرابته بأن مجرد قرابتهم له لا تغنيهم يوم القيامة فقال: ((يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لاأملك لكم من الله شيئا)) وإذا كان هناك فضل بالنسب،وهذا الفضل قد حدد وفصل، وجب على الأمة الاعتراف به وأدائه كما ينبغي،كالخصائص التي خص بها أهل البيت من حبهم واحترامهم والصلاة عليهم وحقهم في الفيء والخمس ومنع الزكاة عليهم، هذه الأمور معروفة وقد أقرها المسلمون وعملوا بها أو على الأقل أثبتوها في كتب العقائد والأحكام وطالبوا الأمة بأدائها، وما تكونت بسبب ذلك طبقة متميزة مترفعة على الناس بحكم نسبها في القرون الفاضلة ولا في سائر القرون، خلا في نطاق نفوذ الشيعة؛ فإنها الفرقة الوحيدة التي جعلت قضيتها الأولى تمييز آل الرسول  عن سائر المسلمين، وأسبغت عليهم أوصافاً وقضت لهم بأحكام ومنحتهم مزايا ما أنزل الله بها من سلطان وما ادعاها آل البيت من العلماء الأفاضل في عهد الصحابة والتابعين قبل بروز نحلة التشيع الغالي، وكذلك الترفع على الناس بالعلم أو بالصلاح، فما هي طبقة أبناء العشرة المبشرين بالجنة بين سائر المسلمين وهم أفضل أمة محمد  بشهادة الرسول  لا بشهادة دجاجلة الصوفية أو رجال الغيب الذين هم شياطين من شياطين الجن أو الخضر المزعوم أو المرائي الموهومة أو الكاذبة هل عرفت بين المسلمين طبقة مترفعة عنهم هي طبقة أبناء العشرة؟ كلا والله ما حصل بل كانوا يزوجون الناس ويتزوجون منهم، وكذلك طبقة العلماء والفقهاء هل ظهرت هذه الطبقة في غير نطاق الصوفية والقبورية أو الشيعة الغالية؟ الجواب: لا.
المطلب بالثاني: إثبات وجود طبقات مترفعة على المجتمع باسم النسب والعلم والولاية
قد أخبر النبي  بأن عدداً من أمور الجاهلية ستعود إلى الأمة وتستمر فيها من الفخر بالأنساب والطعن في الأنساب، فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لايتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) وعادت تلك الأمور كلها إلى الظهور ومنها التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب.
ومعقول أن يتفاخر ملِك مستكبر بآبائه وأجداده، وأن يتعاظم تاجر جاهل بماله، وأن يتباهى قبيلي متعصب بنسبه وحسبه، لكن من أغرب الأمور أن يتباهى صالح بصلاحه أو عالم بعلمه أو مدع أنه من آل الرسول ، وهو يعرف طريقهم ثم يتعالى على الناس بذلك!، لكنّ قوماً من اللائذين بهذا النسب والمستفيدين منه هم الذين سنوا سنة التفاخر والتعالي وادعاء أحقية الملك والخلافة بهذا النسب، وهم الذين ضخموا قضية أهل البيت وأحقيتهم بالإمامة حتى جعلوا ذلك أصل عقيدتهم، ومن قرأ أصول الإثني عشرية والإسماعيلية عرف ذلك، وعندنا في اليمن طائفتان تدعيان ذلك، وتسخران كل جـهودهما لتبنيه هما أئمة الزيدية الهادوية الذين ركزوا على الخلافة الظاهرة وجعلوها محور عقائدهم وأحكامهم وبسببها كفَّروا وضلَّلوا وفسقوا واستحلوا أموال مخالفيهم واشتد غضبهم على فرقة المطرِّفية وهي في الأصل منهم؛ حينما خالفت في مبدأ التفاضل بالنسب,وأجازت الإمامة في غير قريش فانتدب لهم معاصرهم الإمام عبدالله بن حمزة ووضع تلك القاعدة الظالمة التي يقول فيها:
أما الذي عند جدودي فيه فيقطعون لِسَنه من فيـه
ويؤتمـون ضحـوة بنـيه إذ صار حق الغير يدعيه
وبناءً على ذلك قام بإبادة فرقة المطرِّفية إبادة كاملة، حتى لقد هدم مساجدهم وقراهم وقتل مقاتليهم وسبى ذرارييهم ولاذنب لهم إلا أنهم خالفوا في ذلك الأصل ، ومن عجيب ما فعل أنه كتب على جدار أو باب مسجده:
أقسمت قسمة حالف بر وَفيِّ لايدخلنك ما حييت مطرفي
وقد وُضِعَتْ في ذلك أحاديث وقُعَّدِتْ قواعد ليس لها أصل.
وفي بلاد الشافعية وخصوصاً في حضرموت قامت خلافة باطنة إمامها القطب وسلاحها البرهان ووسليتها لبسط نفوذها تفريق الأمة وتقسيمهم إلى طبقات، لكل طبقة وظيفتها التي تتكامل مع بقية الطبقات الأخرى في قيام تلك الخلافة الباطنة وترسيخها وحمايتها ومدها بكل ما تحتاجه من دعم معنوي وعسكري واقتصادي، وحتى السلطات السياسية جندت لخدمة هذه الخلافة، وإليك الأدلــة على ذلك من كتب القوم أنفسهم.
قـال ابن عبيد الله في رسالته " نسيم حاجر ": (إن العلويين الحضرميين ومن لفّ لفهم إلى هذا الحين إن لم يكونوا على مذهب الإمامية فإنهم على أخيه، إذ طالما سمعنا ممن لا يحصر عداً أو لا يضبط كثرة منـهم من يقول: إنها لما زويت عنهم الخلافة الظاهرة عوِّضوا بالخلافة الباطنة،فصارت إلى علي ثم إلى ابنه ثم علي زين العابدين ثم إلى الباقر ثم إلى الصادق، وهكذا في الأفضل ثم الأفضل من ذرياتهم،ألا ترى أنهم يقولون بقطبانية هؤلاء،وما القطبانية إلا الإمامة بنفسها، واذكر في الكتاب ما اتفقوا عليه من قطبانية الفقيه المقدم، ما يزعم له بعضهم من الخلافة الراشدة، وتأمل ماجاء في الحكاية (337) من الجوهر الشفاف وما علق به عليها مؤلفه، فإنها صريحة في أن الشيخ السقاف ليس بحنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي، وإن تلك هي صفة القطب الذي يولي من يشاء ويعزل من أراد،لارادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، وماجاء في النور السافر، وتناقله من بعده الشيخ محمد بن أحمد باجرفيل من الاعتذار عن تصرفات الإمام أبي بكـر بن عبـدالله العـيدروس (العدني) وحاصله: أن العلامة بحرق سأله عن تصرفات مالية يباشرها الإمام العدني يقبضها ويصرفها بغير مصارفــها في ظاهر الأمر، فقال له: أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها. انتهى، وذكر هو وغيره أن الشيخ علي بن أبي بكر كان يشهد للعدني بالقطبية وهي الخلافة التامة الباطنية ليس غير، ولاننس ما جاء في عقد الجواهر والدرر للشلي أن الشيخ علي بامحسون كان ناظراً على مسجد سرجيس "بتريم"،فطلب الإذن للتصرف فيما يتعلق بالمسجد من السيد عبدالله بن الشيخ العيدروس الأوسط وقال له: إذا تحقق أنك صاحب الوقت، فأذن له بعد إلحاح، وما أكثر ما يتمثل به أعيانهم من قوله:
ملوك على التحقيق ليس لغيرهم من الملك إلا رسمه وعقابه
وممن تمثل به سيدي الإمام أحمد بن محمد المحضار في قصة طويلة ملخصها أنه حج في سنة وبمعيَّته السادة الأجِلاء: عبدالرحمن بن علي بن عمر السقاف المتوفى "بسيئون" سنة (1292هـ) ومحمد ابن علي بن علوي بن عبدالله السقاف المتوفى وهـو ساجد بمسجد الشيخ عـمر المحضار " بتريم " سنة (1301هـ) وصديقي السيد شيخ بن محمد الحبشي المتوفى" بسيئون " سنة (1348 هـ) فاجـتمعوا بأحد الأمــراء من الأشراف إما في " المخا " وإما في " أبي عريش "، فالعهد بالرواية بعيد، ولما أخبروه عن أمراء بلادهم بعد أن أحفاهم السؤال، قالوا له: إن أحدهم (وهو القعيطي) من حمير، والثاني (وهو الكثيري) من همدان، اقتحمتهم عينه، ولا مهم على خضوعهم لمن سواهم، فقال له المحضار: إنما هم خدام لنا، والأمر أمرنا، وتمثل بالبيت،والقصة مبسوطة بالبضائع،فتراهم لاينظرون إلى غيرهم من الأمراء إلا ما ينظره الفقيه إلى ولاة الضرورة من نفوذ أحكامهم بقدرها خشية الاضطراب.
ومنهم من يرى أنه لا يقوم سلطان من غيرهم إلا كان عليه نظر من القطب صاحب الوقت، فيصير كالنائب عنه ليس إلا وهو موجود في كلامهم بكثرة، ورأيت بخط شيخ مشائخـنا السيد عبد الرحمن بن علي السابق الذكر عن أبيه ما معناه: إن هؤلاء الأمراء لايعدون إلا باغين ظالمين، وما أدري أقال ذلـك من تلقاء نفسه أم كان ناقلاً عن أحد من الأئمة؟ فإن العهد بالإطلاع عليه قد تقادم، وسواء كــان من مقوله أومنقوله فإن له اتصالاً بالقصة التي جرت لهم مع ذلك الشريف) .
وكذلك يقول صالح بن علي الحامد في تاريخ حضرموت: (ولما لدى العلــويين في تـلك العهود من الفضل والعلم يضاف إلى ذلك ماهم عليه من النسك والصلاح والقيام بوظيفة الدعوة والإرشاد وإخماد الفتن، كان لهم من الود والإجلال لدى جميع الطبقات في الشعب الحضرمي والثقة ما خوّل لهم قيادة الشعب وإدارة دفة الثقافة والتعليم فيه، وكوّن لهم بحضرموت سلطة دينية جعلت لهم بين السكان المكان المرموق والكلمة النافذة.
ويعلم باستقراء أخبار ذلك العصر أن الزعامة في العلويين بعد الإمام الفقيه المقدم بقيت في أبنائه يتداولونها، ثم إنها انحصرت بعد الإمام السقاف المتوفى سنة (819هـ) في ذريته خاصة. قال الطيب أبو مخرمة في تـاريخه في ترجمة الإمام السقاف ما نصه: (ولأولاده ونسله إلى الآن الميزة والرئاسة علـى آل أبي علوي) أهـ.
وقد شهدت الدلائل والآثار على أن العلويين في تلك الأزمنة أداروا دفة الحياة الثقافية والإصلاحية بكل إخلاص، وساروا بالبلاد سيراً مرضياً في تواضع لا تشوبه أنانية، وفي نزاهة تامة وذلك ما جعلهم يرغبون عن الإمارة، ويتنحوّن بكل قواهم عن كراسي الحكم، تاركين ذلك عن رضى واختيار لغيرهم، حتى قال البرزنجي:ما في آل أبي علوي إلا أنهم بلدهم لغيرهم، وهم وإن ابتعدوا عن الحكــم ورغبوا عن الولايات اعتباراً لأنها من حظوظ الدنيا أو لغير ذلك، فإنها لاتقوم إلا على تأييدهم، ولا ترسخ قوائمها إلا على إرادتهم غالباً منذ نزلوا بحضرموت، ولذلك لما ذكر الشيخ الشوّاف في منظومته الدارجة السيد علوي بن عبيدالله بن أحمد بن عيسى أشار على ما ذكرنا إذ قال:
والشيخ علوي الأول هو ذاك ذي قد دوّل
والأرض منـها زوّل من كان جاهل بالله
وكلمات دوّل الأرض وزوّل لها مدلولاتها في الإشارة إلى التأثير في إقامة دولة وإزالة غيرها.
ومع ذلك فهم لا يزالون يراعونها عن كثب أشد الرعاية، ويتابعون تطوراتها وتغيراتها في حيطةٍ وحذر، باذلين في كل ذلك إرشاد وتقديم جهد المستطاع) .
وقال أحمد بن حسن العطاسنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةوأهل البيت يستحقون الخلافة جميعهم بالنيابة عن متبوعهم الأعظم ، وإنما لا تظهر بكمالها إلا في فرد واحد، إذا جاءت نوبته المطلقة فحينئذ تحن إليه الأرواح وتعكف عليه الأشباح، بمعرفة خفية وشؤون جلية) .
هذه هي مكانة صوفية حضرموت وبالذات آل أبي علوي عند أنفسهم ومن يدين لهم بالولاء والاتباع، وقد سخروا الخرافة أسوأ تسخير لتثبيت ذلك فأظهروا للناس أن كل قيام دولة أو سقوطها إنما هو بإرادتهم وكل نصر أو هزيمة لقبيلة فإنه مرتبط بسلطتهم أو سلطة أقطاب الصوفية الآخرين " المنطوين فيهم " يقول صالح بن علي الحامد: (ولم تتبدل الدولة " بتريم " حتى شاء الله، وذلك بعد أن رضي العلويون، ورأوا في ذلك المصلحة العامة) .
وتلك السلطة الظاهرة عند أئمة الزيدية قد أذاقت الأمة صنوفاً من القهر والاستعباد والسخرة ضج منها الأحرار وسجلها المؤرخون وحملت المخلصين على العمل على محاربتها محاربة لا هـوادة فيها، ذو الفكري بفكره وذو السياسة بسياسته وذوا المال بماله حتى هيأ الله الانعتاق منها .
وفي بقية المناطق كانت المعاناة أطول وأشمل غير أن وقعها لم يكن بذلك الظاهر المزعج كما هو شأن سلطة الأئمة خصوصاً أن التمهيد لها والتربية عليها وإقناع الناس إن هذا هو واجبهم وأنه في مصلحتهم حيث سينالون بذلك بركة الأولياء وستفيض عليهم إسرارهم وإمدادهم إن ذلك قد خفف المعاناة وأطال أمر الاستسلام لها.
وفي المطلب التالي ما يلقي الضوء على تلك السلطة وأساليب الاستفادة من سائر طبقات المجتمع.
المطلب الثالث: مظاهر التمايز الطبقي:
وقد ترسّخ ذلك التمايز وظهر بعدة مظاهر:
المظهر الأول: تقسيم المجتمع إلى طبقات متفاوتة لكل طبقة ميزاتها وحدودها، وعليها مهام وحقوق يجب أن تلتزم بها،مع أن للطبقة العليا الاستفادة من كل ما هو من حقوق الطبقات الدنيا ولا عكس
الطبقة العليا (السادة): وهي ذات أرفع وأوسع امتيازاً وهم ذرية أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله الذي ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي  ويسمون في حضرموت بـ(آل باعلوي)وهم فيما بينهم يتفاضلون كذلك كما سيأتي رغم أنهم ينتمون إلى رجل واحد.
الطبقة الثانية: المشايخ وهي مرتبة اصطلاحية لا تقوم على نسب معين إذ تنتمي فئة المشايخ إلى عدة قبائل، منهم من تنتسب إلى آل البيت، ومنهم إلى بقية بطون قريش ومنهم إلى غيرهما من سائر القبائل العربية، فميزتهم لا على سبيل النسب ولكن على مقياس التصوف فأكبر أجدادهم إغراقاً في التصوف أرفعهم منزلة وأكثر أجدادهم " انطواءً في أهل البيت " أي تبعية لهم أرفعهم كذلك، مع ما يضاف إلى ذلك من صفة الفقه في الدين التي تحــرص هذه الطبقة أن يكون منها من يتصف بها وخصوصاً في السابق.
والطبقة الثالثة: القبائل حاملة السلاح وهي التي بقيت متمسكة بأنسابها متعصبة لها متماسكة فيما بينها معتمدة على قوتها وحميتها.
الطبقة الرابعة: وهم القبائل العربية التي اندمجت في المجتمع وانشغلت بالحرف المختلفة من زراعة وصناعة وتجارة وما يلتحق بذلك، وهؤلاء قد يتفاوتون أيضاً فيما بينهم بحسب مهنهم، وهذا التقديم والتأخير قد يختلف من منطقة إلى أخرى، ويسمون القرار أو الحرثان أو المساكين بحسب اصطلاح المناطق المختلفة.
والطبقة الخامسة: هم " الصبيان " أي الخدم و"العبيد" أي الموالي الذين كانوا مماليك وقد يفرق بين هاتين الفئتين فتصبحان طبقتين يقدم الصبيان على العبيد في بعض المناطق، ويقدم العبيد على الصبيان في مناطق أخرى) ، وفي بقية مناطق اليمن تفاوت وإنما قد يكون علة هذا التقسيم بشكل أقل وقد تكون درجات سلم التفرقة أقصر.
والذي يظهر أن أساس هذه التفرقة وهذا التفاضل هو التسلط الروحي الذي فرضه شيوخ الطرق الصوفية يضاف إليه النسب الهاشمي الذي يفاخر به أولئك الشيوخ، وقد لعبت الخرافة دوراً بارزاً في هذا التمايز إذ قد بنى شيوخ التصوف لأنفسهم تلك المنازل وأشادوها بما يبثون في المجتمع من تلك الخرافات والتي هيأوا المجتمع للقبول بـها وتصديقها والعمل بما تدعوا إليه، وهكذا تكونت وتطورت عبر الأيـام فمن جمع بين شرف النسب العرقي والنسب الروحي فهو القمة في الشرف، وكلما كان غالياً في التصوف كثير الشطح والمجازفات والتبجح كان أرفع وأسمى، والدليل على ذلك أن آل باعلوي في حضرموت كلهم من ذرية رجل واحد وكلهم قد اعتنقوا التصوف ودانوا به، بل إن معظمهم إن لم يكونوا جميعهم يرجعون إلى الصوفي الكبير " الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي " ومع ذلك يتفاوتون فيما بينهم، ويرى بعضهم لأنفسهم ميزة على غيرهم لانتسابهم لمن كان أكثر تصوفاً بل أكثر سطحاً ودعاوى، فهذا واحد من آل حامد من ذرية الشيخ أبي بكر بن سالم الذين يعدون أرفع السادة الحضارم منزلة يقول في أبيات له مفتخراً بنفسه وجماعته:
حامدي حامدي ما نا كاف ولاَّ خرد
حامد وترباة رخية ند عشرة يهـــد
يقول هو من آل الحامد وليس من آل الكاف ولا من آل خرد، فآل حامد أشرف وأرفع قدراً من تلك القبيلتين رغم أن الجميع من آل باعلوي.
وقوله ترباه رخية أي من سكان وادي رخية حيث تحولت تلك القبيلة من السادة إلى القَبَلِيَّة وحملت السلاح فلذا فإنه " ند عشرة " أي مقابل عشرة في الحرب والضراب، وهي المعنية بقوله "يهد " أي يقاتل.
وفي المقابل يقول أحد المنتمين إلى إحدى القبائل التي تعد من المستوى الأقل عندهم:
لاجئت باماري صحابي ماشي معي بيرق وقبه
نحنا علـى دين الصحابة والكافـر إلا في الهربه
يقول إذا جئت لأفاخر أصحابي من القبائل المتعالية ليس معي حجة أقدمها؛لأن ميزان التقدم هو البيرق والقبة شعار السلطة الصوفية، فكل ولي معترف به مسلّم له بالولاية والتقدم،فشعار الفضل والتقديم أن يكون على قبره قبـة ولخليفته ومنصب مقامـه بيرق وقـوله في الهربة أي في (أوروبا).
وبهذا يتضح أن للقبورية أثراً كبيراً في هذا التمايز وأنه بقدر الإغراق في القبورية تكون الرفعة والمنزلة؛ ولأن الصوفية من عادتها أن تجعل موضع شيخ طريقتها مقدساً وتسبغ على خلفائه القداسة المقتضية للتسلط؛ ولأن تلك السلطة بحاجة لدعم معنوي ودعم سلاح ودعم مادي وأتباع تظهر بهم مكانة المتبوع فقد جاءت بقية الطبقات.
فطبقة المشايخ وهم الطبقة المثقفة الوحيدة في الغالب بعد السادة فإن مهمتها الدعم المعنوي من نشر لفضائل أولياء السادة وترويج لخرافاتهم وتعظيم لمقاماتهم بين بقية الناس، وكلما كان الواحد منهم أكثر تقليداً وفناءً فيهم كلما كان مقامه أرفع وثناؤهم عليه أكثر؛ ولذا فإنهم يمدحونه بأنه "منطوٍ في أهل البيت "
كما قالوا في الشيخ عبدالله بن أحمد باسودان، أو " خزانة آل باعلوي " كما قالوا في الشيخ سعيد ابن عيسى العمودي وهكذا، وطبقة المشايخ قد حصلت هي الأخرى على امتيازات متقاربة بقدر شهرة جدودها وسعة ولايتهم وسطوع برهانهم.
وأما القبائل فإنها القوة الضاربة في المجتمع،وقد تعمد السادة بدرجة أساسية وربما بعض المشايخ إبقاء هذه الشريحة جاهلة غير متعلمة ليسهل التحكم فيها وتسخيرها في مصالـح أولئك الأسياد، فما من قبيلة من قبائل اليمن الشافعي إلاّ ولها اعتقاد في ولي من الأولياء وتدين بالتبعية لخلفائه وتعطي العهود والمواثيق لكل من يتقلد المنصبة من خلفاء ذلك الولي، وهذا أمر متواتر لا ينكره أحد وقد نص عليه في بعض كتب التاريخ والتراجم وغيرها، ولدى تلك القبائل اعتقادات جازمة أنه متى ما أغضبت القبيلة خليفة الولي أو خفرت ذمة أحد من أفراد ذريته أنها معرضة للعقوبة من ذلك الولي، ولذلك فإنها تبادر باعتذار للأحياء والأموات وتقدم العقاير للأضرحة كما مر شرحه في فصل سابق.
وقد يحرك مناصب السادة والمشايخ مجاميع القبائل ويزجون بهم في حروبٍ يكون المستفيد الوحيد منها هو ذلك المنصب وأصحابه، وكم تراق من دماء وتذهب من أنفس في سبيل ذلك، وقد تسلط قبيلة على قبيلة أخرى يحركها المنصب؛ لإن إحدى القبيلتين خرجت عن الطاعة أو خفرت الذمة، كما أنهم قد يستخدمون تلك القبائل أو البعض منها في تطويع بقية الشرائح المنزوعة السلاح المستضعفة فيما إذا قصرت في أداء ما عليها من إتاوات مالية لمقامات المناصب والأولياء أو للحكام من السادة أو المشايخ، وهكذا فيما لو قصر أحد أولئك المستضعفين فيما هو متعارف عليه من السخرة والخدمة بل وبعض العادات التي تتجلى فيها إهانة للمساكين والعظمة والكبرياء للمتعالين .
وخذ مثالاً على تلك السلطة بذكر بعض الأسر ذات السلطة ومن يتبعها من القبائل، قـال الشاطري: (ومن أبرز العائلات التي تحدرت منها المناصب آل الشيخ أبي بكر بن سالم ولهم وجاهة عظيمة لدى القبائل اليافعية والمهرة والمناهيل وغيرهم، وآل العطاس ووجاهتهم أكثر لدى قبائل الجعدة ونهـد، وآل العيدروس ووجاتهم لدى القبائل الشنفرية والتميمية، وهذه أسر علوية شهيرة، وللمشايخ العموديين وجاهة عظيمة لدى قبائل دوعن، كما أن لآل أبي وزير وجاهة لدى قبائل الساحل، ولآل أبي عباد وجاهة لدى بعض القبائل البدوية، وهذه أسر شهيرة من المشايخ تحدرت فيها مناصب معروفة.
وهناك أسر أخرى علوية وغير علوية لها منصبها ووجاهتها ألتمس العذر لعدم الإطالة بذكرها؛ لأن المقام يقتضي ذلك، كما أني من أجله لم يمكني التفصيل بتعداد أسماء القبائل المتعلقة لنفوذ المناسب، والمهم إعطاء صورة عامة عنها طبق الواقع إذ ذاك، ولكثير من المناصب خدم وحشم وخيول ومماليك، وعلم وطبول قل أن تفارقهم) .
وأما طبقة الحرثان " المزارعون " والتجار فإنها تمثل البعد الاقتصادي، فإنه من المعروف أن أرباب المقامات وخصوصاً المقامات الشهيرة كمـقام منصب آل الشيخ أبي بكر في عينات، ومناصب آل العطاس في حريضة وعمد ومنصب مقام الشيخ سعيد بن عيسى العمودي في "بضة "،وغيرها من المقامات فإنه قد فرض لها على كثير من الحرثان والذين يسمون " فقراء " فقراء الشيخ أبى بكر أو فقراء الشيخ سعيد نصيب معلوم من زكاة أموالهم يوردونه إلى تلك المقامات، هذا بالإضافة إلى النذور والصدقات التي تشترك فيها جميع الطبقات وربما طلبوا منهم طلبات محدده في مناسبات معينة وهم لا يستطيعون بحالٍ رفض الطلب؛ لأنهم يخافون من بطشهم أحياناً بتسليط بعض القبائل عليهم، أو لخوفهم من الأولياء أن يغضبوا عليهم وينتقموا منهم.
وأما طبقة الصبيان والعبيد فإنها للخدمة في شتى شؤون المناصب والمقامات في كثير من الأحيان دون مقابل، ولا يستطيعون أن يرفضوا ذلك كما هو الشأن في الطبقة السابقة بل أشد، وتلك الطبقات المتسلطة لا تجد أي حرج من الاستهزاء والازدراء بالطبقات الدنيا وذمها وإظهار حقارتها، بل إذا أرادوا أن يمثلوا لدناءة الأصل ولؤم الطبع فإنهم يمثلون بهم دون أي تحرج، ولو على مسامعهم، وكمثال على ذلك استمع إلى هذه الحكاية من عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف مفتي حضرموت يرويها عن علي بن حسن العطاس صاحب المشهد والموصوف بالقطبية والعلم والأدب.
يقول ابن عبيدالله واصفاً شعر الحبيب علي بن حسن العطاس: (وله ديوان عذب كأنه اللؤلؤ الرطب وهو يمر في منظومه ومنثوره مع خاطره لا يتكلف ولا يتنطع ولا يدع شيئاً بباله إلا نفث به لسانه وعسل به قلمه، من ذلك أن جماعة من قرار شبام أتوا عنده فأكرمهم وأسبغ قراهم ومعهم جمّال من آل مهري سأل عنه الحبيب عند حضور العشاء فقالوا له: إنه عند المراكيب فأخِرْ عشاءه حتى تفرغ، قال: لا يمكن أن نأكل إلا ويده مع أيدينا، واتفق أن الحبيب دخل شباماً بعد أمة من الزمان واجتمع بكل أولئك في الجامع، ولم يقل له أحد تفضل إلى منزلي وأَبَوْا بلسان الحال أن يضيفوه، فاضطر إلى الخروج من شبام قريب المغرب فلاقاه ابن مهري وعزم عليه وألح وذبح له منيحة ولده، فأنشأ الحبيب قصيدة يقول فيها:
علي بن حسن حوط الحيوار وامسى مزار وامسيت ياجحي جنة بعد ماكنت نار
يالقروى القار ياعرق الحدج يالحـمار حــب القبيلي وقيراط القبيلي بهـار
وإن جئت صر القبيلي مالطف في الصرار
الشاهد من الأبيات قوله: (يالقروى القار ياعرق الحدج يالحمار) فهذا سب واضح فقول "القار" أي المر وهو كناية عن الخبث فقد وصفة بالخبث وكنّى عن ذلك بالمرارة التي شبهها بعرق الحدج " أي الحنظل " الذي يضرب به المثل في عدم الاستساغة، وأفحش مـن ذلك وأظهر جعله هذه الطبقة حميراً ولا يخفى ما في هذا الوصف من الفحش والبذاءة، ووصف أفراد الطبقات الضعيفة بـ " الحمار " عادة مستمرة إلى اليوم من قبل الثلاث الطبقات المتسلطة إلا القليل ممن عصمه الله بالعلم والخوف من الله تعالى.
المظهر الثاني: اعتبار الكفاءة بالأنساب، فالطبقة العليا لا تزوج الطبقة السفلى مـع إعطاء العليا الحق في التزوج ممن هي دونها، وهذا مخالف لأصل العدل والمساواة في الإسلام الذي جعل التفاضل والتكريم بالدين لا بالنسب، وهـو مخالف كذلك لأصل الكفاءة الـتي اعتبرها النبي  حين قـال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسـاد عريض)) وفي رواية كبير)) ، وهــذا المظهر مازال قائماً إلى اليوم إلا ما شاء الله.
ومن الأدلة على أن هذا الأسلوب مقصود، وله أهدافه التي هي ليست مجرد الجهل والعصبية، ماحدث بين الحضارم العلويين والإرشاديين في جنوب شرق أسيا من خصام بل صراع وصل إلى حد القتال وإراقة الدماء وما ترتب على ذلك من آثار كبيرة، وكان السبب في ذلك كله هو إفتاء الشيخ أحمد السوركتي شيخ الإرشاديين بجواز زواج العلوية من غير العلوي، فثارت ثائرة العلويين وأقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل ذلك، وأُلِّفَت ردود كثيرة من كتب ومقالات صحفية وخطب ومحاضرات وغير ذلك، وقد ظهر من مجموع تلك الردود أن هذه الفتوى خطيرة غاية الخطورة على الترتيب الاجتماعي المستقر في حضرموت، وهدم له وإفقاد العلويين ميزة ظلوا محتفظين بها قروناً طويلة.
ولا أريد الإسهاب في هذا الموضوع فمن أحب الاطلاع عليه فليرجع إلى كتب ورسائل الطرفين ومن أشهرها رسالة " صورة الجواب " للشيخ أحمد السوركتي و"فصل الخطاب " للشيخ أحمد العاقب زمبل السوركتي وأبرز مناصريه، وكتاب " القول الفصل فيما لقريش وسائر العرب من الفضل " للسيد علوي ابن طاهر الحداد، وديوان ابن شهاب فله قصائد في الموضوع تمثل وجهة نظر العلويين، وفتوى السيد عمر بن سالم العطاس بتحريم زواج العلوية بغير العلوي ومجلة المنار الصادرة بالقاهرة ففيه مقال ضَافٍ للشيخ محمد رشيد رضا، وكتب التاريخ المعاصرة لتلك الحقبة والتالية لها،
أقول إن مجمل ما دار في تلك المعارك وما ترتب عليها ليؤكد مدى اعتماد العلويين على هذا الأصل واهتمامهم به لما يترتب عليه من ميزة اجتماعية لهم.
المظهر الثالث: التميز بلقب " سيد " الذي كان مختصاً بالعلويين لا يشاركهم فيه غيرهم حتى من المشايخ الذين هم أرفع الطبقات بعدهم، وقد تناولت معاركهم المشار إليها سابقاً هذه الميزة، وقـد جـد الإرشاديون في تعميم هذا اللقب على كل رجل من أي طبقة كانت، وذلك بعد أن فقد معناه اللغوي، فلجأوا للعرف السائد لدى المعاصرين من العرب في شتى البلاد العربية من إطلاق سيد على الرجل وسيده على المرأة المتزوجة، وقد نجحوا إلى حد كبير في تعميم هذا اللقب، والأسوأ من اختصاصهم بلقب سيد اختصاص رجالهم بوصف " الشريف " ونسائهم بوصف " الشريفة " والمبالغة في ذلك، حتى أن بعض الألفاظ أو التصرفات ليدل ظاهرها على اختصاص الشرف بهم وأنـه لا شريف سواهم، من ذلك أن يقف الرجل في بعض المناطق على المجلس الذي يضم عدداً كبيراً من الناس فيقول: (حد شريف في المجلس) أي: هل يوجـد شريف في المجلس؟ فإن وجد أحد منهم قيل له: نعم هو ذاك، وإن لم يوجد قيل له: لا، فانظر كيف يترتب على هذا السؤال وجوابهم نفي الشرف عن جميع الحاضرين.
المظهر الرابع والخامس: تميز العلويين دون سواهم بتقبيل الأيدي ولباس العمائم بشكل خاص لا يشركهم فيه غيرهم، يقول صاحب تذكير الناسنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةوسئل سيدي عن تقبيل أيدي الأشراف هل هو سنة أم بدعة؟ فقال رضي الله عنه: لمّا خرج السادة العلويون إلى جهة حضرموت ميزهم أهل الجهة بعلامتين العمامة، وتقبيل اليد، فالتقبيل بقي إلى الآن، والعمامة شاركهم فيها غيرهم، وكان سيدي إذا قابل أحداً من المشتهرين بالعلم والفضل أول مقابلة يقبل ما بين عينيه ويقول: هذه خاصة للعلم ثم يصافحه، وكان لا يدع أحداً يقبل باطن كفه بل يعاتب كل من أراد ذلك، ويقول: ما الفرق بين باطن الكف وظاهرها؟ أما يكفي ظاهرها عن باطنها،ولا يدع أحداً يصافحه قبل صلاة الصبح ويقول المصافحة بعد الصلاة أولى) .
المطلب الرابع:نماذج من الخرافات التي استخدمها القبورية لتعميق سلطتهم واستعلائهم:
النموذج الأول: ما ذكره الشرجي في ترجمة الفقيه إسماعيل الحضرمي: (أن من قَبَّل قدمه دخل الجنة) .
النموذج الثاني: ما ذكره الشرجي كذلك في ترجمة عبدالله بن عمر الناشري قال: (وبلغ في آخر عمره مبلغاً عظيماً من الصلاح حتى كان يقال: (أن من قبَّل بين عينيه دخل الجنة) .
النموذج الثالث: ما ذكره الشرجي في ترجمة علي بن أبي بكر بن شداد قال: (ومـن كراماته أنه كان يقال: (من مشى خلفه أربعين خطوة غفر له) .
النموذج الرابع: ما ذكره الشرجي في ترجمة الفقيه أبي بكر بن محمد بن عمران قال: (وكانت له كرامات ظاهرة، منها أن بعض الناس رأى النبي  في المنام يقول له: من قبل قدم الفقيه أبي بكر دخل الجنة) .
النموذج الخامس: ما ذكره الشرجي في ترجمة عيسى بن حجاج العامري قال: (ويروى أنه دخل عليه بعض الفقهاء فرأى جماعة من أصحابه يقبلون يده ورأسه عند الدخول وعند الخروج، فقال له: يا شيخ ما هذا التقبيل الذي ليس بسنة؟ فقال له: يا فقيه العبد المؤمن ريحانة الله في أرضه ولا بأس بشم الريحان عند الدخول وعند الخروج) .
النموذج السادس: ما ذكره صاحب تذكير الناس قال: (وجاء في القراءة على سيدي في مناقب الشيخ سعيد بن عيسى العمودي أنه قال: من صافحني أو صافح من صافحني، فهو في الجنة،فقال سيدي أحمد: الحمد لله، قد صافحناه مراراً، فقال الحاضرون: ونحن نريد أن نصافحك، فقام الحاضرون فصافحوه، قال سيدي: وجاءت إليَّ شريفة من الصالحات من دوعن، وقالت: دعني أقبل رأسك فإني رأيت رسول  يقول: من أراد الخير والبركة، فليقبل رأس السيد أحمد بن حسن العطاس، فلم يرض ذلك، ثم جاء رجل آخر من الصالحين المحبين لأهل البيت وقص مثل الرؤيا السابقة، وطلب من سيدي تحقيق الرؤيا فتركه سيدي، وما أراد من تقبيل رأسه الشريف) .
النموذج السابع: قال صاحب تذكير الناس وهو يحكي كلام أحمد بن حسن العطاس فيما يتعلق بتقبيل الأيدي: (وقال: إني إذا دخلت على أحد من الصالحين يعني من أهل البرزخ، أبدأ أولاً بتقبيل قدمه، ثم تقبيل ركبتيه، ثم يده ثم رأسه ووجهه، وحضر عند سيدي جماعة من السادة أهل تـريم، ومنهم الحبيب محـمد بن سالم السري، فطلب الحبيب محمد المذكور من سيدي المصافحة كما صافحه النبي  والتشبيك كعادة السلف الصالحين، فصافحه وشابكه بيده، ثم طلب منه جميع الحاضرين المصافحة فصافحهم جميعهم) .
فهذه سبعة نماذج كلها تدل على تعبيد الناس لهذه الطبقة المتعالية واعتبار أن تقبيل أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم أمر مطلوب من قبل الله تعالى موعود عليه بالجنة ومغفرة الذنوب، وقد أخذ الناس بهذا وتداولوه وتزاحموا عليهم يقبلون رؤوسهم وأيديهم وأرجلهم، بل إن العادة في كثير من القرى والبوادي قديماً أن عوام الناس من شيوخ قبائل فمن دونهم كانوا إذا دخـلوا مجلساً فيه أحد مـن السـادة جثوا على ركبهم وزحفوا كذلك من عند الباب إلى عند ذلك الرجل ثم قبلوه.
المبحث الرابع
انتشار الجهل والأمية في الأمة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حال اليمن قبل انتشار التصوف من الناحية العلمية:
لقد كانت العلوم الشرعية شائعة سائدة منتشرة قبل ورود الصوفية وانتشارها في القرن السابع في جميع البلاد اليمنية زيدية وشافعية، ولكن بعد ورود التصوف وانتشاره بدأ العلم ينحسر في البلاد التي سيطر عليها، فيما عدا فترات متفرقة تكون الدولة فيها قوية محبة للعلم والعلماء فيزدهر العلم إلى جانب التصوف، ولكن لكل منهما كيانه المتميز بل ربما حصل الصراع العنيف بينهما كما حصل في زبيد أيام الدولة الرسولية، ولتصور حالة العلم فيما قبل انتشار التصوف يمكن مراجعة طبقات فقهاء اليمن للجعدي، فقد ذكر أعداداً كبيرة من العلماء من سائر مخاليف اليمن، ومن قرأ الطبقة السابعة من طبقاته علم ذلك، فقد أورد أعداداً من العلماء من زبيد وسائر بلاد تهامة ومن إب والجند ولحج وعدن وأبين وشبوة وحضرموت وظفار وسائر بلاد اليمن الشافعي، وقد ذكر مؤرخو حضرموت أن العلم اندثر في أوائل القرن السادس حتى رحل الشيح سالم بافضل لطلب العلم إلى أماكن عديدة منها العراق، وغيره، وأطال الغيبة حتى ظن أهله أنه قد مات، ثم عاد بأحمال من الكتب فعكف على نشر العلم حتى (حصّل العلم على يديه خلق، حتى أنه ربما بلغ في تريم ثلاثمائة مفتي في عصر واحد) .
ومع أن هذا الكلام فيه مبالغة ظاهرة، إلا أنه يدل على كثرة العلم وتوفره في البلاد، ويشهد لانتشار العــلم وظهوره في حضرموت ما ذكـره الشلي في ترجـمة الفقيه المقدم حيث قـال: (وكان أهل حضرموت مشتغلين بالعلوم الفقهية وجمع الأحاديث النبوية، ولم يكن فيهم من يعرف طريق الصوفية ولا من يكشف اصطلاحاتهم السنية فأظهر الأستاذ " الفقيه المقدم " علومها ونشر في تلك النواحي أعلامها) .
فظهر من مجموع هذه النقول ومما أورده الجعدي في الطبقة المشار إليها كثرة العلم والعلماء وسعة انتشار العلم في جميع مخاليف اليمن، وأن تلك العلوم تشمل علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة وغيرها من العلوم النافعة، ولكن ما مصير تلك العلوم بعد ورود التصوف؟ هذا ما سنعرفه في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: أثر انتشار التصوف في انحسار العلوم الشرعية:
التصوف يعتمد على ما يسمى بالعلوم الباطنة أو علوم " الباطن " والعلوم اللّدنية التي سبيلها الكشف والذوق والـمَرائي، قلت: بل والدعاوى الكاذبة.
وهذه السبل لا يمكن أن يحصل بها علم الشرع قطعاً، إذ منهج تلقي العلم الذي سار عليه الصحابة والتابعون ومن تبعهم إلى يوم الناس هذا هو التعلم والجلوس إلى العلماء والرحلة إليهم والأخذ عنهم بمختلف طرق الأخذ المبينة في مواضعها، وقد ثبت عن رسول الله  ما يدل على ذلك حيث قالنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة(إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه)) .
فلما تمكن التصوف في اليمن وانتشر، عزف الناس أو كثير منهم عن الطـرق الصحيحة واعتمدوا على تلك الطرق الواهية التي هي مقتبسه من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، فتأثر بذلك العلم الشرعي ونضب معينه، ولا يعني هذا أن العلم انتهى من اليمن ولا أنه ليس ممن ينتسب إلى التصوف عالم أو فقيه فهذا موجود، ولكنه ضعيف جداً، أما بعض العلوم كالحديث والتفسير وعلوم العقيدة فقد كادت تنتهي في بعض المناطق، ولم يسجل من هو عـالم بها، مع إقامة الدليل على ذلك من وجود مؤلفات جليلة في ذلك العلم أو تخرج محدثين أو مفسرين على يد ذلك الشيخ.
وأما كثير مما نقرأه من تراجم أقطاب الصوفية وأوليائهم من أنه مفسر محدث فقيه فمعظم ذلك دعــاوى لا دليل عليها في الواقع، وإلاّ فأين مؤلفاتهم فيما يزعمون أنهم علماء فيه من تلك الفنون، وخصوصاً كبار الأقطاب والأولياء الذين تُسبغ عليهم صفات من قرأها حسب أن مؤلفات ذلك القطب تفوق في عددها مؤلفات السيوطي وفي إتقانها مؤلفات ابن حجر وفي تنوعها مؤلفات ابن الجوزي، فأولئك لم يثبت لأحدهم كتاب محرر محقق اعتمده الناس ودانوا به، ولم يذكـروا في كتب مؤرخي العلمـاء ولا في طبقات الفقهاء إلا ما ندر ولا في طبقات المحدثين ولا المفسرين، بل لا يكادون يذكرون في كتب غير اليمنيين من المؤرخين، رغم تقدم تاريخ وفاة بعضهم.
وعلى كل حال فقد اعترف بعض مؤرخيهم بجناية التصوف على العلم وأثره في إضعافه، قال السيد صالح الحــامد في تاريخهنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةومع ما أثره التصوف على العلويين بالخصوص بحضرموت من حيث الاجتهاد في النسك والعبادة وما أثره على الحياة العلمية والأدبية من أثر فعال صرف مجرى النشاط الدراسي للعلم عن مجراه السابق من المبالغة في التمـاس الفقه والحديث، وتلقفه عن الشيـوخ والمحدثين والفقهاء، إلى تلقي التصوف والانقياد والتحكيم للشيوخ الصوفية، والتزام تعليمات ذلك ورسومه، أجل إنه مع ذلك فهو يراعي الأسباب المعاشية ويتخذ في فهم التوكل السبيل الوسط القائم بين الإفراط والتفريط،وبقدر ما فترت الوجهة العلمية شيئاً ما في ميدان الحديث والفقه والفنون العربية في الظاهر حينئذ في أبناء حضرموت، ازداد نشاطهم في مسرح التصوف، وإكبابهم على النسك والعبادة والمجاهدة) .
ثم ذكر تصوف القوم وما نالوا به من محبة الله وما فتح به عليهم مـن أذواق وتجليات ثم قـال: (وبالجملة، فبمقدار ما نقصت العلوم الأخرى كالحديث وفنون العربية والأدب والشعر من إكباب وجدٍّ من جانب المتنورين والخواص بحضرموت في تلك العهود، زاد ذلك في ناحية التصوف والزهادة والاجتهاد في العبادة، أي أنهم بقدر ما فقدوا من كسب العلوم الظاهرة وفنون الأدب، قد حظوا بما منحوه من أذواق التصوف ومشاربه القربية، فكان لهم بذلك خير عوض) .
وهكذا المؤرخ المعاصر السيد محمد بن أحمد الشاطري مع ثنائه على أهله وأهل بلده بالعلم والثقافة وتضخيم ذلك جداً، نجده لا يستطيع إخفاء ما لحق بالعلم من نقص بسبب التصوف الذي هيمن على حياة الناس فها هو يقول: (إلا أنه مـع الأسف نجد في كل جيل لاحق نقص في المستوى عـن الجيل السابق من ناحية الغزارة العلمية، وكمال الاستقامة، وإن كان قد يوجـد فيه أفـراد ممتـازون لا يدانيهم أحد من متوسطي الأجيال التي سبقت، وبلغ الحال بجمهور الأجيال المتأخرة، وحتى عصرنا هذا نقص الوعي العلمي والصوفي إلى درجة جعلت الفرق فاضحاً وواضحاً بينهم وبين جمهور من سبقهم، فشاهدنا كثيراً منهم يشتغلون بسرد كتب التصوف في المجامع ويتصوفون تصوفاً معكوساً، يستغنون بهذا عن الاشتغال بالعلوم الشرعية والعربية والعقلية والكونية، فتقلص ظل العلم والثقافة والعبادة والتصوف الحقيقي بهذا الإقليم الذي هو بأشد حاجة إلى نهضة علمية خلقية تجمع بين محاسن القديم والحديث.
فنحن لا نجازف وإنما نقرر الحقيقة إذا قلنا أن رجال العلم والثقافة كثيرون في هذا الدور ويعدون بالآلاف وأكثرهم يتخصصون في العلوم التي أشرنا إليها؛ إلا أن روح الصوفية الفلسفية التي تأثروا بها جعلت أكثريتهم الساحقة ينكرون ذواتهم ولا يهتمون بالمظاهر ولا بكثرة التأليف رغماً عن غزارتهم العلمية، وعمق معرفتهم، ولا بتنميق العبائر وبهرجة الألفاظ، ونجد كتب التواريخ مشحونة بتراجم العديد منهم ومثلهم في علمهم بعلومهم والتزامهم بالمبادئ الإسلامية، ومـلازمتهم للطاعات وتهذيب النفوس مثل الغني الخبير في فنه بحيث لم يتـرك فـيه زيادة رحمهم الله) .
ولم يكن الأمر مجرد انشغال بعلم الباطن والتصوف عن علوم الشريعة والعقيدة؛ ولكنه وصل الأمر إلى الحط من علوم الشريعة وتفضيل علوم الباطن عليها، وإليك بعض النماذج من ذلك:
النموذج الأول: ما أورده الشلي في ترجمة عبدالرحمن السقاف قال: (وكان يقول لهــم اجتهــدوا في الأعمال القلبية فإن الأوقية من أعمال الباطن تعدل بهاراً من عمل الظاهر، وذكر في بعض الأيام في درسه فضل الفقه فعزم ولده عمر أن يفني عمره في الفقه ويترك غيره من العلوم فلما انقضى المجلس ناداه وقـال لـه: يا عمر اجتهد في أعمال القلوب إن الفقهاء معهم قبس ومع الصوفية جذوة وأوقية من عمل الباطن تعدل بهاراً من عمل الظاهر) .
النموذج الثاني: ما ذكره الشرجي في ترجمة سفيان الأبيني قال: (كان فقيهاً عالماً فاضلاً عــارفاً، اشتغل في بدايته بالعلم اشتغالا كلياً، فسمع ذات يوم قائلاً يقول له: إن أردتنا فأترك القولين والوجهين فترك ذلك واشتغل بالله تعالى حتى ظهرت عليه علامات القبول) .
النموذج الثالث: ما قاله أحمد بن حسن العطاس: (" أهل البيت " طريقتهم العمل ولهم من العلم إلا ما يرشدهم إلى العمل ويحفظه لهم وأما باقي الأشياء يتلقونها من حضرة الفيض ويأخذون العلوم المطلقة والمقيدة من حضرة التقوى المشار إليها في قوله تعالى  واتقوا الله ويعلمكم الله ) .
المطلب الثالث: تجهــيل الأمـــة:
مر بنا في المطلب الثاني كيف أثر انتشار التصوف في انحسار العلم بشكل عام حتى لدى الطوائف الساعية إلى التصدر والعلو، وإذا كان الأمـر كذلك فليس مـن المستغرب أن ينعدم العلم لدى غيرهم من الطبقات؛ بل هذا هو الواقع الذي لا ينكره أحد، ولقد جـأر بالشكوى الكثير مـن الغيورين حتى من السادة والمشايخ أنفسهم، غير أن ذلك لم يجدِ ولم يغير من الواقع شيئاً إلا في الفترة القريبة التي يسميها البعض عصر النهضة الحديثة.
وقد سبقت الإشارة إلى الشكوى المُرة التي أطلقها صاحب نحلة الوطن، أما علوي بن طاهر الحداد فقد بالغ في نسبة الجهل إلى بوادي حضرموت حتى شكك في إسلامهم ونقل عن عبدالله بن علوي الحداد ما يشهد لما يقول، حيث قال وهو يتكلم عن أسباب إنشاء رباط قيدون: (يحيط بقيدون من الجانب الغربي والجانب الغربي الجنوبي أهل بوادٍ في مسافة أيام يكثرون التردد إليها، فإذا كان فيها معهد علمي كان معيناً على ثباتهم على اسم الإسلام، والانتساب إليه، وإن كانوا خلوا من عقائده وأعماله وقد استبدلوا الجبت والطاغوت بأحكامه؛ وإنما بقوا على هذا الانتساب لعدم من يستجرهم إلى دين سواه، ولو وجد لم يكن عندهم ما يمنعهم من اتباعه لا من معرفة ولا تربية، ولا مخالطة لأهله ولا ثبات على شيء من عقائده وأركانه؛ فإنهم قد استدبروه جملة إلا أفراداً لا يبنى على مثلهم حكم، وعلى هذا أكثر البوادي بجهات حضرموت الباقية، حتى لقد قال الحبيب عبدالله ابن علوي الحداد: إنا لانقطع بإسلام أهل بوادي حضرموت، ولا نجد منهم ما يدل على إسلامهم إلا محبتهم للصالحين. أ هـ. وكلامه  يفهم أن أهل زمانه منهم كانوا يحبون الصالحين لما هم عليه من الدين، وتلك محبة دينية لاشك فيها، ولكن أكثر أهل البوادي اليوم لا يعقلون لمثل هذه المحبة معنى، وإنما يعظمون من اشتهر عندهم بأنه يكرم ويلوح ، فالحامل على تعظيمهم الرغبة في الكرامة، والرهبة من اللوحة، سمعت سيدي وشيخي وعمي الحبيب العارف بالله العالم العامل الزاهد صالح بن عبدالله الحداد يقول: جاء جماعة من البادية للزيارة، وجاءوا إلى العرض عشية وأخذ الأخ محمد يعلمهم " مراده به شيخنا الحبيب محمد بن طاهر " فلما ذكر لهم البعث، قال أحد شبانهم: من التقت عليه الصروف ما عاد يثور أي لا يعود فيقوم، ومراده بالصروف جمع صرف وهي الأحجار الرقاق التي تسد بها اللحود، قال: فقال له شيوخه: هه! اسكت ما أحد يكذِّب بكلام الصالحين، فكان عمي إذا حدث بهذه القضية يقول ما معناه: انظر فما هنا رب ولا نبي ولا قرآن، وإنما غاية ردهم: ما أحد يكذب بكلام الصالحين، فبواد قد عادت إلى مثل هذه الجاهلية ما أحقها بدعوة دينية يصرخ بها صاحب علمٍ يهزهم هزاً ولا يكون ذلك إلا بكثرة الدعاة إلى الله ولن يوجدوا بغير تعليم) .
وكفى بهذا النص تصويراً للجهل الذي خيم على البلاد رغم الدعاوى الكبيرة بوجود علماء أعلام ودعاة عظام ومرشدين كبار؛ بل أقطاب وأغواث أقامهم الله تعالى لحفظ الكون وأهله، فأين كل أولئك عن هذه البوادي وهؤلاء العوام لينقذونهم من هذا الجهل البالغ والضلال البعيد؟ إن المتأمل للنص تظهر حقيقة مُرّة هي أن هناك انحرافاً في منهج الدعوة والإرشاد والتعليم، فحب الصالحين الذي جعله عبدالله الحداد دليلاً على إسلامهم بل هو الدليل الوحيد على ذلك في نظره لم يأت من فـراغ؛ بل هـو ناشئ عن تعليم وتعبئة وتربية والذي علمهم ذلك كان بمقدوره أن يعلمهم محبة الله ورسوله ويعلمهم ولو بعض واجباتهم، فلما تعلموا محبة الصالحين ولم يتعلموا ذلك دل على أنّ من يأتيهم ويطـوف بـهم ويلتقي بهم في الملتقيات والزيارات من الوعاظ والمرشدين إنما كانوا يذكرونهم بمحبة الصالحين ويسردون على مسامعهم حكـاياتهم ويعددون كراماتهم، مما أورثهم محبتهم والتعلق بهم والخوف من مخالفتهم أو اسخاطهم، ومن أوضح الأدلة على أنهم قد ربّوا على ذلك خوفهم الشديد من الأولياء مع عدم خوفهم من الله تعالى والتجاؤهم إليهم ونذرهم لهم عند الأزمات والشدائد مع عدم التجائهم إلى الله أو النذر له، كل ذلك يدل على سوء التربية والانحراف في التعلم، وإن دعاة ومرشدي تلك الأزمان بدل أن يعبّدوا الناس لرب العالمين عبَّدوهم لآبائهم وأجدادهم.
وحقيقة أخرى يجب أن تقال وهي: أن ما ذكرناه آنفاً ليس هو الوصف الوحيد للجميع بل إن هناك أفراداً من العلماء والصلحاء كانوا سالمين من ذلك الانحراف فهم يسوؤهم انتشار الجهل، ويودون تعليم الأمة بعض أمور دينها وخصوصاً العبادات؛ ولكننا نجد أن بعض أولئك أيضاً يفرقون بين الناس، فأبناء السادة والمشايخ ومن يلتحق بهم يفتح لهم باب التعليم كاملاً ويحثون عليه ويدفعون إليه دفعاً؛ بينما أبناء الطبقات الأخرى يرون أن يقتصر على تلقينهم ما يحتاجون إليه من أمر العبادات مع منعهم من القراءة والكتابة حتى لا يلجوا باب العلم ويترقوا في سلمه؛ لأن ذلك مضر بهم ومضر بالأمة حسب زعمهم.
وإليك وثيقة مهمة تثبت ما أقول وتجلّي حقيقة تفكير القوم ومنهجهم في التعليم، وهي عبارة عن رسالة أرسلها أحد العلماء الغيورين والحريصين على تبصير الأمة بأمور دينها مما يتعلق بالعبادة فقط، ومع رغبة السيد المذكور في تعليم الناس على اختلاف طبقاتهم؛ إلا أنه لم ينسَ التأكيد على أن يكون ذلك التعليم عبارة عن تلقين فقط دون تمكينهم من الاعتماد على أنفسهم والسماح لهم بالانطلاق في ميادين العلم الواسعة، والرسالة نقلها بنصها محمد بن هاشم في تاريخ الدولة الكثيرية، قال - رحمه الله -: (وإليك مكتوباً عثرنا عليه كتبه بيده الحبيب أحمد بن عمر بن سميط العلوي إلى السادة العلويين بالجهة الشرقية ننقله هنا بنصه تبركاً وإفادة للقراء بمثال من تلك المساعي الطاهرة، قال: (بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة، يخص سادتي الحبائب الأجلاء الأعلام الحبيب عبدالله بن الحسين بن طاهر، والحبيب عبدالله بن أبي بكر عيديد وكافة السادة من آل أبي علوي حفظهم الله وأدام النفع بهم لنا ولسائر المسلمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نعلمكم أنه وصل خط للفقير من السلطان عمر بــن عبدالله بن علي بن مقيص الأحمدي، وعرف بالشأن الذي تصدى للقيام به فالله يبارك له ولنا ولجميع المسلمين في ذلك، ويسخر له على ذلك أعواناً وبطائن من أهل العلم والفضل والصلاح، إذا نسى ذكروه، وإن ذكر أعانوه، ويشرح صدره لقبول نصحهم وإرشادهم في عافية للجميع. وإن رأيتم يا سادتي أن ترشدوه وتعولوا عليه في أن يقيم عُلمة خاصة لتعليم مهمات الدين التي يلزم الكل تعلمها ولو بالرحلة ولو إلى الصين، ويحمل الكل من جهال طبقات الناس على دخولها من شريف وقبيلي وحراف وساني وسائل سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، ويكون ذلك تلقيناً من غير حضور قلم ولا دواة لما فيهما من المضرة لبعض الناس ممن يقل خوفه من الله كما تفيدون ذلك، وُيجعل لذلك ما يُرغِب أهل الفاقة والحاجة في دخولها للتعلم، كما لا يخفاكم أن ذلك من أهم المهمات ومن أقوى داعي لحصول النفحات، ورسّخوها في الجهة، المشار إلى ذلك بحديث إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها. وهذا إن شاء الله من التعرض، ولا ترون علينا فالحاضر يرى ما لا يرى الغائب:
ومن عجب إهداء تمر لخيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائض
والسلام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من المستمد: أحمد بن عمر بن زيد بن سميط) .
  رد مع اقتباس
قديم 08-14-2010, 05:14 PM   #2
الشيخ الولي
حال نشيط
 
الصورة الرمزية الشيخ الولي

افتراضي

اللم اني صائم
لنا عودة يالمبرقع يالهلالي انكشفت تدخل في وقت باسم الملثم ثم تسجل خروج وعوده بالهلالي
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
[motr1]
من ذا يعاتب هاشمي
و في الهوى حب الرسول
تجله ومدام

وانا المتيم في غرام محمد
وعلى هواه
يلومني الأقزام

روحي فداء لرسول الله
وآله قسماً على سواه حرام
[/motr1]
  رد مع اقتباس
قديم 08-15-2010, 08:13 PM   #3
الموسطي
حال نشيط
 
الصورة الرمزية الموسطي

افتراضي

اقتباس : المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشيخ الولي [ مشاهدة المشاركة ]
اللم اني صائم
لنا عودة يالمبرقع يالهلالي انكشفت تدخل في وقت باسم الملثم ثم تسجل خروج وعوده بالهلالي

يومك صائم ليش عاد [SIZE="5"]تحش [/SIZE]على الرجل وتقول عليه مبرقع .!!! ..


أخي الفارس أود أن أشارك معك لكن سأترك المجال لفروسيتك .. فلا تخذلنا ...

بس عني ملاحظه ودي إرسلها لك ....
التوقيع :
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة قال صلى الله عليه وسلم : (( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ))
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةنقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس
قديم 08-16-2010, 06:16 PM   #4
الموسطي
حال نشيط
 
الصورة الرمزية الموسطي

افتراضي

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
  رد مع اقتباس
قديم 08-17-2010, 05:48 AM   #5
رأس السبيعيه
حال جديد

افتراضي

ها ها ها ها ها
هنا حاله غش أبو وجهين يالهلاااااالي أو الملثمافا ماتوقعناها منك يالمشرف
ومدري اش بعد معك من الاسامي اللي تختفي وراها
  رد مع اقتباس
قديم 08-17-2010, 04:16 PM   #6
عاشق الجوهره
حال قيادي
 
الصورة الرمزية عاشق الجوهره

افتراضي

اقتباس : المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رأس السبيعيه [ مشاهدة المشاركة ]
ها ها ها ها ها
هنا حاله غش أبو وجهين يالهلاااااالي أو الملثمافا ماتوقعناها منك يالمشرف
ومدري اش بعد معك من الاسامي اللي تختفي وراها


ماشاء الله عليك اول مشاركه لك وقدك فاهم كل شي
تجاوزت كل مراحل الطفوله يالوليد الجديد واصبحت شايل سيفك
على الخليفي مواليد 2010 انتم خطيرين
التوقيع :


تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانيون وإنا
لأهلنا محبون


[email protected]
  رد مع اقتباس
قديم 08-17-2010, 08:11 PM   #7
رأس السبيعيه
حال جديد

افتراضي

وش سيفك ؟؟؟وش الوليد؟؟؟
عيال اليوم رجاال واحنا رجال ياعاـــــــــــــ
ماأقول الا خير واسمع شف مشاركة فارسك صاحبب السيف هاا شفت واحد كاتب يالهلالي و الفارس يعني واحد كشفه مايبغا لها عيال اليوم وعيال امس
الله يهدي بس

التعديل الأخير تم بواسطة رأس السبيعيه ; 08-17-2010 الساعة 08:16 PM سبب آخر: تعديل
  رد مع اقتباس
قديم 08-18-2010, 12:12 AM   #8
الخليفي الهلالي
شخصيات هامه

افتراضي

اقتباس : المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشيخ الولي [ مشاهدة المشاركة ]
اللم اني صائم
لنا عودة يالمبرقع يالهلالي انكشفت تدخل في وقت باسم الملثم ثم تسجل خروج وعوده بالهلالي



نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس
قديم 08-18-2010, 12:14 AM   #9
الخليفي الهلالي
شخصيات هامه

افتراضي

اقتباس : المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رأس السبيعيه [ مشاهدة المشاركة ]
ها ها ها ها ها
هنا حاله غش أبو وجهين يالهلاااااالي أو الملثمافا ماتوقعناها منك يالمشرف
ومدري اش بعد معك من الاسامي اللي تختفي وراها

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
  رد مع اقتباس
قديم 08-18-2010, 01:32 AM   #10
الشيخ الولي
حال نشيط
 
الصورة الرمزية الشيخ الولي

افتراضي

نحن نهدد بالهتفه
وانت يالي ماتستحي تهدد بالسلاح
لك يوم ........... الايام بيننا 0
خليك من الارهابيين

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر صالح فدعق ; 08-18-2010 الساعة 01:36 AM
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Loading...


Powered by vBulletin® Version 3.8.9, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

new notificatio by 9adq_ala7sas