عمر خريص
09-11-2002, 07:12 AM
عبدالله عبدالكريم الملاحي
شاعر الحب والثورة والسلام
الشاعر الراحل عبدالله عبدالكريم الملاحي حريا بنا بأن نحتفي بسيرته وشعره ، وهو علم ورائد من رواد الادب المعاصر في بلادنا ، ومرب قدير تخرج على يديه الآف الطلاب في شتى مناحي العلوم ، ومن حسن حظي اذ اكرمني اخيه الاستاذ الكبير والباحث القدير (عبدالرحمن ابن عبدالكريم الملاحي ) بسيرة موجزة عن حياة اخيه الشاعر الراحل (عبدالله) وهي وان كانت مقتضبه الا انها تلقي الضوء الكافي على سيرة حياته ، فكتب لي قائلا:ـ
الاستاذ المرحوم : عبدالله عبدالكريم عبدالقادر الملاحي .
1. من مواليد عام 1930م بمدينة الشحر ـ م/ حضرموت ـ الجمهورية اليمنية .
2. تلقى تعليمه بمدرسة مكارم الاخلاق بالشحر ، ثم المدرسة المتوسطة بغيل أبي وزير .
3. عمل بعد تخرجه عام 1948ـ1949م ـ معلما بمدارس الدولة القعيطية في ذلك الوقت ، ثم مديرا لمدارسها.
4. تولى عددا من المناصب الادارية بعد الاستقلال ، سكرتيرا لمحافظة حضرموت ، ثم سكرتيرا لمحافظة المهرة ، فمحافظا لمحافظة لحج ، فسكرتيرا لمجلس رئاسة الجمهورية بعدن ، ثم سكرتيرا أول بسفارة الجمهورية اليمنية الجنوبية بالمملكة العربية السعودية ، واخيرا نائبا لمدير المركز اليمني للأبحاث الثقافية والمتاحف والاثار ـ عدن .
5. كان عضوا في اللجنة التحضيرية لأتحاد الادباء والكتاب اليمنيين .
6. كان احد أعضاء سكرتارية الأتحاد بعد أنعقاد مؤتمره الأول عام 1974م.
7. مثل الجمهورية في عدد من المنتديات والملتقيات الادبية في البلاد العربية الشقيقة ودول أوربية .
8. نال وسام 30نوفمبر من الدرجة الثالثة .عام 1997م بقرار من رئيس الجمهورية اليمنية .
9. شاعر ، وصفه النقاد بالمبدع .
10. له ديوانا شعر ـ الأول بعنوان (ثورة الحرمان) والثاني بعنوان ( الابحار الى مدن الحب والسلام) .
11. توفي في 26يونيو عام1997م بعد مرض عضال أقعده سنوات على فراش المرض .
12. خلف ابنا وثلاث بنات .
هذا موجز سيرة الشاعر (عبدالله عبدالكريم الملاحي) خلال سنوات عمره الممتده من عام 1930م ـ 1997م ، حوالي سبعة وستون عاما ، قضى اكثر من ثلثيها في العطاء والجهاد الانساني ، وكانت له في حياته أحلام مشروعة فتحقق منها ماتحقق ، واخفق منها ولم يتحقق مااخفق ، وهكذا هو دأب الانسان في صراعه مع الحياة بكل متناقضاتها ، ولم يكن عبدالله الملاحي بدعا في سلوكه وطموحات نفسه الابية فقد سبقه الآف من احرار العرب وعقلائهم ، وهو على دربهم وطريقة نهجهم سائر واثق الخطوات قوي العزيمة والاصرار ، والشعر مرآة لحياة وأفكار ونفسية الشاعر ، يصور به قضاياه وأسلوب حياته وطموحاته فيها.
وقد ترك لنا الشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي ديوانا شعر محفوظة حينما نشرهما واخرجهما للقاري ، وللشاعر قصائد غنائية لا اعرف بالضبط كم عددها وما مصيرها ، والبحث عنها يحتاج الى جهد ربما ليس بالسهل او البسيط ولكنني اظنها تستحق ذلك ، اذ كل من يتغني بها يرى خلفها شاعر موهوب يمتلك ناصية الكلمة الغنائية الشاعرة ، مثل اغنيته :ـ
أسمر وكله حلا *** ولكن وصله غلا .
وهي مشهورة ولكنني للاسف لا أحفظ كل ابياتها ، وما احفظة منذ سن المراهقة ضاع في زحمة الحياة وأيقونة النسيان.
وله اغنية غناها الفنان محمد سعد عبدالله وهي اغنية :ـ
يستاهل البرد من ضيع دفاه ....
ووجدت لدي الشاعر صالح باظفاري نص مطبوع ولكنه ناقص مكتوب عليها كلمات الشاعر (عبدالله عبد الكريم الملاحي ) والحان الفنان (عمر غيثان) ولم اسمع بهذه الاغنية مغناة ولا اعلم اغنت ام لا ؟ ونصها يقول :ـ
معك في اللين والشده **** وبعدك لو بلغ حـــــــــــــده
انا باتحمل المكتوب **** لان القلب لك موهــــــوب
************
يلومني على الكـــده **** الا قل لي متى الـــــــرده
صبرنا جم يالمحبوب **** لان القلب لك مـوهـــــوب
***********
وبقية الابيات ملخبطة في هذه الورقة وليست مرتبة الابيات ، وربما يكون النص كاملا لدي الفنان (عمر غيثان) .
اما مااحفظه من ابياته الشعبية على صوت الدان قوله :ـ
خرفة الواسط عجيبه ** اهلها غير المساكين
حلها عشار وحـــده ** والعشق عاد له قوانين.
وعشار هنا هو صديقه الاديب الشاعر المربي (محمد عوض عشار) ، واخبرني صديقه الشيخ الشاعر خميس كرامة حمدان بأن للشاعر عشار بيت في الواسط يزوره فيه بين الفينة والاخرى اصدقائه من ادباء وشعراء ومدرسين.
ومن ابياته الارتجا ليه بيته الذي قاله ذات مرة وقد اصطحبته في عام 1990م الى منزل الشاعر حسين ابو بكر المحضار رحمه الله ، لحضور أمسية منتدى الاثنين المحضاري ، ومن بعد رأى المحضار وهو خلف شباكه (الخلفه) كالمعتاد يطالع على الشارع ، فسألني من ذاك ؟ فقلت ابو محضار ، فقال على الفور :ـ
ابو محضار في الخلفه يطالع ** في اللي رائح واللي جاي طالع .
وتبسمت من طرافة البيت وبديهة الشاعر ، ولسنا هنا بصدد الحديث عن شعر الملاحي الحميني بل لقراءة ربما تكون عابره لديوانيه السالفة الذكر حتى تتجلى لنا معالم شاعريته ونتحقق من موضوعات شعره التي طرقها عبره ، وكيف صار شاعر الحب والثوره والسلام ، وقد يسر لنا الشاعر هذه المهمة اذ جمع لنا قصائده في ديوانه الاخير ، اذا من السهل علينا تتبع مواضيعه المطروقة في شعره ، لاسيما ان الشاعر من الشعراء المجيدين المقلين في انتاجهم ، وكل شعره هو اربعة واربعين قصيدة ، ولكنها من درر الكلام وجواهر الشعر ، واول مانحب ان نتطرق اليه هو الجانب الغزلي من شعر الملاحي وقصائد الحب والعشق ، فنقول :ـ
1ـ الملاحي شاعر الحب ؟
والحب هو تلك العاطفة الانسانية السامية ، وورد في تعريف الحب الكثير والكثير ، والفت فيه المؤلفات الكثيرة ايضا، ومن اهمها في التراث العربي كتاب (طوق الحمامة ) للامام ابن حزم الاندلسي ، وكتاب( روضة المحبين ) للامام ابن قيم الجوزية ، وغيرها ماعدى ماتركه لنا التراث العربي من قصائد واشعار العشاق العرب، والشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي وهبه الله قلبا رقيا عطوفا ووهبه حسا شاعريا رهيفا، فكان حريا لعواطفه بأن تتأثر بالجمال ، ويأسرها الحسن والدلال، ولم يكن الملاحي عربيدا في عشقه وحبه ، بل عفيفا في تغزله ومناجاته لطيفا في شعره وتعبيراته ، وهو للعذريين ينتسب ، وعلى هداهم في النسيب يهتدي ، ونحن نلمس ذلك في شعره فلا نراه الاشاكيا باكيا من لواعج الحب والشوق الى لقاء المحبوب ، او واهيا ساهيا من اثر بعد المعشوق ، فمن قصائده الاولى قصيدته (خفقات قلب) كتبها في عام 1948م وهي اقدم قصيدة حسب التاريخ المذيل تحت قصائد الديوان ، يقول في هذه القصيدة :ـ
قلب ابكيه واندبه *** اذ أوهى الصدر توثبه
قلب ابدا يحيادنفا *** لوعات الحب تذوبه
ويهيم بسحرالطرف ولم *** يعرف أحد مامذهبه
كم طاف بأزهار نفحت *** بشذاها العطري تجذبه
وتنقل فيها منتشيا *** وأليف الغصن يطربه
يشقى بهواه وأن له *** هدفا في الحب يهذبه
لدن الاعطاف متى تحنو*** اذ انت لقلبي مطلبه
رحماك بواه مضطرب *** يفديك وأنت تعذبه .
فاذا كان الشاعر ولد عام 1930م ونظم هذه القصيدة في عام 1948م ؟ فمعنى هذا أن الشاعر قد نظمها وسنه ثمانية عشرة سنة ! أي وهو في مقتبل الشباب ، ونجزم بأنها ليست الاولى ولكنها الاجود ، وفتى في مقتبل الشباب وهذه نظمه وهذا مذهبه في الحب والعشق ، لاشك انه تربى تربية حميده ، وهو كذالك اذ نشاء في كنف الشيخ العلامة والده (عبدالكريم بن عبدالقادر الملاحي ) رحمه الله .
و(عبدالله ) في نشدانه للحب في اول حياته لا يطلب المتعة ، ولا يحلل لنفسه ماشرعه بعض الشعراء لانفسهم ، وهو هنا لم يتمثل بقول الشاعر الشعبي الشيخ (محفوظ العطيشي ) رحمه الله في قوله :ـ
( نا عادنا الاشاب والشبه لها والغشم حق
في كل حجه خارق العاده وفي خلاف الطريق )
نعم لم يتمثل بهذا البيت الشائع بين الشعراء ، بل جعل حبه وسيلة تهذيب لنفسه الابية التي تأبى الركون الى سفاسف الامور ، فهو يؤكد لنا بقوله :ـ
يشقى بهواه وأن له ** * هدفا في الحب يهذبه .
هذا المعنى يؤكده الشاعر على مدار حياته وفي ثنايا قصائده ، مثل قصيدته (الى السمراء) والتي كتبها في عام 1967م ، يقول فيها:ـ
هي من وحي حبنا الطاهر العذري تغني العواطف الزخارة
ايه دفقة الربيع ابتسام منك يـــهدي بلالي المحــــــــــتارة
ولقاء تحت النجوم يريني أنعم الحب ثرة فــــــــــــــــــوارة
فيه اشراقة الحياة وفيض الحب يجلو لاهله أســـــــــــــراره
وانعتاق من ربقة الياس والحرمان والهم والاسى والمــرارة .
وهي معاني واضحة في شعره فاذا قال (حبنا الطاهر العذري) فهو يقصد ذلك المعنى الذي سنه العشاق العذريين ، ولكنه يضيف للحب معنى آخر غير استأناس العذريين بمعشوقهم ، ففي حبه ، اشراق الحياة ، وفيه انعتاق من المهلكات المحطمات لقلب الشاعر بل والانسان العادي ايضا ، وليس هناك اشد من الحرمان في حياة المرء ، ولهذا كان ديوان الشاعر الاول هو (ثورة الحرمان ) وهو طبعا اعم مما نقصده هنا اذ للحرمان اوجه كثيرة ومنها واقساها حرمان الحبيب من حبيبه ، وكما قال الفنان (محمد سعد عبدالله ) رحمه الله ( يارب من له حبيب لاتحرمه من حبيبه ) .
اما اذا اردنا أن نعرف دستور الحب لدى شاعرنا الملاحي ، فلا سبيل لنا الى ذلك الا قصيدته (على الشاطئ ) والتي يستعيد بها الذكريات على احد شواطئ عدن الجميلة ، قال فيها :ـ
هاأنت مطرح على الشط الطروب بلا رفيـــــــق
تزجي الانين وتارة تزجي أسى القلب الخـــــــوق
في نغمة تسري بها الانسام في اللحن الرقـــــــــيق
وتعيد لحن الذكريات على صدى الماضي السحيق
وتذيب فيه فؤادك المفتون بالألف العشـــــــــــــيق
********
ياوادع النظرات بعدك حطم الوتر الشــــــــــــــجي
وطوى وحيد بساط لذته وناء آه النــــــــــــــــــجي
أمسى يعيش موزع الالهام يعذله الخـــــــــــــــــلي
لا يستقر على هوى وزمـــــــانه ابدا عــــــــــــتي
تمضي لياليه الحزينة وهو ســـاه أو عــــــــــــيي
************
حبست مشاعره الشـجون فــذاب في كتمـــــــــــانه
وأصفر غض شبابه والعمــــر في ريعــــــــــــــانه
أصغى الى ايحاء وحدته ووحي جــــــــــــــــــنانه
أناته حيرى يـجددها صــــدى ألحــــــــــــــــــــانه
ورؤى الوجود تزيده حزنا على أحـــــــــــــــزانه
***********
ماقيمة الدنيا بلا أمل ولا ألف قــــــــــــــــــــــــريب
ولم البقاء اذا خلت متع الحياة من الحـــــــــــــــبيب
ولم التشبث بالرجاء اذا تناهى للمغــــــــــــــــــيب
وغد ولا أدري أيشرق في غد أمل الاديــــــــــــــب
أو هكذا تمضي حياة الشاعر القلق الغــــــــــــريب .
انه هنا مطرح على الشط يستعيد ذكرياته ويناجي على البعد حبيبته ، انه يفلسف هذا الحب في اطار الوجود والحياة ، وهذه النظرة الفلسفية تعطي لشعر الشاعر قيمة جمالية عميقة الاغوار فسيحة المعاني والدلالة الانسانية.
ونظرة شاملة لموضوع العشق والحب والغزل في شعر الملاحي نحصرها في شواهد من شعره ، فنقول مثلا :ـ
اذا اراد الملاحي ان يتغزل قال :ـ
1ـ لدن الاعطاف متى تحنو ؟ ** اذ انت لقلبي مطلبه .
وهذه صورة اجمالية للمعشوق لم يتسنى للشاعر ان يبين اكثر تفاصيلها؟
2ـ قوله في قصيدته (ورد الشوك) :ـ
ووقفت أنظر في ذهـول ** ذلك الحســــن الاغـــــــر
ملكت علي مشــــاعري ** والنفس يأسرها الحــــــــــور
سحر العيون الساجيات ** استعبد الحر الأبـــــــــــــــــر
ولا ندري اذا كان مجمع ذلك الحسن الاغر هي المتمثلة في الحور وسحر العيون الساجيات ، فيكفي الشاعر ما تفعله فيه العيون ، واجمل اشعار العرب ماقالته في وصف العيون وسحرها مثال قولهم :ـ
ان العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
او قول علي ابن الجهم :ـ
عيون المها بين الرصافة والجسر** جلبن الهوى من حيث ادري ولاادري
او بيت السياب المشهور :ـ
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر .
واما العمق الفلسفي لعيون المحبوب لدى شاعرنا فيتمثل في قوله :ـ
تسائلني قلوعي شفها الابحار ......
أي مرافي ، الدنيا ستحضننا
ألا ماأصعب التسآل ؟
ألا ماأعذب التجوال ....
في عينيك ...
وهل تدرك عيناك ؟ .
3ـ واذا ألمه الفراق اشتكى قائلا :ـ
قولوا له مضناك يافتان أضناه الفـــــــــــــــراق
أمسى غريب الدار في هم ويأس واشتـــــــــياق
غلب التذكر صبره هو والتصبر في شقــــــــاق
واذا تذكر مجلسا بين الاحبة والرفــــــــــــــــاق
عض البنان تحسرا وبكى بدمع لا يــــــــــــــراق
خوف الرقيب حبسته والقلب يحترق احتــــراق .
4ـ واذا تنكر محبوبه نراه يئن قائلا :ـ
طال التجني والمطال ** بعد التودد والوصال
ويمر بي حلو القوام ** فلا سلام ولا مقـــال
اسلمته قلبي الذي ** من هجره ذاق الوبال .
5ـ وفي نعيم اللقاء نراه يدندن بقوله :ـ
ياحبيبي كم كنت جنة نفسي تتلقاك بكرة وعشــــــيا
بك القي الوجود مبتهج القلب ويوحى هواك كل محيا.
وما بين اللقاءات العذرية وعذابات الفراق وقطع الوصال تتأرجح قصائد الملاحي ، وفي هذه القصائد يصور لنا بأسلوبه العذب الشفاف كل معاناته وتجاربه الشعرية في أجمل ماتكون .
2ـ الملاحي شاعر الثورة :‘ـ
تفتح وعي الشاعر (عبدالله عبدالكريم الملاحي) على عالم يمور بالثورات ، ويموج بحركات التحرر الوطني ، فكان لابد لهذا الشاعر ان تتشبع مشاعره بهذه التطلعات الثورية وخصوصا ان بلاده ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني والحكم الانجلوسلاطيني ، وهو الشاعر الناضج والمثقف الواعي وحامل مشعل التنوير في بلاده ، فكان لازاما عليه ان يسلك درب الثائرين داعية ومبشرا ، داعية الى التحرر والثورة ومبشرا بالنصر ، فنراه في قصيدته (اشراق ) عام 1959م يسوق البشارة لقومه وهو يستنهض عزائمهم قائلا :ـ
مواكب الاشراق في اعقاب ليل مظــــــــــــــلم
تزخر بالامال والاحلام منذ القـــــــــــــــــــدم
تملا بالاضواء والسحر جفون النـــــــــــــــــوم
أستيقظت على رؤاها ذات فجر ملهــــــــــــــــم
عوالم كاد يواريها ضـــــــــباب العـــــــــــــــدم
تاريخها يسطع في اعماق ماض اقــــــــــــــــدم
لم يحفظ التاريخ مجدا شامخا بــــــــــلا دم .
********
ياأمة أيقظها على الكفــــــاح الزمـــــــــــــــــن
كفى انطواء حطمي الاسوار هذا ممكــــــــــــن
لا تدرك الغايات الا حين يغلو الثمــــــــــــــــــن
********
انطلقي يا أمتي من اســـــــرك المصطــــــــــنع
واستقبلي فجر غد مؤتلق ملتمـــــــــــــــــــــــــع
واقضي علي يأس تمادى في حنايا الاضلــــــــــع
تمردي بحكمة وانطلقي كالمــــــدفـــــــــــــــــــــع
أمامك الدرب مخيف شائك لا تجــــــــــــــزعـــــي
فرب فجر مشرق في ذيل ليــــــــــل مفــــــــــــزع .
وهو يواصل درب نضاله وكفاحه ضد المستحكمين على مقدرات الشعب ، ويفضح كل اساليبهم في الاستغلال والاستعباد ، فنراه يرسم لنا لوحة ( فلاحة الوادي ) ويصور معاناة هذه الشريحة من المجتمع ، ويكشف استغلال ملاك الارض ويصور اطماعهم وجشعهم ، فهو بعد ان يحكي لنا بأن هذه الفلاحة تأتي بالزاد الى زوجها الفلاح وتشاركه في فلاحة الارض في حب وتفاني ، يخبرنا كيف صاحب الارض يحصد ماحصدوه من زرع وعرق ، قال في آخراها :ـ
يلتقي الحب على العيش وتوحيد الكفاح
الكفاح القدسي الحر من أجل الحـــياة
يدفعان العرى والفاقة بالجهد المــــتاح
ويفيضان على مولاهما مالا وجـــــاه
*****
يفنيان العمر في الكدح على هذا التراب
ويفيض الخير في ايديهما وقت الحصاد
فيجودان به جود عفيف ما أصــــــــــــاب
لجباة عفنــوا الأرض عتوا وفســـــــــاد
*****
ليت شعري أين نور الحق يغشى هــــؤلاء
حفنة منا بني الارض ولكن كالبهيمــــــــــة
لم يكن يتركها الحــــرمان يوما في هـــــــناء
ابدا توقعها الاطماع في حــــــــال اليمــــــــة .
كانت هذه القصيدة في عام 1959م ، اما حيمنا بزغت معالم الاستجابة الشعبية وتأكدت العزيمة على الكفاح فهو يصدع بقصيدته (أيها الشعب) عام 1961م قبل اندلاع الثورة المسلحة بثلاثة اعوام تقريبا ، يقول فيها :ـ
ايها الشعب تكلم
وابن رايك تفهم
لست ياهذا اصما أنت حيا تتألم
فلماذا تتوارى
بدموع تتضرم
أن بعض الصمت جبن وانهزام فتكلم
لا تطاطي راسك المحموم ارفع تقدم
انطلق دس سلم الاشواك ضح وتعلم
قل فمن حقك ان تفعل
ان الحق يقحم
أن يقولوا عنك محجور عليه لا يحكم
فلماذا لا يعدونك للرشد المحتم
أيها المعدوم اربابك
تثرى وتنعم
أيها المبعد أربابك تدنى وتكرم
ياطريد الفقر والحرمان
ياكونا محطم
أجار اليوم بشكواك أبن لا تتكتم .
وشهد عام 1962م من الشاعر عبدالله الملاحي اكثر القصائد الثورية ويتوج هذا الكفاح انتصار الثورة في الشمال ضد الامامة والتخلف ، ويحتفي الشاعر بهذه الثورة الوليدة ويزداد اصرار على تحقيق النصر في جنوب اليمن والتخلص من براثن الاحتلال البغيض واتباعه ،فكانت قصيدته (الاصرار الحاسم) وهي اصرار على النضال وتثبيت جنود الثورة على مواصلة الكفاح يقول فيها :ـ
ياأخي : لا تقل طال بنا الليل وأضنانا المســــــــــــــــير
لا تقل أنا ضللنا الدرب والليل خطــــــــــــــــــــــــــــير
لا ترع لا تلق بالا للافـــــــــــــــاعي والصــــــــــــــلال
لا تطل خلف التفافا لاتخف غدر اللـــــــــــــــــــــــــيال
قدما امضي فعمر الليل ياهذا قصير.
وفيها يقول :ـ
ياأخي غدنا المنشـــــــود تجميع الجــــــــــــهود
لبناء الوطن القابع في ذيل الوجـــــــــــــــــــــود
فتقدم سر بنا حتى يطل الفجر خفاق البنود
انني المح في عينيك نورا أي نور
انه نور الشباب الحر أكسير الخــــــــلود
انه التصميم والاصرار والفجر الجديد .
ثم كانت قصائده ( نشيد الجيل الصاعد) و (ميلاد شعب ) و (نفحات الحياة) وماقبلهن كلهن في عام 1962م .ثم تأتي قصيدته ( نشيد ثورة الحرمان) انشودة للثورة الوليدة من على جبال ردفان .
3ـ الملاحي شاعر السلام :ـ
المفهوم العام للسلام هو العيش في (أمن وأمان) عدالة اجتماعية ومايلحق بها من قوانين في خير وصالح الفرد والمجتمع ، والشاعر الملاحي سعى في شعره لتحقيق هذا السلام وانشاده حتى ينعم به هو ومجتمعه بل كانت نظرة الملاحي اشد واعم من حدود وطنه الى عالم الفقراء والمستضعفين في شتى اصقاع الارض .
اما السلام النفسي في داخل الشاعر فقد حققه برسوخ ايمانه بخالقه ومتانة الصلة بينه وبين ربه ، يرسخ هذا القول قصيدتيه ( في ظلال القران ) و (رسالة مضيئة) والاخيرة بمناسبة ميلاد نبي الامة صلى الله عليه وسلم .
اما نشدانه السلام في مجتمعه فقد جسده في قصيدته ( انسياب النور في مدينتي) عام 1962م عندما انارة الشحر بالكهرباء في ذلك العام .
وفي قصيدته (الجناح المحترق) يقول :ـ
شعارنا:
السلم والحياة للذين يطمحون في تحرير الانسان
رفاقنا على طريق الانعتاق
معرضون كلنا للعثرات
وكبوة الحصان لا تؤخر المسيرة .
وهو يقول فيها :ـ
ورغم قسوة الحياة يارفاقنا نظل نبني ابدا
نحول الجدب حياة
نحول الفقر جنان
نمهد الجبال في صرامة
لنخلق البذور من جديد
نمد انسان الحضارة الخلاق
الافا من السنين بالحياة والسلام .
وكان حتما مقضيا بأن ياتي السلام في عرف الشاعر بعد الكفاح فما بعد الاستقلال هي مرحلة بناء فنراه يقول في قصيدته (وكان اللقاء ) :ـ
لقد ولدت لحظات السعادة من فوهة البندقية
من ضربة الفأس في ارضنا البكر
فأنتعش الطين
تنامى على جنبات الجداول غرس السلام .
واذا كان السلام هو مفهوم ثوري ومطلب حضاري فقد امتدت احلام الشاعر الى مواطن اخرى فكانت قصائده ( أغنية لاطفال فيتنام) و( صرخة في اذن افريقيا) .
هذا هو الشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي في موجز مقتضب عن سيرته وملامح من شعره واغراضه ، لم نوفيه حقه ولم نكن اهلا لذلك ولكن الحب لهذا الشاعر وصمت القادرين على تناوله ، دفعاني الى مقامي هذا بين يدي جمهور كريم ، فأن احسنت فهو بفضلهم وأن أسات فهو تقصيري وحسن ظني في كرمهم .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
شاعر الحب والثورة والسلام
الشاعر الراحل عبدالله عبدالكريم الملاحي حريا بنا بأن نحتفي بسيرته وشعره ، وهو علم ورائد من رواد الادب المعاصر في بلادنا ، ومرب قدير تخرج على يديه الآف الطلاب في شتى مناحي العلوم ، ومن حسن حظي اذ اكرمني اخيه الاستاذ الكبير والباحث القدير (عبدالرحمن ابن عبدالكريم الملاحي ) بسيرة موجزة عن حياة اخيه الشاعر الراحل (عبدالله) وهي وان كانت مقتضبه الا انها تلقي الضوء الكافي على سيرة حياته ، فكتب لي قائلا:ـ
الاستاذ المرحوم : عبدالله عبدالكريم عبدالقادر الملاحي .
1. من مواليد عام 1930م بمدينة الشحر ـ م/ حضرموت ـ الجمهورية اليمنية .
2. تلقى تعليمه بمدرسة مكارم الاخلاق بالشحر ، ثم المدرسة المتوسطة بغيل أبي وزير .
3. عمل بعد تخرجه عام 1948ـ1949م ـ معلما بمدارس الدولة القعيطية في ذلك الوقت ، ثم مديرا لمدارسها.
4. تولى عددا من المناصب الادارية بعد الاستقلال ، سكرتيرا لمحافظة حضرموت ، ثم سكرتيرا لمحافظة المهرة ، فمحافظا لمحافظة لحج ، فسكرتيرا لمجلس رئاسة الجمهورية بعدن ، ثم سكرتيرا أول بسفارة الجمهورية اليمنية الجنوبية بالمملكة العربية السعودية ، واخيرا نائبا لمدير المركز اليمني للأبحاث الثقافية والمتاحف والاثار ـ عدن .
5. كان عضوا في اللجنة التحضيرية لأتحاد الادباء والكتاب اليمنيين .
6. كان احد أعضاء سكرتارية الأتحاد بعد أنعقاد مؤتمره الأول عام 1974م.
7. مثل الجمهورية في عدد من المنتديات والملتقيات الادبية في البلاد العربية الشقيقة ودول أوربية .
8. نال وسام 30نوفمبر من الدرجة الثالثة .عام 1997م بقرار من رئيس الجمهورية اليمنية .
9. شاعر ، وصفه النقاد بالمبدع .
10. له ديوانا شعر ـ الأول بعنوان (ثورة الحرمان) والثاني بعنوان ( الابحار الى مدن الحب والسلام) .
11. توفي في 26يونيو عام1997م بعد مرض عضال أقعده سنوات على فراش المرض .
12. خلف ابنا وثلاث بنات .
هذا موجز سيرة الشاعر (عبدالله عبدالكريم الملاحي) خلال سنوات عمره الممتده من عام 1930م ـ 1997م ، حوالي سبعة وستون عاما ، قضى اكثر من ثلثيها في العطاء والجهاد الانساني ، وكانت له في حياته أحلام مشروعة فتحقق منها ماتحقق ، واخفق منها ولم يتحقق مااخفق ، وهكذا هو دأب الانسان في صراعه مع الحياة بكل متناقضاتها ، ولم يكن عبدالله الملاحي بدعا في سلوكه وطموحات نفسه الابية فقد سبقه الآف من احرار العرب وعقلائهم ، وهو على دربهم وطريقة نهجهم سائر واثق الخطوات قوي العزيمة والاصرار ، والشعر مرآة لحياة وأفكار ونفسية الشاعر ، يصور به قضاياه وأسلوب حياته وطموحاته فيها.
وقد ترك لنا الشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي ديوانا شعر محفوظة حينما نشرهما واخرجهما للقاري ، وللشاعر قصائد غنائية لا اعرف بالضبط كم عددها وما مصيرها ، والبحث عنها يحتاج الى جهد ربما ليس بالسهل او البسيط ولكنني اظنها تستحق ذلك ، اذ كل من يتغني بها يرى خلفها شاعر موهوب يمتلك ناصية الكلمة الغنائية الشاعرة ، مثل اغنيته :ـ
أسمر وكله حلا *** ولكن وصله غلا .
وهي مشهورة ولكنني للاسف لا أحفظ كل ابياتها ، وما احفظة منذ سن المراهقة ضاع في زحمة الحياة وأيقونة النسيان.
وله اغنية غناها الفنان محمد سعد عبدالله وهي اغنية :ـ
يستاهل البرد من ضيع دفاه ....
ووجدت لدي الشاعر صالح باظفاري نص مطبوع ولكنه ناقص مكتوب عليها كلمات الشاعر (عبدالله عبد الكريم الملاحي ) والحان الفنان (عمر غيثان) ولم اسمع بهذه الاغنية مغناة ولا اعلم اغنت ام لا ؟ ونصها يقول :ـ
معك في اللين والشده **** وبعدك لو بلغ حـــــــــــــده
انا باتحمل المكتوب **** لان القلب لك موهــــــوب
************
يلومني على الكـــده **** الا قل لي متى الـــــــرده
صبرنا جم يالمحبوب **** لان القلب لك مـوهـــــوب
***********
وبقية الابيات ملخبطة في هذه الورقة وليست مرتبة الابيات ، وربما يكون النص كاملا لدي الفنان (عمر غيثان) .
اما مااحفظه من ابياته الشعبية على صوت الدان قوله :ـ
خرفة الواسط عجيبه ** اهلها غير المساكين
حلها عشار وحـــده ** والعشق عاد له قوانين.
وعشار هنا هو صديقه الاديب الشاعر المربي (محمد عوض عشار) ، واخبرني صديقه الشيخ الشاعر خميس كرامة حمدان بأن للشاعر عشار بيت في الواسط يزوره فيه بين الفينة والاخرى اصدقائه من ادباء وشعراء ومدرسين.
ومن ابياته الارتجا ليه بيته الذي قاله ذات مرة وقد اصطحبته في عام 1990م الى منزل الشاعر حسين ابو بكر المحضار رحمه الله ، لحضور أمسية منتدى الاثنين المحضاري ، ومن بعد رأى المحضار وهو خلف شباكه (الخلفه) كالمعتاد يطالع على الشارع ، فسألني من ذاك ؟ فقلت ابو محضار ، فقال على الفور :ـ
ابو محضار في الخلفه يطالع ** في اللي رائح واللي جاي طالع .
وتبسمت من طرافة البيت وبديهة الشاعر ، ولسنا هنا بصدد الحديث عن شعر الملاحي الحميني بل لقراءة ربما تكون عابره لديوانيه السالفة الذكر حتى تتجلى لنا معالم شاعريته ونتحقق من موضوعات شعره التي طرقها عبره ، وكيف صار شاعر الحب والثوره والسلام ، وقد يسر لنا الشاعر هذه المهمة اذ جمع لنا قصائده في ديوانه الاخير ، اذا من السهل علينا تتبع مواضيعه المطروقة في شعره ، لاسيما ان الشاعر من الشعراء المجيدين المقلين في انتاجهم ، وكل شعره هو اربعة واربعين قصيدة ، ولكنها من درر الكلام وجواهر الشعر ، واول مانحب ان نتطرق اليه هو الجانب الغزلي من شعر الملاحي وقصائد الحب والعشق ، فنقول :ـ
1ـ الملاحي شاعر الحب ؟
والحب هو تلك العاطفة الانسانية السامية ، وورد في تعريف الحب الكثير والكثير ، والفت فيه المؤلفات الكثيرة ايضا، ومن اهمها في التراث العربي كتاب (طوق الحمامة ) للامام ابن حزم الاندلسي ، وكتاب( روضة المحبين ) للامام ابن قيم الجوزية ، وغيرها ماعدى ماتركه لنا التراث العربي من قصائد واشعار العشاق العرب، والشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي وهبه الله قلبا رقيا عطوفا ووهبه حسا شاعريا رهيفا، فكان حريا لعواطفه بأن تتأثر بالجمال ، ويأسرها الحسن والدلال، ولم يكن الملاحي عربيدا في عشقه وحبه ، بل عفيفا في تغزله ومناجاته لطيفا في شعره وتعبيراته ، وهو للعذريين ينتسب ، وعلى هداهم في النسيب يهتدي ، ونحن نلمس ذلك في شعره فلا نراه الاشاكيا باكيا من لواعج الحب والشوق الى لقاء المحبوب ، او واهيا ساهيا من اثر بعد المعشوق ، فمن قصائده الاولى قصيدته (خفقات قلب) كتبها في عام 1948م وهي اقدم قصيدة حسب التاريخ المذيل تحت قصائد الديوان ، يقول في هذه القصيدة :ـ
قلب ابكيه واندبه *** اذ أوهى الصدر توثبه
قلب ابدا يحيادنفا *** لوعات الحب تذوبه
ويهيم بسحرالطرف ولم *** يعرف أحد مامذهبه
كم طاف بأزهار نفحت *** بشذاها العطري تجذبه
وتنقل فيها منتشيا *** وأليف الغصن يطربه
يشقى بهواه وأن له *** هدفا في الحب يهذبه
لدن الاعطاف متى تحنو*** اذ انت لقلبي مطلبه
رحماك بواه مضطرب *** يفديك وأنت تعذبه .
فاذا كان الشاعر ولد عام 1930م ونظم هذه القصيدة في عام 1948م ؟ فمعنى هذا أن الشاعر قد نظمها وسنه ثمانية عشرة سنة ! أي وهو في مقتبل الشباب ، ونجزم بأنها ليست الاولى ولكنها الاجود ، وفتى في مقتبل الشباب وهذه نظمه وهذا مذهبه في الحب والعشق ، لاشك انه تربى تربية حميده ، وهو كذالك اذ نشاء في كنف الشيخ العلامة والده (عبدالكريم بن عبدالقادر الملاحي ) رحمه الله .
و(عبدالله ) في نشدانه للحب في اول حياته لا يطلب المتعة ، ولا يحلل لنفسه ماشرعه بعض الشعراء لانفسهم ، وهو هنا لم يتمثل بقول الشاعر الشعبي الشيخ (محفوظ العطيشي ) رحمه الله في قوله :ـ
( نا عادنا الاشاب والشبه لها والغشم حق
في كل حجه خارق العاده وفي خلاف الطريق )
نعم لم يتمثل بهذا البيت الشائع بين الشعراء ، بل جعل حبه وسيلة تهذيب لنفسه الابية التي تأبى الركون الى سفاسف الامور ، فهو يؤكد لنا بقوله :ـ
يشقى بهواه وأن له ** * هدفا في الحب يهذبه .
هذا المعنى يؤكده الشاعر على مدار حياته وفي ثنايا قصائده ، مثل قصيدته (الى السمراء) والتي كتبها في عام 1967م ، يقول فيها:ـ
هي من وحي حبنا الطاهر العذري تغني العواطف الزخارة
ايه دفقة الربيع ابتسام منك يـــهدي بلالي المحــــــــــتارة
ولقاء تحت النجوم يريني أنعم الحب ثرة فــــــــــــــــــوارة
فيه اشراقة الحياة وفيض الحب يجلو لاهله أســـــــــــــراره
وانعتاق من ربقة الياس والحرمان والهم والاسى والمــرارة .
وهي معاني واضحة في شعره فاذا قال (حبنا الطاهر العذري) فهو يقصد ذلك المعنى الذي سنه العشاق العذريين ، ولكنه يضيف للحب معنى آخر غير استأناس العذريين بمعشوقهم ، ففي حبه ، اشراق الحياة ، وفيه انعتاق من المهلكات المحطمات لقلب الشاعر بل والانسان العادي ايضا ، وليس هناك اشد من الحرمان في حياة المرء ، ولهذا كان ديوان الشاعر الاول هو (ثورة الحرمان ) وهو طبعا اعم مما نقصده هنا اذ للحرمان اوجه كثيرة ومنها واقساها حرمان الحبيب من حبيبه ، وكما قال الفنان (محمد سعد عبدالله ) رحمه الله ( يارب من له حبيب لاتحرمه من حبيبه ) .
اما اذا اردنا أن نعرف دستور الحب لدى شاعرنا الملاحي ، فلا سبيل لنا الى ذلك الا قصيدته (على الشاطئ ) والتي يستعيد بها الذكريات على احد شواطئ عدن الجميلة ، قال فيها :ـ
هاأنت مطرح على الشط الطروب بلا رفيـــــــق
تزجي الانين وتارة تزجي أسى القلب الخـــــــوق
في نغمة تسري بها الانسام في اللحن الرقـــــــــيق
وتعيد لحن الذكريات على صدى الماضي السحيق
وتذيب فيه فؤادك المفتون بالألف العشـــــــــــــيق
********
ياوادع النظرات بعدك حطم الوتر الشــــــــــــــجي
وطوى وحيد بساط لذته وناء آه النــــــــــــــــــجي
أمسى يعيش موزع الالهام يعذله الخـــــــــــــــــلي
لا يستقر على هوى وزمـــــــانه ابدا عــــــــــــتي
تمضي لياليه الحزينة وهو ســـاه أو عــــــــــــيي
************
حبست مشاعره الشـجون فــذاب في كتمـــــــــــانه
وأصفر غض شبابه والعمــــر في ريعــــــــــــــانه
أصغى الى ايحاء وحدته ووحي جــــــــــــــــــنانه
أناته حيرى يـجددها صــــدى ألحــــــــــــــــــــانه
ورؤى الوجود تزيده حزنا على أحـــــــــــــــزانه
***********
ماقيمة الدنيا بلا أمل ولا ألف قــــــــــــــــــــــــريب
ولم البقاء اذا خلت متع الحياة من الحـــــــــــــــبيب
ولم التشبث بالرجاء اذا تناهى للمغــــــــــــــــــيب
وغد ولا أدري أيشرق في غد أمل الاديــــــــــــــب
أو هكذا تمضي حياة الشاعر القلق الغــــــــــــريب .
انه هنا مطرح على الشط يستعيد ذكرياته ويناجي على البعد حبيبته ، انه يفلسف هذا الحب في اطار الوجود والحياة ، وهذه النظرة الفلسفية تعطي لشعر الشاعر قيمة جمالية عميقة الاغوار فسيحة المعاني والدلالة الانسانية.
ونظرة شاملة لموضوع العشق والحب والغزل في شعر الملاحي نحصرها في شواهد من شعره ، فنقول مثلا :ـ
اذا اراد الملاحي ان يتغزل قال :ـ
1ـ لدن الاعطاف متى تحنو ؟ ** اذ انت لقلبي مطلبه .
وهذه صورة اجمالية للمعشوق لم يتسنى للشاعر ان يبين اكثر تفاصيلها؟
2ـ قوله في قصيدته (ورد الشوك) :ـ
ووقفت أنظر في ذهـول ** ذلك الحســــن الاغـــــــر
ملكت علي مشــــاعري ** والنفس يأسرها الحــــــــــور
سحر العيون الساجيات ** استعبد الحر الأبـــــــــــــــــر
ولا ندري اذا كان مجمع ذلك الحسن الاغر هي المتمثلة في الحور وسحر العيون الساجيات ، فيكفي الشاعر ما تفعله فيه العيون ، واجمل اشعار العرب ماقالته في وصف العيون وسحرها مثال قولهم :ـ
ان العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
او قول علي ابن الجهم :ـ
عيون المها بين الرصافة والجسر** جلبن الهوى من حيث ادري ولاادري
او بيت السياب المشهور :ـ
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر .
واما العمق الفلسفي لعيون المحبوب لدى شاعرنا فيتمثل في قوله :ـ
تسائلني قلوعي شفها الابحار ......
أي مرافي ، الدنيا ستحضننا
ألا ماأصعب التسآل ؟
ألا ماأعذب التجوال ....
في عينيك ...
وهل تدرك عيناك ؟ .
3ـ واذا ألمه الفراق اشتكى قائلا :ـ
قولوا له مضناك يافتان أضناه الفـــــــــــــــراق
أمسى غريب الدار في هم ويأس واشتـــــــــياق
غلب التذكر صبره هو والتصبر في شقــــــــاق
واذا تذكر مجلسا بين الاحبة والرفــــــــــــــــاق
عض البنان تحسرا وبكى بدمع لا يــــــــــــــراق
خوف الرقيب حبسته والقلب يحترق احتــــراق .
4ـ واذا تنكر محبوبه نراه يئن قائلا :ـ
طال التجني والمطال ** بعد التودد والوصال
ويمر بي حلو القوام ** فلا سلام ولا مقـــال
اسلمته قلبي الذي ** من هجره ذاق الوبال .
5ـ وفي نعيم اللقاء نراه يدندن بقوله :ـ
ياحبيبي كم كنت جنة نفسي تتلقاك بكرة وعشــــــيا
بك القي الوجود مبتهج القلب ويوحى هواك كل محيا.
وما بين اللقاءات العذرية وعذابات الفراق وقطع الوصال تتأرجح قصائد الملاحي ، وفي هذه القصائد يصور لنا بأسلوبه العذب الشفاف كل معاناته وتجاربه الشعرية في أجمل ماتكون .
2ـ الملاحي شاعر الثورة :‘ـ
تفتح وعي الشاعر (عبدالله عبدالكريم الملاحي) على عالم يمور بالثورات ، ويموج بحركات التحرر الوطني ، فكان لابد لهذا الشاعر ان تتشبع مشاعره بهذه التطلعات الثورية وخصوصا ان بلاده ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني والحكم الانجلوسلاطيني ، وهو الشاعر الناضج والمثقف الواعي وحامل مشعل التنوير في بلاده ، فكان لازاما عليه ان يسلك درب الثائرين داعية ومبشرا ، داعية الى التحرر والثورة ومبشرا بالنصر ، فنراه في قصيدته (اشراق ) عام 1959م يسوق البشارة لقومه وهو يستنهض عزائمهم قائلا :ـ
مواكب الاشراق في اعقاب ليل مظــــــــــــــلم
تزخر بالامال والاحلام منذ القـــــــــــــــــــدم
تملا بالاضواء والسحر جفون النـــــــــــــــــوم
أستيقظت على رؤاها ذات فجر ملهــــــــــــــــم
عوالم كاد يواريها ضـــــــــباب العـــــــــــــــدم
تاريخها يسطع في اعماق ماض اقــــــــــــــــدم
لم يحفظ التاريخ مجدا شامخا بــــــــــلا دم .
********
ياأمة أيقظها على الكفــــــاح الزمـــــــــــــــــن
كفى انطواء حطمي الاسوار هذا ممكــــــــــــن
لا تدرك الغايات الا حين يغلو الثمــــــــــــــــــن
********
انطلقي يا أمتي من اســـــــرك المصطــــــــــنع
واستقبلي فجر غد مؤتلق ملتمـــــــــــــــــــــــــع
واقضي علي يأس تمادى في حنايا الاضلــــــــــع
تمردي بحكمة وانطلقي كالمــــــدفـــــــــــــــــــــع
أمامك الدرب مخيف شائك لا تجــــــــــــــزعـــــي
فرب فجر مشرق في ذيل ليــــــــــل مفــــــــــــزع .
وهو يواصل درب نضاله وكفاحه ضد المستحكمين على مقدرات الشعب ، ويفضح كل اساليبهم في الاستغلال والاستعباد ، فنراه يرسم لنا لوحة ( فلاحة الوادي ) ويصور معاناة هذه الشريحة من المجتمع ، ويكشف استغلال ملاك الارض ويصور اطماعهم وجشعهم ، فهو بعد ان يحكي لنا بأن هذه الفلاحة تأتي بالزاد الى زوجها الفلاح وتشاركه في فلاحة الارض في حب وتفاني ، يخبرنا كيف صاحب الارض يحصد ماحصدوه من زرع وعرق ، قال في آخراها :ـ
يلتقي الحب على العيش وتوحيد الكفاح
الكفاح القدسي الحر من أجل الحـــياة
يدفعان العرى والفاقة بالجهد المــــتاح
ويفيضان على مولاهما مالا وجـــــاه
*****
يفنيان العمر في الكدح على هذا التراب
ويفيض الخير في ايديهما وقت الحصاد
فيجودان به جود عفيف ما أصــــــــــــاب
لجباة عفنــوا الأرض عتوا وفســـــــــاد
*****
ليت شعري أين نور الحق يغشى هــــؤلاء
حفنة منا بني الارض ولكن كالبهيمــــــــــة
لم يكن يتركها الحــــرمان يوما في هـــــــناء
ابدا توقعها الاطماع في حــــــــال اليمــــــــة .
كانت هذه القصيدة في عام 1959م ، اما حيمنا بزغت معالم الاستجابة الشعبية وتأكدت العزيمة على الكفاح فهو يصدع بقصيدته (أيها الشعب) عام 1961م قبل اندلاع الثورة المسلحة بثلاثة اعوام تقريبا ، يقول فيها :ـ
ايها الشعب تكلم
وابن رايك تفهم
لست ياهذا اصما أنت حيا تتألم
فلماذا تتوارى
بدموع تتضرم
أن بعض الصمت جبن وانهزام فتكلم
لا تطاطي راسك المحموم ارفع تقدم
انطلق دس سلم الاشواك ضح وتعلم
قل فمن حقك ان تفعل
ان الحق يقحم
أن يقولوا عنك محجور عليه لا يحكم
فلماذا لا يعدونك للرشد المحتم
أيها المعدوم اربابك
تثرى وتنعم
أيها المبعد أربابك تدنى وتكرم
ياطريد الفقر والحرمان
ياكونا محطم
أجار اليوم بشكواك أبن لا تتكتم .
وشهد عام 1962م من الشاعر عبدالله الملاحي اكثر القصائد الثورية ويتوج هذا الكفاح انتصار الثورة في الشمال ضد الامامة والتخلف ، ويحتفي الشاعر بهذه الثورة الوليدة ويزداد اصرار على تحقيق النصر في جنوب اليمن والتخلص من براثن الاحتلال البغيض واتباعه ،فكانت قصيدته (الاصرار الحاسم) وهي اصرار على النضال وتثبيت جنود الثورة على مواصلة الكفاح يقول فيها :ـ
ياأخي : لا تقل طال بنا الليل وأضنانا المســــــــــــــــير
لا تقل أنا ضللنا الدرب والليل خطــــــــــــــــــــــــــــير
لا ترع لا تلق بالا للافـــــــــــــــاعي والصــــــــــــــلال
لا تطل خلف التفافا لاتخف غدر اللـــــــــــــــــــــــــيال
قدما امضي فعمر الليل ياهذا قصير.
وفيها يقول :ـ
ياأخي غدنا المنشـــــــود تجميع الجــــــــــــهود
لبناء الوطن القابع في ذيل الوجـــــــــــــــــــــود
فتقدم سر بنا حتى يطل الفجر خفاق البنود
انني المح في عينيك نورا أي نور
انه نور الشباب الحر أكسير الخــــــــلود
انه التصميم والاصرار والفجر الجديد .
ثم كانت قصائده ( نشيد الجيل الصاعد) و (ميلاد شعب ) و (نفحات الحياة) وماقبلهن كلهن في عام 1962م .ثم تأتي قصيدته ( نشيد ثورة الحرمان) انشودة للثورة الوليدة من على جبال ردفان .
3ـ الملاحي شاعر السلام :ـ
المفهوم العام للسلام هو العيش في (أمن وأمان) عدالة اجتماعية ومايلحق بها من قوانين في خير وصالح الفرد والمجتمع ، والشاعر الملاحي سعى في شعره لتحقيق هذا السلام وانشاده حتى ينعم به هو ومجتمعه بل كانت نظرة الملاحي اشد واعم من حدود وطنه الى عالم الفقراء والمستضعفين في شتى اصقاع الارض .
اما السلام النفسي في داخل الشاعر فقد حققه برسوخ ايمانه بخالقه ومتانة الصلة بينه وبين ربه ، يرسخ هذا القول قصيدتيه ( في ظلال القران ) و (رسالة مضيئة) والاخيرة بمناسبة ميلاد نبي الامة صلى الله عليه وسلم .
اما نشدانه السلام في مجتمعه فقد جسده في قصيدته ( انسياب النور في مدينتي) عام 1962م عندما انارة الشحر بالكهرباء في ذلك العام .
وفي قصيدته (الجناح المحترق) يقول :ـ
شعارنا:
السلم والحياة للذين يطمحون في تحرير الانسان
رفاقنا على طريق الانعتاق
معرضون كلنا للعثرات
وكبوة الحصان لا تؤخر المسيرة .
وهو يقول فيها :ـ
ورغم قسوة الحياة يارفاقنا نظل نبني ابدا
نحول الجدب حياة
نحول الفقر جنان
نمهد الجبال في صرامة
لنخلق البذور من جديد
نمد انسان الحضارة الخلاق
الافا من السنين بالحياة والسلام .
وكان حتما مقضيا بأن ياتي السلام في عرف الشاعر بعد الكفاح فما بعد الاستقلال هي مرحلة بناء فنراه يقول في قصيدته (وكان اللقاء ) :ـ
لقد ولدت لحظات السعادة من فوهة البندقية
من ضربة الفأس في ارضنا البكر
فأنتعش الطين
تنامى على جنبات الجداول غرس السلام .
واذا كان السلام هو مفهوم ثوري ومطلب حضاري فقد امتدت احلام الشاعر الى مواطن اخرى فكانت قصائده ( أغنية لاطفال فيتنام) و( صرخة في اذن افريقيا) .
هذا هو الشاعر عبدالله عبدالكريم الملاحي في موجز مقتضب عن سيرته وملامح من شعره واغراضه ، لم نوفيه حقه ولم نكن اهلا لذلك ولكن الحب لهذا الشاعر وصمت القادرين على تناوله ، دفعاني الى مقامي هذا بين يدي جمهور كريم ، فأن احسنت فهو بفضلهم وأن أسات فهو تقصيري وحسن ظني في كرمهم .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .