المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صيام العشر من ذي الحجة


الدكتور أحمد باذيب
12-29-2005, 09:23 AM
جاء في فضل العمل في أيام العشر – دون تحديد نوعه، لا صيام ولا غيره – الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري 1/306، باب فضل العمل في أيام التشـريق ح (969)، واللفظ له، وأبو داود 2/815، باب في صوم العشر ح(2438) ،والترمذي 3/130، باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(757)، وابن ماجه 1/550، باب في صيام العشر ح (1727) من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلاَّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء ".
وأما النص على الصيام، فجاء فيه حديث عن بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة ، ويوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر : أول اثنين من الشهر والخميس " أخرجه أبو داود وغيره كما سيأتي مفصلاً وهو حديث ضعيف.وعن أبي هريرة:" ما من أيامٍ أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلِّ يوم منها بصيام سنة. وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر "أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث ضعيف أيضاً. وهناك أحاديث أخر وكلها ضعيفة أو موضوعة ،كما أشار إلى ذلك ابن رجب في "اللطائف" بقوله – بعد أن ذكر حديث الباب، وأحاديث أخر -: "وفي المضاعفة أحاديث مرفوعة، لكنها موضوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر، وهي كثيرة ... وقد روي في خصوص صيام أيامه، وقيام لياليه، وكثرة الذكر فيه، ما لا يحسن ذكره لعدم صحته" ا هـ ، والله أعلم.
وبعد :فإن ضعف هذه الأحاديث الواردة بخصوص الحث على صيام أيام العشر ،لا يلغي مشروعية صيامها ؛لأنها بلا شك من جملة العمل الصالح الذي ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وغيره ـ كما سبق آنفاً ـ .فإن قيل : ما لجواب عن قول عائشة رضي الله عنها ـ الذي سبق قريباً ـ : "ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - صائماً العشر قط " أفلا يدل ذلك على استثناء الصيام ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - ربما ترك العمل خشية أن يفرض على أمته ـ كما في الصحيحين من حديث عائشة ـ أو لعلة أخرى قد لا تظهر لنا ،كتركه قيام الليل ،وكتركه هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ،وأمثلة ذلك كثيرة.ومن جملة هذه الموانع ،أن تركه – صلى الله عليه وسلم - لصيام العشر قد يكون لأن الصيام فيه نوع كلفة ،ولديه – صلى الله عليه وسلم - من المهام العظيمة المتعدي نفعها للأمة من تبليغ الرسالة ،والجهاد في سبيله ،واستقبال الوفود ،وإرسال الرسل ،وكتابة الكتب ،وغيرها من الأعمال الجسام،فلو صام كل هذه الأيام لربما حصل فيها نوع مشقة، بل ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أنه لما سأل عن صيام يوم وإفطار يوم قال" وددت أني طوقت ذلك".
الثاني : أن العمل يكفي لثبوت مشروعيته أي نص ثابت ،ولا يلزم منه أن يعمله هو – صلى الله عليه وسلم - فهاهم الناس يصومون ستاً من شوال اعتماداً على حديث أبي أيوب المشهور ،وغيره من الأحاديث ،مع أنه ـ حسب علمي ـ لم يثبت حديث واحد يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم - يصومه ،فهل يمكن لأحد أن يقول لا يشرع صوم الست لأنه – صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه صومها ؟! لا أعلم أحداً يقول بهذا بناء على هذا المأخذ الأصولي ،وأما خلاف الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فلم يكن يرى مشروعية صيامها ،ليس بناء على هذا المأخذ ،وإنما لأسباب أخرى معلومة عند أهل العلم، وليس هذا المقام مناسبا لذكرها .وقل مثل هذا في سنن كثيرة العمدة فيها على عموميات قولية ،لم يثبت عنه – صلى الله عليه وسلم -فعلها بنفسه ،كصيام يوم وإفطار يوم، وصيام يوم عرفة ـ الذي هو أحد أيام العشر ـ وغيرها من الأعمال الصالحة.
الثالث : وهو مبني على ما سبق ،أن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة ،بل هو العمل الوحيد الذي اختص الله تعالى بجزائه ـ فرضاً ونفلاً ـ وورد في فضل نوافله أحاديث كثيرة يمكن لمن أراد الوقوف على بعضها ،أن يطالع رياض الصالحين للنووي ،أو جامع الأصول لابن الأثير ،وغيرها من الكتب .وقد راجعت كثيراً من كتب الفقهاء ،وإذا هم يذكرون من جملة ما يستحب صيامه صيام أيام العشر ـ أي سوى العيد كما هو معلوم ـ ولم أر أحداً ذكر أن صيامها لا يشرع أو يكره ،بل إن ابن حزم – رحمه الله – على ظاهريته قد قال باستحباب صيام أيام العشر.والذي دعاني للإطالة في هذا المقام ـ مع ظهوره ووضوحه ـ هو أنني وقفت على كلام لبعض إخواني من طلبة العلم ،ذكر فيه أن من جملة أخطاء الناس في العشر صيام هذه الأيام !! حتى أحدث كلامه هذا بلبلة عند بعض العامة الذين بلغهم هذا الكلام ،ولا أعلم أحداً قال بهذا من أهل العلم في القرون الغابرة ـ حسب ما وقفت عليه ـ ،ولا أدري ما الذي أخرج الصيام من جملة العمل الصالح ؟ .وبما تقدم تفصيله يمكن الجواب عما استشكله ذلك الأخ وغيره ،والله تعالى أعلم .أما الأحاديث الخاصة ، فسأذكر حالها بشيء من الإجمال ـ والتفصيل لا تحتمله هذه الفتوى ـ فللتفصيل موضع آخر ، وذلك كما يلي:أولاً : قال أبو داود 2/815 باب في صوم العشر ح ( 2437 ) : حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن الحرّ بن الصيّاح ، عن هنيدة بن خالد ، عن امرأته ، عن بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة ، ويوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر : أول اثنين من الشهر والخميس " .
تخريجه :*أخرجه النسائي 4/205 باب صوم النبي – صلى الله عليه وسلم - ح (2372)،وفي باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح (2417، 2418) ،وأحمد 5/271،6/288،423 من طرق عن أبي عوانة به بنحوه ، إلاّ أن في ألفاظهم : " أول اثنين وخميسين " ، وهذا هو الموافق لقولها : " ثلاثة أيام " ، وأما رواية أبي داود فقد سبق الإشارة إلى أنها في بعض روايات السنن : " والخميس والخميس " بالتكرار .*وأخرجه النسائي 4/220 ،باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح ( 2416) ،وأحمد 6/287 ، وابن حبان 14 / 332 ح ( 6422 ) من طريق أبي إسحاق الأشجعي ،عن عمرو بن قيس الملائي ،والنسائي في " الكبرى " 2/135 ، باب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ح ( 2723 ) من طريق زهير بن معاوية أبي خثيمة ، والنسائي في " الكبرى " 2/135، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح( 2722) ، من طريق شريك ، ثلاثتهم ( عمرو ، وزهير ، وشريك ) عن الحر بن الصياح ، عن هنيدة ، عن حفصة ، إلاّ أن لفظ عمرو هو : " أربع لم يكن يدعهن النبي – صلى الله عليه وسلم - : صيام عاشوراء ، والعشر ، وثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتين قبل الغداة " ، ولفظ زهير : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، أول اثنين من الشهر ، ثم الخميس ، ثم الخميس الذي يليه " ، ورواه شريك فجعله من مسند ابن عمر بلفظ حديث زهير . *وأخرجه أبو داود 2/822 ، باب من قال الاثنين والخميس ح ( 2452 ) عن زهير بن حرب ، والنسائي 4/221 ، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح(2419) عن إبراهيم الجوهري ، وأحمد 6/289 ، 310 ، ثلاثتهم ( زهير ، والجوهري ، وأحمد ) عن محمد بن فضيل ، والطبراني في " الكبير " 23/216 ، 420 ، من طريق عبد الرحيم بن سليمان ،كلاهما ( ابن فضيل ، وعبد الرحيم ) عن الحسن بن عبيد الله ، عن هنيدة ، عن ـ أمه – لم يقل عن امرأته – عن أم سلمة فذكر نحوه ، إلاّ أنه ليس في حديث الحسن بن عبيد الله ذكر لصيام تسع ذي الحجة ، وصيام يوم عاشوراء ، بل اقتصر على الأمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال زهير في حديثه : " أولها الاثنين والخميس "، ولفظ الجوهري : " أول خميس ، والاثنين والاثنين " بالتكرار ، ولفظ أحمد : " أولها الاثنين والجمعة والخميس " .
الحكم عليه :إسناد أبي داود رجاله ثقات،إلاّ أنه وقع في إسناده ومتنه اختلاف على هنيدة ،الذي مدار الحديث عليه ، ووقع فيه تفرد أبي إسحاق الأشجعي ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن الحر ، عن هنيدة ، عن حفصة ، ومثل هذا بعيد أن يصحح حديثه إذا انفرد ،فكيف وقد وقع فيه هذه الااختلاف في إسناده ومتنه ؟.
ومما يضعف به حديث الباب إضافة إلى ما سبق ، أن ما تضمنه من الإخبار عن صيام النبي – صلى الله عليه وسلم - لتسع ذي الحجة ، مخالف لما ثبت في صحيح مسلم 2/833 ح ( 1176) ، وأبي دواد 2/816 ، باب في فطر العشر ح ( 2439 ) ، والترمذي 3/129، باب ما جاء في صيام العشر ح ( 756 ) ، ولفظ مسلم عن عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - صائماً العشر قط " ، ولفظ مسلم الآخر : " أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يصم العشر " . ويضاف إلى ذلك أيضاً : السماع ، فليس في شيء منه التصريح بالتحديث سوى رواية أمه عن أم سلمة رضي الله عنها ، والله أعلم .
ثانياً : قال الترمذي 3/131 باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(758):حدثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدثنا مسعود بن واصل، عن نهاس بن قهْم، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة:" ما من أيامٍ أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلِّ يوم منها بصيام سنة. وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر ".قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث مسعود بن واصل ،عن النهاس، قال: وسألت محمداً عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه مثل هذا ، وقال: قد روي عن قتادة ، عن سعيد بن المسيَّب عن النبي– صلى الله عليه وسلم - مرسلاً شيءً من هذا ،وقد تكلم يحيى بن سيعد في نهاس بن قهم من قبل حفظه.
تخريجه:*أخرجه ابن ماجه 1/551، باب صيام العشر ح(1728) ،والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/208 من طريق محمد بن مخلد العطار،كلاهما (ابن ماجه، والعطار) عن عمر بن شبة ، عن مسعود بن واصل به بنحوه.*وأخرجه الترمذي في العلل الكبير ص(120) ح(206) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، وعلقه الدارقطني في "العلل" 9/200 عن الأعمش عن أبي صالح،كلاهما (أبو سلمة، وأبو صالح ) عن أبي هريرة بنحوه، ولفـظ أبي سلمة :"ما من أيام أحب إلى الله العمل فيهن من عشر ذي الحجة : التحميد ،والتكبير،والتسبيح والتهليل".
الحكم عليه: إسناد الترمذي فيه مسعود، والنهاس، وكلاهما ضعيف ، وقد قال الإمام الدارقطني في "العلل" 9/199: "وهو حديث تفرد به مسعود بن واصل،عن النهاس بن قهم ،عن قتادة ،عن ابن المسيب ،عن أبي هريرة ".
ومع هذا التفرد في وصله، فإن بعض الأئمة صوَّبوا كونه عن قتادة ،عن سعيد بن المسيب مرسلاً كما أشار إلى ذلك البخاري – فيما نقله عنه الترمذي عقب إخراجه للحديث – وقال الدارقطني في "العلل" 9/200: " وهذا الحديث، إنما روي عن قتادة عن سعيد بن المسيب مرسلاً".وهذا المرسل الذي صوَّبه الأئمة من رواية قتادة ،عن سعيد بن المسيب، سلسلة جعلها الحافظ ابن رجب – كما في شرح العلل 2/845 – من الأسانيد التي لا يثبت منها شيء، أو لا يثبت منها إلاَّ شيء يسير،مع أنه قد روي بها أكثر من ذلك،ونقل عن البرديجي قوله – عن هذه السلسة –: "هذه الأحاديث كلها معلولة،وليس عند شعبة منها شيء،وعند سعيد بن أبي عروبة منها حديث، وعند هشام منها آخر، وفيهما نظر" ا هـ.
وقد بين الإمام أحمد سبب ضعفها أيضاً – فيما نقله عنه أبو داود في مسائله (304) – بقوله: "أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشر رجالْ لا يعرفون".وأما الطريق التي رواها أبو صالح، فقد صوَّب الدارقطني – في العلل 9/200 – إرسالها.
وأما رواية الحديث من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، فقد سأل الترمذي الإمامين البخاري، وأبا عبدالرحمن الدارمي عنه، فلم يعرفاه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة.وقـال الدارقطني في "العلل" 9/200:" تفرد به أحمد بن محمد بن نيزك – وهو شيخ الترمذي في هذا الحديث – عن الأسود بن عامر، عن صالح بن عمر، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رفعه ".
وكلام الدارقطني في "العلل" كله يدور على أن الحديث لا يصح مرفوعاً من حديث أبي هريرة، بل هو مرسل ، وعلى إرساله من رواية قتادة عن ابن المسيب ، وهي سلسلة مطروحة .
وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم، ومنهم :
1- الحافظ ابن رجب، في "لطائف المعارف" ص (459)، وفي "فتح الباري" 9/16،17.
2- الحافظ ابن حجر، في "الفتح" 2/534 ح(969).والله أعلم وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

mahdi
12-29-2005, 08:19 PM
فضل العمل الصالح في العشر من ذي الحجة ، وأحكام الأضحية





بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبدالله الصادقين الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد :
فإن مواسم الخيرات والبركات ، وأسواق الآخرة ورفع الدرجات لا تزال تتوالى على هذه الأمة المرحومة في الحياة وبعد الممات ، فإنها لا تخرج من موسم إلا وتستقبل موسماً آخر ولا تفرغ من عبادة إلا وتنتظر أخرى ، وهكذا ما ودّع المسلمون رمضان حتى نفتحهم الأيام الست من شوال ، وما أن ينقضي ذو القعدة إلا ويكرمنا الله بعشر ذي الحجة .
فإنه من فضل الله علينا ومنته أن لعباده مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح وأمدّ في آجالهم فهم بين غاد للخير ورائح لذا ينبغي للمسلم ألا تفوته مواسم الخيرات وأن يتعرض فيها لنفحات رحمة الله عزوجل ففي الحديث الذي رواه الطبراني قال صلى الله عليه وسلم (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً ) .
فضلها :
ومن مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة ، والتي فضلها الله على سائر أيام العام ، والله أقسم بها والأقسام دليل على أهميتها وعظم نفعها .. قال تعالى : (والفجر وليال عشر) قال بعض المفسرين المراد بالفجر هو : فجر يوم النحر يوم الحج الأكبر ، وقال ابن كثير المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم ، قال تعالى : (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قال ابن عباس : أيام العشر .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري .
فعلى الرغم من مكانة الجهاد العظيمة ومنزلته العالية فإن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل عند الله إلا من ضحى بنفسه وماله في سبيل الله .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) .
وكان سعيد بن جبير – رحمه الله – وهو الذي روى حديث بن عباس السابق إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه .
- إنها تجتمع فيها العبادات ما لا يمكن اجتماعه في غيرها ، قال ابن حجر في فتح الباري : (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه ، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يأتي ذلك في غيره .
- فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدين وأنزل على رسوله الكريم في حجة الوداع قوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) .
- وصيام يوم عرفة يكفر آثام سنتين لقوله صلى الله عليه وسلم : (احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده) .
- في العشر أيضاً يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنة على الإطلاق وهو يوم الحج الأكبر الذي يجتمع فيه من الطاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره .
قال ابن القيم رحمه الله (خير الأيام عند الله يوم النحر ، وهو يوم الحج) كما في سنن أبي داوود عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر) ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى ، وهو يوم الحادي عشر ، وقيل يوم عرفة أفضل منه لأن صيامه يكفر سنتين .
قال العلماء : أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام حتى العشر الأواخر من رمضان ولكن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .
ما يستحب للمسلم أن يفعله في هذه الأيام :
1)الصلاة : يستحب التبكير للفرائض والمحافظة على الصلوات في جماعة – من باب أولى – والإكثار من النوافل فإنها من أفضل القربات ، عن ثوبان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة ، وحط بها عنك خطيئة ) وهذا عام في كل وقت فما بالك في مواسم الخيرات .
2)الصيام : لدخوله في الأعمال الصالحة ، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ) قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر : أنه مستحب استحباباً شديداً .
3)صيام يوم عرفة : يتأكد صيام يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم يوم عرفة : (احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) .
4)التكبير والتهليل والتحميد لما ورد في حديث بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) وقال الإمام البخاري : (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرها) وقال : (وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً ) .
وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر بمنى تلك الأيام ، وبعد الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاسه ومجلسه وممشاه ، تلك الأيام جميعاً .
والمستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم ، فحري بنا أن نحيي هذه السنة التي هُجرت في هذه الأيام وتكاد تنسى حتى من أهل الصلاح والخير .
5)الإكثار من تلاوة القرآن الكريم .
6)المحافظة على السنن الرواتب .
7)الاجتهاد في لياليها بالصلاة والذكر وكان سعيد بن جبير إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه وكان رحمه الله يقول : (لا تطفئوا سُرُجكم ليالي العشر ) .
8)الصدقة وصلة الرحم والبر بالوالدين .
9)استحب قوم من أهل العلم لمن عليه قضاء من رمضان أن يقضيه فيهن لمضاعفة الأجر فيها وهذا مذهب عمر ، وذهب علي رضي الله عنه : أن القضاء فيها يفوت فضل صام التطوع .
10)نشر العلم الشرعي .
11)بيان فضل هذه الأيام وتعريف الناس بذلك وخاصة الأهل والأقارب .
12)التوبة النصوح : وهو مما يتأكد في هذه العشر وذلك بالإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب فإنها تحرم الإنسان فضل ربه وتحجب قلبه عن مولاه ، ومن شروط التوبة الندم على ما فات والعزم على عدم العودة إليها وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير فيحصل الاعتراف بالذنب والندم على ما مضى وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان ، فإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح إنشاء الله قال تعالى : (فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكونوا من المفلحين ) .
13)الإكثار من الاستغفار : قال تعالى : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) وقال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام : (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا . يرسل السماء عليكم مدرارا . ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعلكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) .
14)رد المظالم إلى أهلها .
15)حفظ الجوارح ، سيما السمع والبصر واللسان .
16)الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، لك ولإخوانك المسلمين الأحياء منهم والميتين وللمجاهدين والدعاة العاملين والعلماء والمصلحين ، قال تعالى : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) وقال تعالى : (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) .
17)ومن أعظم الأعمال الصالحة التي يغفل عنها الناس ويتهاونون في شأنها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى والنصيحة في الدين كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
18)ومن أعمال الخير العظيمة : التعاون على البر والتقوى ونصرة المظلومين من الضعفاء والمساكين والوقوف بجانبهم وتبني قضاياهم ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله كالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر) وفي سنن أبي داوود بإسناد صحيح عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (أبغوني الضعفاء ، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم) .
19)فمن عجز عن ذلك كله فليكف آذاه عن الآخرين ففي ذلك أجر عظيم .
كما تستحب المبادرة والمسارعة بأي عمل يحبه الله ورسوله فأعمال الخير كثيرة لا تعدُّ و لا تحصى ، والسعيد من وفق لذلك ، وكلٌّ ميسر لما خلق له والمحروم من حُرم هذه الأجور العظيمة ، والمضاعفات الكبيرة في هذه الأيام المعلومة التي نطق بفضلها القرآن ، ونادى بصيامها وأعمارها بالطاعات رسول الإسلام – عليه الصلاة والسلام – وتسابق فيها السلف الصالح والخلف الفالح ، فما لا يدرك جُلَّه لا يترك كله ، فإن فاتك الحج والاعتمار فلا يفتك الصوم والقيام وكثرة الذكر والاستغفار .
أحكام الأضحية ومشروعيتها :
شرع الله الأضحية بقوله تعالى : (فصل لربك وانحر) وقوله تعالى : ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ) وهي سنة مؤكدة يكره تركها مع القدرة عليها لحديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم : (ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر) وحكمة مشروعية الأضحية هي عبادة لله ونسك يتقرب العبد بها إليه وإحياء لذكرى نبي الله الخليل إبراهيم عليه السلام حين أمره الله بذبح ابنه اسماعيل فامتثل الأمر وشرع في التنفيذ ففدى الله اسماعيل بذبح عظيم ، كما قال تعالى : (فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم ) وفي الأضحية إظهار لنعمة الله عزوجل بتوسعة المسلمين على أنفسهم وأهليهم وعلى الفقراء والمساكين أيام العيد وذكر الله عزوجل وشكره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل ) .
مم تكون الأضحية :
1-الأضحية لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى : (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) ولا يجزئ من الضأن إلا ما كان له ستة أشهر ومن المعز (الغنم) إلا ما كان له سنة ، ومن البقر ما له سنتان ومن الإبل ما له خمس سنين .
2-ومن شروط الأضحية السلامة من العيوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أربعة لا تجزء في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والعجفاء التي لا تنقي) .
وقت الذبح :
بداية وقت الذبح بعد صلاة العيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء ) .
ويسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول : بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن فلان : (ويسمي نفسه أو من أوصاه ) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال : (بسم الله والله أكبر اللهم هذا عني ومن لم يضح من أمتي ) ومن لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره .
توزيع الأضحية :
يسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الأقارب والجيران ويتصدق منها على الفقراء قال تعالى : (فكلوا منها واطعموا البائس الفقير) وقال تعالى : (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) وكان بعض السلف يحب أن يجعلها أثلاثاً : ثلثاً لنفسه ، وثلثاً هدية للأغنياء ، وثلثاً صدقة للفقراء ، ولا يعطي الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة .
وإذا أراد المسلم أن يضحي ودخل شهر ذو الحجة فإنه ينبغي له ألا يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) وفي لفظ (فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي) وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية .
والسر في هذه السنة أن يتشبه المضحي بالحجاج في مظهره لعل الله أن يرحمه كما يرحم الحجاج ، ونحن بذلك نستعطف الله علينا لعله يغفر لنا ويرحمنا .
وختاماً :
فإن إدراك العشر من ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله علينا ، وعلى العبد أن يقدرها حق قدرها ، وواجب المسلم استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة ، وذلك أن يخص هذه العشر بمزيد من العناية ، وأن يجاهد نفسه بالطاعة وأن يحث أهل بيته وأقاربه ، وأن ينبههم ويشجعهم على إحياء هذه الأيام والليالي العظام بالصلاة والصيام وقراءة القرآن ، وبالذكر والصدقة ، وبحفظ الجوارح والإمساك عن المعاصي والآثام ، فالداعي إلى الخير كفاعله ، ورب مبلغ أوعى من سامع .
نسأل الله أن ييسرنا لليسرى ، وأن ينفعنا بالذكرى وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

إعداد دائرة التوجيه والإرشاد بالأمانة العامة للتجمع اليمني للإصلاح