عاشق القبه الخضراء
05-12-2006, 02:33 PM
فتنة الوهابية للشيخ السيد أحمد بن زيني دحلان (مفتي مكة)
اعلم أن السلطان سليم الثالث (1204-1222 هجري) حدث في مدة سلطنته فتن كثيرة منها ما تقدم ذكره، ومنها فتنة الوهابية التي كانت في الحجاز حتى استولوا على الحرمين ومنعوا وصول الحج الشامي والمصري، ومنها فتنة الفرنسيس لما استولوا على مصر من سنة ثلاث عشرة (1213) إلى سنة ست عشرة (1216) ولنذكر ما يتعلق بهاتين الفتنتين على سبيل الاختصار لأن كلا منهما مذكور تفصيلا في التواريخ وأفرد كل منهما بتأليف رسائل مخصوصة، أما فتنة الوهابية فكان ابتداء القتال فيها بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد وهو نائب من جهة السلطنة العلية على الاقطار الحجازية وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى الثالث بن أحمد (وأما ابتداء أول ظهور الوهابية) فكان قبل ذلك بسنين كثيرة وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم أولا، ثم كثر شرهم وتزايد ضررهم واتسع ملكهم وقتلوا من الخلائق مالا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهــاب وأصله من المشرق من بنى تميم وكان من المعمرين فكان يعد من المنظرين لأنه عاش قريب مائة سنة حتى انتشر عنه ضلالهم، كانت ولادته سنة ألف ومائة وإحدى عشرة وهلك سنة ألف ومائتين، وأرخه بعضهم بقوله: وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان أبوه رجلا صالحا من أهل العلم وكذا أخوه الشيخ سليمان وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه فحقق اللـــه فراستهم فيه لما ابتدع ما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين وتوصل بذلك إلى تكفير المؤمنين فزعم أن زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم والتوسل به وبالأنبياء والأولياء والصالحين وزيارة قبورهم شرك، وأن نداء النبي صلى اللـــه عليه وسلم عند التوسل به شرك، وكذا نداء غيره من الأنبياء والأولياء والصالحين عند التوسل بهم شرك، وأن من أسند شيئا لغير اللـــه ولو على سبيل المجاز العقلي يكون مشركا نحو نفعني هذا الدواء، وهذا الولي الفلاني عند التوسل به في شيء.
وتمسك بأدلة لا تنتج له شيئا من مرامه، وأتى بعبارات مزورة زخرفها ولبس بها على العوام حتى تبعوه، وألف لهم في ذلك رسائل حتى اعتقدوا كفر أكثر أهل التوحيد، واتصل بأمراء المشرق أهل الدرعية ومكث عندهم حتى نصروه وقاموا بدعوته وجعلوا ذلك وسيلة إلى تقوية ملكهم واتساعه، وتسلطوا على الأعراب وأهل البوادي حتى تبعوهم وصاروا جندا لهم بلا عوض وصاروا يعتقدون أن من لم يعتقد ما قاله ابن عبد الوهــاب فهو كافر مشرك مهدر الدم والمال، وكان ابتداء ظهور أمره سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين، وابتداء انتشاره من بعد الخمسين ومائة وألف. وألف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية وكان من بنى حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، ولما مات محمد بن سعود قام بها ولده عبد العزيز بــن سعود، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهــاب بالمدينة يقولون سيضل هذا أو يضل اللـــه به من أبعده وأشقاه فكان الأمر كذلك، وزعم محمد بن عبد الوهــاب إن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة وأنه جدد للناس دينهم وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد كقوله تعالى (ومن أضل ممن يدعو من دون اللـــه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) وكقوله تعالى (ولا تدع من دون اللـــه مالا ينفعك ولا يضرك) وكقوله تعالى (والذين يدعون من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة: فقال محمد بن عبد الوهــاب من استغاث بالنبي صلى اللـــه عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه مثل هؤلاء المشركين ويدخل في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين مثل ذلك، وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في عبادة الأصنام (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه زلفى) قال: فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئا بل يعتقدون أن الخالق هو اللـــه تعالى بدليل قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن اللـــه) و (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللـــه) فما حكم اللـــه عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم ليقربونا إلى اللـــه زلفى فهؤلاء مثلهم، ومما ردوا به عليه في الرسائل المؤلفة للرد عليه أن هذا استدلال باطل فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء آلهة وجعلوهم شركاء لله بل إنهم يعتقدون أنهم عبيد اللـــه مخلوقون ولا يعتقدون أنهم مستحقون العبادة. وأما المشركون الذين نزلت فيهم هذه الآيات فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية و يعظمونها تعظيم الربوبية وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئا، وأما المؤمنون فلا يعتقدون في الأنبياء والأولياء استحقاق العبادة والألوهية ولا يعظمونهم تعظيم الربوبية بل يعتقدون أنهم عباد اللـــه وأحباؤه الذين اصطفاهم واجتباهم وببركتهم يرحم عباده فيقصدون بالتبرك بهم رحمة اللـــه تعالى، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة.
فاعتقاد المسلمين أن الخالق الضار والنافع المستحق العبادة هو اللـــه وحده ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه، وأن الأنبياء والأولياء لا يخلقون شيئا ولا يملكون ضرا ولا نفعا وإنما يرحم اللـــه العباد ببركتهم فاعتقاد المشركين استحقاق أصنامهم العبادة والألوهية هو الذي أوقعهم في الشرك لا مجرد قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه) لأنهم لما أقيمت عليهم الحجة بأنها لا تستحق العبادة وهم يعتقدون استحقاقها العبادة قالوا معتذرين (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه زلفى) فكيف يجوز لابن عبد الوهــاب ومن تبعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون ألوهية الأصنام ؟ فجميع الآيات المتقدمة وما كان مثلها خاص بالكفار والمشركين ولا يدخل فيه أحد من المؤمنين.
روى البخاري عن عبد اللـــه بن عمر رضي اللـــه عنهما عن النبي صلى اللـــه عليه وسلم في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين، وفي رواية عن ابن عمر أيضا أنه صلى اللـــه عليه وسلم قال ((أخوف ما أخاف على أمتي رجل يتأول القرآن بصنعه في غير موضعه)) فهو وما قبله صادق على هذه الطائفة ولو كان شيء مما صنعه المؤمنون من التوسل وغيره شركا ما كان يصدر من النبي صلى اللـــه عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها ففي الأحاديث الصحيحة أنه صلى اللـــه عليه وسلم كان من دعائه ((اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك)) وهذا توسل لاشك فيه وكان يعلم هذا الدعاء أصحابه ويأمرهم بالإيتان به وبسط ذلك طويل مذكور في الكتب وفي الرسائل التي في الرد على ابن عبد الوهــاب، وصح عنه أنه صلى اللـــه عليه وسلم لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي اللـــه عنها ألحدها صلى اللـــه عليه وسلم في القبر بيده الشريفة وقال ((اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين)) وصح أنه صلى اللـــه عليه وسلم سأله أعمى أن يرد اللـــه بصره بدعائه فأمره بالطهارة وصلاة ركعتين ثم يقول ((اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى اللهم شفعه في)) ففعل فرد اللـــه عليه بصره، وصح أن آدم عليه السلام توسل بنبينا صلى اللـــه عليه وسلم حين أكل من الشجرة لأنه لما رأى اسمه صلى اللـــه عليه وسلم مكتوبا على العرش وعلى غرف الجنة وعلى جباه الملائكة سأل عنه فقال اللـــه له هذا ولد من أولادك، فقال اللهم بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فنودي يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماء والأرض لشفعناك، وتوسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي اللـــه عنه.
لما استسقى الناس، وغير ذلك مما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطالة بذكره والتوسل الذي في حديث الأعمى قد استعمله الصحابة والسلف بعد وفاته صلى اللـــه عليه وسلم وفيه لفظ يا محمد وذلك نداء عند التوسل ومن تتبع كلام الصحابة والتابعين يجد شيئا كثيرا من ذلك كقول بلال بن الحارث الصحابي رضي اللـــه عنه عند قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم ((يا رسول اللـــه استسق لأمتك)) كالنداء الوارد عن النبي صلى اللـــه عليه وسلم عند زيارة القبور. وممن ألف في الرد على ابن عبد الوهــاب أكبر مشايخه وهو الشيخ محمد بن سليمان الكردي مؤلف حواشي شرح ابن حجر على متن بافضل فقال من جملة كلامه يا ابن عبد الوهــاب إني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون اللـــه فعرفه الصواب وأبن له الأدلة على أنه لا تأثير لغير اللـــه فإن أبى فكفره حينئذ بخصوصه ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين، وأنت شاذ عن السواد الأعظم فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب لأنه اتبع غير سبيل المؤمنين قال اللـــه تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ا هـ.
وأما زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم فقد فعلها الصحابة رضي اللـــه عنهم ومن بعدهم من السلف والخلف وجاء في فضلها أحاديث أفردت بالتأليف ومما جاء في النداء لغير اللـــه تعالى من غائب وميت وجماد قوله صلى اللـــه عليه وسلم ((إذا أفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد ياعباد اللـــه احبسوا فإن لله عبادا يجيبونه)) وفي حديث آخر ((إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنيس فليقل يا عباد اللـــه أعينوني وفي رواية أغيثوني فإن لله عبادا لا ترونهم)) وكان النبي صلى اللـــه عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك اللـــه وكان صلى اللـــه عليه وسلم إذا زار قال السلام عليكم يا أهل القبور وفي التشهد الذي يأتي به كل مسلم في كل صلاة صورة النداء في قوله ((السلام عليك أيها النبي)) والحاصل أن النداء والتوسل ليس في شيء منهما ضرر إلا إذا اعتقد التأثير لمن ناداه أو توسل به، ومتى كان معتقدا أن التأثير لله لا لغير اللـــه فلا ضرر في ذلك، وكذلك إسناد فعل من الأفعال لغير اللـــه لا يضر إلا إذا اعتقد التأثير ومتى لم يعتقد التأثير فإنه يحمل على المجاز العقلي كقوله نفعني هذا الدواء أو فلان الولي فهو مثل قوله: أشبعني هذا الطعام، وأرواني هذا الماء، وشفاني هذا الدواء فمتى صدر ذلك من مسلم فإنه يحمل على الإسناد المجازي والإسلام قرينة كافية في ذلك فلا سبيل إلى تكفير أحد بشيء من ذلك ويكفي هذا الذي ذكرناه إجمالا في الرد على ابن عبد الوهــاب ومن أراد بسط الكلام فليرجع إلى الرسائل المؤلفة في ذلك وقد لخصت ما فيها في رسالة مختصرة فلينظرها من أرادها، ولما قام ابن عبد الوهــاب ومن أعانه بدعوتهم الخبيثة التي كفروا بسببها المسلمين ملكوا قبائل الشرق قبيلة بعد قبيلة، ثم اتسع ملكهم فملكوا اليمن والحرمين وقبائل الحجاز وبلغ ملكهم قريبا من الشام فإن ملكهم وصل إلى المزيريب وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلما وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقق علماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة، كحمر مستنفرة، فرت من قسورة ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم، فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومئة وألف، وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفر بعضهم إلى الدرعية فأخبرهم بما شاهدوا فازدادوا عتوا واستكبارا وصار أمراء مكة بعد ذلك يمنعون وصولهم للحج فصاروا يغيرون على بعض القبائل الداخلين تحت طاعة أمير مكة ثم انتشب القتال بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد وكان ابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة قتل فيها خلائق كثيرون ولم يزل أمرهم يقوى وبدعتهم تنتشر إلى أن دخل تحت طاعتهم أكثر القبائل والعربان الذين كانوا تحت طاعة أمير مكة.
ولما جاءت الأخبار إلى مصر صنعوا زينة ثلاثة أيام وأكثروا من الشنك وضرب المدافع وأرسلوا بشائر لجميع ملوك الروم واستولت العساكر السائرة من طريق البحر على جدة في أوائل المحرم سنة ثمان وعشرين ثم طلعوا إلى مكة واستولوا عليها أيضا، وكل ذلك بلا قتال بتدبير الشريف سرا، ولما وصلت العساكر إلى جدة فر من كان بمكة من عساكر الوهابية وأمرائهم، وكان سعود أمير الوهابية حج في سنة سبع وعشرين ثم ارتحل إلى الطائف، ثم إلى الدرعية ولم يعلم باستيلاء العساكر السلطانية على المدينة إلا بعد ذلك ثم لما وصل إلى الدرعية علم باستيلائهم على مكة ثم الطائف ولما وصلت العساكر إلى جدة ومكة فر من الطائف أميرها عثمان المضيافي وفر من كان بها من عساكر الوهابية وأمرائهم. وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين أرسل محمد علي باشا مبشرين إلى دار السلطنة ومعهم المفاتيح وكتبوا إليهم أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف فدخلوا بها دار السلطنة بموكب حافل ووضعوا المفاتيح على صفائح الذهب والفضة وأمامهم البخورات في مجامر الذهب والفضة وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك زينة وشنكا ومدافع وخلعوا على من جاء بالمفاتيح وزادوا في رتبة محمد علي باشا وبعثوا له أطواخا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده، وفي شهر شوال سنة ثمان وعشرين توجه محمد علي باشا بنفسه إلى الحجاز وقبل توجهه من مصر قبض الشريف غالب على عثمان المضيافي الذي كان أميرا على الطائف للوهابية، وكان من أهل أكبر أعوانهم وأمرائهم فزنجره بالحديد وبعثه إلى مصر فوصل في ذي القعدة بعد توجه الباشا إلى الحجاز ثم أرسل إلى دار السلطنة فقتلوه ووصل محمد علي باشا في ذي القعدة إلى مكة وقبض على الشريف غالب ابن مساعد وبعثه إلى دار السلطنة وأقام لشرافة مكة ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد، وفي شهر محرم من سنة 29 بعثوا إلى السلطنة مبارك بن مضيان الذي كان أميرا على المدينة المنورة للوهابية فطافوا به في القسطنطينية في موكب ليراه الناس ثم قتلوه وعلقوا رأسه على باب السرايا وفعل مثل ذلك بعثمان المضيافي، وأما الشريف غالب فأرسلوه إلى سلانيك وبقي بها مكرما إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين ودفن بها وبني عليه قبة تزار، ومدة إمارته على مكة ست وعشرون سنة.
ثم إن محمد علي باشا وجه كثيرا من العساكر إلى تربة وبيشة وبلاد غامد وزهران وبلاد عسير لقتال طوائف الوهابية وقطع دابرهم ثم سار بنفسه في أثرهم في شعبان سنة تسع وعشرين ووصل إلى تلك الديار وقتل كثيرا منهم وأسر كثيرا وخرب ديارهم، وفي شهر جمادى الأولى سنة تسع وعشرين هلك سعود أمير الوهابية وقام بالملك بعده ولده عبد اللـــه ورجع محمد علي باشا من تلك الديار التي وصلها من ديار الوهابية عند إقبال الحج وحج ومكث بمكة إلى رجب سنة ثلاثين ثم توجه إلى مصر وترك بمكة حسن باشا ووصل الباشا إلى مصر في منتصف رجب سنة ثلاثين ومائتين وألف فتكون إقامته بالحجاز سنة وسبعة أشهر، وما رجع إلى مصر إلا بعد أن مهد أمور الحجاز، وأباد طوائف الوهابية التي كانت منتشرة في جميع قبائل الحجاز والشرق وبقي منهم بقية بالدرعية أميرهم عبد اللـــه بن سعود فجهز محمد علي باشا لقتاله جيشا وأرسله تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، وكان عبد اللـــه بن سعود قبل ذلك يكاتب مع طوسون باشا بن محمد علي باشا حين كان بالمدينة وعقد معه صلحا على بقاء إمارته ودخوله تحت طاعة محمد علي باشا فلم يرض محمد علي باشا بهذا الصلح فجهز ولده إبراهيم باشا وجعل أمر العساكر إليه، وكان ابتداء ذلك في أواخر سنة إحدى وثلاثين فوصل إلى الدرعية سنة اثنتين وثلاثين ونازل بجيوشه عبد اللـــه بن سعود في ذي القعدة سنة 33، ولما جاءت الأخبار إلى مصر ضربوا لذلك ألف مدفع وفعلوا شنكا وزينوا مصر وقراها سبعة أيام، وكان محمد علي باشا له اهتمام كبير في قتال الوهابية وأنفق في ذلك خزائن من الأموال حتى أخبر بعض من كان يباشر خدمته أنهم دفعوا في دفعة من الدفعات لأجرة تحميل بعض الذخائر خمسة وأربعين ألف ريال هذا في مرة من المرات كان ذلك الحمل من الينبع إلى المدينة عن أجرة كل بعير ست ريالات دفع نصفها أمير ينبع والنصف الآخر أمير المدينة وعند وصول الحمل من المدينة إلى الدرعية كان أجر تلك الحملة فقط مائه وأربعين ألف ريال وقبض إبراهيم باشا على عبد اللـــه بن سعود وبعث به وكثير من أمرائهم إلى مصر فوصل في سابع عشر محرم سنة أربع وثلاثين وصنعوا له موكبا حافلا يراه الناس وأركبوه على هجين وازدحم الناس للتفرج عليه، ولما دخل على محمد علي باشا قام له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه، وقال له الباشا ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال وكيف رأيت ابني إبراهيم باشا قال ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتى كان ما قدره اللـــه تعالى فقال له الباشا أنا أترجى فيك عند مولانا السلطان فقال المقدر يكون ثم ألبسه خلعة وانصرف إلى بيت إسماعيل باشا ببولاق، وكان بصحبة عبد اللـــه ابن سعود صندوق صغير مصفح فقال الباشا له.
ما هذا ؟ فقال هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان، فأمر الباشا بفتحه فوجدوا فيه ثلاثة مصاحف من خزائن الملوك لم ير الراؤون أحسن منها ومعها ثلاثمائة حبة من اللؤلؤ الكبار وحبة زمرد كبيرة وشريط من الذهب، فقال له الباشا الذي أخذتموه من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا فقال هذا الذي وجدته عند أبي فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه بل أخذه العرب وأهل المدينة وأغاوات الحرم وشريف مكة فقال الباشا صحيح وجدنا عند الشريف أشياء من ذلك ثم أرسلوا عبد اللـــه بن سعود إلى دار السلطنة ورجع إبراهيم باشا من الحجاز إلى مصر في شهر المحرم من سنة 35 بعد أن أخرب الدرعية خرابا كليا حتى تركوا سكناها.
ولما وصل عبد اللـــه بن سعود إلى دار السلطنة في شهر ربيع الأول طافوا به البلد ليراه الناس ثم قتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه أيضا في نواح متفرقة. هذا حاصل ما كان في قصة الوهابي بغاية الاختصار ولو بسط الكلام في كل قضية لطال، وكانت فتنتهم من المصائب التي أصيب بها الإسلام فإنهم سفكوا كثيرا من الدماء، وانتهبوا كثيرا من الأموال، وعم ضررهم، وتطاير شررهم فلا حول ولا قوة إلا باللـــه، وكثير من أحاديث النبي صلى اللـــه عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة كقوله صلى اللـــه عليه وسلم (( يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق )) وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري وبعضها في غيره لاحاجة لنا إلى الإطالة بنقل تلك الروايات ولا لذكر من خرجها لأنها صحيحة مشهورة ففي قوله سيماهم التحليق تصريح بهذه الطائفة لأنهم كانوا يأمرون كل من اتبعهم أن يحلق رأسه ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء، وكان السيد عبد الرحمــن الأهدل مفتى زبيد يقول لا حاجة إلى التأليف في الرد على الوهابية بل يكفي في الرد عليهم قوله صلى اللـــه عليه وسلم سيماهم التحليق فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم.
واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة على ابن عبد الوهـــاب لما أكرهوها على إتباعهم ففعلت، أمرها ابن عبد الوهـــاب أن تحلق رأسها فقالت له حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته لأن شعر رأس المرأة زينتها وشعر لحية الرجل زينته فلم يجد لها جوابا. ومما كان منهم أنهم يمنعون الناس من طلب الشفاعة من النبي صلى اللـــه عليه وسلم مع أن أحاديث شفاعة النبي صلى اللـــه عليه وسلم لأمته كثيرة متواترة وأكثر شفاعته لأهل الكبائر من أمته وكانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة على الصلاة على النبي صلى اللـــه عليه وسلم وعلى ذكرها كثير من أوصافه الكاملة ويقولون إن ذلك شرك ويمنعون من الصلاة عليه صلى اللـــه عليه وسلم على المنابر بعد الأذان حتى أن رجلا صالحا كان أعمى، وكان مؤذنا وصلى على النبي صلى اللـــه عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع منهم، فأتوا به إلى ابن عبد الوهـــاب فأمر به أن يقتل فقتل ولو تتبعت لك ما كانوا يفعلونه من أمثال ذلك لملأت الدفاتر والأوراق وفي هذا القدر كفاية ،اللـــه سبحانه وتعالى أعلم
اعلم أن السلطان سليم الثالث (1204-1222 هجري) حدث في مدة سلطنته فتن كثيرة منها ما تقدم ذكره، ومنها فتنة الوهابية التي كانت في الحجاز حتى استولوا على الحرمين ومنعوا وصول الحج الشامي والمصري، ومنها فتنة الفرنسيس لما استولوا على مصر من سنة ثلاث عشرة (1213) إلى سنة ست عشرة (1216) ولنذكر ما يتعلق بهاتين الفتنتين على سبيل الاختصار لأن كلا منهما مذكور تفصيلا في التواريخ وأفرد كل منهما بتأليف رسائل مخصوصة، أما فتنة الوهابية فكان ابتداء القتال فيها بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد وهو نائب من جهة السلطنة العلية على الاقطار الحجازية وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى الثالث بن أحمد (وأما ابتداء أول ظهور الوهابية) فكان قبل ذلك بسنين كثيرة وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم أولا، ثم كثر شرهم وتزايد ضررهم واتسع ملكهم وقتلوا من الخلائق مالا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهــاب وأصله من المشرق من بنى تميم وكان من المعمرين فكان يعد من المنظرين لأنه عاش قريب مائة سنة حتى انتشر عنه ضلالهم، كانت ولادته سنة ألف ومائة وإحدى عشرة وهلك سنة ألف ومائتين، وأرخه بعضهم بقوله: وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان أبوه رجلا صالحا من أهل العلم وكذا أخوه الشيخ سليمان وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه فحقق اللـــه فراستهم فيه لما ابتدع ما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين وتوصل بذلك إلى تكفير المؤمنين فزعم أن زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم والتوسل به وبالأنبياء والأولياء والصالحين وزيارة قبورهم شرك، وأن نداء النبي صلى اللـــه عليه وسلم عند التوسل به شرك، وكذا نداء غيره من الأنبياء والأولياء والصالحين عند التوسل بهم شرك، وأن من أسند شيئا لغير اللـــه ولو على سبيل المجاز العقلي يكون مشركا نحو نفعني هذا الدواء، وهذا الولي الفلاني عند التوسل به في شيء.
وتمسك بأدلة لا تنتج له شيئا من مرامه، وأتى بعبارات مزورة زخرفها ولبس بها على العوام حتى تبعوه، وألف لهم في ذلك رسائل حتى اعتقدوا كفر أكثر أهل التوحيد، واتصل بأمراء المشرق أهل الدرعية ومكث عندهم حتى نصروه وقاموا بدعوته وجعلوا ذلك وسيلة إلى تقوية ملكهم واتساعه، وتسلطوا على الأعراب وأهل البوادي حتى تبعوهم وصاروا جندا لهم بلا عوض وصاروا يعتقدون أن من لم يعتقد ما قاله ابن عبد الوهــاب فهو كافر مشرك مهدر الدم والمال، وكان ابتداء ظهور أمره سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين، وابتداء انتشاره من بعد الخمسين ومائة وألف. وألف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية وكان من بنى حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، ولما مات محمد بن سعود قام بها ولده عبد العزيز بــن سعود، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهــاب بالمدينة يقولون سيضل هذا أو يضل اللـــه به من أبعده وأشقاه فكان الأمر كذلك، وزعم محمد بن عبد الوهــاب إن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة وأنه جدد للناس دينهم وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد كقوله تعالى (ومن أضل ممن يدعو من دون اللـــه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) وكقوله تعالى (ولا تدع من دون اللـــه مالا ينفعك ولا يضرك) وكقوله تعالى (والذين يدعون من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة: فقال محمد بن عبد الوهــاب من استغاث بالنبي صلى اللـــه عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه مثل هؤلاء المشركين ويدخل في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين مثل ذلك، وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في عبادة الأصنام (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه زلفى) قال: فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئا بل يعتقدون أن الخالق هو اللـــه تعالى بدليل قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن اللـــه) و (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللـــه) فما حكم اللـــه عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم ليقربونا إلى اللـــه زلفى فهؤلاء مثلهم، ومما ردوا به عليه في الرسائل المؤلفة للرد عليه أن هذا استدلال باطل فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء آلهة وجعلوهم شركاء لله بل إنهم يعتقدون أنهم عبيد اللـــه مخلوقون ولا يعتقدون أنهم مستحقون العبادة. وأما المشركون الذين نزلت فيهم هذه الآيات فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية و يعظمونها تعظيم الربوبية وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئا، وأما المؤمنون فلا يعتقدون في الأنبياء والأولياء استحقاق العبادة والألوهية ولا يعظمونهم تعظيم الربوبية بل يعتقدون أنهم عباد اللـــه وأحباؤه الذين اصطفاهم واجتباهم وببركتهم يرحم عباده فيقصدون بالتبرك بهم رحمة اللـــه تعالى، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة.
فاعتقاد المسلمين أن الخالق الضار والنافع المستحق العبادة هو اللـــه وحده ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه، وأن الأنبياء والأولياء لا يخلقون شيئا ولا يملكون ضرا ولا نفعا وإنما يرحم اللـــه العباد ببركتهم فاعتقاد المشركين استحقاق أصنامهم العبادة والألوهية هو الذي أوقعهم في الشرك لا مجرد قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه) لأنهم لما أقيمت عليهم الحجة بأنها لا تستحق العبادة وهم يعتقدون استحقاقها العبادة قالوا معتذرين (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللـــه زلفى) فكيف يجوز لابن عبد الوهــاب ومن تبعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون ألوهية الأصنام ؟ فجميع الآيات المتقدمة وما كان مثلها خاص بالكفار والمشركين ولا يدخل فيه أحد من المؤمنين.
روى البخاري عن عبد اللـــه بن عمر رضي اللـــه عنهما عن النبي صلى اللـــه عليه وسلم في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين، وفي رواية عن ابن عمر أيضا أنه صلى اللـــه عليه وسلم قال ((أخوف ما أخاف على أمتي رجل يتأول القرآن بصنعه في غير موضعه)) فهو وما قبله صادق على هذه الطائفة ولو كان شيء مما صنعه المؤمنون من التوسل وغيره شركا ما كان يصدر من النبي صلى اللـــه عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها ففي الأحاديث الصحيحة أنه صلى اللـــه عليه وسلم كان من دعائه ((اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك)) وهذا توسل لاشك فيه وكان يعلم هذا الدعاء أصحابه ويأمرهم بالإيتان به وبسط ذلك طويل مذكور في الكتب وفي الرسائل التي في الرد على ابن عبد الوهــاب، وصح عنه أنه صلى اللـــه عليه وسلم لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي اللـــه عنها ألحدها صلى اللـــه عليه وسلم في القبر بيده الشريفة وقال ((اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين)) وصح أنه صلى اللـــه عليه وسلم سأله أعمى أن يرد اللـــه بصره بدعائه فأمره بالطهارة وصلاة ركعتين ثم يقول ((اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى اللهم شفعه في)) ففعل فرد اللـــه عليه بصره، وصح أن آدم عليه السلام توسل بنبينا صلى اللـــه عليه وسلم حين أكل من الشجرة لأنه لما رأى اسمه صلى اللـــه عليه وسلم مكتوبا على العرش وعلى غرف الجنة وعلى جباه الملائكة سأل عنه فقال اللـــه له هذا ولد من أولادك، فقال اللهم بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فنودي يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماء والأرض لشفعناك، وتوسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي اللـــه عنه.
لما استسقى الناس، وغير ذلك مما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطالة بذكره والتوسل الذي في حديث الأعمى قد استعمله الصحابة والسلف بعد وفاته صلى اللـــه عليه وسلم وفيه لفظ يا محمد وذلك نداء عند التوسل ومن تتبع كلام الصحابة والتابعين يجد شيئا كثيرا من ذلك كقول بلال بن الحارث الصحابي رضي اللـــه عنه عند قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم ((يا رسول اللـــه استسق لأمتك)) كالنداء الوارد عن النبي صلى اللـــه عليه وسلم عند زيارة القبور. وممن ألف في الرد على ابن عبد الوهــاب أكبر مشايخه وهو الشيخ محمد بن سليمان الكردي مؤلف حواشي شرح ابن حجر على متن بافضل فقال من جملة كلامه يا ابن عبد الوهــاب إني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون اللـــه فعرفه الصواب وأبن له الأدلة على أنه لا تأثير لغير اللـــه فإن أبى فكفره حينئذ بخصوصه ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين، وأنت شاذ عن السواد الأعظم فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب لأنه اتبع غير سبيل المؤمنين قال اللـــه تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ا هـ.
وأما زيارة قبر النبي صلى اللـــه عليه وسلم فقد فعلها الصحابة رضي اللـــه عنهم ومن بعدهم من السلف والخلف وجاء في فضلها أحاديث أفردت بالتأليف ومما جاء في النداء لغير اللـــه تعالى من غائب وميت وجماد قوله صلى اللـــه عليه وسلم ((إذا أفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد ياعباد اللـــه احبسوا فإن لله عبادا يجيبونه)) وفي حديث آخر ((إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنيس فليقل يا عباد اللـــه أعينوني وفي رواية أغيثوني فإن لله عبادا لا ترونهم)) وكان النبي صلى اللـــه عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك اللـــه وكان صلى اللـــه عليه وسلم إذا زار قال السلام عليكم يا أهل القبور وفي التشهد الذي يأتي به كل مسلم في كل صلاة صورة النداء في قوله ((السلام عليك أيها النبي)) والحاصل أن النداء والتوسل ليس في شيء منهما ضرر إلا إذا اعتقد التأثير لمن ناداه أو توسل به، ومتى كان معتقدا أن التأثير لله لا لغير اللـــه فلا ضرر في ذلك، وكذلك إسناد فعل من الأفعال لغير اللـــه لا يضر إلا إذا اعتقد التأثير ومتى لم يعتقد التأثير فإنه يحمل على المجاز العقلي كقوله نفعني هذا الدواء أو فلان الولي فهو مثل قوله: أشبعني هذا الطعام، وأرواني هذا الماء، وشفاني هذا الدواء فمتى صدر ذلك من مسلم فإنه يحمل على الإسناد المجازي والإسلام قرينة كافية في ذلك فلا سبيل إلى تكفير أحد بشيء من ذلك ويكفي هذا الذي ذكرناه إجمالا في الرد على ابن عبد الوهــاب ومن أراد بسط الكلام فليرجع إلى الرسائل المؤلفة في ذلك وقد لخصت ما فيها في رسالة مختصرة فلينظرها من أرادها، ولما قام ابن عبد الوهــاب ومن أعانه بدعوتهم الخبيثة التي كفروا بسببها المسلمين ملكوا قبائل الشرق قبيلة بعد قبيلة، ثم اتسع ملكهم فملكوا اليمن والحرمين وقبائل الحجاز وبلغ ملكهم قريبا من الشام فإن ملكهم وصل إلى المزيريب وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلما وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقق علماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة، كحمر مستنفرة، فرت من قسورة ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم، فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومئة وألف، وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفر بعضهم إلى الدرعية فأخبرهم بما شاهدوا فازدادوا عتوا واستكبارا وصار أمراء مكة بعد ذلك يمنعون وصولهم للحج فصاروا يغيرون على بعض القبائل الداخلين تحت طاعة أمير مكة ثم انتشب القتال بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد وكان ابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة قتل فيها خلائق كثيرون ولم يزل أمرهم يقوى وبدعتهم تنتشر إلى أن دخل تحت طاعتهم أكثر القبائل والعربان الذين كانوا تحت طاعة أمير مكة.
ولما جاءت الأخبار إلى مصر صنعوا زينة ثلاثة أيام وأكثروا من الشنك وضرب المدافع وأرسلوا بشائر لجميع ملوك الروم واستولت العساكر السائرة من طريق البحر على جدة في أوائل المحرم سنة ثمان وعشرين ثم طلعوا إلى مكة واستولوا عليها أيضا، وكل ذلك بلا قتال بتدبير الشريف سرا، ولما وصلت العساكر إلى جدة فر من كان بمكة من عساكر الوهابية وأمرائهم، وكان سعود أمير الوهابية حج في سنة سبع وعشرين ثم ارتحل إلى الطائف، ثم إلى الدرعية ولم يعلم باستيلاء العساكر السلطانية على المدينة إلا بعد ذلك ثم لما وصل إلى الدرعية علم باستيلائهم على مكة ثم الطائف ولما وصلت العساكر إلى جدة ومكة فر من الطائف أميرها عثمان المضيافي وفر من كان بها من عساكر الوهابية وأمرائهم. وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين أرسل محمد علي باشا مبشرين إلى دار السلطنة ومعهم المفاتيح وكتبوا إليهم أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف فدخلوا بها دار السلطنة بموكب حافل ووضعوا المفاتيح على صفائح الذهب والفضة وأمامهم البخورات في مجامر الذهب والفضة وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك زينة وشنكا ومدافع وخلعوا على من جاء بالمفاتيح وزادوا في رتبة محمد علي باشا وبعثوا له أطواخا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده، وفي شهر شوال سنة ثمان وعشرين توجه محمد علي باشا بنفسه إلى الحجاز وقبل توجهه من مصر قبض الشريف غالب على عثمان المضيافي الذي كان أميرا على الطائف للوهابية، وكان من أهل أكبر أعوانهم وأمرائهم فزنجره بالحديد وبعثه إلى مصر فوصل في ذي القعدة بعد توجه الباشا إلى الحجاز ثم أرسل إلى دار السلطنة فقتلوه ووصل محمد علي باشا في ذي القعدة إلى مكة وقبض على الشريف غالب ابن مساعد وبعثه إلى دار السلطنة وأقام لشرافة مكة ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد، وفي شهر محرم من سنة 29 بعثوا إلى السلطنة مبارك بن مضيان الذي كان أميرا على المدينة المنورة للوهابية فطافوا به في القسطنطينية في موكب ليراه الناس ثم قتلوه وعلقوا رأسه على باب السرايا وفعل مثل ذلك بعثمان المضيافي، وأما الشريف غالب فأرسلوه إلى سلانيك وبقي بها مكرما إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين ودفن بها وبني عليه قبة تزار، ومدة إمارته على مكة ست وعشرون سنة.
ثم إن محمد علي باشا وجه كثيرا من العساكر إلى تربة وبيشة وبلاد غامد وزهران وبلاد عسير لقتال طوائف الوهابية وقطع دابرهم ثم سار بنفسه في أثرهم في شعبان سنة تسع وعشرين ووصل إلى تلك الديار وقتل كثيرا منهم وأسر كثيرا وخرب ديارهم، وفي شهر جمادى الأولى سنة تسع وعشرين هلك سعود أمير الوهابية وقام بالملك بعده ولده عبد اللـــه ورجع محمد علي باشا من تلك الديار التي وصلها من ديار الوهابية عند إقبال الحج وحج ومكث بمكة إلى رجب سنة ثلاثين ثم توجه إلى مصر وترك بمكة حسن باشا ووصل الباشا إلى مصر في منتصف رجب سنة ثلاثين ومائتين وألف فتكون إقامته بالحجاز سنة وسبعة أشهر، وما رجع إلى مصر إلا بعد أن مهد أمور الحجاز، وأباد طوائف الوهابية التي كانت منتشرة في جميع قبائل الحجاز والشرق وبقي منهم بقية بالدرعية أميرهم عبد اللـــه بن سعود فجهز محمد علي باشا لقتاله جيشا وأرسله تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، وكان عبد اللـــه بن سعود قبل ذلك يكاتب مع طوسون باشا بن محمد علي باشا حين كان بالمدينة وعقد معه صلحا على بقاء إمارته ودخوله تحت طاعة محمد علي باشا فلم يرض محمد علي باشا بهذا الصلح فجهز ولده إبراهيم باشا وجعل أمر العساكر إليه، وكان ابتداء ذلك في أواخر سنة إحدى وثلاثين فوصل إلى الدرعية سنة اثنتين وثلاثين ونازل بجيوشه عبد اللـــه بن سعود في ذي القعدة سنة 33، ولما جاءت الأخبار إلى مصر ضربوا لذلك ألف مدفع وفعلوا شنكا وزينوا مصر وقراها سبعة أيام، وكان محمد علي باشا له اهتمام كبير في قتال الوهابية وأنفق في ذلك خزائن من الأموال حتى أخبر بعض من كان يباشر خدمته أنهم دفعوا في دفعة من الدفعات لأجرة تحميل بعض الذخائر خمسة وأربعين ألف ريال هذا في مرة من المرات كان ذلك الحمل من الينبع إلى المدينة عن أجرة كل بعير ست ريالات دفع نصفها أمير ينبع والنصف الآخر أمير المدينة وعند وصول الحمل من المدينة إلى الدرعية كان أجر تلك الحملة فقط مائه وأربعين ألف ريال وقبض إبراهيم باشا على عبد اللـــه بن سعود وبعث به وكثير من أمرائهم إلى مصر فوصل في سابع عشر محرم سنة أربع وثلاثين وصنعوا له موكبا حافلا يراه الناس وأركبوه على هجين وازدحم الناس للتفرج عليه، ولما دخل على محمد علي باشا قام له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه، وقال له الباشا ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال وكيف رأيت ابني إبراهيم باشا قال ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتى كان ما قدره اللـــه تعالى فقال له الباشا أنا أترجى فيك عند مولانا السلطان فقال المقدر يكون ثم ألبسه خلعة وانصرف إلى بيت إسماعيل باشا ببولاق، وكان بصحبة عبد اللـــه ابن سعود صندوق صغير مصفح فقال الباشا له.
ما هذا ؟ فقال هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان، فأمر الباشا بفتحه فوجدوا فيه ثلاثة مصاحف من خزائن الملوك لم ير الراؤون أحسن منها ومعها ثلاثمائة حبة من اللؤلؤ الكبار وحبة زمرد كبيرة وشريط من الذهب، فقال له الباشا الذي أخذتموه من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا فقال هذا الذي وجدته عند أبي فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه بل أخذه العرب وأهل المدينة وأغاوات الحرم وشريف مكة فقال الباشا صحيح وجدنا عند الشريف أشياء من ذلك ثم أرسلوا عبد اللـــه بن سعود إلى دار السلطنة ورجع إبراهيم باشا من الحجاز إلى مصر في شهر المحرم من سنة 35 بعد أن أخرب الدرعية خرابا كليا حتى تركوا سكناها.
ولما وصل عبد اللـــه بن سعود إلى دار السلطنة في شهر ربيع الأول طافوا به البلد ليراه الناس ثم قتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه أيضا في نواح متفرقة. هذا حاصل ما كان في قصة الوهابي بغاية الاختصار ولو بسط الكلام في كل قضية لطال، وكانت فتنتهم من المصائب التي أصيب بها الإسلام فإنهم سفكوا كثيرا من الدماء، وانتهبوا كثيرا من الأموال، وعم ضررهم، وتطاير شررهم فلا حول ولا قوة إلا باللـــه، وكثير من أحاديث النبي صلى اللـــه عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة كقوله صلى اللـــه عليه وسلم (( يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق )) وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري وبعضها في غيره لاحاجة لنا إلى الإطالة بنقل تلك الروايات ولا لذكر من خرجها لأنها صحيحة مشهورة ففي قوله سيماهم التحليق تصريح بهذه الطائفة لأنهم كانوا يأمرون كل من اتبعهم أن يحلق رأسه ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء، وكان السيد عبد الرحمــن الأهدل مفتى زبيد يقول لا حاجة إلى التأليف في الرد على الوهابية بل يكفي في الرد عليهم قوله صلى اللـــه عليه وسلم سيماهم التحليق فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم.
واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة على ابن عبد الوهـــاب لما أكرهوها على إتباعهم ففعلت، أمرها ابن عبد الوهـــاب أن تحلق رأسها فقالت له حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته لأن شعر رأس المرأة زينتها وشعر لحية الرجل زينته فلم يجد لها جوابا. ومما كان منهم أنهم يمنعون الناس من طلب الشفاعة من النبي صلى اللـــه عليه وسلم مع أن أحاديث شفاعة النبي صلى اللـــه عليه وسلم لأمته كثيرة متواترة وأكثر شفاعته لأهل الكبائر من أمته وكانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة على الصلاة على النبي صلى اللـــه عليه وسلم وعلى ذكرها كثير من أوصافه الكاملة ويقولون إن ذلك شرك ويمنعون من الصلاة عليه صلى اللـــه عليه وسلم على المنابر بعد الأذان حتى أن رجلا صالحا كان أعمى، وكان مؤذنا وصلى على النبي صلى اللـــه عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع منهم، فأتوا به إلى ابن عبد الوهـــاب فأمر به أن يقتل فقتل ولو تتبعت لك ما كانوا يفعلونه من أمثال ذلك لملأت الدفاتر والأوراق وفي هذا القدر كفاية ،اللـــه سبحانه وتعالى أعلم