الشيخ باجابر
12-28-2006, 01:32 PM
أمريكا: المناورة بالمالكي والتضحية به !!
ما بين زيارات "بوش" السابقة إلى بغداد في بداية احتلال العراق، وتباهيه بالوجود على أرض العراق، وسط قواته، وعلى يمينه ويساره يطوف "دونالد رامسفيلد"، وزيارته الأخيرة إلى الأردن التي كانت أقرب إلى حالة اللجوء السياسي إليها، مع انتقال كل أركان الحكم العميل من العراق إليه هناك، يبقى الأمر البديهي أن كلمة السر في هذا التغير، في القدرة والمكان هي "المقاومة العراقية"، سواء كان ذلك بالمعنى العام أي بمعنى أن "بوش" لم يعد قادرًا أن يذهب إلى العراق وهو لا يملك ما يتحدث فيه، سياسيًا، ولا عسكريًا بفعل انتظاره تقرير لجنة بيكر - هاملتون، المنوط بها إنقاذ الولايات المتحدة من المأزق الراهن، أو بالمعنى الخاص والمباشر بأن "بوش" لم يعد قادرًا على دخول "بغداد"، بينما قواته في تلك الحالة منهم من فقد السيطرة على الأرض، وفى الجو، إذ كيف له أن يهبط في مطار "بغداد"، والمقاومة قد أسقطت طائرة إف 16؟! وكذا كيف يوجد في أية بقعة في بغداد أو غيرها من مدن العراق؟! والمقاومة تقصف يوميًا كل القواعد الأمريكية ومخازن السلاح، كما أن المنطقة الخضراء ذاتها لم تعد آمنة لا للأمريكان، ولا لعملائهم.
لكن اللجوء السياسي، الذي طلبه الرئيس الامريكى من عمان، يحمل معاني أبعد وأخطر - وإن ظلت المقاومة هي كلمة السر بطبيعة الحال - إذ هو مؤشر، على أنّ الولايات المتحدة، باتت تستدعي قوى المحيط، لإنقاذها من المأزق التاريخي، الذي انحشرت فيه فى العراق، إذ سبق لجوء "بوش" إلى "عمان"، لجوء نائبه إلى المملكة العربية السعودية، كما أن العرّاب البريطاني للولايات المتحدة - أي توني بلير - قد استبق كل هذه التحركات باللجوء السياسي، إلى كل من سوريا وإيران؛ لإنقاذ قوات الاحتلال – أيضًا - وفق صيغة أخرى، فيما يشير إجمالاً إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا، قد فقدتا كل أوراقهما وقدرتهما على التحرك فى العراق - وباتت بعد أن كسرت المقاومة قوتها العسكرية وأنفها السياسي - تستنجد بدول الجوار لإنقاذها، كما يمكن القول: إنّ المخطط الاستراتيجي فى الولايات المتحدة، بدأ لعبة خلط الأوراق في المنطقة، وتوزيع مبكر للمسئوليات عن الهزيمة المنتظر إعلانها وفق لجنة بيكر - هاملتون، وصار يستهدف أحداث الاضطرابات فى محيط العراق، أو دفعه للاشتباك مع بعضه، لكي تبدو الولايات المتحدة فى نهاية الأمر جزءًا من كل في القضية، هروبًا من المسئولية - في جانب - ولتوزيع الفشل من جانب آخر، كما أن المخطط الأمريكي في هذا لا يخفي طموحه، في أن يتحول الصراع الداخلي فى العراق إلى صراع إقليمي، يمكن في ظله أن يجري الانسحاب الأمريكي من العراق، دون إعلان واضح للهزيمة، إذ ساعتها سيجري الانسحاب بذريعة وقوع أحداث "مؤسفة" في المنطقة، أو تحت قنبلة دخان من أن المسئول عن الفشل الأمريكي هو خلافات وصراعات دول الجوار. لكن ما هو أخطر أيضًا؟! هو أن "بوش" بات يلعب مع حليفه أو عميله "المالكي" لعبة الموت، أو لعبة التضحية به، كما جرى الحال مع "رامسفيلد" في الولايات المتحدة، وهل "المالكي" أعزّ على بوش من ابن خندقه الفكري والوطني؟! وبما يشير إلى أن ما سيجري في العراق – قريبًا - هو حالة اضطراب شامل.
التعيسان:
في زيارة "بوش" إلى الأردن كان الارتباك سائدًا؛ إذ ألغي اللقاء الثلاثي - الذي كان مقررًا - ليظهر فيه الملك الأردني إلى جانب الرئيس "بوش"، ورئيس وزراء الاحتلال الامريكى فى العراق – المالكي - كمؤشر دعائي على نجاح الولايات المتحدة فى بناء حلف فى المنطقة، وللإيحاء بأن التوجه نحو سوريا وإيران إنما يأتي في إطار خطة شاملة، لإشراك دول المحيط كلها، وقد وصل أمر التوتر والاضطراب أن الملك الاردنى لم يدعُ "المالكي" إلى حفل عشاء كان مقررًا - وكذا كان المؤتمر الصحافي بين "بوش" و"المالكي"، مزيجًا من العصبية، والضيق والتوتر النفسي، وقول كل شيء إلا ما هو جمل مفيدة، أو أي شيء جديد، إذ ظهر الرئيس بوش، وكأنه يحاول التملّص من الموقف الذي هو فيه، وإلى درجة أن قال للصحافيين - وهو فاقد كياسة الرؤساء-: "أنتم تسألون دومًا عن جدولة الانسحاب"، وإن كانت ثمة ملاحظات على هذا المؤتمر الذي لم يقدم أيّ جديد، فالأهم فيها، هو أن الرئيس الامريكى أشار - أكثر مرة - إلى وجود الجنرال "كيسي" معه فى الأردن، وتأكيد خطط مشتركة؛ لتسريع تدريب القوات العراقية العميلة، العاملة تحت إمرة القوات الأمريكية، لتولي مسئوليات الأمن في العراق، كما شدّد الرئيس الأمريكي على "دور العراقيين" فى مواجهة المقاومة، التي سماها كالمعتاد بـ"الإرهاب"، وفى ذلك يبدو المغزى الرئيس من زيارة "بوش" إلى عمان، ولقائه بالمالكي هناك، بل كل مؤشرات الخطة الأمريكية - الجاري تنفيذها - منذ أن لحقت الهزيمة بالقوات الأمريكية فى العراق، هو العمل على "تحويل المعركة فى العراق" من معركة بين المقاومة العراقية والاحتلال، إلى معركة بين كل المكونات السكانية فى داخل العراق، وبين دول جوار العراق وبعضها البعض، على أرض العراق.
وفي ذلك فإن المشكلة هي أن كل الأطراف فى المنطقة، باتت تدرك ما تستهدفه الولايات المتحدة، كما باتت فى موقف أقوى من قدرة الولايات المتحدة على الفعل، بفعل ضعفها على الأرض، لكن: هل كان من الممكن أن يأتي اللقاء بشيء جديد، بينما الاثنان غارقان فى الفشل؟!
المالكي الذي حضر إلى المؤتمر، كان واضحًا فى إعلان عجزه، سواء بما أشار إليه بأنه لا يملك الإمكانيات (وهو ما قاله الرئيس الأمريكي عن حليفه أيضًا فى معرض إشارته لشكوى المالكة)، وأنه مهدد حتى فى منزله، وكان ذلك هو التعبير الأشد دقة - ليس فقط عما وصل إليه الحكم العميل فى العراق، وإنما أيضًا عن أن كل ما قيل، ويقال عن خطة أمريكية، مع الحكم العميل، لبناء شرطة وجيش عميلين قادرين على مواجهة المقاومة، ليس إلا إعلانًا للفشل، ومحاولة للإلهاء السياسي، لقد حضر المالكي إلى عمان، بينما التقديرات الميدانية تشير إلى أنه لم يعد آمنًا، لا في بيته ولا في المنطقة الخضراء، كما حضر وكل أطراف العملية السياسية، التي شيدها الاحتلال فى العراق، فى حالة مأساوية، من الاضطراب، والتضاد والانهيار، بل حتى التحالف الشيعي - الشيعي، الذي يسانده، بات فى مأزق خطير، بات يشهد صراعات حادة وعميقة، كان أخطر دلالاتها ما جرى فى مدينة "العمارة"، التي شهدت صراعًا مسلحًا بين عصابات منظمة "بدر" - أو على حد وصف العراقيين – عصابات مقتدى الصدر، لم ينفك إلا بتدخل قوات الاحتلال.
أما بوش فقد حضر إلى عمان تاركًا خلفه فى واشنطن معركة حامية، حول الانسحاب من العراق، ما أفقده المصداقية في كل ما يطرح على المالكي في اللقاء – إذا كان هناك ما يطرح - كما حضر فى إثر هزيمته، وهزيمة حزبه فى الانتخابات الأمريكية، ما أفقده وحزبه السيطرة على مجلس النواب والشيوخ، والأهم في ذلك هو أن بوش بات غير قادر على تنفيذ ما يعد به المالكي أو غيره، إذ كل قراراته باتت الآن بين يدي الفريق المعارض، كما أن بوش جاء إلى عمان وهو الأضعف على الأرض فى العراق، إلى درجة إعلان بدء الانسحاب من بعض مناطق الأنبار، تحت مسمى سحب بعض القوات، لإعادة الأمن إلى بغداد، ما يجعله ضعيفًا في مركزه في العراق وفي واشنطن، ولهذا وذاك، كان لقاء عمان، هو لقاء بين تعيسين، لا يملك أحدهما من الأمر شيئًا، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي عصبيًا، كما هو ما جعل المالكي يجيب على أسئلة الصحافيين بكلمات عامة لا معنى لها.
بوش ولعبة تجار المخدرات:
وواقع الحال أن ثمّة حديثًا قد تكاثر حول ما تحقق من الزيارة، وإن كان الأغلب هو القول بأن كلاً من بوش والمالكي قد التقيا، وليس بأيديهما شيء، لا لبعضهما، ولا للآخرين، لكن الحقيقة المؤكدة فى نتائج هذا اللقاء هي أن بوش قد تعامل مع المالكي، وفق نظرية تعامل تجار المخدرات مع "صبيانه"، وأن اللقاء هو الأخير بينهما، فإذا كان تجار المخدرات غالبًا ما يضحون بأحد صبيانهم بإبلاغ الشرطة عنه، لتُلقي القبض عليه، حتى يتمكنوا هم من الفرار من الشرطة، التي تنهمك فى مطاردة الصبي، فإن بوش قد دفع "عميله - أو رجل أمريكا فى العراق حسب وصفه - ليحمل جسد الجريمة كله.
الخلاصة الحقيقية لهذا اللقاء هي أن بوش قرّر أن يحمّل المالكي كل تبعات حالة الفشل الأمريكي في العراق، ليصبح هو كبش الفداء القادم، على غرار ما حدث مع سلفه "أحمد الجلبي" الذي حملته الإدارة الأمريكية مسئولية عدم استعداد قوات الاحتلال لمواجهة احتمال اندلاع أعمال المقاومة، بالقول: إنه هو من أقنع الإدارة الأمريكية بأن الشعب العراقي سيستقبل جنود الاحتلال بالورد، ومن تابع المؤتمر الصحافي بدقه سيلحظ أمرين: الأول: أن بوش دفع المالكي إلى حرق آخِر وأهم أوراق تحالفاته في داخل لعبة العملاء بالعراق، أو بالدقة هو دفعه للانتحار السياسي بأن أكرهه على الدخول فى مواجهة مع التيار الصدري - الذي هو ذات التيار الذي أتى بالمالكي إلى سدة الحكم، وهو ما ظهر من خلال عدم رد بوش على سؤال "موجه" – أمريكيًا - حول ميليشيات الصدر، وإحالته السؤال إلى المالكي، الذي – وإن حاول وهو تتلعثم شفتاه أكل بعض الكلمات - إلا أنه فى نهاية المطاف، نطق بما يغضب حليفه الذي أتى به إلى الحكم.
والثاني: أن بوش لم يبخل على المالكي بأن وضع على رأسه "تاج الجزيرة" الذي هو ليس إلا "سلطانية"، حينما تحدث عن أن المالكي يطلب منه الدعم، وأنه يشكو من قلة الدعم, ما بدا أنه اعتراف شرف بيع بوش حليفه المالكي، فابتلع المالكي الطعم، وأعلن بعد عودته إلى بغداد أن الأمن والجيش العراقي سيصبحان جاهزين في يونيو القادم، لتسلم مهام الأمن فى العراق، دون أن يدرك المالكي أن بوش إنما قرّر حرقه كورقة انتهت صلاحياتها – كما فعل الأمريكيون من قبل مع النظام الموالى والمتعاون معه فى فيتنام الجنوبية، قبل إعلان الهزيمة الأمريكية - وإن ما قاله بوش بأن المالكي كان غاضبًا منه، بسبب عدم توفير الموارد، إنما كان يعني به نفض يده منه، إذ سيحمل المالكي – أمريكيًا - من الآن فصاعدًا نتائج الهزيمة الأمريكية فى العراق، ولعل الإشارة الأولى في هذا الاتجاه، قد ظهرت مباشرة بعد اللقاء، حين أعلن استقبال بوش لعملاء آخرين، فيما يسمى بالعملية السياسية للقاءات منفردة معه في واشنطن خلال أيام.
ساعة الحقيقة:
وفي عودة كل من بوش والمالكي إلى بغداد وواشنطن، فإن كليهما يواجه الحقيقة،ويؤكد هو نفسه أن ما جرى من مهرجان إعلامي فى عمان، لم يفد كثيرًا في تغيير الحقائق على الأرض، فالرئيس بوش يواجه فور عودته بدء إعلان نتائج تقرير بيكر هاملتون - الذي باتت كل التسريبات الإعلامية تؤكد أنه سيقع على رأس الرئيس بوش وقع الكارثة، ليس لأنه لا يعلم ما انتهت إليه اللجنة - العكس هو الصحيح، إذ لقاؤه مع المالكي جاء ضمن إطار تهيئة الرأي العام الأمريكي والعربي لنتائج أعمال اللجنة - وإنما لأن حقيقة الهزيمة الأمريكية فى العراق ستصبح معترفًا بها من قبل لجنة رسمية أمريكية، بما ينهي مكابرة بوش، ويجعله في موقع المتلبس بجريمة إخفاء الحقيقة، كما أن تقرير اللجنة سيدفع الأوضاع إلى حالة أسوأ بالنسبة للرئيس بوش – على صعيد المحاسبة له - والأغلب أن الآمر هو نائب الرئيس "ديك تشيني"، إضافة إلى أن التقرير سيفتح الباب أمام المنظمات الأمريكية الرافضة للحرب، إلى تصعيد تحركها ضد بوش، بأعلى مما كان الحال عليه من قبل، وهنا، وقبل أن يستريح بوش من رحلة اللجوء السياسي إلى الأردن، جاءت المفاجأة من رفيق عدوانه المُقال دونالد رامسفيلد، الذي أظهر تقريرًا - قيل: إنه قدمه إلى بوش قبل قرار إقالته بيومين - يطلب فيه إحداث تغييرات استراتيجية في العدوان على العراق، ويطلب تقليص القوات الأمريكية، وسحب قطاعات منها، ما أصاب بوش فى مقتل.
أما المالكي فقد عاد إلى العراق، ليجد نفسه في مأزق محكم، فهو أصبح الآن بلا حليف أو في قدر خطير من توتر صلاته بحليفه مقتدى الصدر، الذي أتى به إلى الحكم – وقد أثار له مشكلة حادة في السماوة مجددًا, ما دفعه إلى التحالف الفوري مع الحكيم - كما عاد ليجد البرلمان الذي أسسه الاحتلال قد أصبح مشلولاً بسبب الانسحابات، التي جرت وتجميد العضوية الذي أعلنه الكثير من الأطراف.
منقول
ما بين زيارات "بوش" السابقة إلى بغداد في بداية احتلال العراق، وتباهيه بالوجود على أرض العراق، وسط قواته، وعلى يمينه ويساره يطوف "دونالد رامسفيلد"، وزيارته الأخيرة إلى الأردن التي كانت أقرب إلى حالة اللجوء السياسي إليها، مع انتقال كل أركان الحكم العميل من العراق إليه هناك، يبقى الأمر البديهي أن كلمة السر في هذا التغير، في القدرة والمكان هي "المقاومة العراقية"، سواء كان ذلك بالمعنى العام أي بمعنى أن "بوش" لم يعد قادرًا أن يذهب إلى العراق وهو لا يملك ما يتحدث فيه، سياسيًا، ولا عسكريًا بفعل انتظاره تقرير لجنة بيكر - هاملتون، المنوط بها إنقاذ الولايات المتحدة من المأزق الراهن، أو بالمعنى الخاص والمباشر بأن "بوش" لم يعد قادرًا على دخول "بغداد"، بينما قواته في تلك الحالة منهم من فقد السيطرة على الأرض، وفى الجو، إذ كيف له أن يهبط في مطار "بغداد"، والمقاومة قد أسقطت طائرة إف 16؟! وكذا كيف يوجد في أية بقعة في بغداد أو غيرها من مدن العراق؟! والمقاومة تقصف يوميًا كل القواعد الأمريكية ومخازن السلاح، كما أن المنطقة الخضراء ذاتها لم تعد آمنة لا للأمريكان، ولا لعملائهم.
لكن اللجوء السياسي، الذي طلبه الرئيس الامريكى من عمان، يحمل معاني أبعد وأخطر - وإن ظلت المقاومة هي كلمة السر بطبيعة الحال - إذ هو مؤشر، على أنّ الولايات المتحدة، باتت تستدعي قوى المحيط، لإنقاذها من المأزق التاريخي، الذي انحشرت فيه فى العراق، إذ سبق لجوء "بوش" إلى "عمان"، لجوء نائبه إلى المملكة العربية السعودية، كما أن العرّاب البريطاني للولايات المتحدة - أي توني بلير - قد استبق كل هذه التحركات باللجوء السياسي، إلى كل من سوريا وإيران؛ لإنقاذ قوات الاحتلال – أيضًا - وفق صيغة أخرى، فيما يشير إجمالاً إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا، قد فقدتا كل أوراقهما وقدرتهما على التحرك فى العراق - وباتت بعد أن كسرت المقاومة قوتها العسكرية وأنفها السياسي - تستنجد بدول الجوار لإنقاذها، كما يمكن القول: إنّ المخطط الاستراتيجي فى الولايات المتحدة، بدأ لعبة خلط الأوراق في المنطقة، وتوزيع مبكر للمسئوليات عن الهزيمة المنتظر إعلانها وفق لجنة بيكر - هاملتون، وصار يستهدف أحداث الاضطرابات فى محيط العراق، أو دفعه للاشتباك مع بعضه، لكي تبدو الولايات المتحدة فى نهاية الأمر جزءًا من كل في القضية، هروبًا من المسئولية - في جانب - ولتوزيع الفشل من جانب آخر، كما أن المخطط الأمريكي في هذا لا يخفي طموحه، في أن يتحول الصراع الداخلي فى العراق إلى صراع إقليمي، يمكن في ظله أن يجري الانسحاب الأمريكي من العراق، دون إعلان واضح للهزيمة، إذ ساعتها سيجري الانسحاب بذريعة وقوع أحداث "مؤسفة" في المنطقة، أو تحت قنبلة دخان من أن المسئول عن الفشل الأمريكي هو خلافات وصراعات دول الجوار. لكن ما هو أخطر أيضًا؟! هو أن "بوش" بات يلعب مع حليفه أو عميله "المالكي" لعبة الموت، أو لعبة التضحية به، كما جرى الحال مع "رامسفيلد" في الولايات المتحدة، وهل "المالكي" أعزّ على بوش من ابن خندقه الفكري والوطني؟! وبما يشير إلى أن ما سيجري في العراق – قريبًا - هو حالة اضطراب شامل.
التعيسان:
في زيارة "بوش" إلى الأردن كان الارتباك سائدًا؛ إذ ألغي اللقاء الثلاثي - الذي كان مقررًا - ليظهر فيه الملك الأردني إلى جانب الرئيس "بوش"، ورئيس وزراء الاحتلال الامريكى فى العراق – المالكي - كمؤشر دعائي على نجاح الولايات المتحدة فى بناء حلف فى المنطقة، وللإيحاء بأن التوجه نحو سوريا وإيران إنما يأتي في إطار خطة شاملة، لإشراك دول المحيط كلها، وقد وصل أمر التوتر والاضطراب أن الملك الاردنى لم يدعُ "المالكي" إلى حفل عشاء كان مقررًا - وكذا كان المؤتمر الصحافي بين "بوش" و"المالكي"، مزيجًا من العصبية، والضيق والتوتر النفسي، وقول كل شيء إلا ما هو جمل مفيدة، أو أي شيء جديد، إذ ظهر الرئيس بوش، وكأنه يحاول التملّص من الموقف الذي هو فيه، وإلى درجة أن قال للصحافيين - وهو فاقد كياسة الرؤساء-: "أنتم تسألون دومًا عن جدولة الانسحاب"، وإن كانت ثمة ملاحظات على هذا المؤتمر الذي لم يقدم أيّ جديد، فالأهم فيها، هو أن الرئيس الامريكى أشار - أكثر مرة - إلى وجود الجنرال "كيسي" معه فى الأردن، وتأكيد خطط مشتركة؛ لتسريع تدريب القوات العراقية العميلة، العاملة تحت إمرة القوات الأمريكية، لتولي مسئوليات الأمن في العراق، كما شدّد الرئيس الأمريكي على "دور العراقيين" فى مواجهة المقاومة، التي سماها كالمعتاد بـ"الإرهاب"، وفى ذلك يبدو المغزى الرئيس من زيارة "بوش" إلى عمان، ولقائه بالمالكي هناك، بل كل مؤشرات الخطة الأمريكية - الجاري تنفيذها - منذ أن لحقت الهزيمة بالقوات الأمريكية فى العراق، هو العمل على "تحويل المعركة فى العراق" من معركة بين المقاومة العراقية والاحتلال، إلى معركة بين كل المكونات السكانية فى داخل العراق، وبين دول جوار العراق وبعضها البعض، على أرض العراق.
وفي ذلك فإن المشكلة هي أن كل الأطراف فى المنطقة، باتت تدرك ما تستهدفه الولايات المتحدة، كما باتت فى موقف أقوى من قدرة الولايات المتحدة على الفعل، بفعل ضعفها على الأرض، لكن: هل كان من الممكن أن يأتي اللقاء بشيء جديد، بينما الاثنان غارقان فى الفشل؟!
المالكي الذي حضر إلى المؤتمر، كان واضحًا فى إعلان عجزه، سواء بما أشار إليه بأنه لا يملك الإمكانيات (وهو ما قاله الرئيس الأمريكي عن حليفه أيضًا فى معرض إشارته لشكوى المالكة)، وأنه مهدد حتى فى منزله، وكان ذلك هو التعبير الأشد دقة - ليس فقط عما وصل إليه الحكم العميل فى العراق، وإنما أيضًا عن أن كل ما قيل، ويقال عن خطة أمريكية، مع الحكم العميل، لبناء شرطة وجيش عميلين قادرين على مواجهة المقاومة، ليس إلا إعلانًا للفشل، ومحاولة للإلهاء السياسي، لقد حضر المالكي إلى عمان، بينما التقديرات الميدانية تشير إلى أنه لم يعد آمنًا، لا في بيته ولا في المنطقة الخضراء، كما حضر وكل أطراف العملية السياسية، التي شيدها الاحتلال فى العراق، فى حالة مأساوية، من الاضطراب، والتضاد والانهيار، بل حتى التحالف الشيعي - الشيعي، الذي يسانده، بات فى مأزق خطير، بات يشهد صراعات حادة وعميقة، كان أخطر دلالاتها ما جرى فى مدينة "العمارة"، التي شهدت صراعًا مسلحًا بين عصابات منظمة "بدر" - أو على حد وصف العراقيين – عصابات مقتدى الصدر، لم ينفك إلا بتدخل قوات الاحتلال.
أما بوش فقد حضر إلى عمان تاركًا خلفه فى واشنطن معركة حامية، حول الانسحاب من العراق، ما أفقده المصداقية في كل ما يطرح على المالكي في اللقاء – إذا كان هناك ما يطرح - كما حضر فى إثر هزيمته، وهزيمة حزبه فى الانتخابات الأمريكية، ما أفقده وحزبه السيطرة على مجلس النواب والشيوخ، والأهم في ذلك هو أن بوش بات غير قادر على تنفيذ ما يعد به المالكي أو غيره، إذ كل قراراته باتت الآن بين يدي الفريق المعارض، كما أن بوش جاء إلى عمان وهو الأضعف على الأرض فى العراق، إلى درجة إعلان بدء الانسحاب من بعض مناطق الأنبار، تحت مسمى سحب بعض القوات، لإعادة الأمن إلى بغداد، ما يجعله ضعيفًا في مركزه في العراق وفي واشنطن، ولهذا وذاك، كان لقاء عمان، هو لقاء بين تعيسين، لا يملك أحدهما من الأمر شيئًا، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي عصبيًا، كما هو ما جعل المالكي يجيب على أسئلة الصحافيين بكلمات عامة لا معنى لها.
بوش ولعبة تجار المخدرات:
وواقع الحال أن ثمّة حديثًا قد تكاثر حول ما تحقق من الزيارة، وإن كان الأغلب هو القول بأن كلاً من بوش والمالكي قد التقيا، وليس بأيديهما شيء، لا لبعضهما، ولا للآخرين، لكن الحقيقة المؤكدة فى نتائج هذا اللقاء هي أن بوش قد تعامل مع المالكي، وفق نظرية تعامل تجار المخدرات مع "صبيانه"، وأن اللقاء هو الأخير بينهما، فإذا كان تجار المخدرات غالبًا ما يضحون بأحد صبيانهم بإبلاغ الشرطة عنه، لتُلقي القبض عليه، حتى يتمكنوا هم من الفرار من الشرطة، التي تنهمك فى مطاردة الصبي، فإن بوش قد دفع "عميله - أو رجل أمريكا فى العراق حسب وصفه - ليحمل جسد الجريمة كله.
الخلاصة الحقيقية لهذا اللقاء هي أن بوش قرّر أن يحمّل المالكي كل تبعات حالة الفشل الأمريكي في العراق، ليصبح هو كبش الفداء القادم، على غرار ما حدث مع سلفه "أحمد الجلبي" الذي حملته الإدارة الأمريكية مسئولية عدم استعداد قوات الاحتلال لمواجهة احتمال اندلاع أعمال المقاومة، بالقول: إنه هو من أقنع الإدارة الأمريكية بأن الشعب العراقي سيستقبل جنود الاحتلال بالورد، ومن تابع المؤتمر الصحافي بدقه سيلحظ أمرين: الأول: أن بوش دفع المالكي إلى حرق آخِر وأهم أوراق تحالفاته في داخل لعبة العملاء بالعراق، أو بالدقة هو دفعه للانتحار السياسي بأن أكرهه على الدخول فى مواجهة مع التيار الصدري - الذي هو ذات التيار الذي أتى بالمالكي إلى سدة الحكم، وهو ما ظهر من خلال عدم رد بوش على سؤال "موجه" – أمريكيًا - حول ميليشيات الصدر، وإحالته السؤال إلى المالكي، الذي – وإن حاول وهو تتلعثم شفتاه أكل بعض الكلمات - إلا أنه فى نهاية المطاف، نطق بما يغضب حليفه الذي أتى به إلى الحكم.
والثاني: أن بوش لم يبخل على المالكي بأن وضع على رأسه "تاج الجزيرة" الذي هو ليس إلا "سلطانية"، حينما تحدث عن أن المالكي يطلب منه الدعم، وأنه يشكو من قلة الدعم, ما بدا أنه اعتراف شرف بيع بوش حليفه المالكي، فابتلع المالكي الطعم، وأعلن بعد عودته إلى بغداد أن الأمن والجيش العراقي سيصبحان جاهزين في يونيو القادم، لتسلم مهام الأمن فى العراق، دون أن يدرك المالكي أن بوش إنما قرّر حرقه كورقة انتهت صلاحياتها – كما فعل الأمريكيون من قبل مع النظام الموالى والمتعاون معه فى فيتنام الجنوبية، قبل إعلان الهزيمة الأمريكية - وإن ما قاله بوش بأن المالكي كان غاضبًا منه، بسبب عدم توفير الموارد، إنما كان يعني به نفض يده منه، إذ سيحمل المالكي – أمريكيًا - من الآن فصاعدًا نتائج الهزيمة الأمريكية فى العراق، ولعل الإشارة الأولى في هذا الاتجاه، قد ظهرت مباشرة بعد اللقاء، حين أعلن استقبال بوش لعملاء آخرين، فيما يسمى بالعملية السياسية للقاءات منفردة معه في واشنطن خلال أيام.
ساعة الحقيقة:
وفي عودة كل من بوش والمالكي إلى بغداد وواشنطن، فإن كليهما يواجه الحقيقة،ويؤكد هو نفسه أن ما جرى من مهرجان إعلامي فى عمان، لم يفد كثيرًا في تغيير الحقائق على الأرض، فالرئيس بوش يواجه فور عودته بدء إعلان نتائج تقرير بيكر هاملتون - الذي باتت كل التسريبات الإعلامية تؤكد أنه سيقع على رأس الرئيس بوش وقع الكارثة، ليس لأنه لا يعلم ما انتهت إليه اللجنة - العكس هو الصحيح، إذ لقاؤه مع المالكي جاء ضمن إطار تهيئة الرأي العام الأمريكي والعربي لنتائج أعمال اللجنة - وإنما لأن حقيقة الهزيمة الأمريكية فى العراق ستصبح معترفًا بها من قبل لجنة رسمية أمريكية، بما ينهي مكابرة بوش، ويجعله في موقع المتلبس بجريمة إخفاء الحقيقة، كما أن تقرير اللجنة سيدفع الأوضاع إلى حالة أسوأ بالنسبة للرئيس بوش – على صعيد المحاسبة له - والأغلب أن الآمر هو نائب الرئيس "ديك تشيني"، إضافة إلى أن التقرير سيفتح الباب أمام المنظمات الأمريكية الرافضة للحرب، إلى تصعيد تحركها ضد بوش، بأعلى مما كان الحال عليه من قبل، وهنا، وقبل أن يستريح بوش من رحلة اللجوء السياسي إلى الأردن، جاءت المفاجأة من رفيق عدوانه المُقال دونالد رامسفيلد، الذي أظهر تقريرًا - قيل: إنه قدمه إلى بوش قبل قرار إقالته بيومين - يطلب فيه إحداث تغييرات استراتيجية في العدوان على العراق، ويطلب تقليص القوات الأمريكية، وسحب قطاعات منها، ما أصاب بوش فى مقتل.
أما المالكي فقد عاد إلى العراق، ليجد نفسه في مأزق محكم، فهو أصبح الآن بلا حليف أو في قدر خطير من توتر صلاته بحليفه مقتدى الصدر، الذي أتى به إلى الحكم – وقد أثار له مشكلة حادة في السماوة مجددًا, ما دفعه إلى التحالف الفوري مع الحكيم - كما عاد ليجد البرلمان الذي أسسه الاحتلال قد أصبح مشلولاً بسبب الانسحابات، التي جرت وتجميد العضوية الذي أعلنه الكثير من الأطراف.
منقول