باشراحيل
04-19-2007, 02:34 PM
فيض الضمير
نجوم ليلة عرسه (صلى الله عليه وسلم)
د. محمد أبوبكر حميد
اتفق آل عبدالمطلب بن هاشم مع آل خويلد الأسدي بن كلاب، بناءً على رغبة محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة، أن يكون حفل الزواج بسيطاً يسيراً مفتوحاً لكلِّ طبقات الناس، لا تكشُّف فيه ولا ابتذال ولا خمر، ولا إسراف أو بذخ في الطعام، ولا لهو أو عبث أو مجون في السهر، كذلك الذي يحدث في حفلات زواج أثرياء مكة وكبرائها. ورغم اعتراض البعض من الأُسرتين بأنّ هذا الحفل البسيط الذي يُكتفى فيه بوليمة وضرب الدفوف فقط، لا يليق بمحمد صلى الله عليه وسلم، صاحب الشرف الهاشمي الرفيع ولا بخديجة ذات الثراء الطويل العريض، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم وخديجة أصرّا على رأيهما في زواجهما، وأعلنت خديجة أنّها ستبذل ما يمكن أن ينفقه أكبر أثرياء مكة في حفل عرس في ليلة واحدة على الفقراء والمساكين والمحتاجين، ولقي هذا الرأي استحساناً من أبي طالب لأنّ خديجة ستبذل من المال ما لو كان لديه مثله أو أكثر منه لبذله على هؤلاء، فهو ابن عبدالمطلب سليل المجد الأثيل وصاحب القلب الذي يفيض عطفاً ورحمةً وسخاءً وكرماً.
ولا شكّ أنّه صلى الله عليه وسلم مثله مثل أي عريس في مثل هذه الليلة المميّزة في حياته، وهو الوفي الحصيف، سيتأمل وجوه الناس الذين حضروا ليلة عرسه، فيرى كبار قريش في الصفوف الأولى، أعمامه جميعاً يميلون برؤوسهم تيهاً وفخراً بمحمد الأمين، يتصدّرون الصفوف الأولى، في مقدمتهم الشقيقان أبو طالب والزبير ويليهما العباس وضرار وحمزة والمقدم وعبدالعُزَّى (أبولهب) والحارث والغيدان .. تسعة إخوان، وما كان ينقصهم إلاّ العاشر أبوه عبدالله بن عبدالمطلب أخوهم الأصغر. ولا شكّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّت على ملامحه سحابة كدر تمنى فيها لو كان والده حيّاً لكان أسعدهم جميعاً به في هذا اليوم. ولكن مثله في وفائه لا يمكن أن ينسى حب عمه أبي طالب له الذي لم تفتر عيناه عن النظر إليه ومتابعته منذ بدأت مراسم العرس. ولكن خاطر العريس الصادق الأمين لا بدّ أن يهدأ حين يتذكّر أنّ أباً لا يمكنه أن يحب ابنه أكثر من محبة عمه أبي طالب له، فهو قد فضّله على أولاده الذين من صُلبه. ولا بدّ لعريس مثله في مثل هذه الليلة أن يتجه بنظره إلى وجوه أهل العروس، فوجد صلى الله عليه وسلم في مقدمة الرجال من أهل خديجة عمها عمرو بن أسد وابن عمها ورقة بن نوفل بن عبدالعزى، ولاحظ أنّ نظرات ورقة لا تفارقه، ومثلما قرأ في نظرات عمه أبي طالب إليه كل الحب، قرأ في نظرات ورقة بن نوفل إليه كل الإعجاب والاعتزاز، فهو الوحيد بين القوم أجمعين الذي لديه علم من التوراة والإنجيل يشير إلى أنّه قد أطل زمان ظهور آخر الأنبياء، وأن الإرهاصات جميعاً تجتمع في هذا العريس الشاب الذي يجلس أمامه الآن. ولا شكّ أنّه تنقّل صلى الله عليه وسلم بنظره بين الصفوف، فوجد أبناء جده الأكبر قصي قد حضروا بفئتيهم، فئة من أطلق عليهم (المطيَّبُون) وهم بنو عبد مناف ومن حالفهم من بني أسد بن عبدالعزى وأبرزهم ورقة بن نوفل الذي جعله موقعه من خديجة يجلس في طليعة القوم، وبني زهرة وبني تيم وبني الحارث بن فهر، ثم انتقل صلى الله عليه وسلم ببصره إلى الفئة الثانية التي تسمَّى (الأحلاف) وهم بنو عبد الدار ومن حالفهم من بني سهم وجمح ومخزوم وعدي.
ومثل محمد صلى الله عليه وسلم في حيائه وأدبه العظيم، فإنّه إذا اصطدم نظره بجموع النساء لا يمكن إلاّ أن يغض بصره إلاّ عن وجوه محارمه، فهناك عماته الست يتصدَّرن جموع سيدات قريش، وقد بدت على ملامحهنّ الفرحة والسرور، وهنّ: صفية وأم حكيم وعاتكة، وأميمة وأروى وبرة. ولكن ثلاث نسوة أخريات كنّ أكثر سعادة، ورأى العريس محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الدموع تكاد تطفر من عيونهنّ من فرط الفرح، إنّهن أُمّهاته الثلاث: مرضعته حليمة السعدية ومربيته أم أيمن بركة بنت ثعلبة كادتا تطيران من الفرحة وهما تسعيان بين الصفوف لخدمة الناس، أمّا الثالثة فهي أُمه التي أغدقت عليه حبها وحنانها منذ وفاة أُمه إلى يوم عرسه، إنّها زوجة عمه أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية التي كانت تمر بيدها على خديها تمسح منهما دموعاً تتساقط فرحاً من حين لآخر لم تقو على حبسها، وهي تتنقّل ببصرها الحنون بين وجه محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأته يشعُّ نوراً يخترق القلوب ويملأ المكان، ووجه عروسه خديجة الذي لم تره يوماً أكثر وضاءة ورضاً واطمئناناً من هذا اليوم. وقد لاحظت فاطمة وكثير من الحضور أن خديجة كانت تسرح ببصرها بين الفينة والفينة وتتطلّع إلى السماء وكأنها تبحث عن شيء فما أن تراه حتى تعود إلى الأرض تتأمل وجوه الناس حولها بوجه مشرقٍ كالقمر. وكان ابن عمها ورقة بن نوفل أكثر الناس مراقبة لها، فكان كلما نظر إليها في حال سرحانها ارتدّ بصره عنها وعلى ثغره ابتسامة ذات مغذى، ما كان لأحدٍ من الحضور أن يفهمه إلاّ خديجة، فقد كانت في تطلُّعها إلى السماء تستعيد الرؤيا التي رأت فيها أنّ شمساً تهبط في بيتها فتملأه نوراً يضيء الكون كله، وأنّ هذا النور - كما فسّره لها ورقة بن نوفل - هو عريسها محمد صلى الله عليه وسلم الذي فاض نوره على القمر والنجوم فأشرقت به ظلمة الليل البهيم التي بدت لأنظار الناس كأنها إشراقة صبح!
وما أن انفض السامر، وانتهت مراسم الزواج، حتى شعر أبو طالب أنّه قد أكمل رسالته مع ابن أخيه الذي أحسن تربيته ورعايته وأحاطه بسور عظيم من عطفه ومحبته حتى رآه رجلاً يأكل من كسب يده، وهو اليوم، يوم عرسه فخور به أكثر من أبنائه جميعاً، إذ طارت سمعة خلقه وأمانته في آفاق مكة فلا يوجد بها مخلوق إلاّ ويحترمه لذلك احتراماً علا به قدر بني هاشم فوق علوِّه، وزواجه اليوم من سيدة قريش الطاهرة خديجة بنت خويلد التي خطبها أكابر رجال عصرها فردّتهم، أصبح حديث الناس في مكة، وهم جميعاً، السعيد منهم والحاسد، يتفقون على أهليّة محمد صلى الله عليه وسلم وأحقيته وكفاءته خلقاً ورجولة ونسباً لسيدة نساء عصرها التي غدت بزواجها منه صلى الله عليه وسلم خير نساء العالمين.
كان هذا الخاطر يجول بذهن أبي طالب ليلة زواج ابن أخيه، وما رآه أحدٌ في مكة في ذلك اليوم إلاّ وعرف أنّ هذا أسعد أيام حياته، كان كسا وجهه البشر، والناس تتقاطر عليه من أنحاء مكة يباركون له زواج محمد الصادق الأمين .. هكذا ظنّ أبو طالب في ذلك اليوم أنّه قد أدّى رسالته كاملة نحو ابن أخيه وآن له أن يرتاح من هذه المسئولية الكبيرة، وما كان يدري أنّ هذا الظن غير صحيح، وأنّ محبته لمحمد صلى الله عليه وسلم قد تأصّلت في سويداء قلبه، وأنّه سيظل يحدب عليه طوال سنوات عيشه مع خديجة قبل دعوته بالإسلام، وأنّه عندما يُبعث نبياً سيكون حربة الدفاع المستميت عنه .. وأنّه سيقف في صفه رغم أنّه لن يُسلم - ينصره ويؤازره ويردّ عنه كيد المعتدين حتى يتوفاه الله. ما كان أبو طالب يدري ما يطويه له ظهر الغيب من كلِّ ذلك.
أمّا من كان ينافس أبا طالب في محبته لمحمد صلى الله عليه وسلم منافسة شديدة، فكنّ أمهاته الثلاث اللاتي رأينا مدى فرحتهنّ دون غيرهنّ من الناس، أولاهنّ - حسب ترتيب ظهورهن في حياته لا حسب ترتيب محبتهنّ له صلى الله عليه وسلم - مرضعته الأولى وهي حليمة بنت عبدالله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قبيصة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن الملقَّبة بالسعدية، جاءت من مضارب بني سعد تصطحب ابنتها الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضاعة لتشاركا في فرحة هذا الابن البار والأخ الحبيب، وقد أكرمتها خديجة بأربعين رأساً من الغنم، وكانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها حليمة ابنها محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقها صبياً صغيراً.
.. (وللحديث بقية).
وقفة
الشكر الجزيل لكلِّ الذين يرسلون رسائل الثناء والملاحظات، وأسأل الله أن أكون دائماً عند حسن ظنهم، وما توفيقي إلاّ بالله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«777» ثم أرسلها إلى الكود 82244
[email protected]
نجوم ليلة عرسه (صلى الله عليه وسلم)
د. محمد أبوبكر حميد
اتفق آل عبدالمطلب بن هاشم مع آل خويلد الأسدي بن كلاب، بناءً على رغبة محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة، أن يكون حفل الزواج بسيطاً يسيراً مفتوحاً لكلِّ طبقات الناس، لا تكشُّف فيه ولا ابتذال ولا خمر، ولا إسراف أو بذخ في الطعام، ولا لهو أو عبث أو مجون في السهر، كذلك الذي يحدث في حفلات زواج أثرياء مكة وكبرائها. ورغم اعتراض البعض من الأُسرتين بأنّ هذا الحفل البسيط الذي يُكتفى فيه بوليمة وضرب الدفوف فقط، لا يليق بمحمد صلى الله عليه وسلم، صاحب الشرف الهاشمي الرفيع ولا بخديجة ذات الثراء الطويل العريض، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم وخديجة أصرّا على رأيهما في زواجهما، وأعلنت خديجة أنّها ستبذل ما يمكن أن ينفقه أكبر أثرياء مكة في حفل عرس في ليلة واحدة على الفقراء والمساكين والمحتاجين، ولقي هذا الرأي استحساناً من أبي طالب لأنّ خديجة ستبذل من المال ما لو كان لديه مثله أو أكثر منه لبذله على هؤلاء، فهو ابن عبدالمطلب سليل المجد الأثيل وصاحب القلب الذي يفيض عطفاً ورحمةً وسخاءً وكرماً.
ولا شكّ أنّه صلى الله عليه وسلم مثله مثل أي عريس في مثل هذه الليلة المميّزة في حياته، وهو الوفي الحصيف، سيتأمل وجوه الناس الذين حضروا ليلة عرسه، فيرى كبار قريش في الصفوف الأولى، أعمامه جميعاً يميلون برؤوسهم تيهاً وفخراً بمحمد الأمين، يتصدّرون الصفوف الأولى، في مقدمتهم الشقيقان أبو طالب والزبير ويليهما العباس وضرار وحمزة والمقدم وعبدالعُزَّى (أبولهب) والحارث والغيدان .. تسعة إخوان، وما كان ينقصهم إلاّ العاشر أبوه عبدالله بن عبدالمطلب أخوهم الأصغر. ولا شكّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّت على ملامحه سحابة كدر تمنى فيها لو كان والده حيّاً لكان أسعدهم جميعاً به في هذا اليوم. ولكن مثله في وفائه لا يمكن أن ينسى حب عمه أبي طالب له الذي لم تفتر عيناه عن النظر إليه ومتابعته منذ بدأت مراسم العرس. ولكن خاطر العريس الصادق الأمين لا بدّ أن يهدأ حين يتذكّر أنّ أباً لا يمكنه أن يحب ابنه أكثر من محبة عمه أبي طالب له، فهو قد فضّله على أولاده الذين من صُلبه. ولا بدّ لعريس مثله في مثل هذه الليلة أن يتجه بنظره إلى وجوه أهل العروس، فوجد صلى الله عليه وسلم في مقدمة الرجال من أهل خديجة عمها عمرو بن أسد وابن عمها ورقة بن نوفل بن عبدالعزى، ولاحظ أنّ نظرات ورقة لا تفارقه، ومثلما قرأ في نظرات عمه أبي طالب إليه كل الحب، قرأ في نظرات ورقة بن نوفل إليه كل الإعجاب والاعتزاز، فهو الوحيد بين القوم أجمعين الذي لديه علم من التوراة والإنجيل يشير إلى أنّه قد أطل زمان ظهور آخر الأنبياء، وأن الإرهاصات جميعاً تجتمع في هذا العريس الشاب الذي يجلس أمامه الآن. ولا شكّ أنّه تنقّل صلى الله عليه وسلم بنظره بين الصفوف، فوجد أبناء جده الأكبر قصي قد حضروا بفئتيهم، فئة من أطلق عليهم (المطيَّبُون) وهم بنو عبد مناف ومن حالفهم من بني أسد بن عبدالعزى وأبرزهم ورقة بن نوفل الذي جعله موقعه من خديجة يجلس في طليعة القوم، وبني زهرة وبني تيم وبني الحارث بن فهر، ثم انتقل صلى الله عليه وسلم ببصره إلى الفئة الثانية التي تسمَّى (الأحلاف) وهم بنو عبد الدار ومن حالفهم من بني سهم وجمح ومخزوم وعدي.
ومثل محمد صلى الله عليه وسلم في حيائه وأدبه العظيم، فإنّه إذا اصطدم نظره بجموع النساء لا يمكن إلاّ أن يغض بصره إلاّ عن وجوه محارمه، فهناك عماته الست يتصدَّرن جموع سيدات قريش، وقد بدت على ملامحهنّ الفرحة والسرور، وهنّ: صفية وأم حكيم وعاتكة، وأميمة وأروى وبرة. ولكن ثلاث نسوة أخريات كنّ أكثر سعادة، ورأى العريس محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الدموع تكاد تطفر من عيونهنّ من فرط الفرح، إنّهن أُمّهاته الثلاث: مرضعته حليمة السعدية ومربيته أم أيمن بركة بنت ثعلبة كادتا تطيران من الفرحة وهما تسعيان بين الصفوف لخدمة الناس، أمّا الثالثة فهي أُمه التي أغدقت عليه حبها وحنانها منذ وفاة أُمه إلى يوم عرسه، إنّها زوجة عمه أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية التي كانت تمر بيدها على خديها تمسح منهما دموعاً تتساقط فرحاً من حين لآخر لم تقو على حبسها، وهي تتنقّل ببصرها الحنون بين وجه محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأته يشعُّ نوراً يخترق القلوب ويملأ المكان، ووجه عروسه خديجة الذي لم تره يوماً أكثر وضاءة ورضاً واطمئناناً من هذا اليوم. وقد لاحظت فاطمة وكثير من الحضور أن خديجة كانت تسرح ببصرها بين الفينة والفينة وتتطلّع إلى السماء وكأنها تبحث عن شيء فما أن تراه حتى تعود إلى الأرض تتأمل وجوه الناس حولها بوجه مشرقٍ كالقمر. وكان ابن عمها ورقة بن نوفل أكثر الناس مراقبة لها، فكان كلما نظر إليها في حال سرحانها ارتدّ بصره عنها وعلى ثغره ابتسامة ذات مغذى، ما كان لأحدٍ من الحضور أن يفهمه إلاّ خديجة، فقد كانت في تطلُّعها إلى السماء تستعيد الرؤيا التي رأت فيها أنّ شمساً تهبط في بيتها فتملأه نوراً يضيء الكون كله، وأنّ هذا النور - كما فسّره لها ورقة بن نوفل - هو عريسها محمد صلى الله عليه وسلم الذي فاض نوره على القمر والنجوم فأشرقت به ظلمة الليل البهيم التي بدت لأنظار الناس كأنها إشراقة صبح!
وما أن انفض السامر، وانتهت مراسم الزواج، حتى شعر أبو طالب أنّه قد أكمل رسالته مع ابن أخيه الذي أحسن تربيته ورعايته وأحاطه بسور عظيم من عطفه ومحبته حتى رآه رجلاً يأكل من كسب يده، وهو اليوم، يوم عرسه فخور به أكثر من أبنائه جميعاً، إذ طارت سمعة خلقه وأمانته في آفاق مكة فلا يوجد بها مخلوق إلاّ ويحترمه لذلك احتراماً علا به قدر بني هاشم فوق علوِّه، وزواجه اليوم من سيدة قريش الطاهرة خديجة بنت خويلد التي خطبها أكابر رجال عصرها فردّتهم، أصبح حديث الناس في مكة، وهم جميعاً، السعيد منهم والحاسد، يتفقون على أهليّة محمد صلى الله عليه وسلم وأحقيته وكفاءته خلقاً ورجولة ونسباً لسيدة نساء عصرها التي غدت بزواجها منه صلى الله عليه وسلم خير نساء العالمين.
كان هذا الخاطر يجول بذهن أبي طالب ليلة زواج ابن أخيه، وما رآه أحدٌ في مكة في ذلك اليوم إلاّ وعرف أنّ هذا أسعد أيام حياته، كان كسا وجهه البشر، والناس تتقاطر عليه من أنحاء مكة يباركون له زواج محمد الصادق الأمين .. هكذا ظنّ أبو طالب في ذلك اليوم أنّه قد أدّى رسالته كاملة نحو ابن أخيه وآن له أن يرتاح من هذه المسئولية الكبيرة، وما كان يدري أنّ هذا الظن غير صحيح، وأنّ محبته لمحمد صلى الله عليه وسلم قد تأصّلت في سويداء قلبه، وأنّه سيظل يحدب عليه طوال سنوات عيشه مع خديجة قبل دعوته بالإسلام، وأنّه عندما يُبعث نبياً سيكون حربة الدفاع المستميت عنه .. وأنّه سيقف في صفه رغم أنّه لن يُسلم - ينصره ويؤازره ويردّ عنه كيد المعتدين حتى يتوفاه الله. ما كان أبو طالب يدري ما يطويه له ظهر الغيب من كلِّ ذلك.
أمّا من كان ينافس أبا طالب في محبته لمحمد صلى الله عليه وسلم منافسة شديدة، فكنّ أمهاته الثلاث اللاتي رأينا مدى فرحتهنّ دون غيرهنّ من الناس، أولاهنّ - حسب ترتيب ظهورهن في حياته لا حسب ترتيب محبتهنّ له صلى الله عليه وسلم - مرضعته الأولى وهي حليمة بنت عبدالله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قبيصة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن الملقَّبة بالسعدية، جاءت من مضارب بني سعد تصطحب ابنتها الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضاعة لتشاركا في فرحة هذا الابن البار والأخ الحبيب، وقد أكرمتها خديجة بأربعين رأساً من الغنم، وكانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها حليمة ابنها محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقها صبياً صغيراً.
.. (وللحديث بقية).
وقفة
الشكر الجزيل لكلِّ الذين يرسلون رسائل الثناء والملاحظات، وأسأل الله أن أكون دائماً عند حسن ظنهم، وما توفيقي إلاّ بالله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«777» ثم أرسلها إلى الكود 82244
[email protected]