حد من الوادي
09-05-2007, 10:47 PM
صبحي حديدي يكتب..حرب اليمن الحقيقية: صعدة الحوثيين.. أم صنعاء الفاسدين؟
صبحي حديدي ( 05/09/2007 )
قبل أن تنقلب إلي حرب حقيقية بين الجيش اليمني النظامي وأعداد محدودة من رجال الميليشيات
ممّن لا يحملون إلا الأسلحة الخفيفة؛ وقبل أن يسقط في مختلف عملياتها قتلي وجرحي بالآلاف وعشرات الآلاف من الجانبين، ويتشرّد 50 ألف يمني معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال، وتتفكك 500 إلي 600 عائلة؛
قبل هذا كلّه كان ما يُعرف اليوم باسم تمرّد الحوثيين في منطقة صعدة (240 كم شمال العاصمة صنعاء) قد بدأ في صيغة تحركات شعبية محلية بسيطة، لم تكن موجهة ضدّ السلطة أساساً. ففي أواسط 2004 قامت أنفار محدودة من أعضاء منتدي الشباب المؤمن ، الذي كان قد تأسس سنة 1990 كمنتدي لتدريس العقيدة الشيعية الزيدية في منطقة صعدة، بتنظيم تظاهرات سلمية ضدّ الإحتلال الأمريكي للعراق، والممارسات الإسرائيلية الوحشية ضدّ الفلسطينيين.
لكنّ السلطات اليمنية واجهت التظاهرة بحملة اعتقالات واسعة شملت المئات من مناصري المنتدي، أعقبتها بحرب مفتوحة حشدت لها 30 ألف جندي واستخدمت فيها الطائرات والسلاح الصاروخي والمدفعية الثقيلة، وأسفرت معاركها الأولي عن مقتل الشيخ القبائلي وكبير زعماء المنتدي حسين بدر الدين الحوثي. المدهش، مع ذلك، أنّ الجيش اليمني فشل حتي هذه الساعة في وضع حدّ للتمرّد، بعد سلسلة مواجهات دامية وفرض حصار شامل علي المنطقة، وإخفاق محاولتين لوقف إطلاق النار، وبعد وصول الوساطة المباشرة التي تولّتها الحكومة القطرية مؤخراً ـ بموافقة الطرفين، الحكومة اليمنية وقيادات التمرّد ـ إلي طريق مسدود.
والمعطيات الراهنة لا تشير أبداً إلي انهيار وشيك للحوثيين (قرابة 3000 مقاتل، يتألفون غالباً من الفتية والشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و23 سنة)، بل يبدو العكس هو الصحيح: اتساع قاعدتهم الشعبية بدل انحسارها، وتطوّر قدراتهم العسكرية واللوجستية بدل استنزافها. وعلي سبيل المثال، إذا كان قائد التمرّد الحالي عبد الملك الحوثي (شقيق الزعيم القتيل) قد سلّم لجنة الوساطة القطرية 61 من ضباط وأفراد الجيش اليمني الذين كانوا أسري لدي جماعته، كما وافق علي إخلاء 52 موقعاً عسكرياً وتفكيك ألغامها الأرضية كبادرة حسن نيّة تجاه الوساطة القطرية؛ فكم من الأسري، وكم من المواقع الحصينة، يتبقي لديه وفي مقدوره أن لا يسلّمها قبل التوصّل إلي تسوية؟
غير أنّ جوهر المشكلة يبدأ من هذه النقطة تحديداً: كيف يمكن التوصل إلي تسوية، وما هي مطالب الحوثيين؟ من حيث المبدأ، يمكن تلمّس مطلب أساسي يكتسي طابع الحقوق المدنية والحقوق المذهبية في آن معاً، وهو وقف سياسة الحظر التي يقول الحوثيون إنّ السلطة تمارسها علي أتباع المذهب الزيدي الذي يعتنقونه، ومساواتهم بما يتمتع به أتباع المذاهب الإسلامية السنّية. وهذه المطالب تبدأ من حرّية فتح المساجد مجدداً (بعد أن كانت السلطات قد وضعت اليد عليها وأسلمتها إلي أئمة غير زيديين، كما يقول الحوثيون)، والسماح بتدريس العقيدة وتداول كتبها، وفتح مدارس لتلقين أصول المذهب؛ وتمرّ بالتزام السلطة أو مَن يمثّلها في الحزب الحاكم والإدارات العامة، بالكفّ عن إجبار الزيديين علي حضور خطب الأئمة السلفيين ـ حسب الإصطلاح الحوثي ـ والصلاة في مساجدهم.
هذه حزمة أولي، لكنّ الحزمة الثانية في مطالب الحوثيين تبدو أكثر ذكاء في المستوي السياسي، لأنها تلعب علي ورقة الوحدة الوطنية، وتطالب السلطة بإنهاء سياسات التمييز ضدّ المواطنين اليمنيين من أبناء الجنوب، ومنح المحافظات الجنوبية حقوقاً في الإعمار والتنمية مساوية لما تتمتع به محافظات الشمال. وتجدر الإشارة، هنا، إلي أنّ هذا الموقف ليس تكتيكياً طارئاً، وليس جديداً في خطاب الحوثيين، لأنّ حسين الحوثي والشيخ عبد الله الرزامي (الرجل الثاني في الجماعة) كانا قد انسحبا من جلسة مجلس النواب اليمني احتجاجاً علي إعلان الحرب ضدّ الجنوب سنة 1994، وكان هذا الموقف أحد أقوي ردود الفعل ضدّ الحرب الأهلية من شخصيتين بارزتين في تمثيل الشمال، القبائلي الإسلامي علي حدّ سواء.
الحزمة الثالثة سياسية إقليمية، وتخصّ مناهضة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، واحتلال العراق، ومناصرة الشعب الفلسطيني، وإدانة تواطؤ السلطة مع أمريكا في ما يُسمّي بـ الحرب علي الإرهاب . وما يزيد حجة الحوثيين قوّة في هذا الميدان أنّ السفير الأمريكي في صنعاء، توماس كراجيسكي، لم يكن يفوّت فرصة إلا ويؤكد تأييد واشنطن للحكومة اليمنية في حربها ضدّ التمرّد، ويتبرّع دون تردد في تأكيد الصلة الوثيقة بين الحوثيين و القاعدة . خلفه توماس سيش، الذي لم يسلّم أوراق اعتماده بعد، جاء إلي اليمن قبل أيام معدودات، ليستكمل الروحية الإستخباراتية ذاتها، هو الذي أبلي بلاء كارثياً خلال سنوات عمله في دمشق مديراً للعلاقات العامة والشؤون الثقافية في السفارة الأمريكية، ثمّ رئاسة دائرة سورية ولبنان والأردن في وزارة الخارجية. وها هو يبدأ عهده، حتي قبل اعتماده رسمياً من الحكومة اليمنية، بتحذير مواطنيه من ارتياد المطاعم والمتاجر والفنادق ومناطق الجذب السياحي، كأنّ اليمن كلّه انقلب إلي صعدة واحدة!
وكيف يمكن للمرء أن يأخذ علي الحوثيين أنهم يعيبون علي الحكومة اليمنية انخراطها الفاضح، المنافي تماماً للسيادة الوطنية، في ما تسمّيه الإدارة الامريكية الحرب علي الإرهاب ، وفي الجوانب العملياتية الأمنية منها وليس السياسية فقط؟ وهل من الغرابة أن يكون حسين الحوثي نفسه أحد أبرز الأصوات، وأشدّها وضوحاً وصراحة وجسارة، في إدانة العملية الأمنية الشهيرة التي نفّذتها طائرات أمريكية في سماء مأرب، وأسفرت عن اغتيال زعيم القاعدة في اليمن، علي قايد سنان الحارثي، وخمسة من أنصاره كانوا معه في السيارة، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003؟ ألم يكن الحوثي هو، أيضاً، المعارض الأعلي صوتاً ضدّ احتمال موافقة السلطات اليمنية علي تسليم الشيخ عبد المجيد الزنداني، الداعية الإسلامي ورئيس مجلس شوري التجمع اليمني للإصلاح أكبر الأحزاب الإسلامية، أو أيّ مواطن يمني آخر، إلي السلطات الأمريكية أو الغربية، أياً كانت ذريعة؟
وبالطبع، هذه هي نوعية المواقف التي تقرّب الحوثيين سياسياً من القاعدة وأهل السنّة وأرياف اليمن عموماً، وذلك بالرغم من تباعد الطرفين في مستوي العقيدة الدينية وتأويل الدين والدنيا. وهذا النهج يبلور الحزمة الرابعة في مطالب الحوثيين، أي البرنامج الوطني ـ الإجتماعي الذي يقرّبهم من الشرائح الأعرض في المجتمع اليمني الريفي عموماً، وفي منطقة صعدة تحديداً. فهذه المنطقة، المنبوذة المهملة الوعرة، يقطنها 700 ألف نسمة، لا يخدمهم سوي مشفي واحد، ولا تتوفر لهم مياه الشرب النقية، والكهرباء نادرة، وأوضاع المدارس متردية، والخدمات الحكومية شبه منعدمة، والشائع الأكبر هو ثلاثي الأمية والبطالة والأوبئة.
لهذا فإنّ أسهل التحليلات، واستطراداً: أكثرها رداءة، هي تلك التي تكتفي بالقول إنّ الحوثيين مجموعة أصولية إرهابية تهدف إلي إسقاط النظام الجمهوري وإعادة نظام الإمامة استناداً إلي الشريعة الإسلامية في تفسيرها الشيعي المتشدد تحديداً، وزعماء الجماعة ليسوا إلا حفنة مجانين يدّعون النبوّة (كما جاء مراراً في بعض وسائل إعلام السلطة اليمنية والحزب الحاكم). لكنّ الزيدية، للمفارقة، هي أقرب فرق الشيعة إلي السنّة كما يجمع الكثير من الدارسين، وتتصف عموماً بالإعتدال والإبتعاد عن التطرف والغلوّ، ومؤسسها (زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، 695 ـ 740 م) كانت له آراء جريئة في الشريعة والمجتمع والسياسة والفلسفة، تختلف عن إجماع الفقه الشيعي العامّ.
كذلك تجدر الإشارة إلي أنّ الزيدية تركزت في أرض اليمن بصفة خاصة، ولا تزال تشكل نسبة عالية من السكان، ونظام الإمامة اليمني كان قد تأسس في صعدة تحديداً، سنة 893 م، علي يد يحيي بن الحسين، واستمرّ حتي عام 1962 مع إقرار النظام الجمهوري. ولهذا فإنّ بعض جذور الصراع مع الحوثيين تضرب، لا ريب، في فكرة إحياء الإمامة علي هذا النحو أو ذاك. ويُذكر، هنا، التصريح الشهير الذي يُنسب إلي بدر الدين الحوثي، الأب، حول وجود نوعين من الحكم في الإسلام: نوع يسمي بالإمامة، والإمامة لا تكون الا من آل البيت، ونوع يسمي الإحتساب، وهذا يمكن أن يكون في أي مؤمن عادل علي أن يحتسب الله ويحكم بالعدل ، وتقييد النوع الثاني باشتراط جوهري: ولا يجوز الإحتساب الا اذا انعدم الإمام . صحيح، في السياقات المذهبية ذاتها، أنّ إعجاب الحوثيين بالثورة الإيرانية بالغ وعلني وصريح، وقد رفعوا علم حزب الله ، بدل العلم اليمني، في حادثة ثابتة واحدة علي الأقلّ. وصحيح، ثالثاً، أنه من غير الجائز مبدئياً تبرئة الجماعة من تهمة الإرهاب والتطرّف المذهبي، حتي إذا كانوا حتي اليوم لم يستهدفوا المدنيين العزّل في عمليات مباشرة.
ولكن من الصحيح كذلك، وقبل هذا وذاك، أنّ حقيقة الصراع أشدّ تعقيداً وعمقاً من أن يجري تأويلها علي نحو مذهبي تبسيطي إختزالي، بدليل أوّل بليغ هو أنّ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح نفسه يتحدّر من الفرقة الزيدية، وأدلة بليغة أخري يقدّمها المجتمع اليمني بانتظام وثبات. واليوم بالذات، وضمن استمرار الحرب علي الحوثيين، تهدئة أو احتداماً، بوساطات أو بدونها، يواصل اليمنيون العيش في شروط متدنية إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً: يعتصم المتقاعدون، المدنيون والعسكريون، في شوارع عدن، للمطالبة بحقّ المساواة البسيط مع مواطنيهم في الشمال؛ ويتعرّض الصحافي عبدالكريم الخيواني، رئيس التحرير السابق لموقع شوري نت الإلكتروني، إلي اعتداء علي يد جماعة مسلّحة هدّدت بقطع إصبعه التي يكتب بها (بما يُذكّر بالحادثة الأشهر في هذا الصدد: الإعتداء علي المفكر والأكاديمي اليمني البارز أبو بكر السقاف، سنة 1995، وشيوع قاعدة مَن كتب لبج ، أي تعرّض للضرب والتنكيل، التي أفصح عنها الشيخ عبد الله الأحمر آنذاك!)؛ وتظاهر الآلاف من أبناء محافظة لحج أمام ديوان المحافظة، وترديد هتافات مثل يا حكومة الفساد، أنتم خربتم البلاد و يا حكومة الأقوال، زاد الفقر ضاق الحال ، و ين السكر والدقيق، والأسعار تحرق حريق ...
كيف لا تتسع القاعدة الشعبية للحوثيين، أو سواهم من أصحاب البرامج التي تخلط ضيق السياسة بضنك العيش، ومظالم المذهب الديني بفضائح التدخّل الأمريكي؟ وكيف، لأنّ المشهد ليس محلياً فقط، لا تدخل الحكومة القطرية في وساطة مباشرة، وتعرض تقديم 500 مليون دولار أمريكي لتطوير منطقة صعدة، أو تقترح علي الحوثي الإقامة في قطر آمناً مطمئناً بعد التوصّل إلي تسوية؟ كذلك، ضمن جهود الحكومة اليمنية في تدويل التمرّد عربياً وإقليمياً، كيف لا يستسهل بعض المسؤولين اليمنيين اتهام الحوثيين بالإرتباط مع الإستخبارات الإيرانية والإستخبارات الليبية، بدليل الزيارات المتكررة التي يقوم بها يحيي الحوثي، شقيق حسين وعبد الملك، إلي طهران وطرابلس الغرب؟
بالطبع، يبقي أنّ فشل الوساطة القطرية في إنهاء التمرّد سياسياً، إنما يمثّل الوجه الآخر لفشل القوّات الحكومية في إنهائه عسكرياً. وفي غضون ذلك، يعلن الصليب الأحمر الدولي وقوع المزيد من الكوارث الإنسانية، وينذر بأنّ حصول أبناء صعدة علي الغذاء صار مشكلة في حدّ ذاته، ولعلّه بات... الحرب الحقيقية الوحيدة!
عن "القدس العربي" لندن،2 سبتمبر
جميع الحقوق محفـوظـة© للشورى نت 2005-2006
صبحي حديدي ( 05/09/2007 )
قبل أن تنقلب إلي حرب حقيقية بين الجيش اليمني النظامي وأعداد محدودة من رجال الميليشيات
ممّن لا يحملون إلا الأسلحة الخفيفة؛ وقبل أن يسقط في مختلف عملياتها قتلي وجرحي بالآلاف وعشرات الآلاف من الجانبين، ويتشرّد 50 ألف يمني معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال، وتتفكك 500 إلي 600 عائلة؛
قبل هذا كلّه كان ما يُعرف اليوم باسم تمرّد الحوثيين في منطقة صعدة (240 كم شمال العاصمة صنعاء) قد بدأ في صيغة تحركات شعبية محلية بسيطة، لم تكن موجهة ضدّ السلطة أساساً. ففي أواسط 2004 قامت أنفار محدودة من أعضاء منتدي الشباب المؤمن ، الذي كان قد تأسس سنة 1990 كمنتدي لتدريس العقيدة الشيعية الزيدية في منطقة صعدة، بتنظيم تظاهرات سلمية ضدّ الإحتلال الأمريكي للعراق، والممارسات الإسرائيلية الوحشية ضدّ الفلسطينيين.
لكنّ السلطات اليمنية واجهت التظاهرة بحملة اعتقالات واسعة شملت المئات من مناصري المنتدي، أعقبتها بحرب مفتوحة حشدت لها 30 ألف جندي واستخدمت فيها الطائرات والسلاح الصاروخي والمدفعية الثقيلة، وأسفرت معاركها الأولي عن مقتل الشيخ القبائلي وكبير زعماء المنتدي حسين بدر الدين الحوثي. المدهش، مع ذلك، أنّ الجيش اليمني فشل حتي هذه الساعة في وضع حدّ للتمرّد، بعد سلسلة مواجهات دامية وفرض حصار شامل علي المنطقة، وإخفاق محاولتين لوقف إطلاق النار، وبعد وصول الوساطة المباشرة التي تولّتها الحكومة القطرية مؤخراً ـ بموافقة الطرفين، الحكومة اليمنية وقيادات التمرّد ـ إلي طريق مسدود.
والمعطيات الراهنة لا تشير أبداً إلي انهيار وشيك للحوثيين (قرابة 3000 مقاتل، يتألفون غالباً من الفتية والشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و23 سنة)، بل يبدو العكس هو الصحيح: اتساع قاعدتهم الشعبية بدل انحسارها، وتطوّر قدراتهم العسكرية واللوجستية بدل استنزافها. وعلي سبيل المثال، إذا كان قائد التمرّد الحالي عبد الملك الحوثي (شقيق الزعيم القتيل) قد سلّم لجنة الوساطة القطرية 61 من ضباط وأفراد الجيش اليمني الذين كانوا أسري لدي جماعته، كما وافق علي إخلاء 52 موقعاً عسكرياً وتفكيك ألغامها الأرضية كبادرة حسن نيّة تجاه الوساطة القطرية؛ فكم من الأسري، وكم من المواقع الحصينة، يتبقي لديه وفي مقدوره أن لا يسلّمها قبل التوصّل إلي تسوية؟
غير أنّ جوهر المشكلة يبدأ من هذه النقطة تحديداً: كيف يمكن التوصل إلي تسوية، وما هي مطالب الحوثيين؟ من حيث المبدأ، يمكن تلمّس مطلب أساسي يكتسي طابع الحقوق المدنية والحقوق المذهبية في آن معاً، وهو وقف سياسة الحظر التي يقول الحوثيون إنّ السلطة تمارسها علي أتباع المذهب الزيدي الذي يعتنقونه، ومساواتهم بما يتمتع به أتباع المذاهب الإسلامية السنّية. وهذه المطالب تبدأ من حرّية فتح المساجد مجدداً (بعد أن كانت السلطات قد وضعت اليد عليها وأسلمتها إلي أئمة غير زيديين، كما يقول الحوثيون)، والسماح بتدريس العقيدة وتداول كتبها، وفتح مدارس لتلقين أصول المذهب؛ وتمرّ بالتزام السلطة أو مَن يمثّلها في الحزب الحاكم والإدارات العامة، بالكفّ عن إجبار الزيديين علي حضور خطب الأئمة السلفيين ـ حسب الإصطلاح الحوثي ـ والصلاة في مساجدهم.
هذه حزمة أولي، لكنّ الحزمة الثانية في مطالب الحوثيين تبدو أكثر ذكاء في المستوي السياسي، لأنها تلعب علي ورقة الوحدة الوطنية، وتطالب السلطة بإنهاء سياسات التمييز ضدّ المواطنين اليمنيين من أبناء الجنوب، ومنح المحافظات الجنوبية حقوقاً في الإعمار والتنمية مساوية لما تتمتع به محافظات الشمال. وتجدر الإشارة، هنا، إلي أنّ هذا الموقف ليس تكتيكياً طارئاً، وليس جديداً في خطاب الحوثيين، لأنّ حسين الحوثي والشيخ عبد الله الرزامي (الرجل الثاني في الجماعة) كانا قد انسحبا من جلسة مجلس النواب اليمني احتجاجاً علي إعلان الحرب ضدّ الجنوب سنة 1994، وكان هذا الموقف أحد أقوي ردود الفعل ضدّ الحرب الأهلية من شخصيتين بارزتين في تمثيل الشمال، القبائلي الإسلامي علي حدّ سواء.
الحزمة الثالثة سياسية إقليمية، وتخصّ مناهضة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، واحتلال العراق، ومناصرة الشعب الفلسطيني، وإدانة تواطؤ السلطة مع أمريكا في ما يُسمّي بـ الحرب علي الإرهاب . وما يزيد حجة الحوثيين قوّة في هذا الميدان أنّ السفير الأمريكي في صنعاء، توماس كراجيسكي، لم يكن يفوّت فرصة إلا ويؤكد تأييد واشنطن للحكومة اليمنية في حربها ضدّ التمرّد، ويتبرّع دون تردد في تأكيد الصلة الوثيقة بين الحوثيين و القاعدة . خلفه توماس سيش، الذي لم يسلّم أوراق اعتماده بعد، جاء إلي اليمن قبل أيام معدودات، ليستكمل الروحية الإستخباراتية ذاتها، هو الذي أبلي بلاء كارثياً خلال سنوات عمله في دمشق مديراً للعلاقات العامة والشؤون الثقافية في السفارة الأمريكية، ثمّ رئاسة دائرة سورية ولبنان والأردن في وزارة الخارجية. وها هو يبدأ عهده، حتي قبل اعتماده رسمياً من الحكومة اليمنية، بتحذير مواطنيه من ارتياد المطاعم والمتاجر والفنادق ومناطق الجذب السياحي، كأنّ اليمن كلّه انقلب إلي صعدة واحدة!
وكيف يمكن للمرء أن يأخذ علي الحوثيين أنهم يعيبون علي الحكومة اليمنية انخراطها الفاضح، المنافي تماماً للسيادة الوطنية، في ما تسمّيه الإدارة الامريكية الحرب علي الإرهاب ، وفي الجوانب العملياتية الأمنية منها وليس السياسية فقط؟ وهل من الغرابة أن يكون حسين الحوثي نفسه أحد أبرز الأصوات، وأشدّها وضوحاً وصراحة وجسارة، في إدانة العملية الأمنية الشهيرة التي نفّذتها طائرات أمريكية في سماء مأرب، وأسفرت عن اغتيال زعيم القاعدة في اليمن، علي قايد سنان الحارثي، وخمسة من أنصاره كانوا معه في السيارة، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2003؟ ألم يكن الحوثي هو، أيضاً، المعارض الأعلي صوتاً ضدّ احتمال موافقة السلطات اليمنية علي تسليم الشيخ عبد المجيد الزنداني، الداعية الإسلامي ورئيس مجلس شوري التجمع اليمني للإصلاح أكبر الأحزاب الإسلامية، أو أيّ مواطن يمني آخر، إلي السلطات الأمريكية أو الغربية، أياً كانت ذريعة؟
وبالطبع، هذه هي نوعية المواقف التي تقرّب الحوثيين سياسياً من القاعدة وأهل السنّة وأرياف اليمن عموماً، وذلك بالرغم من تباعد الطرفين في مستوي العقيدة الدينية وتأويل الدين والدنيا. وهذا النهج يبلور الحزمة الرابعة في مطالب الحوثيين، أي البرنامج الوطني ـ الإجتماعي الذي يقرّبهم من الشرائح الأعرض في المجتمع اليمني الريفي عموماً، وفي منطقة صعدة تحديداً. فهذه المنطقة، المنبوذة المهملة الوعرة، يقطنها 700 ألف نسمة، لا يخدمهم سوي مشفي واحد، ولا تتوفر لهم مياه الشرب النقية، والكهرباء نادرة، وأوضاع المدارس متردية، والخدمات الحكومية شبه منعدمة، والشائع الأكبر هو ثلاثي الأمية والبطالة والأوبئة.
لهذا فإنّ أسهل التحليلات، واستطراداً: أكثرها رداءة، هي تلك التي تكتفي بالقول إنّ الحوثيين مجموعة أصولية إرهابية تهدف إلي إسقاط النظام الجمهوري وإعادة نظام الإمامة استناداً إلي الشريعة الإسلامية في تفسيرها الشيعي المتشدد تحديداً، وزعماء الجماعة ليسوا إلا حفنة مجانين يدّعون النبوّة (كما جاء مراراً في بعض وسائل إعلام السلطة اليمنية والحزب الحاكم). لكنّ الزيدية، للمفارقة، هي أقرب فرق الشيعة إلي السنّة كما يجمع الكثير من الدارسين، وتتصف عموماً بالإعتدال والإبتعاد عن التطرف والغلوّ، ومؤسسها (زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، 695 ـ 740 م) كانت له آراء جريئة في الشريعة والمجتمع والسياسة والفلسفة، تختلف عن إجماع الفقه الشيعي العامّ.
كذلك تجدر الإشارة إلي أنّ الزيدية تركزت في أرض اليمن بصفة خاصة، ولا تزال تشكل نسبة عالية من السكان، ونظام الإمامة اليمني كان قد تأسس في صعدة تحديداً، سنة 893 م، علي يد يحيي بن الحسين، واستمرّ حتي عام 1962 مع إقرار النظام الجمهوري. ولهذا فإنّ بعض جذور الصراع مع الحوثيين تضرب، لا ريب، في فكرة إحياء الإمامة علي هذا النحو أو ذاك. ويُذكر، هنا، التصريح الشهير الذي يُنسب إلي بدر الدين الحوثي، الأب، حول وجود نوعين من الحكم في الإسلام: نوع يسمي بالإمامة، والإمامة لا تكون الا من آل البيت، ونوع يسمي الإحتساب، وهذا يمكن أن يكون في أي مؤمن عادل علي أن يحتسب الله ويحكم بالعدل ، وتقييد النوع الثاني باشتراط جوهري: ولا يجوز الإحتساب الا اذا انعدم الإمام . صحيح، في السياقات المذهبية ذاتها، أنّ إعجاب الحوثيين بالثورة الإيرانية بالغ وعلني وصريح، وقد رفعوا علم حزب الله ، بدل العلم اليمني، في حادثة ثابتة واحدة علي الأقلّ. وصحيح، ثالثاً، أنه من غير الجائز مبدئياً تبرئة الجماعة من تهمة الإرهاب والتطرّف المذهبي، حتي إذا كانوا حتي اليوم لم يستهدفوا المدنيين العزّل في عمليات مباشرة.
ولكن من الصحيح كذلك، وقبل هذا وذاك، أنّ حقيقة الصراع أشدّ تعقيداً وعمقاً من أن يجري تأويلها علي نحو مذهبي تبسيطي إختزالي، بدليل أوّل بليغ هو أنّ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح نفسه يتحدّر من الفرقة الزيدية، وأدلة بليغة أخري يقدّمها المجتمع اليمني بانتظام وثبات. واليوم بالذات، وضمن استمرار الحرب علي الحوثيين، تهدئة أو احتداماً، بوساطات أو بدونها، يواصل اليمنيون العيش في شروط متدنية إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً: يعتصم المتقاعدون، المدنيون والعسكريون، في شوارع عدن، للمطالبة بحقّ المساواة البسيط مع مواطنيهم في الشمال؛ ويتعرّض الصحافي عبدالكريم الخيواني، رئيس التحرير السابق لموقع شوري نت الإلكتروني، إلي اعتداء علي يد جماعة مسلّحة هدّدت بقطع إصبعه التي يكتب بها (بما يُذكّر بالحادثة الأشهر في هذا الصدد: الإعتداء علي المفكر والأكاديمي اليمني البارز أبو بكر السقاف، سنة 1995، وشيوع قاعدة مَن كتب لبج ، أي تعرّض للضرب والتنكيل، التي أفصح عنها الشيخ عبد الله الأحمر آنذاك!)؛ وتظاهر الآلاف من أبناء محافظة لحج أمام ديوان المحافظة، وترديد هتافات مثل يا حكومة الفساد، أنتم خربتم البلاد و يا حكومة الأقوال، زاد الفقر ضاق الحال ، و ين السكر والدقيق، والأسعار تحرق حريق ...
كيف لا تتسع القاعدة الشعبية للحوثيين، أو سواهم من أصحاب البرامج التي تخلط ضيق السياسة بضنك العيش، ومظالم المذهب الديني بفضائح التدخّل الأمريكي؟ وكيف، لأنّ المشهد ليس محلياً فقط، لا تدخل الحكومة القطرية في وساطة مباشرة، وتعرض تقديم 500 مليون دولار أمريكي لتطوير منطقة صعدة، أو تقترح علي الحوثي الإقامة في قطر آمناً مطمئناً بعد التوصّل إلي تسوية؟ كذلك، ضمن جهود الحكومة اليمنية في تدويل التمرّد عربياً وإقليمياً، كيف لا يستسهل بعض المسؤولين اليمنيين اتهام الحوثيين بالإرتباط مع الإستخبارات الإيرانية والإستخبارات الليبية، بدليل الزيارات المتكررة التي يقوم بها يحيي الحوثي، شقيق حسين وعبد الملك، إلي طهران وطرابلس الغرب؟
بالطبع، يبقي أنّ فشل الوساطة القطرية في إنهاء التمرّد سياسياً، إنما يمثّل الوجه الآخر لفشل القوّات الحكومية في إنهائه عسكرياً. وفي غضون ذلك، يعلن الصليب الأحمر الدولي وقوع المزيد من الكوارث الإنسانية، وينذر بأنّ حصول أبناء صعدة علي الغذاء صار مشكلة في حدّ ذاته، ولعلّه بات... الحرب الحقيقية الوحيدة!
عن "القدس العربي" لندن،2 سبتمبر
جميع الحقوق محفـوظـة© للشورى نت 2005-2006