نجد الحسيني
02-11-2008, 09:49 PM
كنت شاهد عيان على هذه الحكاية وهي حقيقية لا زيف فيها ولا أساطير.
منذ باكورة عمري وفي طفولتي كنت جليس الوالد رحمه الله تعالى وكذلك جدّي وبعض من أعمامي وأخوالي ؛ كانوا يكبرونني سنّا بالطبع.
كنت أهوى وأعشق الاستماع إلى حديثهم ورواياتهم،
كنت شغوفا بالماضي،
تلوعني أمجاد العرب الغابرة،
يشوقني تأريخ الاسلام العظيم،
تهزّني الفتوحات العظيمة،
تغمرني أسماء القادة والفاتحين العظام..
حتى بتّ أنام فأحلم وكأنّي أحدهم وأنّ لي جيشا عرمرما أغزو به البلدان وأحقق الانتصارات الهائلة نصرا تلو نصر في ظلمة عيون مطبقة الأجفان..
وعندما أصحى وتكون أحلام المنام أو بالأحرى أحلام من أجل المنام قد توقفت عند مرحلة معينة لا بدّ لي من استعادتها،
كنت أواصل تسلسل أحلامي المنامية حتى يأخذني سلطان النوم فأصحو لأتابع أحلامي من حيث توقفت لكن هذه المرّة في اليقظة لا في المنام.
كأي فتى لا بدّ له من تحصيل علمي، وقد تحصلت عليه بفضل الله ثم والدي الذي لم يتمم معي المشوار إذ قد حال دون ذلك قضاء الله وقدره فالحمد لله تعالى الذي لا يحمد على مكروه سواه، ويرحم الله أبي ويغفر له ولأباءكم وأباء المسلمين أجمعين. توفي رحمه الله تعالى وعندي من العمر 15 عاما، كان عليّ إكمال دراستي والسعي والعمل من أجل قوتي وقوت والدتي وأخواتي، وقد وفقت بفضل الله تعالى. واستمرت هجرتي وغربتي لتتواصل مع هجرة وغربة أبائي وأجدادي، حتى كان يمرّني يوم تشرق علي شمسه في بلدة لتغرب عني في بلدة أخرى.
لم تتغيّر صفاتي ولا طباعي ولا حتى أحلامي وإن خفّت بعض الشيء حتى تلاشت، لكنّي لم أغيّر من استماعي وانصاتي للكبار والاعجاب بهم وبزمانهم. دائما ما كانت أمثال العرب وحكمهم ملهمة لي، حفظت منها الكثير وصرت أتتبع ذكرياتي ومذكرات غيري وأبحث لها في الأمثال عن مضارب لها وكنت دائما ما أجدها.
مثل من تلك الأمثلة: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.
وجدت نفسي صديقا لهذا المثل وصديقا لكبار القوم، كنت أنشد عندهم أخبارا لا أعرفها وعلوما لم أدركها، فحينا أوفّق وأحيانا كلا. لكن الفائدة كانت عظيمة في غالب الأحيان.
مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، زرت موطني اليمن الذي لم أعرفه من قبل، مكثت فيه قرابة خمس سنين كانت هي كلّ ما قضيت من سنين عمري في بلدي ليعاودني الحنين بالهجرة والاغتراب مع منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم لأحزم أمتعتي وأتابع أسفاري منذها وحتى الآن.
وفي اليمن تبدأ حكاية الرجلين اليمنيين:
كنت أعمل لدى واحدة من كبرى الشركات الفرنسية في مدينة تعز، تعرفت فيها على حارسين يمنيين للشركة، عمرهما بين الـ 55 و الـ 60 عاما. إسم أحدهما العم علي والآخر العم حربي، وينتسبان كليهما إلى مدينة رداع. لفت نظري أن كلّ واحد منهما كان يستلم مظروفا مختوما يحتوى على شيك مالي، أحدهما من سفارة المانيا الاتحادية والآخر من سفارة جمهورية فرنسا. طبعا، لا علاقة لهذه الحوالات فيما يخصهما من رواتب وأجور لدى الشركة.
كان العم علي يستلم شيكه بمبلغ 3200 مارك ألماني ما يعادل 12000 ريال يمني في ذلك الزمن، طبعا يعود ذلك إلى العام 1978/79م، بينما يتسلّم العم علي شيكه بمبلغ 2000 فرنك فرنسي ما يعادل 1200 ريال يمني..في ذلك الحين كان الريال اليمني يعادل 1.15 ريال سعودي.
أسمحوا لي هنا بالتوقف لحظات أستعيد بها أنفاسي بحكاية واقعية هي الأخرى وقصيرة.
ألتقيت برجل سوداني في جدة وقد كان يعمل في المملكة العربية السعودية طيلة أربعين سنة لدى احدى المصارف الكبيرة، كبر الرجل وتقاعد وعاش بقية عمره في المملكة لم يغادرها، إسمه العم أحمد، قمت بزيارته يوما في منزله عندما علمت باشتداد مرض السكرى لديه وقد قطعت ساقه بسبب الغرغرينا (أجاركم الله تعالى وألبسكم ثوب الصحّة والعافية)، تجاذبت معه الحديث كي أسليه وأخفّف عنه ما يشكوه.. فسألته:
- إلاّ عم أحمد، ليش ما أخذت الجنسية حيث كان التجنس ممكنا في أيامك (اقصد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي)
أجابني العم أحمد بقوله:
- صدقت يا ابني، ويعلم الله أنها كانت سهلة وميسّرة وقد كانت الناس معدودة ومحدودة ومعروفة في (البلد) جدة في تلك الأيام ؛ لكن هل تعلم بأن الجنيه السوداني في ذلك الوقت كان يعادل مائة وعشرون ريال وكنت أعرف حينها الكثير من السعوديين الذين هاجروا إلى السودان وهاجر البعض منهم إلى الحبشة. لم أفكّر حينها أن أتقدّم بطلب الجنسية.
ما أسترعى انتباهي من كلام العم أحمد هو تفاوت صرف العملات حيث وأن معظم حديثنا دار حول البنوك والعملات والاستثمارات، لم يكن للأسهم وقتها حضور قوي كما هو حاصل الآن.
هناك تحقيق مالي نشرته احدى المجلات الاقتصادية الامريكية لا أتذكّر بالتحديد إسمها لأنه مضت فترة طويلة جدا منذ أن قرأت ذلك التحليل ربما كانت الايكونوميست أو فوربيس، لا أعلم يقينا. لكن ما أتذكره جيدا ممّا جرى نشره في تلك المقالة أن الدولار الامريكي في عشرينيات القرن الماضي يعادل ما قيمته أربعون ألف دولار حاليا. شيء لا يصدّق.
وربما الآن يعادل الريال السعودي بضعة مئات أو ألوف من الجنيهات السودانية، لا أعلم بالتحديد سعر الصرف.
نسأل الله تعالى أن يبسط رزقه ويديم نعمته على المملكة وأهلها وأن ينعم بفضله ومنّه واحسانه على السودان واليمن وسائر بلاد المسلمين.
وبعد استراحتنا مع العم الطيب أحمد من السودان نعود إلى حكايتنا عن الحارسين اليمنيين وماهية أسباب هذه الشيكات الشهرية.
عرفت من قصتيهما بأن العم علي قد شارك في الحرب العالمية الثانية إلى جانب قوات المحور (المانيا) بينما كانت مشاركة العم حربي في تلك الحرب إلى جانب قوّات الحلفاء (فرنسا) وقد وضعت الحرب أوزارها واستراحا المتحاربين، وما تلك الشيكات إلاّ عرفانا من المعسكرين كلّ لصاحبه، وانه تقديرا من حكومة المانيا لجهود وتضحيات العم علي قد ألزمت نفسها وفاء له ولغيره من المحاربين في صفوفها تلك المعاشات الشهرية مستمرة حتى وفاته وكان نصيب العم علي 3200 مارك ألماني (12000ريال يمني بالسعر الجاري من السنة المالية 79م)، وأمّا العم حربي فقد قدرت له جهوده وتضحياته الحكومة الفرنسية وكان نصيبه 2000 فرنك فرنسي (1200 ريال يمني بالسعر الجاري من السنة المالية 79م).
فسألت العم حربي ممازحا:
عم حربي كنت مع المنتصرين وكان العم علي من المهزومين فكيف بالله تتسلّم 1200 والعم علي 12000
فأجاب العم حربي ممنيا نفسه بالرضا:
وما أدراني. هذا نصيب
فاسترسلت بالسؤال التالي:
وهل لو علمت كنت تحوّلت الى الالمان
أجاب فورا وبدون تردد:
أكيد! فرنسا والمانيا بالنسبة لي لا فرق عندي مع أيهما أحارب.
في الحرب العالمية الأولى والثانية، كانت اليمن وشبه الجزيرة العربية وحتى الخليج في مجاعة وفقر وفاقه، وكنت أسمع عن بعض الشيبان بأنهم كانوا ينتظرون المراكب لتبحر بهم على باب الله وقد كانت الأسر التي يوجد فيها أكثر من عائل واحد من الرجال ـ اثنين وما فوق ـ يذهب أحدهما ويتخلّف الآخر لرعاية أسرته وأسرة أخيه حتى يعود المسافر بعد أن يكون قد مكث أربعة أو ستة أشهر من السنة ليخلف محلّ أخيه وينفق على الأسرتين ممّا جمعه من مال أثناء سفر أخيه وهكذا دواليك.
لا أعلم ما هو العمل في البحر وما هي طريقة العمل في المراكب، سألتهم فأجابوني نعمل بالبحر.
سبحانه الرزّاق في البرّ والبحر.
يرزق الحيتان والوحوش
ورازق الطير في العشوش
لكن مالذي جعل فرنسا تحمل اليمنيين على بواخرها وتدفع بهم إلى الحرب معها.. قد يجوز لها ذلك في المغرب والجزائر وتونس وغيرها من البلدان التي كانت تستعمرها لكن اليمن لم تكن في يوم ما مستعمرة فرنسية ولا جرمانية.
أمّا البريطانيين فقد سرت عليهم نكتة بأنهم سوف يحاربون حتى آخر جندي هندي.
بالنسبة لمحاربي اليمن القدماء فانه قد يكون في الأمر توافق وتطابق مع فرنسا والمانيا وحتى انجلترا من حيث المصلحة المشتركة، وكما أن هؤلاء يعوزهم الرجال فان اليمنيين يعوزهم المال ليسدّوا به رمق العيال. ففي الأخير لا يهم اليمني من يكسب الحرب، كانت ألمانيا أو فرنسا شتّان عنده.
قصة الحارسان المتقاعدان اليمنيان تجعلني أفكّر بأنه لو قامت حرب عالمية ثالثة أو بالأحرى رابعة لأن الحروب العالمية كانت ثلاثة وما الحربين المشهورين في التأريخ إلاّ لأنهما وقعتا في القرن العشرين وكلتا الحربين كانت ألمانيا طرف أساسي فيها أمّا الحرب الثالثة أو المنسية الاولى فقد جاءت مع القرن التاسع عشر وكانت ألمانيا أيضا أساسها.
ففي حرب القرن 19 كان عهد القيصر الشهير باسمارك
وفي الحرب العالمية الاولى من القرن الماضي كان القيصر غليوم وقائده المحنّك هندنبرغ
وأما في الحرب العالمية الأخيرة من نفس القرن كان هتلر وزعاماته رومل وغودريان وغيرهما.
أثبتوا الرجال الجرمانيين في المانيا بأنهم رجال حرب واقتصاد وعلوم وبرهنوا على نجاحاتهم في مختلف المجالات.. ولو اطلعنا على قائمة جوائز نوبل العالمية لوجدنا الثلثين تقريبا يرجعون إلى أصول جرمانية مهما اختلفت جنسياتهم.
فإذا ما شاءت الأقدار وقامت حرب رابعة أو أولى في هذا القرن الجاري (لا سمح الله) وشاءت الصدف أن تكون المانيا كما كانت دائما حتى يعيد التأريخ نفسه.
يا ترى مع من سوف يحارب أحفاد العم علي والعم حربي وإلى أي الفريقين سينتصر له المحاربون اليمنيون ومع أي الفريقين سوف ينحازون.
هل مع المانيا و 3200 مارك (12000 ريال)؟
أو مع الحلفاء و 2000 ف ف (1200 ريال)؟
بعد أن استمعنا إلى قصة الحارسين اليمنيين.
آمل من اخوتي ان لا يتهموني بالمادية والمرتزقة، فانها في الأخير قصّة لكنها قصة واقعية.
قصة الحارسين اليمنيين حقيقة لا خيال
وقصة المصرفي السوداني حقيقة لا خيال
أمّا عن أحلامي فانها نسج من خيال
في الختام هذا أخوكم ابن الحسين يحييكم ويتمنى لكم أحلام ليلة سعيدة.
منذ باكورة عمري وفي طفولتي كنت جليس الوالد رحمه الله تعالى وكذلك جدّي وبعض من أعمامي وأخوالي ؛ كانوا يكبرونني سنّا بالطبع.
كنت أهوى وأعشق الاستماع إلى حديثهم ورواياتهم،
كنت شغوفا بالماضي،
تلوعني أمجاد العرب الغابرة،
يشوقني تأريخ الاسلام العظيم،
تهزّني الفتوحات العظيمة،
تغمرني أسماء القادة والفاتحين العظام..
حتى بتّ أنام فأحلم وكأنّي أحدهم وأنّ لي جيشا عرمرما أغزو به البلدان وأحقق الانتصارات الهائلة نصرا تلو نصر في ظلمة عيون مطبقة الأجفان..
وعندما أصحى وتكون أحلام المنام أو بالأحرى أحلام من أجل المنام قد توقفت عند مرحلة معينة لا بدّ لي من استعادتها،
كنت أواصل تسلسل أحلامي المنامية حتى يأخذني سلطان النوم فأصحو لأتابع أحلامي من حيث توقفت لكن هذه المرّة في اليقظة لا في المنام.
كأي فتى لا بدّ له من تحصيل علمي، وقد تحصلت عليه بفضل الله ثم والدي الذي لم يتمم معي المشوار إذ قد حال دون ذلك قضاء الله وقدره فالحمد لله تعالى الذي لا يحمد على مكروه سواه، ويرحم الله أبي ويغفر له ولأباءكم وأباء المسلمين أجمعين. توفي رحمه الله تعالى وعندي من العمر 15 عاما، كان عليّ إكمال دراستي والسعي والعمل من أجل قوتي وقوت والدتي وأخواتي، وقد وفقت بفضل الله تعالى. واستمرت هجرتي وغربتي لتتواصل مع هجرة وغربة أبائي وأجدادي، حتى كان يمرّني يوم تشرق علي شمسه في بلدة لتغرب عني في بلدة أخرى.
لم تتغيّر صفاتي ولا طباعي ولا حتى أحلامي وإن خفّت بعض الشيء حتى تلاشت، لكنّي لم أغيّر من استماعي وانصاتي للكبار والاعجاب بهم وبزمانهم. دائما ما كانت أمثال العرب وحكمهم ملهمة لي، حفظت منها الكثير وصرت أتتبع ذكرياتي ومذكرات غيري وأبحث لها في الأمثال عن مضارب لها وكنت دائما ما أجدها.
مثل من تلك الأمثلة: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.
وجدت نفسي صديقا لهذا المثل وصديقا لكبار القوم، كنت أنشد عندهم أخبارا لا أعرفها وعلوما لم أدركها، فحينا أوفّق وأحيانا كلا. لكن الفائدة كانت عظيمة في غالب الأحيان.
مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، زرت موطني اليمن الذي لم أعرفه من قبل، مكثت فيه قرابة خمس سنين كانت هي كلّ ما قضيت من سنين عمري في بلدي ليعاودني الحنين بالهجرة والاغتراب مع منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم لأحزم أمتعتي وأتابع أسفاري منذها وحتى الآن.
وفي اليمن تبدأ حكاية الرجلين اليمنيين:
كنت أعمل لدى واحدة من كبرى الشركات الفرنسية في مدينة تعز، تعرفت فيها على حارسين يمنيين للشركة، عمرهما بين الـ 55 و الـ 60 عاما. إسم أحدهما العم علي والآخر العم حربي، وينتسبان كليهما إلى مدينة رداع. لفت نظري أن كلّ واحد منهما كان يستلم مظروفا مختوما يحتوى على شيك مالي، أحدهما من سفارة المانيا الاتحادية والآخر من سفارة جمهورية فرنسا. طبعا، لا علاقة لهذه الحوالات فيما يخصهما من رواتب وأجور لدى الشركة.
كان العم علي يستلم شيكه بمبلغ 3200 مارك ألماني ما يعادل 12000 ريال يمني في ذلك الزمن، طبعا يعود ذلك إلى العام 1978/79م، بينما يتسلّم العم علي شيكه بمبلغ 2000 فرنك فرنسي ما يعادل 1200 ريال يمني..في ذلك الحين كان الريال اليمني يعادل 1.15 ريال سعودي.
أسمحوا لي هنا بالتوقف لحظات أستعيد بها أنفاسي بحكاية واقعية هي الأخرى وقصيرة.
ألتقيت برجل سوداني في جدة وقد كان يعمل في المملكة العربية السعودية طيلة أربعين سنة لدى احدى المصارف الكبيرة، كبر الرجل وتقاعد وعاش بقية عمره في المملكة لم يغادرها، إسمه العم أحمد، قمت بزيارته يوما في منزله عندما علمت باشتداد مرض السكرى لديه وقد قطعت ساقه بسبب الغرغرينا (أجاركم الله تعالى وألبسكم ثوب الصحّة والعافية)، تجاذبت معه الحديث كي أسليه وأخفّف عنه ما يشكوه.. فسألته:
- إلاّ عم أحمد، ليش ما أخذت الجنسية حيث كان التجنس ممكنا في أيامك (اقصد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي)
أجابني العم أحمد بقوله:
- صدقت يا ابني، ويعلم الله أنها كانت سهلة وميسّرة وقد كانت الناس معدودة ومحدودة ومعروفة في (البلد) جدة في تلك الأيام ؛ لكن هل تعلم بأن الجنيه السوداني في ذلك الوقت كان يعادل مائة وعشرون ريال وكنت أعرف حينها الكثير من السعوديين الذين هاجروا إلى السودان وهاجر البعض منهم إلى الحبشة. لم أفكّر حينها أن أتقدّم بطلب الجنسية.
ما أسترعى انتباهي من كلام العم أحمد هو تفاوت صرف العملات حيث وأن معظم حديثنا دار حول البنوك والعملات والاستثمارات، لم يكن للأسهم وقتها حضور قوي كما هو حاصل الآن.
هناك تحقيق مالي نشرته احدى المجلات الاقتصادية الامريكية لا أتذكّر بالتحديد إسمها لأنه مضت فترة طويلة جدا منذ أن قرأت ذلك التحليل ربما كانت الايكونوميست أو فوربيس، لا أعلم يقينا. لكن ما أتذكره جيدا ممّا جرى نشره في تلك المقالة أن الدولار الامريكي في عشرينيات القرن الماضي يعادل ما قيمته أربعون ألف دولار حاليا. شيء لا يصدّق.
وربما الآن يعادل الريال السعودي بضعة مئات أو ألوف من الجنيهات السودانية، لا أعلم بالتحديد سعر الصرف.
نسأل الله تعالى أن يبسط رزقه ويديم نعمته على المملكة وأهلها وأن ينعم بفضله ومنّه واحسانه على السودان واليمن وسائر بلاد المسلمين.
وبعد استراحتنا مع العم الطيب أحمد من السودان نعود إلى حكايتنا عن الحارسين اليمنيين وماهية أسباب هذه الشيكات الشهرية.
عرفت من قصتيهما بأن العم علي قد شارك في الحرب العالمية الثانية إلى جانب قوات المحور (المانيا) بينما كانت مشاركة العم حربي في تلك الحرب إلى جانب قوّات الحلفاء (فرنسا) وقد وضعت الحرب أوزارها واستراحا المتحاربين، وما تلك الشيكات إلاّ عرفانا من المعسكرين كلّ لصاحبه، وانه تقديرا من حكومة المانيا لجهود وتضحيات العم علي قد ألزمت نفسها وفاء له ولغيره من المحاربين في صفوفها تلك المعاشات الشهرية مستمرة حتى وفاته وكان نصيب العم علي 3200 مارك ألماني (12000ريال يمني بالسعر الجاري من السنة المالية 79م)، وأمّا العم حربي فقد قدرت له جهوده وتضحياته الحكومة الفرنسية وكان نصيبه 2000 فرنك فرنسي (1200 ريال يمني بالسعر الجاري من السنة المالية 79م).
فسألت العم حربي ممازحا:
عم حربي كنت مع المنتصرين وكان العم علي من المهزومين فكيف بالله تتسلّم 1200 والعم علي 12000
فأجاب العم حربي ممنيا نفسه بالرضا:
وما أدراني. هذا نصيب
فاسترسلت بالسؤال التالي:
وهل لو علمت كنت تحوّلت الى الالمان
أجاب فورا وبدون تردد:
أكيد! فرنسا والمانيا بالنسبة لي لا فرق عندي مع أيهما أحارب.
في الحرب العالمية الأولى والثانية، كانت اليمن وشبه الجزيرة العربية وحتى الخليج في مجاعة وفقر وفاقه، وكنت أسمع عن بعض الشيبان بأنهم كانوا ينتظرون المراكب لتبحر بهم على باب الله وقد كانت الأسر التي يوجد فيها أكثر من عائل واحد من الرجال ـ اثنين وما فوق ـ يذهب أحدهما ويتخلّف الآخر لرعاية أسرته وأسرة أخيه حتى يعود المسافر بعد أن يكون قد مكث أربعة أو ستة أشهر من السنة ليخلف محلّ أخيه وينفق على الأسرتين ممّا جمعه من مال أثناء سفر أخيه وهكذا دواليك.
لا أعلم ما هو العمل في البحر وما هي طريقة العمل في المراكب، سألتهم فأجابوني نعمل بالبحر.
سبحانه الرزّاق في البرّ والبحر.
يرزق الحيتان والوحوش
ورازق الطير في العشوش
لكن مالذي جعل فرنسا تحمل اليمنيين على بواخرها وتدفع بهم إلى الحرب معها.. قد يجوز لها ذلك في المغرب والجزائر وتونس وغيرها من البلدان التي كانت تستعمرها لكن اليمن لم تكن في يوم ما مستعمرة فرنسية ولا جرمانية.
أمّا البريطانيين فقد سرت عليهم نكتة بأنهم سوف يحاربون حتى آخر جندي هندي.
بالنسبة لمحاربي اليمن القدماء فانه قد يكون في الأمر توافق وتطابق مع فرنسا والمانيا وحتى انجلترا من حيث المصلحة المشتركة، وكما أن هؤلاء يعوزهم الرجال فان اليمنيين يعوزهم المال ليسدّوا به رمق العيال. ففي الأخير لا يهم اليمني من يكسب الحرب، كانت ألمانيا أو فرنسا شتّان عنده.
قصة الحارسان المتقاعدان اليمنيان تجعلني أفكّر بأنه لو قامت حرب عالمية ثالثة أو بالأحرى رابعة لأن الحروب العالمية كانت ثلاثة وما الحربين المشهورين في التأريخ إلاّ لأنهما وقعتا في القرن العشرين وكلتا الحربين كانت ألمانيا طرف أساسي فيها أمّا الحرب الثالثة أو المنسية الاولى فقد جاءت مع القرن التاسع عشر وكانت ألمانيا أيضا أساسها.
ففي حرب القرن 19 كان عهد القيصر الشهير باسمارك
وفي الحرب العالمية الاولى من القرن الماضي كان القيصر غليوم وقائده المحنّك هندنبرغ
وأما في الحرب العالمية الأخيرة من نفس القرن كان هتلر وزعاماته رومل وغودريان وغيرهما.
أثبتوا الرجال الجرمانيين في المانيا بأنهم رجال حرب واقتصاد وعلوم وبرهنوا على نجاحاتهم في مختلف المجالات.. ولو اطلعنا على قائمة جوائز نوبل العالمية لوجدنا الثلثين تقريبا يرجعون إلى أصول جرمانية مهما اختلفت جنسياتهم.
فإذا ما شاءت الأقدار وقامت حرب رابعة أو أولى في هذا القرن الجاري (لا سمح الله) وشاءت الصدف أن تكون المانيا كما كانت دائما حتى يعيد التأريخ نفسه.
يا ترى مع من سوف يحارب أحفاد العم علي والعم حربي وإلى أي الفريقين سينتصر له المحاربون اليمنيون ومع أي الفريقين سوف ينحازون.
هل مع المانيا و 3200 مارك (12000 ريال)؟
أو مع الحلفاء و 2000 ف ف (1200 ريال)؟
بعد أن استمعنا إلى قصة الحارسين اليمنيين.
آمل من اخوتي ان لا يتهموني بالمادية والمرتزقة، فانها في الأخير قصّة لكنها قصة واقعية.
قصة الحارسين اليمنيين حقيقة لا خيال
وقصة المصرفي السوداني حقيقة لا خيال
أمّا عن أحلامي فانها نسج من خيال
في الختام هذا أخوكم ابن الحسين يحييكم ويتمنى لكم أحلام ليلة سعيدة.