ابن سيؤن
03-05-2008, 01:16 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أثار إعلان استقلال إقليم كوسوفا المسلم الأحد 17 من فبراير عام 2008 العديد من التساؤلات الحائرة التي تولدت من رحم الدعم الأمريكي والأوروبي لهذا البلد ذو الأغلبية المسلمة، وتجاهل الكثير من الحالات المشابهة، بل والسعي لقطع الطمع في تكرار هذه التجربة في أماكن أخرى خاصة في فلسطين المحتلة.
نعم تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً ضد الصرب في كوسوفا عام 1999م، وقادت قوات حلف الأطلسي (ناتو) حينها، ومن ثم مهدت الطريق لإدارة أممية للإقليم، فهل يكفي ذلك كي يكون مبرراً لهذا التدخل، والدعم والدخول في حقل شائك باستفزاز العملاق الروسي، وإيقاظ القومية الصربية، وتحفيزها مجدداً؟!
لا ريب أن هناك أسباباً عدة وراء الموقف الأمريكي ومن ورائه متدثراً في عباءته الموقف الأوروبي، فما سبب اهتمام أمريكا بهذه القضية؟ ولماذا اتخذت أوروبا موقفاً مؤيداً؟ ولماذا الغضب الروسي, وهل بإمكانها أن تفعل شيئاً لحليفتها صربيا؟ وهل تقدم على استخدام القوة الوحشية كما حذر ممثل روسيا في حلف الناتو دميتري روغوزين؟ وصربيا بدورها ما يمكنها أن تفعل بعد أن سُكب اللبن من الإناء؟ وهل يمكن أن تثير هذه الحادثة، وتفتح شهية نزعات انفصالية أخرى في أوروبا والبلقان وغيرها من بلدان العالم؟
إفرازات لا تقل ضخامة عن حادث إعلان الاستقلال ذاته فرضت نفسها بقوة, ونحاول أن نقترب هنا من الإجابة على بعض هذه التساؤلات، ونبدد قدراً مما أحاط بها من غموض.
هل بالفعل استقلت كوسوفا؟
قبل التعرض لهذه الأسئلة بالإجابة ثمة سؤال مبدئي بين يدي القضية نلج منه إلى دهاليز إعلان الاستقلال وتبعاته: هل بالفعل استقلت كوسوفا؟!
رغم إعلان استقلال إقليم كوسوفا المسلم دستورياً إلا أن الاستقلال الفعلي برأينا لم يلامس حتى الآن أرضاً صلبة، فقط تحولت السيادة على الإقليم من صربيا إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة, وهو ما يعني أن الدولة الأحدث في القارة الأوروبية ستبقي رهينة الإرادة الأوروبية، وخاضعة لتلك الإدارة سياسياً, ومن الناحية العسكرية ستكون مسرحاً لاحتلال أمريكي مقنع بعد نشر نحو 1500 جندي أمريكي هناك بعد عدة أشهر, إضافة إلى نحو 2000 من الاتحاد الأوروبي موجودين فعلاً على أراضي كوسوفا, وقد يستغرق الأمر وقًتا طويلاً قبل أن يتمكن البلد الأوروبي الحديث من الحصول على تمثيل رسمي في المؤسسات الدولية، والقيام بذاتيه مستقلة.
من المؤكد إذن أن إعلان برلمان كوسوفا استقلاله عن صربيا، ورغم اختلاف الكثيرين في الماضي حول هذا الاستقلال؛ إلا أن الجميع يتفق الآن على أنه بداية الأحداث وليس نهايتها في البلقان الملتهب بالعرقيات والأديان, وأنه فتح الباب لصراعات وأيام قادمة ستكون حبلى بالعديد من التطورات على كافة الصعد الإقليمية والدولية.
لماذا أيدت أمريكا وأوروبا استقلال كوسوفا؟!
أيدت الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية رئيسة وفي مقدمتها: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا؛ استقلال كوسوفا, وهو ما يمكن برأينا إرجاعه لعدة أسباب منها:
1- هذا الدعم يأتي في إطار رغبة أمريكية في محاصرة الدب الروسي في مخدعه, وتقليص نفوذه في دول الجوار، فثمة رغبة أمريكية بأن تصل الحدود الأوروبية إلى أقرب ما يكون من حدود روسيا لوقف مساعيها الرامية إلى استرداد مكانتها كقوة كبرى في النظام الدولي, وكسر الاحتكار الأمريكي.
ودعم استقلال كوسوفا يأتي كحلقة واحدة في منظومة أمريكية يعلوها مشروع الدرع الصاروخي الذي تسعى الولايات المتحدة لوضعه تحت الأنف الروسي باستقطاب دول الجوار، وغرس صواريخ استراتيجية فيها, الأمر الذي ربما يشغل روسيا بأمنها الداخلي الذي بات مهدداً بفعل تلك الصواريخ، وتقليص تطلعاتها وطموحاتها الخارجية.
2- من أهم الأسباب الداعية للدعم الأوروبي والأمريكي لاستقلال كوسوفا بغالبيتها المسلمة قطع الطريق أمام أية حركة جهادية داخلية تكون جاذبة لتيارات خارجية على نحو ما حدث في البوسنة في تسعينيات القرن الماضي, وضمان نشوء دولة علمانية سارية على الأعراف الأوروبية والأمريكية بعيدة عن النزعة الدينية الإسلامية التي يتوجس منه الغرب, لاسيما وأن نسبة المسلمين في الدولة الوليدة تتعدى 95%.
3- هذه الرغبة الأمريكية السابقة تلتقي مع رغبة أوروبا في تصفية جميع إفرازات الحربين العالميتين الأولى والثانية, والتي تمخضت عن ميلاد الاتحاد اليوجوسلافي السابق, وتقليص أي نفوذ روسي في قلب القارة باحتواء الدول التي سبق وأن شكلت مرتكزاً للاتحاد السوفيتي فيها.
4- ثمة رغبة أمريكية في هندسة الوضع في البلقان بما يضمن لها النفوذ السياسي والعسكري المباشر في قلب القارة الأوروبية، ولعل الأعلام الأمريكية التي رفعت يوم الاستقلال، وغطت على علم كوسوفا نفسه؛ وغياب علم الاتحاد الأوروبي يعطي دلالة على حجم النفوذ الأمريكي في الدولة الوليدة التي قد تكون في طليعة دول البلقان التي تخضع لإرادة أمريكية مباشرة.
روسيا هل تستخدم "القوة المتوحشة"؟!
روسيا كانت صاحبة الصوت الأقوى في الاحتجاج بصورة تفوق المعارضة في صربيا أكثر الدول تضرراً من استقلال كوسوفا, ووصلت إلى حد التلويح باستخدام القوة الوحشية، وهذه المعارضة الروسية ذات النبرة العالية ترجع في رأينا لعدة أسباب من أهمها:
1- ترى روسيا في تحركات أوروبا والولايات المتحدة على حدودها الجغرافية والقريبة تجاوزاً للعديد من الخطوط الحمراء بالنسبة لأمنها القومي, خاصة مع تقدم حلف ناتو من حدودها.
ولاشك أن استقلال كوسوفا بهذه الكيفية يأتي في إطار هذه التهديدات لأمنها القومي الداخلي, كونه يشكل نوعاً من الانتصار للاستراتيجية الأمريكية في إعادة هندسة منطقة البلقان لصالحها وصالح حلفائها الأوروبيين.
2- هناك مخاوف روسية من أن تؤدي هذه الطريقة في الاستقلال من إثارة موجة مطالب استقلالية في داخل روسيا نفسها كالشيشان وداغستان، وهو الموقف ذاته الذي تبنته دول مثل: الهند والصين، وإسبانيا واليونان، وبلغاريا وكل منها لديه مجموعات تطالب بالانفصال لاعتبارات عرقية أو تاريخية.
3- العلاقات التاريخية بين الروس والصرب تدفع روسيا للتعامل مع استقلال كوسوفا وكأنها قضية داخلية تخصها مباشرة، فمن خلال الروابط الخاصة على صعيد وحدة العرق السلافي، والديانة الأرثوذكسية مع صربيا؛ يمكن فهم الموقف الروسي المعارض تماماً لاستقلال كوسوفا بطريقة منفردة, فهذا الاستقلال سيؤثر على قوة الحليفة صربيا ووضعها الجغرافي والاستراتيجي, كما أنه يقلل من فاعلية الدور الروسي في البلقان.
واعتراض روسيا "النظري" حتى الآن، والملوح باستخدام القوة؛ قد يأخذ بعداً فعلياً مؤثراً على أوروبا والولايات المتحدة, وذلك من خلال:
1- توظيف الثروات الطبيعية لاسيما النفط والغاز من أجل إعادة صياغة موازين القوة مع الغرب إجمالاً, ومع أوروبا على وجه الخصوص، والتي تعتمد بصورة رئيسة على إمدادات الغاز الروسية.
2- توثيق العلاقات مع الدول المعارضة أو التي دخلت في اشتباك سياسي مع الغرب مثل: إيران, وكوريا الشمالية, والعمل على تطوير هذه العلاقات لتصبح من نقاط ارتكاز روسيا للدفاع ولمواجهة خطط الغرب في المناطق المختلفة.
3- تحديث البنية العسكرية، وإدخال منظومات جديدة تكون قادرة على مبادلة التهديدات الأمريكية لاسيما الدرع الصاروخية, وكذلك تهديدات حلف الناتو الذي بات على مرمى حجر من روسيا.
4- محاولة دعم حركات الاستقلال داخل جورجيا التي اتخذت موقفاً متحالفاً مع الغرب وخاصة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا, وهي الحركات الانفصالية التي تعارضها الولايات المتحدة وأوروبا, وقد يلجأ إلى الدعم العسكري المباشر (القوة الوحشية) لهذه الحركات الانفصالية, ولكنه سيتجنب الدخول في صدام مدمر مع الولايات المتحدة والناتو.
صربيا هل تكتفي بالبكاء على قتلاها!
على الرغم من تمتع كوسوفا بحكم ذاتي في دستور الاتحاد اليوجوسلافي منذ عام1947م، وهو الذي استمر حتى العام 1989م؛ فإن هذا الوضع مثل دائماً للصرب الاستثناء في حين أن القاعدة تمثلت في أن كوسوفا هي جزء من صربيا وليس من الاتحاد اليوجوسلافي, فكوسوفا كما يطلقون عليها "روح صربيا".
وانطلاقاً من هذه الخصوصية لوضعية كوسوفا لدى القومية الصربية يمكن تفهم الإصرار الصربي أثناء المفاوضات وبعدها على معارضة استقلال كوسوفا، وإذا كان الصرب ما زالوا يرددون حتى الآن الأغاني ذات الوقع الحزين لقتلاهم في المعركة التي هزم فيها أجدادهم عام 1389م أمام السلطان العثماني مراد الأول؛ ليبدأ عصر الحكم الإسلامي الذي استمر ما يزيد عن ستة قرون؛ فإن هذا الشعور القومي الصربي يضع علامات استفهام كبرى حول ما تحمله الأيام القادمة لهذا البلد الوليد.
وصحيح أن خيارات صربيا حتى الآن, ونظراً للوجود الأمريكي والأطلسي؛ محدودة إلى حد كبير, ولكنها ما زالت لديها بعض الأوراق يتمثل أهمها في:
1- تشجيع الصرب الذين يشكلون اتحاداً فيدرالياً لجمهورية البوسنة على شق الاتحاد البوسنوي، والانضمام لها كمقدمة لتقويض اتفاق دايتون الذي يرعاه الغرب.
وهذا على ما يبدو قد اتخذ خطوات عملية, فبعد إعلان استقلال كوسوفا سارع القوميون الصربيون البوسنيون إلى المطالبة بانفصال الجمهورية الصربية عن البوسنة, وفي خطوة لاحقة قرر برلمان جمهورية صرب البوسنة أنه من حق الجمهورية الانفصال عن البوسنة إذا اعترفت منظمة الأمم المتحدة وأكثرية بلدان الاتحاد الأوروبي باستقلال إقليم كوسوفا عن صربيا.
2- استخدام العقوبات، والضغوط التجارية كبديل للتأثير على كوسوفا، وخنق الإقليم اقتصادياً.
3- تشجيع الأقلية الصربية في الشمال على تثوير الأوضاع، وإحداث اضطرابات مستمرة لزعزعة الكيان الوليد.
كوسوفا وفلسطين هل هي مجرد أوهام عربية؟
من المنظور الأمريكي فإن استقلال كوسوفا الأحادي لا يشكل حالة عامة, وإنما حالة خاصة ارتبطت كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بتلاقي عدة عوامل بينها تفكك الاتحاد اليوجوسلافي السابق، وماضي التطهير العرقي والجرائم ضد المدنيين أثناء فترة الحرب بين الصرب والألبان, وفقدان صربيا الحق الأخلاقي في أن تحكم شعبها بسبب الوحشية التي استخدمتها ضدهم في ظل الرئيس ميلوسوفيتش, ولأن المحادثات المطولة بشأن القضية لم تسفر عن تسوية.
وحقيقة الأمر أن هذه العوامل لا يمكن الادعاء بأنها حالة خاصة بالنسبة لكوسوفا وعلاقتها بصربيا, فقد تكررت مراراً وفي أماكن مختلفة، فعلى سبيل المثال ما يجري في الشيشان من انتهاكات على أيدي القوات الروسية ليس بأقل ضراوة ووحشية عما فعله الصرب في كوسوفا، وما يحدث للأهل في فلسطين المحتلة على يد الاحتلال الإسرائيلي يفوق ما أحدثه الصرب في كوسوفا, ولكن الفارق هو في عدم وجود مصلحة تدفع الولايات المتحدة وأوروبا لاتخاذ موقف مناظر لما حدث في كوسوفا.
ولذا فإن من يعول على اتخاذ موقف أمريكي أو أوروبي مناظر لما وقع بكوسوفا فهو في حاجة إلى دروس معمقة في فهم طبيعة العلاقات الدولية كي يسترد شيئاً من الوعي الغائب، ويستفيق قليلاً من الأوهام السياسية.
أثار إعلان استقلال إقليم كوسوفا المسلم الأحد 17 من فبراير عام 2008 العديد من التساؤلات الحائرة التي تولدت من رحم الدعم الأمريكي والأوروبي لهذا البلد ذو الأغلبية المسلمة، وتجاهل الكثير من الحالات المشابهة، بل والسعي لقطع الطمع في تكرار هذه التجربة في أماكن أخرى خاصة في فلسطين المحتلة.
نعم تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً ضد الصرب في كوسوفا عام 1999م، وقادت قوات حلف الأطلسي (ناتو) حينها، ومن ثم مهدت الطريق لإدارة أممية للإقليم، فهل يكفي ذلك كي يكون مبرراً لهذا التدخل، والدعم والدخول في حقل شائك باستفزاز العملاق الروسي، وإيقاظ القومية الصربية، وتحفيزها مجدداً؟!
لا ريب أن هناك أسباباً عدة وراء الموقف الأمريكي ومن ورائه متدثراً في عباءته الموقف الأوروبي، فما سبب اهتمام أمريكا بهذه القضية؟ ولماذا اتخذت أوروبا موقفاً مؤيداً؟ ولماذا الغضب الروسي, وهل بإمكانها أن تفعل شيئاً لحليفتها صربيا؟ وهل تقدم على استخدام القوة الوحشية كما حذر ممثل روسيا في حلف الناتو دميتري روغوزين؟ وصربيا بدورها ما يمكنها أن تفعل بعد أن سُكب اللبن من الإناء؟ وهل يمكن أن تثير هذه الحادثة، وتفتح شهية نزعات انفصالية أخرى في أوروبا والبلقان وغيرها من بلدان العالم؟
إفرازات لا تقل ضخامة عن حادث إعلان الاستقلال ذاته فرضت نفسها بقوة, ونحاول أن نقترب هنا من الإجابة على بعض هذه التساؤلات، ونبدد قدراً مما أحاط بها من غموض.
هل بالفعل استقلت كوسوفا؟
قبل التعرض لهذه الأسئلة بالإجابة ثمة سؤال مبدئي بين يدي القضية نلج منه إلى دهاليز إعلان الاستقلال وتبعاته: هل بالفعل استقلت كوسوفا؟!
رغم إعلان استقلال إقليم كوسوفا المسلم دستورياً إلا أن الاستقلال الفعلي برأينا لم يلامس حتى الآن أرضاً صلبة، فقط تحولت السيادة على الإقليم من صربيا إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة, وهو ما يعني أن الدولة الأحدث في القارة الأوروبية ستبقي رهينة الإرادة الأوروبية، وخاضعة لتلك الإدارة سياسياً, ومن الناحية العسكرية ستكون مسرحاً لاحتلال أمريكي مقنع بعد نشر نحو 1500 جندي أمريكي هناك بعد عدة أشهر, إضافة إلى نحو 2000 من الاتحاد الأوروبي موجودين فعلاً على أراضي كوسوفا, وقد يستغرق الأمر وقًتا طويلاً قبل أن يتمكن البلد الأوروبي الحديث من الحصول على تمثيل رسمي في المؤسسات الدولية، والقيام بذاتيه مستقلة.
من المؤكد إذن أن إعلان برلمان كوسوفا استقلاله عن صربيا، ورغم اختلاف الكثيرين في الماضي حول هذا الاستقلال؛ إلا أن الجميع يتفق الآن على أنه بداية الأحداث وليس نهايتها في البلقان الملتهب بالعرقيات والأديان, وأنه فتح الباب لصراعات وأيام قادمة ستكون حبلى بالعديد من التطورات على كافة الصعد الإقليمية والدولية.
لماذا أيدت أمريكا وأوروبا استقلال كوسوفا؟!
أيدت الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية رئيسة وفي مقدمتها: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا؛ استقلال كوسوفا, وهو ما يمكن برأينا إرجاعه لعدة أسباب منها:
1- هذا الدعم يأتي في إطار رغبة أمريكية في محاصرة الدب الروسي في مخدعه, وتقليص نفوذه في دول الجوار، فثمة رغبة أمريكية بأن تصل الحدود الأوروبية إلى أقرب ما يكون من حدود روسيا لوقف مساعيها الرامية إلى استرداد مكانتها كقوة كبرى في النظام الدولي, وكسر الاحتكار الأمريكي.
ودعم استقلال كوسوفا يأتي كحلقة واحدة في منظومة أمريكية يعلوها مشروع الدرع الصاروخي الذي تسعى الولايات المتحدة لوضعه تحت الأنف الروسي باستقطاب دول الجوار، وغرس صواريخ استراتيجية فيها, الأمر الذي ربما يشغل روسيا بأمنها الداخلي الذي بات مهدداً بفعل تلك الصواريخ، وتقليص تطلعاتها وطموحاتها الخارجية.
2- من أهم الأسباب الداعية للدعم الأوروبي والأمريكي لاستقلال كوسوفا بغالبيتها المسلمة قطع الطريق أمام أية حركة جهادية داخلية تكون جاذبة لتيارات خارجية على نحو ما حدث في البوسنة في تسعينيات القرن الماضي, وضمان نشوء دولة علمانية سارية على الأعراف الأوروبية والأمريكية بعيدة عن النزعة الدينية الإسلامية التي يتوجس منه الغرب, لاسيما وأن نسبة المسلمين في الدولة الوليدة تتعدى 95%.
3- هذه الرغبة الأمريكية السابقة تلتقي مع رغبة أوروبا في تصفية جميع إفرازات الحربين العالميتين الأولى والثانية, والتي تمخضت عن ميلاد الاتحاد اليوجوسلافي السابق, وتقليص أي نفوذ روسي في قلب القارة باحتواء الدول التي سبق وأن شكلت مرتكزاً للاتحاد السوفيتي فيها.
4- ثمة رغبة أمريكية في هندسة الوضع في البلقان بما يضمن لها النفوذ السياسي والعسكري المباشر في قلب القارة الأوروبية، ولعل الأعلام الأمريكية التي رفعت يوم الاستقلال، وغطت على علم كوسوفا نفسه؛ وغياب علم الاتحاد الأوروبي يعطي دلالة على حجم النفوذ الأمريكي في الدولة الوليدة التي قد تكون في طليعة دول البلقان التي تخضع لإرادة أمريكية مباشرة.
روسيا هل تستخدم "القوة المتوحشة"؟!
روسيا كانت صاحبة الصوت الأقوى في الاحتجاج بصورة تفوق المعارضة في صربيا أكثر الدول تضرراً من استقلال كوسوفا, ووصلت إلى حد التلويح باستخدام القوة الوحشية، وهذه المعارضة الروسية ذات النبرة العالية ترجع في رأينا لعدة أسباب من أهمها:
1- ترى روسيا في تحركات أوروبا والولايات المتحدة على حدودها الجغرافية والقريبة تجاوزاً للعديد من الخطوط الحمراء بالنسبة لأمنها القومي, خاصة مع تقدم حلف ناتو من حدودها.
ولاشك أن استقلال كوسوفا بهذه الكيفية يأتي في إطار هذه التهديدات لأمنها القومي الداخلي, كونه يشكل نوعاً من الانتصار للاستراتيجية الأمريكية في إعادة هندسة منطقة البلقان لصالحها وصالح حلفائها الأوروبيين.
2- هناك مخاوف روسية من أن تؤدي هذه الطريقة في الاستقلال من إثارة موجة مطالب استقلالية في داخل روسيا نفسها كالشيشان وداغستان، وهو الموقف ذاته الذي تبنته دول مثل: الهند والصين، وإسبانيا واليونان، وبلغاريا وكل منها لديه مجموعات تطالب بالانفصال لاعتبارات عرقية أو تاريخية.
3- العلاقات التاريخية بين الروس والصرب تدفع روسيا للتعامل مع استقلال كوسوفا وكأنها قضية داخلية تخصها مباشرة، فمن خلال الروابط الخاصة على صعيد وحدة العرق السلافي، والديانة الأرثوذكسية مع صربيا؛ يمكن فهم الموقف الروسي المعارض تماماً لاستقلال كوسوفا بطريقة منفردة, فهذا الاستقلال سيؤثر على قوة الحليفة صربيا ووضعها الجغرافي والاستراتيجي, كما أنه يقلل من فاعلية الدور الروسي في البلقان.
واعتراض روسيا "النظري" حتى الآن، والملوح باستخدام القوة؛ قد يأخذ بعداً فعلياً مؤثراً على أوروبا والولايات المتحدة, وذلك من خلال:
1- توظيف الثروات الطبيعية لاسيما النفط والغاز من أجل إعادة صياغة موازين القوة مع الغرب إجمالاً, ومع أوروبا على وجه الخصوص، والتي تعتمد بصورة رئيسة على إمدادات الغاز الروسية.
2- توثيق العلاقات مع الدول المعارضة أو التي دخلت في اشتباك سياسي مع الغرب مثل: إيران, وكوريا الشمالية, والعمل على تطوير هذه العلاقات لتصبح من نقاط ارتكاز روسيا للدفاع ولمواجهة خطط الغرب في المناطق المختلفة.
3- تحديث البنية العسكرية، وإدخال منظومات جديدة تكون قادرة على مبادلة التهديدات الأمريكية لاسيما الدرع الصاروخية, وكذلك تهديدات حلف الناتو الذي بات على مرمى حجر من روسيا.
4- محاولة دعم حركات الاستقلال داخل جورجيا التي اتخذت موقفاً متحالفاً مع الغرب وخاصة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا, وهي الحركات الانفصالية التي تعارضها الولايات المتحدة وأوروبا, وقد يلجأ إلى الدعم العسكري المباشر (القوة الوحشية) لهذه الحركات الانفصالية, ولكنه سيتجنب الدخول في صدام مدمر مع الولايات المتحدة والناتو.
صربيا هل تكتفي بالبكاء على قتلاها!
على الرغم من تمتع كوسوفا بحكم ذاتي في دستور الاتحاد اليوجوسلافي منذ عام1947م، وهو الذي استمر حتى العام 1989م؛ فإن هذا الوضع مثل دائماً للصرب الاستثناء في حين أن القاعدة تمثلت في أن كوسوفا هي جزء من صربيا وليس من الاتحاد اليوجوسلافي, فكوسوفا كما يطلقون عليها "روح صربيا".
وانطلاقاً من هذه الخصوصية لوضعية كوسوفا لدى القومية الصربية يمكن تفهم الإصرار الصربي أثناء المفاوضات وبعدها على معارضة استقلال كوسوفا، وإذا كان الصرب ما زالوا يرددون حتى الآن الأغاني ذات الوقع الحزين لقتلاهم في المعركة التي هزم فيها أجدادهم عام 1389م أمام السلطان العثماني مراد الأول؛ ليبدأ عصر الحكم الإسلامي الذي استمر ما يزيد عن ستة قرون؛ فإن هذا الشعور القومي الصربي يضع علامات استفهام كبرى حول ما تحمله الأيام القادمة لهذا البلد الوليد.
وصحيح أن خيارات صربيا حتى الآن, ونظراً للوجود الأمريكي والأطلسي؛ محدودة إلى حد كبير, ولكنها ما زالت لديها بعض الأوراق يتمثل أهمها في:
1- تشجيع الصرب الذين يشكلون اتحاداً فيدرالياً لجمهورية البوسنة على شق الاتحاد البوسنوي، والانضمام لها كمقدمة لتقويض اتفاق دايتون الذي يرعاه الغرب.
وهذا على ما يبدو قد اتخذ خطوات عملية, فبعد إعلان استقلال كوسوفا سارع القوميون الصربيون البوسنيون إلى المطالبة بانفصال الجمهورية الصربية عن البوسنة, وفي خطوة لاحقة قرر برلمان جمهورية صرب البوسنة أنه من حق الجمهورية الانفصال عن البوسنة إذا اعترفت منظمة الأمم المتحدة وأكثرية بلدان الاتحاد الأوروبي باستقلال إقليم كوسوفا عن صربيا.
2- استخدام العقوبات، والضغوط التجارية كبديل للتأثير على كوسوفا، وخنق الإقليم اقتصادياً.
3- تشجيع الأقلية الصربية في الشمال على تثوير الأوضاع، وإحداث اضطرابات مستمرة لزعزعة الكيان الوليد.
كوسوفا وفلسطين هل هي مجرد أوهام عربية؟
من المنظور الأمريكي فإن استقلال كوسوفا الأحادي لا يشكل حالة عامة, وإنما حالة خاصة ارتبطت كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بتلاقي عدة عوامل بينها تفكك الاتحاد اليوجوسلافي السابق، وماضي التطهير العرقي والجرائم ضد المدنيين أثناء فترة الحرب بين الصرب والألبان, وفقدان صربيا الحق الأخلاقي في أن تحكم شعبها بسبب الوحشية التي استخدمتها ضدهم في ظل الرئيس ميلوسوفيتش, ولأن المحادثات المطولة بشأن القضية لم تسفر عن تسوية.
وحقيقة الأمر أن هذه العوامل لا يمكن الادعاء بأنها حالة خاصة بالنسبة لكوسوفا وعلاقتها بصربيا, فقد تكررت مراراً وفي أماكن مختلفة، فعلى سبيل المثال ما يجري في الشيشان من انتهاكات على أيدي القوات الروسية ليس بأقل ضراوة ووحشية عما فعله الصرب في كوسوفا، وما يحدث للأهل في فلسطين المحتلة على يد الاحتلال الإسرائيلي يفوق ما أحدثه الصرب في كوسوفا, ولكن الفارق هو في عدم وجود مصلحة تدفع الولايات المتحدة وأوروبا لاتخاذ موقف مناظر لما حدث في كوسوفا.
ولذا فإن من يعول على اتخاذ موقف أمريكي أو أوروبي مناظر لما وقع بكوسوفا فهو في حاجة إلى دروس معمقة في فهم طبيعة العلاقات الدولية كي يسترد شيئاً من الوعي الغائب، ويستفيق قليلاً من الأوهام السياسية.