حد من الوادي
06-10-2008, 12:22 AM
من حكايات المهاجرين
المكلا اليوم / كتب : الدكتور عبدالله سعيد الجعيدي
2008/6/9
لازمت ظاهرتا الهجرة والاغتراب بنسب متفاوتة حياة أهل اليمن عبر العصور, وتعددت أسباب الهجرة باختلاف العصور والظروف على إن القاسم المشترك بين هذه الأسباب
هو بحث الأفراد أو الجماعات عن فرص معيشية افضل ,وفي حياة الناس المغادرين أوطانهم من التجارب والمواقف ما يستحق الذكر والتأمل ,وما يؤمل منه الدرس والفائدة ,وما نقوله قصة حقيقية خاض غمارها ( الراوي ) حكاها لي ذات يوم وسمعته يقولها لآخرين
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدا العالم يتنفس الصعداء وسعى المتحاربون إلى لملمة جراحهم وأما الذين لم تصلهم نار الحرب ولظاها فقد وصلهم لسعها ,ومن لم يرجفه دوي انفجاراتها وصله صداها . وقد اكتوت حضرموت بنتائج الحرب غير المباشرة وعانت من تدهور في أوضاعها الاقتصادية ما عانت خاصة ما يتعلق بانقطاع تحويلات المهاجرين وتوقف الهجرة الخارجية باعتبارها الرافد الحيوي للاقتصاد الحضرمي وقتئذ .ومما زاد الأمور سوءاَ تصاعد حالة الجفاف التي شهدتها حضرموت في أثناء الحرب العالمية الثانية ونتج عن كل ذلك أزمة اقتصادية خانقة عرفت في حضرموت بسنوات المجاعة , و كان لها آثار اقتصادية واجتماعية وديموغرافية مأساوية
قال الراوي: في أثناء هذه الحرب وفي سنواتها الصعبة التحقت في بمدرسة أولاد البادية التابع لدار المستشارية البريطانية في المكلا ومكثت فيها ما شاء الله أن امكث .....وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي كان عمري مابين الثالثة عشرة والرابعة عشرة وكانت تلك السنوات في وقتنا تعني بداية الرجولة وتلزمنا بشق طريقنا في الحياة
وسكت الراوي ...مدينة المكلا مزدحمة بالسكان ولم تر عين الراوي مدينة بهذا الاتساع والتزاحم , النشاط الاقتصادي في الميناء يثير الآمال ويشجع على المغامرة وركوب الخطر والمناشط الاقتصادية الأخرى محدودة البحث عن فرصة عمل تلبي الطموحات يعد ضربًا من المستحيل انتماؤه القبلي يفرض عليه الابتعاد عن بعض المهن داخل الوطن وقبولها خارجه . فكرة السفر كانت طاغية بل هي الخيار الشائع عند الرجال الكبار (والصغار ) ... المكلا هي البوابة الجنوبية الخارجية لحضرموت
قال الراوي : لم يكن بيني وبين الوصول إلى العالم الخارجي إلا ركوب هذا البحر وقبل ذلك كان لابد من التوكل على الله و اتخاذ القرار وتحديد مكان الاتجاه ويستطرد الراوي : قررت السفر إلى المملكة العربية السعودية ...أيام قليلة هاأنا الآن على متن الساعية الشراعية . صوت الصخب في الميناء لازال يرن في أذني , كنت خائفا ولكنني كنت متماسكا ,تحركت السفينة باتجاه جنوب غربي , تمخر عباب البحر في تروّ وهدوء حتى اتخذت لها مكاناً مناسباً بعيدا عن الصخور وقريباً من اليابسة بحيث كنا نحدد الملامح العامة الظاهرة منها ,كان النظر إلى اليابسة مبعث الآمال والأمان في قلبي حتى أدمنت النظر إليها ,كان ضمن المسافرين رجال ونساء وأطفال لا أعرف إلا صديقا من قريتي . وسكت الراوي
حتى هذه اللحظة كانت تعبيرات الفرح كثيرا ما ترتسم في ملامح وجهه فلعل ذاكرته استرجعت ذلك الشعور القديم الذي انتابه وهو يخوض ولأول مرة تجربة السفر البحري أو ربما أمانة السرد وتلقائيته جعلت سرده لسير الرحلة يتلازم مع بروز انفعالاته في المواقف المتعددة حسب خط سير الرحلة
استمر الراوي في الكلام : عبرت الساعية مضيق باب المندب متجهة شمالاً ... حتى تلك اللحظة لم يعترض سيرنا أي مشاكل تذكر وسارت الأمور على ما يرام لحظات الوصول إلى مدينة جدة تعززت أكثر في مخيلتنا وانتعشت أحلامنا الصغيرة ,وكانت طمأنينتنا تزداد عندما نسمع هنا وهناك أن جدة على بعد بضعة أميال
لبرهة سكت الراوي ولم يعد الحماس هو الحماس , وتعابير الوجه ليست كما كانت في بداية الأمر حتى ظننت أن ذاكرته خانته ونسى بعض الأحداث
بصوت خافت قال الراوي : على سواحل منطقة جيزان ارتطمت الساعية بإحدى الصخور البحرية الضخمة المخفية ومالت الساعية بحيث كانت المسافة بين طرف حافتها اليمنى وسطح البحر لا يزيد عن متر .استنفر النوخذة الجميع وطلب منا الوقوف في الاتجاه المقابل لإحداث التوازن ...عناية الله , وتيار بحري مساعد أعاد التوازن إلى الساعية .ثم هرع البحارة إلى (خن) الساعية لسد الثقوب التي أحدثها الارتطام
و في مكان ما بالقرب من مدينة جدة بدأت تسوء الأحوال إذ سارت الرياح بشكل عكسي ومعاند ووصل غضب هذه الرياح إلى قيامها بدفع ساعيتنا إلى أعالي البحر أو إلى اليابسة وكان بحارة الساعية يجاهدون الرياح ويحوّلون اتجاهات الأشرعة حتى تستقر الساعية في مكانها عندما عز تقدمها إلى الأمام ,وهكذا صارت الخيارات أمام ربان السفينة (النوخذة) محدودة للغاية
ازداد تركيز الراوي وظهر بريق عينيه ونظر إلى شئ ما في الغرفة و كأنه يشاهد من خلاله تلك اللحظات العصيبة . وفي هذه اللحظة فقط ذكر أنه لايجيد السباحة على الإطلاق ,وهو و إن
اشتكى الزمن وما فعله بالذاكرة بحيث نسي بعض التفصيلات لبداية الرحلة فالعكس هو الصحيح هنا
استأنف الراوي : ليوم وليلة كنا ندعو الله أن يزيح عنا الغمة ويهدّى من روع الأمواج التي دخلت معنا في لعب قاتل ومخيف . وبعد الله كانت الأنظار متوجهة إلى ربان الساعية الذي بدا مشغولاً ومنهمكاً . وأمام خطورة الوضع قرر الربان العودة إلى الخلف باتجاه إحدى الرؤوس البحرية حيث تقل سرعة الرياح ثم أعلن تنظيم صارم لتوزيع الطعام والماء الذي أوشك على النفاذ . ...لمدة سبعة أيام كاملة كانت الساعية تنطلق من موقعها السابق باتجاه أعلى البحر ثم يقوم البحارة بمهارات خاصة تتعلق بوضع الأشرعة وتحريكها باتجاه يساعد على دفع الرياح لها بالاتجاه المطلوب ,ولكن الرياح تأبى بشدة ولم تنطل عليها حيل البحارة ويعودون بعد منتصف النهار منهكين لعلها ترضى في اليوم الجديد , وهكذا استمر الوضع
كان هدف الربا ن وصول السفينة سالمة بمن فيها , لهذا فقد توقع الأسوأ وبدأ يوزع الغذاء بحيث يكون لكل فرد قمحة من الطعام (الذرة البيضاء) وكوب صغير من الماء ولمرة واحدة في اليوم .كان الأمل هو دافعنا الوحيد بعد الله في الوصول إلى بر الأمان , وتسير الرياح كما تشتهي السفن ومع كل يوم يتجدد الأمل ولكن باتجاه تنازلي حتى شعر البعض منا أن سيدنا عزرائيل (عليه السلام) في مكان ما ليس بعيد عن هذه الرياح العنيدة
اليوم الثامن ؛ الصحة لم تعد هي الصحة , والطعام الذي يكاد يبقي على الحياة أوشك على النفاد ,الشكوى التي في القلوب بدأت تبرز صوتاً عاليًا متذمرًا ,وزاد الهرج والمرج ..ثم قرر الكبار أن تترك الحرية لمن يرغب في النزول إلى البر الخالي من السكان على أن من يسعفه الحظ ويحصل على مساعدة عليه أن ينقذ الآخرين . وقد قبل النوخذة هذا الوضع على مضض وبعد أن اخذ تعهد مكتوب من الراغبين في النزول من الساعية لتحمل تبعات ما يترتب عن ذلك نتائج .
تنفس الراوي الصعداء وقال : كنت مع من نزل إلى اليابسة مع صديقي . كنا لا نزيد عن خمسة وثلاثين ولانقل عن ثلاثة وثلاثين أي ما يقارب نصف سكان الساعية,على الفور اخذ أحد الرجال المبادرة ونصب نفسه قائدًا علينا وطلب منا أن نسير متقاربين حتى لانتوه في الطريق من جهة وحتى يساعد بعضنا البعض في المكاره المتوقعة من جهة أخري .ثم أشار علينا برأي صائب وهو السير بعد المغرب لعل وعسى نسائم الليل تحافظ على من تبقى فينا من طاقة وجلد ..وبمحاذاة الساحل وباتجاه مأمول يوصل إلى مدينة جدة أو ما قرب إليها كان جهة السير
حافظ الجميع على تماسكه حتى الصباح الباكر كنا طوال الليل نسير وآذاننا صاغية وأبصارنا شاخصة نبحث عما يدلنا على أن في القريب يسكن البشر ولكن كل ماحو لنا صامت وربما يهزأ بنا, مضينا نسير ... إرادة البقاء في الحياة تغلبت نسبيًا على الاستسلام و الجوع والعطش الذي بلغ منا ما بلغ , لم نعد نقوى على الكلام ,الإشارات وسيلتنا الوحيدة للتواصل ,بعد أن كنا متقاربين من بعضنا صار أولنا لايرى آخرنا عند منتصف النهار سقط نصفنا في منطقة معينة .
.لقد خارت القوى ولم نعد قادرين على السير .يبدو أن عزرائيل عليه أن يستريح ويأخذ ما أمر به هاهو سيدنا عزرائيل قادم في شكل بدوي ..لقد جاءت الراحة الأبدية ولكن بالقرب منه جمل وهو عليه السلام لا يحتاج إلى جمل أو أن يتنكر في هيئة شي آخر . صاح أحدنا :انهم بشر ..تحركت ما تبقى من عروق الحياة وإذا بنا جميعا واقفين مستبشرين وغير مصدقين ,ولكن الفرحة ما تمت فقد شهر أحدهم السلاح علينا وعندما سمعوا قصتنا وأننا ربما نكون لقمة سهلة لأضعف الحيوانات تتركوننا وشأننا دون أن يتفضلا بقطرة ماء لاعتبارين أولهما انهم لو أعطونا من مائهم سينفد ولن يستطيعوا مواصلة رحلتهم وثانيهما اخبروننا أن بالقرب من موقعنا هذا مركز شرطه سعودياً ممكن أن نتزود منه بما نريد
توجه قائدنا برأسه إلينا ومارس صلاحياته كقائد طالبًا الاستمرار في المضي لعل الفرج قريب . استجمعنا آخر قوانا واستأنفنا المسير بخطوات بطيئة ومنهكة لم نعد نلتفت يميناً أو يسارًا ولم نكترث كثيرا بقربنا لبعضنا بعضا الشمس على وشك المغيب ولابارقة أمل وعلى تل قريب تجمعنا من غير ترتيب , لأول مرة نشعر جميعا بالنهاية . ...
الشمس اختفت , جيوش الظلام شرعت تسود الفضاء رويدًا رويداً , لعل سيدنا عزرائيل أشفق علينا وقرر أن يخفف من روعنا ويأتينا بعد نومتنا الاختيارية إلي نومة الدنيا الأبدية الإجبارية ..الظلمة في ازدياد وتكاد تكسو السماء بحلة سوداء قاتمة ,توجهت أنظارنا إلي السماء أخذنا نتمتم بكلمات الرجاء والمغفرة ,حاول أحدنا إعادة وضع ظهره على الأرض استعدادًا للنومة الأبدية وفي أثناء قيامه بهذا العمل ابصر نورا خافتا يأتي من بعيد تروى وجلس لعلها أضغاث أحلام , لعلها.. ..ولكن الإضاءة حقيقية , المركز ..المركز .... نهض الجميع لعلها لوثة جنون أصابت صاحبنا وعندما نظرنا إلى ما ينظر إليها ذهلنا من المفاجأة ,لم يكن يعنينا أن يكون مركز أم غيره المهم مكان لوجود الناس وبالتالي الماء ... الماء ..لاندري من أين جاءت العافية هانحن في وسط المركز السعودي ننعم بالماء والطعام ونستبشر بإخواننا الذين لم يلحقوننا بان الفرج قادم لهم مع الجنود الذين هبوا لانقاد المتأخرين
بينما كان الراوي يرتشف في مخيلته ماء الحياة كنت أبحث عن قطرة تبل الريق ,وإذا بدمعات صامتة لم اشعر إلا بطعمها ...ثم شردت بالخيال إلى بعيد
عاود الراوي إلى الحديث كأنه وصل لتوه من تلك الرحلة وبمشاعر الوصول بعد العناء ..قائلا :أجرى المركز اتصالات مع جدة . اخبرهم بنكبة الساعية الحضرمية وانتشر الخبر في المدينة وتبرع اثنان من المغتربين الحضارم احدهما بسيارته والآخر بالطعام ,وفي الصباح وصلت سيارة الإنقاذ الحضرمية وسارت بمحاذاة الساحل حتى لمح السائق الساعية المنكوبة فأطلق عيارات نارية , أدرك الربان أن النجدة وصلته و أرسل قاربًا صغيرًا يحمل الماء والطعام حتى فرغت حمولة السيارة ...أيام معدودة كنا وكل رفاق رحلة الساعية في مدينة جدة نحمد الله على سلامة الوصول
عبد الله سعيد سليمان الجعيدي
[email protected]
المكلا اليوم / كتب : الدكتور عبدالله سعيد الجعيدي
2008/6/9
لازمت ظاهرتا الهجرة والاغتراب بنسب متفاوتة حياة أهل اليمن عبر العصور, وتعددت أسباب الهجرة باختلاف العصور والظروف على إن القاسم المشترك بين هذه الأسباب
هو بحث الأفراد أو الجماعات عن فرص معيشية افضل ,وفي حياة الناس المغادرين أوطانهم من التجارب والمواقف ما يستحق الذكر والتأمل ,وما يؤمل منه الدرس والفائدة ,وما نقوله قصة حقيقية خاض غمارها ( الراوي ) حكاها لي ذات يوم وسمعته يقولها لآخرين
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدا العالم يتنفس الصعداء وسعى المتحاربون إلى لملمة جراحهم وأما الذين لم تصلهم نار الحرب ولظاها فقد وصلهم لسعها ,ومن لم يرجفه دوي انفجاراتها وصله صداها . وقد اكتوت حضرموت بنتائج الحرب غير المباشرة وعانت من تدهور في أوضاعها الاقتصادية ما عانت خاصة ما يتعلق بانقطاع تحويلات المهاجرين وتوقف الهجرة الخارجية باعتبارها الرافد الحيوي للاقتصاد الحضرمي وقتئذ .ومما زاد الأمور سوءاَ تصاعد حالة الجفاف التي شهدتها حضرموت في أثناء الحرب العالمية الثانية ونتج عن كل ذلك أزمة اقتصادية خانقة عرفت في حضرموت بسنوات المجاعة , و كان لها آثار اقتصادية واجتماعية وديموغرافية مأساوية
قال الراوي: في أثناء هذه الحرب وفي سنواتها الصعبة التحقت في بمدرسة أولاد البادية التابع لدار المستشارية البريطانية في المكلا ومكثت فيها ما شاء الله أن امكث .....وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي كان عمري مابين الثالثة عشرة والرابعة عشرة وكانت تلك السنوات في وقتنا تعني بداية الرجولة وتلزمنا بشق طريقنا في الحياة
وسكت الراوي ...مدينة المكلا مزدحمة بالسكان ولم تر عين الراوي مدينة بهذا الاتساع والتزاحم , النشاط الاقتصادي في الميناء يثير الآمال ويشجع على المغامرة وركوب الخطر والمناشط الاقتصادية الأخرى محدودة البحث عن فرصة عمل تلبي الطموحات يعد ضربًا من المستحيل انتماؤه القبلي يفرض عليه الابتعاد عن بعض المهن داخل الوطن وقبولها خارجه . فكرة السفر كانت طاغية بل هي الخيار الشائع عند الرجال الكبار (والصغار ) ... المكلا هي البوابة الجنوبية الخارجية لحضرموت
قال الراوي : لم يكن بيني وبين الوصول إلى العالم الخارجي إلا ركوب هذا البحر وقبل ذلك كان لابد من التوكل على الله و اتخاذ القرار وتحديد مكان الاتجاه ويستطرد الراوي : قررت السفر إلى المملكة العربية السعودية ...أيام قليلة هاأنا الآن على متن الساعية الشراعية . صوت الصخب في الميناء لازال يرن في أذني , كنت خائفا ولكنني كنت متماسكا ,تحركت السفينة باتجاه جنوب غربي , تمخر عباب البحر في تروّ وهدوء حتى اتخذت لها مكاناً مناسباً بعيدا عن الصخور وقريباً من اليابسة بحيث كنا نحدد الملامح العامة الظاهرة منها ,كان النظر إلى اليابسة مبعث الآمال والأمان في قلبي حتى أدمنت النظر إليها ,كان ضمن المسافرين رجال ونساء وأطفال لا أعرف إلا صديقا من قريتي . وسكت الراوي
حتى هذه اللحظة كانت تعبيرات الفرح كثيرا ما ترتسم في ملامح وجهه فلعل ذاكرته استرجعت ذلك الشعور القديم الذي انتابه وهو يخوض ولأول مرة تجربة السفر البحري أو ربما أمانة السرد وتلقائيته جعلت سرده لسير الرحلة يتلازم مع بروز انفعالاته في المواقف المتعددة حسب خط سير الرحلة
استمر الراوي في الكلام : عبرت الساعية مضيق باب المندب متجهة شمالاً ... حتى تلك اللحظة لم يعترض سيرنا أي مشاكل تذكر وسارت الأمور على ما يرام لحظات الوصول إلى مدينة جدة تعززت أكثر في مخيلتنا وانتعشت أحلامنا الصغيرة ,وكانت طمأنينتنا تزداد عندما نسمع هنا وهناك أن جدة على بعد بضعة أميال
لبرهة سكت الراوي ولم يعد الحماس هو الحماس , وتعابير الوجه ليست كما كانت في بداية الأمر حتى ظننت أن ذاكرته خانته ونسى بعض الأحداث
بصوت خافت قال الراوي : على سواحل منطقة جيزان ارتطمت الساعية بإحدى الصخور البحرية الضخمة المخفية ومالت الساعية بحيث كانت المسافة بين طرف حافتها اليمنى وسطح البحر لا يزيد عن متر .استنفر النوخذة الجميع وطلب منا الوقوف في الاتجاه المقابل لإحداث التوازن ...عناية الله , وتيار بحري مساعد أعاد التوازن إلى الساعية .ثم هرع البحارة إلى (خن) الساعية لسد الثقوب التي أحدثها الارتطام
و في مكان ما بالقرب من مدينة جدة بدأت تسوء الأحوال إذ سارت الرياح بشكل عكسي ومعاند ووصل غضب هذه الرياح إلى قيامها بدفع ساعيتنا إلى أعالي البحر أو إلى اليابسة وكان بحارة الساعية يجاهدون الرياح ويحوّلون اتجاهات الأشرعة حتى تستقر الساعية في مكانها عندما عز تقدمها إلى الأمام ,وهكذا صارت الخيارات أمام ربان السفينة (النوخذة) محدودة للغاية
ازداد تركيز الراوي وظهر بريق عينيه ونظر إلى شئ ما في الغرفة و كأنه يشاهد من خلاله تلك اللحظات العصيبة . وفي هذه اللحظة فقط ذكر أنه لايجيد السباحة على الإطلاق ,وهو و إن
اشتكى الزمن وما فعله بالذاكرة بحيث نسي بعض التفصيلات لبداية الرحلة فالعكس هو الصحيح هنا
استأنف الراوي : ليوم وليلة كنا ندعو الله أن يزيح عنا الغمة ويهدّى من روع الأمواج التي دخلت معنا في لعب قاتل ومخيف . وبعد الله كانت الأنظار متوجهة إلى ربان الساعية الذي بدا مشغولاً ومنهمكاً . وأمام خطورة الوضع قرر الربان العودة إلى الخلف باتجاه إحدى الرؤوس البحرية حيث تقل سرعة الرياح ثم أعلن تنظيم صارم لتوزيع الطعام والماء الذي أوشك على النفاذ . ...لمدة سبعة أيام كاملة كانت الساعية تنطلق من موقعها السابق باتجاه أعلى البحر ثم يقوم البحارة بمهارات خاصة تتعلق بوضع الأشرعة وتحريكها باتجاه يساعد على دفع الرياح لها بالاتجاه المطلوب ,ولكن الرياح تأبى بشدة ولم تنطل عليها حيل البحارة ويعودون بعد منتصف النهار منهكين لعلها ترضى في اليوم الجديد , وهكذا استمر الوضع
كان هدف الربا ن وصول السفينة سالمة بمن فيها , لهذا فقد توقع الأسوأ وبدأ يوزع الغذاء بحيث يكون لكل فرد قمحة من الطعام (الذرة البيضاء) وكوب صغير من الماء ولمرة واحدة في اليوم .كان الأمل هو دافعنا الوحيد بعد الله في الوصول إلى بر الأمان , وتسير الرياح كما تشتهي السفن ومع كل يوم يتجدد الأمل ولكن باتجاه تنازلي حتى شعر البعض منا أن سيدنا عزرائيل (عليه السلام) في مكان ما ليس بعيد عن هذه الرياح العنيدة
اليوم الثامن ؛ الصحة لم تعد هي الصحة , والطعام الذي يكاد يبقي على الحياة أوشك على النفاد ,الشكوى التي في القلوب بدأت تبرز صوتاً عاليًا متذمرًا ,وزاد الهرج والمرج ..ثم قرر الكبار أن تترك الحرية لمن يرغب في النزول إلى البر الخالي من السكان على أن من يسعفه الحظ ويحصل على مساعدة عليه أن ينقذ الآخرين . وقد قبل النوخذة هذا الوضع على مضض وبعد أن اخذ تعهد مكتوب من الراغبين في النزول من الساعية لتحمل تبعات ما يترتب عن ذلك نتائج .
تنفس الراوي الصعداء وقال : كنت مع من نزل إلى اليابسة مع صديقي . كنا لا نزيد عن خمسة وثلاثين ولانقل عن ثلاثة وثلاثين أي ما يقارب نصف سكان الساعية,على الفور اخذ أحد الرجال المبادرة ونصب نفسه قائدًا علينا وطلب منا أن نسير متقاربين حتى لانتوه في الطريق من جهة وحتى يساعد بعضنا البعض في المكاره المتوقعة من جهة أخري .ثم أشار علينا برأي صائب وهو السير بعد المغرب لعل وعسى نسائم الليل تحافظ على من تبقى فينا من طاقة وجلد ..وبمحاذاة الساحل وباتجاه مأمول يوصل إلى مدينة جدة أو ما قرب إليها كان جهة السير
حافظ الجميع على تماسكه حتى الصباح الباكر كنا طوال الليل نسير وآذاننا صاغية وأبصارنا شاخصة نبحث عما يدلنا على أن في القريب يسكن البشر ولكن كل ماحو لنا صامت وربما يهزأ بنا, مضينا نسير ... إرادة البقاء في الحياة تغلبت نسبيًا على الاستسلام و الجوع والعطش الذي بلغ منا ما بلغ , لم نعد نقوى على الكلام ,الإشارات وسيلتنا الوحيدة للتواصل ,بعد أن كنا متقاربين من بعضنا صار أولنا لايرى آخرنا عند منتصف النهار سقط نصفنا في منطقة معينة .
.لقد خارت القوى ولم نعد قادرين على السير .يبدو أن عزرائيل عليه أن يستريح ويأخذ ما أمر به هاهو سيدنا عزرائيل قادم في شكل بدوي ..لقد جاءت الراحة الأبدية ولكن بالقرب منه جمل وهو عليه السلام لا يحتاج إلى جمل أو أن يتنكر في هيئة شي آخر . صاح أحدنا :انهم بشر ..تحركت ما تبقى من عروق الحياة وإذا بنا جميعا واقفين مستبشرين وغير مصدقين ,ولكن الفرحة ما تمت فقد شهر أحدهم السلاح علينا وعندما سمعوا قصتنا وأننا ربما نكون لقمة سهلة لأضعف الحيوانات تتركوننا وشأننا دون أن يتفضلا بقطرة ماء لاعتبارين أولهما انهم لو أعطونا من مائهم سينفد ولن يستطيعوا مواصلة رحلتهم وثانيهما اخبروننا أن بالقرب من موقعنا هذا مركز شرطه سعودياً ممكن أن نتزود منه بما نريد
توجه قائدنا برأسه إلينا ومارس صلاحياته كقائد طالبًا الاستمرار في المضي لعل الفرج قريب . استجمعنا آخر قوانا واستأنفنا المسير بخطوات بطيئة ومنهكة لم نعد نلتفت يميناً أو يسارًا ولم نكترث كثيرا بقربنا لبعضنا بعضا الشمس على وشك المغيب ولابارقة أمل وعلى تل قريب تجمعنا من غير ترتيب , لأول مرة نشعر جميعا بالنهاية . ...
الشمس اختفت , جيوش الظلام شرعت تسود الفضاء رويدًا رويداً , لعل سيدنا عزرائيل أشفق علينا وقرر أن يخفف من روعنا ويأتينا بعد نومتنا الاختيارية إلي نومة الدنيا الأبدية الإجبارية ..الظلمة في ازدياد وتكاد تكسو السماء بحلة سوداء قاتمة ,توجهت أنظارنا إلي السماء أخذنا نتمتم بكلمات الرجاء والمغفرة ,حاول أحدنا إعادة وضع ظهره على الأرض استعدادًا للنومة الأبدية وفي أثناء قيامه بهذا العمل ابصر نورا خافتا يأتي من بعيد تروى وجلس لعلها أضغاث أحلام , لعلها.. ..ولكن الإضاءة حقيقية , المركز ..المركز .... نهض الجميع لعلها لوثة جنون أصابت صاحبنا وعندما نظرنا إلى ما ينظر إليها ذهلنا من المفاجأة ,لم يكن يعنينا أن يكون مركز أم غيره المهم مكان لوجود الناس وبالتالي الماء ... الماء ..لاندري من أين جاءت العافية هانحن في وسط المركز السعودي ننعم بالماء والطعام ونستبشر بإخواننا الذين لم يلحقوننا بان الفرج قادم لهم مع الجنود الذين هبوا لانقاد المتأخرين
بينما كان الراوي يرتشف في مخيلته ماء الحياة كنت أبحث عن قطرة تبل الريق ,وإذا بدمعات صامتة لم اشعر إلا بطعمها ...ثم شردت بالخيال إلى بعيد
عاود الراوي إلى الحديث كأنه وصل لتوه من تلك الرحلة وبمشاعر الوصول بعد العناء ..قائلا :أجرى المركز اتصالات مع جدة . اخبرهم بنكبة الساعية الحضرمية وانتشر الخبر في المدينة وتبرع اثنان من المغتربين الحضارم احدهما بسيارته والآخر بالطعام ,وفي الصباح وصلت سيارة الإنقاذ الحضرمية وسارت بمحاذاة الساحل حتى لمح السائق الساعية المنكوبة فأطلق عيارات نارية , أدرك الربان أن النجدة وصلته و أرسل قاربًا صغيرًا يحمل الماء والطعام حتى فرغت حمولة السيارة ...أيام معدودة كنا وكل رفاق رحلة الساعية في مدينة جدة نحمد الله على سلامة الوصول
عبد الله سعيد سليمان الجعيدي
[email protected]