المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبواب المواربة /للدكتور سعيد الجريري


صالح البطاطي
03-03-2009, 04:37 PM
أبواب المواربة

المكلا اليوم / كتب: الدكتور سعيد الجريري
(1)
لم يرَ باباً للأحزان .. فما زال يستمرئ أبواباً مواربة مثله ، يقف بها باباً باباً ، كأنما انعقد بينه وبينها حلف باركته أبالسةٌ مستعبَدة. ينام ببابٍ ويصحو بآخرَ ، ينوس الخدَرُ على جبهته ، وقد ألِفَ أمكنةً وَرِبةً ، متدثراً بحريةِ أبوابها المفتوحة على مَجانة كالكهانة ، لكنها مؤصدة بكل وجه أيقظه الهجير والبراءة الملغّمة بالوقت والمقت

لم يدلف باباً من أبواب الأحزان العتيقة ، فما زال يهامسه ارتداد عبق موارب بفرح مستعار كالفراغ ، مطويّ على ليل مخملي رخو ، تفضحه كآبة النهارات الصفيقة. تعرفه أبواب المدائن المواربة ، لكن باباً مفتوحاً على وجع الضحى ما زال بعيداً بعيداً عن خياله الحفيّ بمفاتيح جناتٍ ، وشهواتٍ سحيقة ، حيث الخدر المتورم ، والألفة المتوهمة ، وحرية أن يلعن من يشاء ، بعقيرة عالية ، فهو كغيره أول العالم السفلي وآخره
بينه وبين باب الأحزان الإنسانية أبواب صفيقة من مَجاناتٍ ، وكهانات ، ورغباتٍ ، واستمالاتٍ ، وأحضانٍ رخوةِ الدفء ، وأراجيفَ مشلولةٍ ، دعيّة ، فلم - ولم يُرد أن - يرى على كل باب منها رموزاًُ من لغة مغرقة في أحابيل التخفّي المخملي ، والمخاتلة الناعمة
رأى كل شيء ، ولم يرَ سوى وجهه في مرايا مواربة ، ولو كان غيره ، لأنشد قصائد الضوء ، ورأى أبواب المدائن الرئيسة: باباً لنخاسة الكلمات ، باباً لنجاسة الرؤى ، باباً مُغلقاً على قمر جريح ، باباً مشرَعاً على مطر الخرافة ، باباً معلّقاً على حقلٍٍ حرام ، باباً عليه أفعوان ينشد الريح مقامات الخراب. هي لغةٌ قد تستميلُ حروف الأمّي ، ذات جهةٍ ، ذات لحظةٍ ، لكنها أعجز من أن تبين عن مَقولات ، ومفهومات ، وتصورات ، وانثيالات الألم العظيم. وللتهافت مدرَج للغةٍ دارجةٍ على خطى خرساء ، تكاد تسبق جريان الزمن في المشمش الحضاري (!!) ، المتخَم بخرافةٍ عزلاء ، حيث لا باب إلا باب الكلمة المستباحة ، يقف به أحدهم محمولاً بشهوتِه المطلقة ، وعبوديته الدائمة
(2)
وعلى ضفة أخرى يقف شاعر جميل على بوابة الحزن الجليل ، يرى أغنيات الماء في هجس الهديل ، وينامُ صمت سمائه على هسهسات اللغة الراشحة ، نتفيأ ظله المديد ، نقرأ مع المثقف الجليل سعدي يوسف ماكتبه عن سيرة المثقف التابع مراوغاً ، متكيّفاً ، في سرعةٍ لا يُحسَدُ عليها ، كأن ( يكون هو الممثل المزوَّر لثقافةِ بلدٍ أسهَمُ هو - أي التابع - في خرابها ودمارِها )، فنطمئن إلى أن كل باب موارب ليس مستثنى بإلاّ ، في زمان الضوء ، حيث لا كلمات للنخاسة ، ولا رؤى للنجاسة ، ولا...، ولا
وفي الضفة نفسها يتراءى آخرون واقفين على البوابة نفسها ، يؤنسنون خطوة نحو قصيدة نافرة ، وأخرى نحو موجة ضلت شاطئها فترنحت في فضاء البحر تحلم بالوصول
(3)
وعلى باب خلفيّ للأحزان نقش شاعر تحرر من لغة المواربة ، لوحاً من ألواح أسطورته الماثلة ، كثفه على لحظةٍ لم تُستثنَ ، فمرت في فضاء الكلمات نشيداً يرجّ أبواباً أوصدتها رؤى الأبالسة ، وظل صداها يرنُّ ، يرنُّ
عندما أوصلونا إلى الفصل قبل الأخير
التفتنا إلى الخلف: كان الدخانُ
يُطِلُّ من الوقت أبيضَ فوق الحدائق من بعدنا
والطواويسُ تنشر مروحةَ اللون حول رسالة قيصرَ للتائبينَ
عن المفردات التي اهترأتْ. مثلاً
وصفُ حريةٍ لم تجد خبزَها
وصفُ خبزٍ بلا مِلحِ حريةٍ
أو مديحُ حمَامٍ يطير بعيداً عن السوقِ
كانت رسالةُ قيصرَ شمبانيا للدخانِ
الذي يتصاعدُ من شرفة الوقتِ
أبيض
فهل قرأ امرؤ القيس خلاف محمود درويش معه ، كما ينبغي؟. وهل قال أحد لامرئ القيس:
ماذا صنعتَ بنا وبنفسك؟
فاذهبْ على درب قيصرَ
خلف دخانٍ يُطِلُّ من الوقتِ أسودَ
واذهبْ على دربِ قيصرَ ، وحدكَ ، وحدكَ ، وحدكَ
واتركْ لنا ، ههنا ، لغتَكْ