عصام صالح عمر
12-26-2009, 09:35 PM
من العُدينفي فترة الستينيات ، وفي العصر الذهبي لمدينة عدن وعندما كانت البلدةَ التي لا تنامْ ، قناديلُ مضاءةُ في الليل ، وظلالُ غيمٍ في النهار ، ونارُ منازلَ لا تنطفئ ، يكسوها رداء الحب والتألقْ .
عدن كانت المُصدّر لكل شيئٍ جميل ، صدّرتْ البضائع ، والأدب ، والفن ، والموسيقى . عندما كنت صغيراً كانت أمي وخالاتي ، وعماتي يجتمعن وكلٍ يفتخر بما لديه ـ خالتي تُخرج قطعة قماش جميلة تسر الناظرين وتقول هذه من عدن ، وعمتي تُخرج حليةً من لؤلؤٍ وتقول هذه من عدن وجارتنا تُخرج رشرش منقوش (قلادة من ذهب ) وتقول هذه دقة عدنية أي نقش عدني ، كل هذه الأشياء من عدن مما بعث في النفس كثير من الحب لهذه البلد فكونت صورة ذهنية جميلة لها ، فعدن منذ الأزل وهي تجود بكل غالي ونفيس لتُمْتعْ الآخرين ، كانت أجمل الألحان وأعذبها نسمعها من إذاعة عدن ، تارة محمد مرشد ناجي وتارة محمد سعد عبد الله والجميلة رجاء با سودان أه وأهين على تلك الأيام ، قصصاً كانت تُروى عن هذه المدينة الحالمة ... كيف البحر يسامر ليلها ، وكيف اللؤلؤ يطفو على شاطئها طواعيةً ليُعلَق في جيد العذارى ، كيف أن شاطئها يحكي لك قصص حبٍ عن مبدعين وروّاد كانت عدن هي الملهم الأول لهم فقدموا الإبداع وأناروا الأفق بجميلِ إبداعهم . في تلك الفترة الفريدة
ذهبتُ إلى هناك وتجولت بين ميادينها ومساكنها الشعبية ، نافذةُ مفتوحة يخرج منها دخان المطابخ ورائحة طبخهم الجميل يداعب الأنوف ، ونافذة أخرى تسمع من خلالها أعذبَ الألحان ، والاجتماعَ المؤنسْ ، ما زلت أتذكر .... ما زلت أتذكر ... مشيت في طريق طويل تُطل عليه كثيرُ من الشرفات وإذا بي أسمعُ ذلك التغريد لفنانٍ له صوتُ جميل ، صوت ملك كل كياني جعلني أسبح في دنيا أللا وعي أوقعَ في قلبي مزيجاً من الشجن والفرح ، شنف آذاني وهِمتُ به وركزتُ على تلك الكلمات الجميلة واللحن الآسرْ ، وتملكني فضول غريب لأسأل عن ذلك المطرب ، فسألتْ فقالوا لي إنه الفنان / أحمد قاسم ...... كان يصدح بأغنية من أغانيه الجميلة ( من الُعُدين يالله بريح جلاب)
لا أخفيكم والله لقد بكيت وانتابتني موجة بكاء نابعة من قلبٍ يحترق ، بكاءُ طويل وشوق لم ينقطع وخصوصاً عندما كنت أسمع الصغار الذين كانوا يرددون وراءه ،
مــن العُدين يالله بريـــح جـــلاب
واللا ساعة تبــدي علوم الأحـباب
الناس رقود وأنا الفراش يجول بي
قلبي احترق لما العــذاب وربـــي
لا الصبح أتى ولا عرفتُ دربـي
ريح الضياع بالله عليك تهز بـي
كلمات ولحن تُخاطب الجوارح وتُحي المشاعر الخامدة ، هذه الأغنية هي مدخلنا لفنانٍ بقامة الرائع أحمد قاسم صاحب الروائع الخالدة ،
لو تعمقنا في هذه الأغنية لوجدنا اللحن عُزف بجمالية متقنة ، أختار لها مقام ( الرست على الدو ) وإيقاع شرح ، وهذا المقام بجانب الإيقاع قريب من الروح العدنية ، فداعب المشاعر وأثار الوجدان، الأغاني العدنية في الغالب من مذهب وكبليه فعندما قال :
الناس رقود وأنا الفراش يجول بي
قلبي احترق لمُ العذاب وا ربيانتقل إلى مساحة أعلى في نفس المقام والتي تعطيك كثير من الوجدانية والتصوير ، الغناء اليمني وأنا هنا أقصد الجنوبي ، تسيد الجزيرة العربية قبل عهد القمندان وتواترت ، وكانت دول الخليج تستقي من الألحان الجنوبية وتتأثر بها ، وبعضهم سطى على كثير من الألحان الجنوبية هذا ليس بموضوعنا الآن ، إذا أخذنا هذه الأغنية على المستوى الشعبي فستجدها أثرت في الداخل والخارج . ودعونا نستمع إلى هذه الأغنية المُعبرة
أحمد محمد قاسم هامة فنية وموسيقار كبير يُعدُ من أعمدة الفن اليمني بأسره وخصوصاً الجنوبي( مسقط رأسه) درس الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة ويُعد من العازفين المهرة على آلة العود له أسلوب خاص في العزف والتلحين ، يميزه عن الآخرين ، يميزه عن عمالقة الفن العربي ، إن كان فريد الأطرش ، أو محمد الموجي ، أو بليغ . .. أحمد قاسم له مدرسة خاصة عُرفت باسمه فرضها فرضاً بفنه وإبداعه لتكون بجانب المدارس الأخرى ، أشتهر الراحل احمد قاسم بعدة روائع من روائعه الخالدة من اجملها ( راح الهوى ، ويا عيباه ، وصدفة التقينا ) ( ومن العُدين ) التي هي بيت القصيد.
الموسيقار أحمد قاسم غنى كل الألوان اليمنية ، باستثناء بعض الألوان التي لم يجد نفسه فيها ، تأثر بالفن المصري وأسس مدرسته الخاصة ولكنه لم ينسلخ من ثوبه العدني الجميل ، كان لأحمد قاسم دور في تثقيف الذائقة العامة من خلال تقديمه لألحان ذات صبغة عربية محتفظة بأصالتها اليمنية الجنوبية ، بسبب احتكاكه بعمالقة الطرب والموسيقى بِدأً بعبد الوهاب ، ومروراً بالموجي ، ووصولاً إلى بليغ حمدي .
يمتاز صوت الموسيقار أحمد قاسم بالمساحة العريضة وقرار رخيم يصور المقام كلوحة فنية جميلة ، مساحة العُرب في صوته ممتدة مثل الُسُلّم يتدحرج اللحن داخل حنجرته بتمكن وانسياب إما صعوداً أو نزولاً وهكذا ... وقد شُبه صوته بصوت فريد الأطرش وهنا أنا وحسب رأي المتواضع اقول أن صوت الراحل أحمد قاسم يفوق صوت فريد من حيث المساحة ، فقد وهبه الله صوت جميل قارع به أساتذة الطرب والموسيقى في الوطن العربي .
في لقاءاته الفنية مع زملائه الفنانين كثير ما كان يفاجئهم ولا أريد أن أقول يحرجهم بأدائه ، فصال وجال في الوطن العربي ودول الخليج خاصة التي سجل فيها عدد من أغنياته . الموسيقار/ أحمد قاسم عندما كان يغني ، كان هو المايسترو والفنان ، والفرقة الموسيقية ، أقول لكم كيف ؟ كان يمسك العود وبالعود يقود الفرقة الموسيقية ، إذ أنك تسمع صوت العود طاغياً على الآلات كمن يُرشدك الطريق ، ولا يعلم هذا الأسلوب إلا من كان مُلماً بأساليب العزف والغناء .
سوف أروي لكم قصة حدثت في إحدى الحفلات : في إحدى حفلاته الخارجية التي كان الراحل يحيها بدأت الفرقة بالعزف ( أدليب) في أغنية راح الهوى وعلى النوتة الموسيقية ، وسقط سهواً لزمةً موسيقية معينة وعجزت الفرقة في تسليم الراحل أحمد قاسم المغنىَ وما كان منه إلا أن وضع العود على الكرسي وقال الحروف الموسيقية بأعلى صوته لحناً أي بمعنى وضع الحروف وغناها دون كلمات ( سي دو لا سي دو ) وهكذا فاستجابت الفرقة وأكملت الأغنية بتوجيه هذا الموسيقار العظيم .
رحل الموسيقار أحمد محمد قاسم عن الدنيا وترك لنا إرثاً وكنزاً ، ترك لنا سمفونيات تتعلم عليها الأجيال ، ترك لنا مدرسة واضحة سميت باسمه ، ننهل من معينها ونذكر زمناً وضع لبناته موسيقيار ومطرب وفنان بهامة وقامة الراحل / أحمد محمد قاسم . وحق له أن يفخر ويقول أنا من عدن ، أنا من عدن .
دمتم بخير ، مع أمل اللقاء بعلمٍ من أعلام الفن اليمني الأصيل
عصام صالح عمر
عدن كانت المُصدّر لكل شيئٍ جميل ، صدّرتْ البضائع ، والأدب ، والفن ، والموسيقى . عندما كنت صغيراً كانت أمي وخالاتي ، وعماتي يجتمعن وكلٍ يفتخر بما لديه ـ خالتي تُخرج قطعة قماش جميلة تسر الناظرين وتقول هذه من عدن ، وعمتي تُخرج حليةً من لؤلؤٍ وتقول هذه من عدن وجارتنا تُخرج رشرش منقوش (قلادة من ذهب ) وتقول هذه دقة عدنية أي نقش عدني ، كل هذه الأشياء من عدن مما بعث في النفس كثير من الحب لهذه البلد فكونت صورة ذهنية جميلة لها ، فعدن منذ الأزل وهي تجود بكل غالي ونفيس لتُمْتعْ الآخرين ، كانت أجمل الألحان وأعذبها نسمعها من إذاعة عدن ، تارة محمد مرشد ناجي وتارة محمد سعد عبد الله والجميلة رجاء با سودان أه وأهين على تلك الأيام ، قصصاً كانت تُروى عن هذه المدينة الحالمة ... كيف البحر يسامر ليلها ، وكيف اللؤلؤ يطفو على شاطئها طواعيةً ليُعلَق في جيد العذارى ، كيف أن شاطئها يحكي لك قصص حبٍ عن مبدعين وروّاد كانت عدن هي الملهم الأول لهم فقدموا الإبداع وأناروا الأفق بجميلِ إبداعهم . في تلك الفترة الفريدة
ذهبتُ إلى هناك وتجولت بين ميادينها ومساكنها الشعبية ، نافذةُ مفتوحة يخرج منها دخان المطابخ ورائحة طبخهم الجميل يداعب الأنوف ، ونافذة أخرى تسمع من خلالها أعذبَ الألحان ، والاجتماعَ المؤنسْ ، ما زلت أتذكر .... ما زلت أتذكر ... مشيت في طريق طويل تُطل عليه كثيرُ من الشرفات وإذا بي أسمعُ ذلك التغريد لفنانٍ له صوتُ جميل ، صوت ملك كل كياني جعلني أسبح في دنيا أللا وعي أوقعَ في قلبي مزيجاً من الشجن والفرح ، شنف آذاني وهِمتُ به وركزتُ على تلك الكلمات الجميلة واللحن الآسرْ ، وتملكني فضول غريب لأسأل عن ذلك المطرب ، فسألتْ فقالوا لي إنه الفنان / أحمد قاسم ...... كان يصدح بأغنية من أغانيه الجميلة ( من الُعُدين يالله بريح جلاب)
لا أخفيكم والله لقد بكيت وانتابتني موجة بكاء نابعة من قلبٍ يحترق ، بكاءُ طويل وشوق لم ينقطع وخصوصاً عندما كنت أسمع الصغار الذين كانوا يرددون وراءه ،
مــن العُدين يالله بريـــح جـــلاب
واللا ساعة تبــدي علوم الأحـباب
الناس رقود وأنا الفراش يجول بي
قلبي احترق لما العــذاب وربـــي
لا الصبح أتى ولا عرفتُ دربـي
ريح الضياع بالله عليك تهز بـي
كلمات ولحن تُخاطب الجوارح وتُحي المشاعر الخامدة ، هذه الأغنية هي مدخلنا لفنانٍ بقامة الرائع أحمد قاسم صاحب الروائع الخالدة ،
لو تعمقنا في هذه الأغنية لوجدنا اللحن عُزف بجمالية متقنة ، أختار لها مقام ( الرست على الدو ) وإيقاع شرح ، وهذا المقام بجانب الإيقاع قريب من الروح العدنية ، فداعب المشاعر وأثار الوجدان، الأغاني العدنية في الغالب من مذهب وكبليه فعندما قال :
الناس رقود وأنا الفراش يجول بي
قلبي احترق لمُ العذاب وا ربيانتقل إلى مساحة أعلى في نفس المقام والتي تعطيك كثير من الوجدانية والتصوير ، الغناء اليمني وأنا هنا أقصد الجنوبي ، تسيد الجزيرة العربية قبل عهد القمندان وتواترت ، وكانت دول الخليج تستقي من الألحان الجنوبية وتتأثر بها ، وبعضهم سطى على كثير من الألحان الجنوبية هذا ليس بموضوعنا الآن ، إذا أخذنا هذه الأغنية على المستوى الشعبي فستجدها أثرت في الداخل والخارج . ودعونا نستمع إلى هذه الأغنية المُعبرة
أحمد محمد قاسم هامة فنية وموسيقار كبير يُعدُ من أعمدة الفن اليمني بأسره وخصوصاً الجنوبي( مسقط رأسه) درس الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة ويُعد من العازفين المهرة على آلة العود له أسلوب خاص في العزف والتلحين ، يميزه عن الآخرين ، يميزه عن عمالقة الفن العربي ، إن كان فريد الأطرش ، أو محمد الموجي ، أو بليغ . .. أحمد قاسم له مدرسة خاصة عُرفت باسمه فرضها فرضاً بفنه وإبداعه لتكون بجانب المدارس الأخرى ، أشتهر الراحل احمد قاسم بعدة روائع من روائعه الخالدة من اجملها ( راح الهوى ، ويا عيباه ، وصدفة التقينا ) ( ومن العُدين ) التي هي بيت القصيد.
الموسيقار أحمد قاسم غنى كل الألوان اليمنية ، باستثناء بعض الألوان التي لم يجد نفسه فيها ، تأثر بالفن المصري وأسس مدرسته الخاصة ولكنه لم ينسلخ من ثوبه العدني الجميل ، كان لأحمد قاسم دور في تثقيف الذائقة العامة من خلال تقديمه لألحان ذات صبغة عربية محتفظة بأصالتها اليمنية الجنوبية ، بسبب احتكاكه بعمالقة الطرب والموسيقى بِدأً بعبد الوهاب ، ومروراً بالموجي ، ووصولاً إلى بليغ حمدي .
يمتاز صوت الموسيقار أحمد قاسم بالمساحة العريضة وقرار رخيم يصور المقام كلوحة فنية جميلة ، مساحة العُرب في صوته ممتدة مثل الُسُلّم يتدحرج اللحن داخل حنجرته بتمكن وانسياب إما صعوداً أو نزولاً وهكذا ... وقد شُبه صوته بصوت فريد الأطرش وهنا أنا وحسب رأي المتواضع اقول أن صوت الراحل أحمد قاسم يفوق صوت فريد من حيث المساحة ، فقد وهبه الله صوت جميل قارع به أساتذة الطرب والموسيقى في الوطن العربي .
في لقاءاته الفنية مع زملائه الفنانين كثير ما كان يفاجئهم ولا أريد أن أقول يحرجهم بأدائه ، فصال وجال في الوطن العربي ودول الخليج خاصة التي سجل فيها عدد من أغنياته . الموسيقار/ أحمد قاسم عندما كان يغني ، كان هو المايسترو والفنان ، والفرقة الموسيقية ، أقول لكم كيف ؟ كان يمسك العود وبالعود يقود الفرقة الموسيقية ، إذ أنك تسمع صوت العود طاغياً على الآلات كمن يُرشدك الطريق ، ولا يعلم هذا الأسلوب إلا من كان مُلماً بأساليب العزف والغناء .
سوف أروي لكم قصة حدثت في إحدى الحفلات : في إحدى حفلاته الخارجية التي كان الراحل يحيها بدأت الفرقة بالعزف ( أدليب) في أغنية راح الهوى وعلى النوتة الموسيقية ، وسقط سهواً لزمةً موسيقية معينة وعجزت الفرقة في تسليم الراحل أحمد قاسم المغنىَ وما كان منه إلا أن وضع العود على الكرسي وقال الحروف الموسيقية بأعلى صوته لحناً أي بمعنى وضع الحروف وغناها دون كلمات ( سي دو لا سي دو ) وهكذا فاستجابت الفرقة وأكملت الأغنية بتوجيه هذا الموسيقار العظيم .
رحل الموسيقار أحمد محمد قاسم عن الدنيا وترك لنا إرثاً وكنزاً ، ترك لنا سمفونيات تتعلم عليها الأجيال ، ترك لنا مدرسة واضحة سميت باسمه ، ننهل من معينها ونذكر زمناً وضع لبناته موسيقيار ومطرب وفنان بهامة وقامة الراحل / أحمد محمد قاسم . وحق له أن يفخر ويقول أنا من عدن ، أنا من عدن .
دمتم بخير ، مع أمل اللقاء بعلمٍ من أعلام الفن اليمني الأصيل
عصام صالح عمر