ابوسعدالنشوندلي
04-07-2010, 07:23 PM
بطل الخريبة:عبدالله بن محمدالعمودي(السني المطرود)
كتبه:ابوسعدالنشوندلي
تنبيه:بطل القصة شخصية واقعية,لكن احداث القصة والحوار من نسج خيال الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم ازاحت فيه الشمس لثامها,واسفرت فيه عن وجهها,واقبلت ترافق اشعتها قوافل تمضي الى الخريبة, إنها الخريبة أكبر مدن وادي دوعن الكبير ,وبعد ان حطّت رحالها اختلطت فيها الاصوات
السلام عليكم : مرحبا بكم يا قوم، من أين كل هذه القوافل جاءت ؟
إنها جاءت من مدن حضرموت الكثيرة , والآن حطّت رحالها في الخريبة
هل فيها من جديد ؟
فيها مختلف الطعام والشراب واللباس , لحظات ويقبل عليها التجار من جميع أطراف دوعن, ها هم الناس يتوافدون , لقد اختلطت الأصوات وتزاحم التجار , دعنا نبتعد قليلاً نجلس تحت ظل تلك الشجرة , فليس لنا في التجارة نصيب , انظر إلى ذلك الرجل , انه يتخطى الناس ولا يشتري شيئاً , غير أنه يتكلم معهم قليلاً ثم ينصرف , انه رجل تتفجّر ينابيع النور من وجهه .
ألم تعرف هذا الرجل بعد ؟
لا لم اعرفه
انه عبد الله بن محمد العمودي , واحد من الدعاة الصالحين في الخريبة حتى لقب عفيف الدين
اسكت انه اقبل نحونا
السلام عليكم ورحمة الله
حيّاك الله – يا أخي – ألا تجلس معنا تتحفنا بشيء مما فتح الله عليك
اخبراني : أليس لكما في التجارة نصيب ؟
كلا , وأنت لم تشترِ شيئاً , إنما مررت فنصحت ثم أقبلت علينا
إني أحب التجارة ولكنّ تجارتي تختلف عن هؤلاء
عن أي تجارة تتحدث ؟
إنها التجارة مع الله , جرّبتها فوجدتها رابحة
أصلحك الله – يا عفيف الدين – الناس في بيع وشراء وأنت تتحدث عن التجارة مع الله
من أحبّ الخير لنفسه أحبه لإخوانه هكذا أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بمحبة المسلمين جميعاً
ائذنوا لي بالانصراف فقد أقترب موعد آذان الظهر
علامَ تتعجل وأهل السوق في بيعهم لاهون ؟
أتراهم يتركون بيعهم ويلحقونك إلى المسجد ؟
من أراد الله به خيراً سيأتي
لقد ذهب , عجيب أمر هذا الرجل يدعو للخير في كل مكان , عسى الله أن يبقى هذا الرجل ضياء لأهل هذه البلدة
أسمعت الآذان؟ , انه صوت يعانق شعاب دوعن الصامتة هيا بنا للمسجد نصلي , ثم نستمع إلى حديث الشيخ عفيف الدين بعد الصلاة فإن لحديثه حلاوة في القلب
اسمعوني يا قوم : إن الله عز وجل أمرنا أن نعظّمه , وأن الحلف تعظيم فلا يكون إلا لله وحده , فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت
يا شيخنا عندي سؤال مهم
تفضل قل ما عندك
انتشر عندنا في الخريبة ودوعن تعظيم الحلف بالأولياء والصالحين وجاههم أكثر من تعظيمهم الحلف بالله, إنهم يعظّمون الحلف بجدك الشيخ سعيد بن عيسى العمودي أكثر من الحلف بالله – أقولها بلا حياء – هل هذا جائز ؟
لا يجوز هذا أبداً , بل من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك , هكذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم
قفْ عندك يا عفيف الدين لن ندعك تسبُّ الأولياء, ألم تعلم أن أهل دوعن في حفظ القطب والغوث سعيد بن عيسى, بل أن من في البحر إذا هاجت سفينتهم دعوه ولاذوا به لينقذهم من الغرق
اسمعني يا أخي : إن الحافظ هو الله , فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
تباً لك يا عفيف الدين , إنك تسب أولياءنا , وإن لم تمسك لسانك عنهم والله لا فضحن أمرك على الملأ وأشكوك إلى حاكم البلاد
هيا يا قوم قوموا وانصرفوا من مجلس عفيف الدين
إنا لله وإنا إليه راجعون , انصرف الناس جميعاً , مع أني ما قلت إلا الحق
شيخي عفيف الدين : نعم يا بني
لا تحزن , أدعوا الله أن يهديهم ويردهم للحق
اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون
هيا بنا نصرف إلى بيوتنا
كأنّ أحداً يطرق الباب ,
يا شيخ عفيف الدين : افتح الباب
مرحباً بك يا بني , حياك الله تفضل
يا له من بيت جميل متواضع !!
هل أعجبك ؟
نعم يا شيخي , مرّت أيام لم ترك عيني
فخفت عليك فطرقت بابك
مرضتُ أياماً حتى عجزت أن أقوم من فراشي, ولم يزرني أحد غيرك , ولكن أرى نفسي اليوم أفضل بكثير من مما مضى
إذن ستخرج معي إلى المسجد , ستصلي بنا إماماً ما أعظم فرحتي !
إن شاء الله ولا تتعجل , أمهلني قليلاً , سأتوضأ ونخرج سويا
ها هو المسجد يشتاق إليك , الحمد لله على سلامتك سأفتح لك الباب تقدم يا شيخي
انظر إلى أولئك النفر في زاوية المسجد كأنهم يتسارّون بينهم امرأ خطيراً
لقد تقدم أحدهم إلينا
اسمع يا عفيف الدين : سيكون الليلة في المسجد مولداً مع الدفوف كسائر مساجد حضرموت , فلسنا بأقل منهم شأناً وبعدها سنذكّر الناس بزيارة القطب سعيد بن عيسى غداً في قيدون
دعونا نصلي أولاً وسيقصي الله بعد ذلك أمراً
بعد أن صليتم اسمعوا مني نصيحة محب
قل ما عندك يا عفيف الدين
إن الله أمرنا أن نعبده بما شرع , لا أن نعبده بالخرافات والبدع والأهواء
عن أي البدع تتحدث ؟
أتحدّث عن هذه الموالد المحدثة , ما أمرنا رسول الله بها ولا فعلها أصحابه فهل أنتم خير من أصحاب رسول الله ؟
ولكن الموالد انتشرت في معظم مساجد حضرموت
إن الحق أحق أن يتبع , والحق لا يعرف بالكثرة قال تعالى: { وإن تطع من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..}
لن أستطيع أن أصبر على الشيخ عفيف الدين في الخريبة مرة يؤلّب الناس على الأولياء ومرة على الموالد , ما شأن هذا الرجل وماذا يدور في رأسه ؟ والله لأفجرنّ حرباً ضده , حتى يطرد من الخريبة
ماذا تقول ؟
نعم حتى نرتاح من هذيانه
اسمعوا يا قوم : غداّ سنجتمع رجالاً ونساءً لزيارة الشيخ سعيد بن عيسى في قيدون , لا يتأخرن أحد منكم
وماذا يحدث في هذه الزيارة ؟
يا عفيف الدين : أمور منكرة وضلال وخرافة و اختلاط للرجال والنساء في سفاهة , يدعون ميتاً ويذبحون له الذبائح من دون الله
اسمعوني : هل سنترك هؤلاء على ضلالهم وبدعهم ؟
وماذا في يدك يا عفيف الدين ؟
ندعوهم إلى توحيد الله كما فعل رسول الله
وهل تراهم سيستمعون إليك , إنها زيارة يجتمع فيها الناس كالذر, حتى العبيد يرقصون ويضربون طبولهم داخل المسجد ولا نكير عليهم
والله لن أدعهم على هذا الشرك والضلال
اربأ بنفسك , إنا نخاف أن يقتلوك
لن أدعهم أبداً حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
سأذهب معك يا شيخي
ابقَ هنا إني خائف عليك
وأنا خائف عليك أكثر مما أخاف على نفسي , لن أدعك أبداً خذني معك
إذاً غداً موعدنا إن شاء الله
أنظر يا بني : ما أكثر الناس في هذه الزيارة , شدوا لها الرجال من أماكن بعيدة , إنهم جاءوا للشيخ سعيد بن عيسى يسألونه المدد والرفد والغيث , أنظر لذاك الرجل إنه يتمسح بالقبرويبكي وذاك يذبح , أنظر لتلك النساء يرفعن أصواتهن بالدعاء للشيخ سعيد , أحداهن تحثو على رأسها من تراب القبر
يا لعجبي : أنظر إلى هؤلاء الأقوام إنهم دخلوا المسجد يضربون الطبول والدفوف وكأنهم في حفل بهيج اسمع ماذا يرددون بصوت واحد :
يا ولي الله جئنا إليك *** وطرحنا الذنب بين يديك
يا الهي أن هذا الشرك بالله , لقد أعادوا أفعال أهل الجاهلية , لقد عادت اللات والعزى في دوعن والله لأصرخنّ فيهم
يا شيخي : الموقف لا يحتمل دعنا نرجع بسلام إلى الخريبة
بل سأغضب لربي ولو كسّرت عظامي وقطّعت لساني
يا شيخي : أتراهم يسمعونك ؟
إن عليك إلا البلاغ
بأعلى صوتي : اسمعوني يا قوم :
من هذا الرجل الذي يصرخ ؟
لا أعرفه لعل شيئا ضاع عليه
يا قوم : اسمعوني قفوا , اسكتوا
قل ما عندك يا رجل , ماذا ضاع عليك ؟
لقد ضاع شيء عظيم لا يقدّر بثمن
أفزعتنا هيا تكلم يا رجل ماذا تنتظر ؟
كيف لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً بينكم
الجميع بصوت واحد : نكون أسعد الناس ؟
لكن رسول الله لن يسعد بما تفعلونه
لِمَ يا رجل ؟
إنكم أعدتم عبادة أهل الجاهلية تدعون ميتاً ,
وتذبحون لقبر وتضربون دفوفكم بالزوامل في أحب البقاع إلى الله
إننا نحب الأولياء والصالحين
وهل حب الأولياء يدعوكم إلى أن تغضبوا رب العالمين ؟
دعنا وما نقول , لقد عشنا سنوات طويلة قبل أن تولد على هذه الزيارات للأولياء , إنك حاقد هيا قم وأخرج من بيننا , اطردوه وإياك وأن نرى وجهك هنا ثانية
اسمعوني يا قوم :
قم لا سمع لك ولا طاعة ولولا أن جدّك الشيخ سعيد بن عيسى لأوجعناك ضرباً
أيها العبيد : اسحبوا هذا الرجل وارموه بعيداً وإن عاد افعلوا به كل قبيح
هيا يا قوم : عودوا إلى مناسك زيارتكم للشيخ سعيد واعلموا أن الشيخ سعيد غضب على هذا الرجل غضباً لم يغضب قبله أبداً
مهلاً أيها العبيد : إلى أين أنتم تسحبونني , قفوا قليلاً
سنرميك بعيداً , أفسدت زيارتنا بكلامك الغريب, آهٍ من زمن صار فيه الدين غريباً , وصار أهله غرباء
يا شيخي : هل أنت بخير ؟
نعم الحمد لله على كل حال
هذه راحلتك ,
قرّبها حتى إلى الخريبة عمّرها الله بالسنة
هل أنت حزين يا شيخي ؟
إني حزين على هذا الضلال الجارف حتى غدا بحراً هائجاً شاب عليه الصغير وهرم عليه الكبير
حسبك يا شيخي : إلى هنا يكفيك فقد بلغت , فوّض أمرهم إلى الله
يا بني : إن تركناهم لن يتركونا , تلك سنة الله أن الحق والباطل لا يتآلفان أبداً
ولكن قل لي : ما حيلتك أن تفعل؟ وهذا واقع حضرموت من شرقها إلى غربها تقديس الأولياء
أنظر إنها ديار الخريبة أطلّت علينا , ساراك بإذن الله قريباً
مضت أياماً وأنا لا أدري ما جرى لأهل الخريبة ؟
لا يكلمني أحد ولا يسلمون عليّ ومنعوني أن أصلي بهم إماماً
سأذهب إلى السوق لأشتري بعض الطعام
قف يا أخي : لماذا لا يكلمني الناس ؟ ماذا جرى لهم حتى أنت لا تجيب
صرت غريباً بكل ما تحويه الكلمة من جراح وألم
اسمعني : بعني طعاماً من هذا ؟
ومع ذلك لا تتكلم
لا تحزن يا شيخي
من يتكلم خلفي ؟
يا شيخي : الجميع هنا نصبوا لك مجانيق العدا والحرب,ويعدون العدة لحرق كتبك وطردك من البلاد
لماذا يحاربونني ؟
لأنك فارس سني تحارب البدع والخرافات
وماذا يضيرهم ذلك ؟
إنه جهل أعمى البصيرة, وعادات باطلة راسخة أرساها الشيطان الرجيم
إن كان الأمر كذلك لا طاقة لي بالعيش في الخريبة بعد اليوم
الى أين سترحل ؟
أرض الله واسعة, وطريق الحق مفروش بالتضحيات سأهاجر, نعم سأرحل يا بني
ترّيث يا شيخي إلى أين ترحل , هذا واقع حضرموت كلها
قف خذني معك , تكلم , اجبني , حطّم قيود صمتك اسمعني شيئاً
استودعك الله يا بني , عسى الله أن يجمعني بك عن قريب
وهل ترانا سنجتمع من جديد وأنت سترحل عن حضرموت ؟
إن لم نجتمع اليوم سنجتمع غداً
أين ؟ اخبرني أين انتظرك ؟
في الجنة جعلها الله مثوانا جميعاً
إن كان قد عزفي الدنيا اللقاء بكم *** ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ما هذه الدموع , كفكف دموعك يا شيخي , لا أتمالك نفسي أمام طوفان دموعك
أنا لا أبكي على نفسي ولكن أبكي على الخريبة وأهلها؟ وهي تغرق أمام عيني ولم استطع جرّ سفينتها إلى برِّ الأمان
أحسُّ أن دموعي تغلي في قدور عيني , أحسها تحرق خدي , كمداً على أرضي الخريبة
يا شيخي : انك معذور فأنت فرد واحدلانصيرلك
وهل سيعذرني ربي غداً إذا وقفت بين يديه
هيا قرب راحلتي وناولني زمامها
أطابت نفسك أن تتركني ؟
دعني أهاجر إلى الله ؟فإن الهجرة لا تنقطع حتى تقوم الساعة أو يجعل الله لحضرموت فرجاً قريباً
اخبرني : أي الجهات ستهاجر إليها ؟
سأمضي إلى أي جهة من جهات اليمن الكبير , لعل الله أن يعوّضني بقوم صالحين لا أرى بينهم ظلمات البدع
شيخي : قبيل رحيلك أوصني
أوصيك أن تستقيم وتثبت على دين الله , لن أجد وصية أبلغ منها
وأبشرك ببشارة عظيمة
عجباً ونحن في وسط هذا الكهف المظلم
نعم إن كتب الله نصراً للسنة وأهلها في حضرموت سنعود جميعاً
أحقيق ما تقول ؟
نعم سنعود بإذن الله وإن لم ترجع أجسادنا سترجع قلوبنا , أحسُّ أن الفجر قادم ويمزق ثياب البدع , لكأني اسمع صوته يداعب أوتار قلبي الدامي , أحسه يمسح دموعي, هيا يا بني تعال أعانقك قبل أن أرحل
ومضيت يا شيخي عفيف الدين حتى غبتَ عن عيني, غير أن سيرتك لن ترحل عن خاطري أبدا, سأضل كل يوم أرمق السماء , انتظر الأمل الباسم وأحِنّ لفجر السنة القادم
غداً ستشرق شمس السنة في حضرموت!
الخاتمة :
إنها سيرة عطرة , وذكريات نضرة , لبطل الخريبة : عبد الله بن محمد بن عثمان العمودي – رحمه الله – الرجل الذي وصفه بعض المؤرخين بأنه أحيا السنة وأطفأ البدعة,حتى كاد ان يقتل, فهاجر إلى ذمار وتوفي بها سنة 840هـ محزوناً على دينه مكلوماً على وطنه الغارق تحت ركام البدع
وجئنا اليوم بعد ما يزيد عن 500 سنة من وفاته نزجي عبير قصته المنسية , ونقدم للأجيال سحابة من عطر وصفحات من تضحيات دفنت تحت ركام النسيان
وشهادة للتاريخ امطر يراعنا سحباً من حياته أضحت نجوماً تتألق في سماء حضرموت الفسيحة, كلما أفل نجم هنا , سطع نجم هنالك
علماً أنّ في سماء حضرموت نجوماً كثيرة , صارت اليوم حياتهم منسية وتنتظر من ينقّب عنها ويعيد بريقها رحمة الله تترى على ذاك الجسد الطاهر الذي مضى قلعة ثابتة ,وترك للأجيال بصمة قوية لا تمحوها أرضة الزمن , وما أجمل قول الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
أسأل الله أن يسكنه فسيح جناته وأن يجزيه عنا خيراً ويجمعنا به في جنات النعيم .. اللهم آمين .
كتبه
ابوسعدالنشوندلي
[email protected]
22/4/1431هـ
كتبه:ابوسعدالنشوندلي
تنبيه:بطل القصة شخصية واقعية,لكن احداث القصة والحوار من نسج خيال الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم ازاحت فيه الشمس لثامها,واسفرت فيه عن وجهها,واقبلت ترافق اشعتها قوافل تمضي الى الخريبة, إنها الخريبة أكبر مدن وادي دوعن الكبير ,وبعد ان حطّت رحالها اختلطت فيها الاصوات
السلام عليكم : مرحبا بكم يا قوم، من أين كل هذه القوافل جاءت ؟
إنها جاءت من مدن حضرموت الكثيرة , والآن حطّت رحالها في الخريبة
هل فيها من جديد ؟
فيها مختلف الطعام والشراب واللباس , لحظات ويقبل عليها التجار من جميع أطراف دوعن, ها هم الناس يتوافدون , لقد اختلطت الأصوات وتزاحم التجار , دعنا نبتعد قليلاً نجلس تحت ظل تلك الشجرة , فليس لنا في التجارة نصيب , انظر إلى ذلك الرجل , انه يتخطى الناس ولا يشتري شيئاً , غير أنه يتكلم معهم قليلاً ثم ينصرف , انه رجل تتفجّر ينابيع النور من وجهه .
ألم تعرف هذا الرجل بعد ؟
لا لم اعرفه
انه عبد الله بن محمد العمودي , واحد من الدعاة الصالحين في الخريبة حتى لقب عفيف الدين
اسكت انه اقبل نحونا
السلام عليكم ورحمة الله
حيّاك الله – يا أخي – ألا تجلس معنا تتحفنا بشيء مما فتح الله عليك
اخبراني : أليس لكما في التجارة نصيب ؟
كلا , وأنت لم تشترِ شيئاً , إنما مررت فنصحت ثم أقبلت علينا
إني أحب التجارة ولكنّ تجارتي تختلف عن هؤلاء
عن أي تجارة تتحدث ؟
إنها التجارة مع الله , جرّبتها فوجدتها رابحة
أصلحك الله – يا عفيف الدين – الناس في بيع وشراء وأنت تتحدث عن التجارة مع الله
من أحبّ الخير لنفسه أحبه لإخوانه هكذا أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بمحبة المسلمين جميعاً
ائذنوا لي بالانصراف فقد أقترب موعد آذان الظهر
علامَ تتعجل وأهل السوق في بيعهم لاهون ؟
أتراهم يتركون بيعهم ويلحقونك إلى المسجد ؟
من أراد الله به خيراً سيأتي
لقد ذهب , عجيب أمر هذا الرجل يدعو للخير في كل مكان , عسى الله أن يبقى هذا الرجل ضياء لأهل هذه البلدة
أسمعت الآذان؟ , انه صوت يعانق شعاب دوعن الصامتة هيا بنا للمسجد نصلي , ثم نستمع إلى حديث الشيخ عفيف الدين بعد الصلاة فإن لحديثه حلاوة في القلب
اسمعوني يا قوم : إن الله عز وجل أمرنا أن نعظّمه , وأن الحلف تعظيم فلا يكون إلا لله وحده , فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت
يا شيخنا عندي سؤال مهم
تفضل قل ما عندك
انتشر عندنا في الخريبة ودوعن تعظيم الحلف بالأولياء والصالحين وجاههم أكثر من تعظيمهم الحلف بالله, إنهم يعظّمون الحلف بجدك الشيخ سعيد بن عيسى العمودي أكثر من الحلف بالله – أقولها بلا حياء – هل هذا جائز ؟
لا يجوز هذا أبداً , بل من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك , هكذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم
قفْ عندك يا عفيف الدين لن ندعك تسبُّ الأولياء, ألم تعلم أن أهل دوعن في حفظ القطب والغوث سعيد بن عيسى, بل أن من في البحر إذا هاجت سفينتهم دعوه ولاذوا به لينقذهم من الغرق
اسمعني يا أخي : إن الحافظ هو الله , فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
تباً لك يا عفيف الدين , إنك تسب أولياءنا , وإن لم تمسك لسانك عنهم والله لا فضحن أمرك على الملأ وأشكوك إلى حاكم البلاد
هيا يا قوم قوموا وانصرفوا من مجلس عفيف الدين
إنا لله وإنا إليه راجعون , انصرف الناس جميعاً , مع أني ما قلت إلا الحق
شيخي عفيف الدين : نعم يا بني
لا تحزن , أدعوا الله أن يهديهم ويردهم للحق
اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون
هيا بنا نصرف إلى بيوتنا
كأنّ أحداً يطرق الباب ,
يا شيخ عفيف الدين : افتح الباب
مرحباً بك يا بني , حياك الله تفضل
يا له من بيت جميل متواضع !!
هل أعجبك ؟
نعم يا شيخي , مرّت أيام لم ترك عيني
فخفت عليك فطرقت بابك
مرضتُ أياماً حتى عجزت أن أقوم من فراشي, ولم يزرني أحد غيرك , ولكن أرى نفسي اليوم أفضل بكثير من مما مضى
إذن ستخرج معي إلى المسجد , ستصلي بنا إماماً ما أعظم فرحتي !
إن شاء الله ولا تتعجل , أمهلني قليلاً , سأتوضأ ونخرج سويا
ها هو المسجد يشتاق إليك , الحمد لله على سلامتك سأفتح لك الباب تقدم يا شيخي
انظر إلى أولئك النفر في زاوية المسجد كأنهم يتسارّون بينهم امرأ خطيراً
لقد تقدم أحدهم إلينا
اسمع يا عفيف الدين : سيكون الليلة في المسجد مولداً مع الدفوف كسائر مساجد حضرموت , فلسنا بأقل منهم شأناً وبعدها سنذكّر الناس بزيارة القطب سعيد بن عيسى غداً في قيدون
دعونا نصلي أولاً وسيقصي الله بعد ذلك أمراً
بعد أن صليتم اسمعوا مني نصيحة محب
قل ما عندك يا عفيف الدين
إن الله أمرنا أن نعبده بما شرع , لا أن نعبده بالخرافات والبدع والأهواء
عن أي البدع تتحدث ؟
أتحدّث عن هذه الموالد المحدثة , ما أمرنا رسول الله بها ولا فعلها أصحابه فهل أنتم خير من أصحاب رسول الله ؟
ولكن الموالد انتشرت في معظم مساجد حضرموت
إن الحق أحق أن يتبع , والحق لا يعرف بالكثرة قال تعالى: { وإن تطع من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..}
لن أستطيع أن أصبر على الشيخ عفيف الدين في الخريبة مرة يؤلّب الناس على الأولياء ومرة على الموالد , ما شأن هذا الرجل وماذا يدور في رأسه ؟ والله لأفجرنّ حرباً ضده , حتى يطرد من الخريبة
ماذا تقول ؟
نعم حتى نرتاح من هذيانه
اسمعوا يا قوم : غداّ سنجتمع رجالاً ونساءً لزيارة الشيخ سعيد بن عيسى في قيدون , لا يتأخرن أحد منكم
وماذا يحدث في هذه الزيارة ؟
يا عفيف الدين : أمور منكرة وضلال وخرافة و اختلاط للرجال والنساء في سفاهة , يدعون ميتاً ويذبحون له الذبائح من دون الله
اسمعوني : هل سنترك هؤلاء على ضلالهم وبدعهم ؟
وماذا في يدك يا عفيف الدين ؟
ندعوهم إلى توحيد الله كما فعل رسول الله
وهل تراهم سيستمعون إليك , إنها زيارة يجتمع فيها الناس كالذر, حتى العبيد يرقصون ويضربون طبولهم داخل المسجد ولا نكير عليهم
والله لن أدعهم على هذا الشرك والضلال
اربأ بنفسك , إنا نخاف أن يقتلوك
لن أدعهم أبداً حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
سأذهب معك يا شيخي
ابقَ هنا إني خائف عليك
وأنا خائف عليك أكثر مما أخاف على نفسي , لن أدعك أبداً خذني معك
إذاً غداً موعدنا إن شاء الله
أنظر يا بني : ما أكثر الناس في هذه الزيارة , شدوا لها الرجال من أماكن بعيدة , إنهم جاءوا للشيخ سعيد بن عيسى يسألونه المدد والرفد والغيث , أنظر لذاك الرجل إنه يتمسح بالقبرويبكي وذاك يذبح , أنظر لتلك النساء يرفعن أصواتهن بالدعاء للشيخ سعيد , أحداهن تحثو على رأسها من تراب القبر
يا لعجبي : أنظر إلى هؤلاء الأقوام إنهم دخلوا المسجد يضربون الطبول والدفوف وكأنهم في حفل بهيج اسمع ماذا يرددون بصوت واحد :
يا ولي الله جئنا إليك *** وطرحنا الذنب بين يديك
يا الهي أن هذا الشرك بالله , لقد أعادوا أفعال أهل الجاهلية , لقد عادت اللات والعزى في دوعن والله لأصرخنّ فيهم
يا شيخي : الموقف لا يحتمل دعنا نرجع بسلام إلى الخريبة
بل سأغضب لربي ولو كسّرت عظامي وقطّعت لساني
يا شيخي : أتراهم يسمعونك ؟
إن عليك إلا البلاغ
بأعلى صوتي : اسمعوني يا قوم :
من هذا الرجل الذي يصرخ ؟
لا أعرفه لعل شيئا ضاع عليه
يا قوم : اسمعوني قفوا , اسكتوا
قل ما عندك يا رجل , ماذا ضاع عليك ؟
لقد ضاع شيء عظيم لا يقدّر بثمن
أفزعتنا هيا تكلم يا رجل ماذا تنتظر ؟
كيف لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً بينكم
الجميع بصوت واحد : نكون أسعد الناس ؟
لكن رسول الله لن يسعد بما تفعلونه
لِمَ يا رجل ؟
إنكم أعدتم عبادة أهل الجاهلية تدعون ميتاً ,
وتذبحون لقبر وتضربون دفوفكم بالزوامل في أحب البقاع إلى الله
إننا نحب الأولياء والصالحين
وهل حب الأولياء يدعوكم إلى أن تغضبوا رب العالمين ؟
دعنا وما نقول , لقد عشنا سنوات طويلة قبل أن تولد على هذه الزيارات للأولياء , إنك حاقد هيا قم وأخرج من بيننا , اطردوه وإياك وأن نرى وجهك هنا ثانية
اسمعوني يا قوم :
قم لا سمع لك ولا طاعة ولولا أن جدّك الشيخ سعيد بن عيسى لأوجعناك ضرباً
أيها العبيد : اسحبوا هذا الرجل وارموه بعيداً وإن عاد افعلوا به كل قبيح
هيا يا قوم : عودوا إلى مناسك زيارتكم للشيخ سعيد واعلموا أن الشيخ سعيد غضب على هذا الرجل غضباً لم يغضب قبله أبداً
مهلاً أيها العبيد : إلى أين أنتم تسحبونني , قفوا قليلاً
سنرميك بعيداً , أفسدت زيارتنا بكلامك الغريب, آهٍ من زمن صار فيه الدين غريباً , وصار أهله غرباء
يا شيخي : هل أنت بخير ؟
نعم الحمد لله على كل حال
هذه راحلتك ,
قرّبها حتى إلى الخريبة عمّرها الله بالسنة
هل أنت حزين يا شيخي ؟
إني حزين على هذا الضلال الجارف حتى غدا بحراً هائجاً شاب عليه الصغير وهرم عليه الكبير
حسبك يا شيخي : إلى هنا يكفيك فقد بلغت , فوّض أمرهم إلى الله
يا بني : إن تركناهم لن يتركونا , تلك سنة الله أن الحق والباطل لا يتآلفان أبداً
ولكن قل لي : ما حيلتك أن تفعل؟ وهذا واقع حضرموت من شرقها إلى غربها تقديس الأولياء
أنظر إنها ديار الخريبة أطلّت علينا , ساراك بإذن الله قريباً
مضت أياماً وأنا لا أدري ما جرى لأهل الخريبة ؟
لا يكلمني أحد ولا يسلمون عليّ ومنعوني أن أصلي بهم إماماً
سأذهب إلى السوق لأشتري بعض الطعام
قف يا أخي : لماذا لا يكلمني الناس ؟ ماذا جرى لهم حتى أنت لا تجيب
صرت غريباً بكل ما تحويه الكلمة من جراح وألم
اسمعني : بعني طعاماً من هذا ؟
ومع ذلك لا تتكلم
لا تحزن يا شيخي
من يتكلم خلفي ؟
يا شيخي : الجميع هنا نصبوا لك مجانيق العدا والحرب,ويعدون العدة لحرق كتبك وطردك من البلاد
لماذا يحاربونني ؟
لأنك فارس سني تحارب البدع والخرافات
وماذا يضيرهم ذلك ؟
إنه جهل أعمى البصيرة, وعادات باطلة راسخة أرساها الشيطان الرجيم
إن كان الأمر كذلك لا طاقة لي بالعيش في الخريبة بعد اليوم
الى أين سترحل ؟
أرض الله واسعة, وطريق الحق مفروش بالتضحيات سأهاجر, نعم سأرحل يا بني
ترّيث يا شيخي إلى أين ترحل , هذا واقع حضرموت كلها
قف خذني معك , تكلم , اجبني , حطّم قيود صمتك اسمعني شيئاً
استودعك الله يا بني , عسى الله أن يجمعني بك عن قريب
وهل ترانا سنجتمع من جديد وأنت سترحل عن حضرموت ؟
إن لم نجتمع اليوم سنجتمع غداً
أين ؟ اخبرني أين انتظرك ؟
في الجنة جعلها الله مثوانا جميعاً
إن كان قد عزفي الدنيا اللقاء بكم *** ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
ما هذه الدموع , كفكف دموعك يا شيخي , لا أتمالك نفسي أمام طوفان دموعك
أنا لا أبكي على نفسي ولكن أبكي على الخريبة وأهلها؟ وهي تغرق أمام عيني ولم استطع جرّ سفينتها إلى برِّ الأمان
أحسُّ أن دموعي تغلي في قدور عيني , أحسها تحرق خدي , كمداً على أرضي الخريبة
يا شيخي : انك معذور فأنت فرد واحدلانصيرلك
وهل سيعذرني ربي غداً إذا وقفت بين يديه
هيا قرب راحلتي وناولني زمامها
أطابت نفسك أن تتركني ؟
دعني أهاجر إلى الله ؟فإن الهجرة لا تنقطع حتى تقوم الساعة أو يجعل الله لحضرموت فرجاً قريباً
اخبرني : أي الجهات ستهاجر إليها ؟
سأمضي إلى أي جهة من جهات اليمن الكبير , لعل الله أن يعوّضني بقوم صالحين لا أرى بينهم ظلمات البدع
شيخي : قبيل رحيلك أوصني
أوصيك أن تستقيم وتثبت على دين الله , لن أجد وصية أبلغ منها
وأبشرك ببشارة عظيمة
عجباً ونحن في وسط هذا الكهف المظلم
نعم إن كتب الله نصراً للسنة وأهلها في حضرموت سنعود جميعاً
أحقيق ما تقول ؟
نعم سنعود بإذن الله وإن لم ترجع أجسادنا سترجع قلوبنا , أحسُّ أن الفجر قادم ويمزق ثياب البدع , لكأني اسمع صوته يداعب أوتار قلبي الدامي , أحسه يمسح دموعي, هيا يا بني تعال أعانقك قبل أن أرحل
ومضيت يا شيخي عفيف الدين حتى غبتَ عن عيني, غير أن سيرتك لن ترحل عن خاطري أبدا, سأضل كل يوم أرمق السماء , انتظر الأمل الباسم وأحِنّ لفجر السنة القادم
غداً ستشرق شمس السنة في حضرموت!
الخاتمة :
إنها سيرة عطرة , وذكريات نضرة , لبطل الخريبة : عبد الله بن محمد بن عثمان العمودي – رحمه الله – الرجل الذي وصفه بعض المؤرخين بأنه أحيا السنة وأطفأ البدعة,حتى كاد ان يقتل, فهاجر إلى ذمار وتوفي بها سنة 840هـ محزوناً على دينه مكلوماً على وطنه الغارق تحت ركام البدع
وجئنا اليوم بعد ما يزيد عن 500 سنة من وفاته نزجي عبير قصته المنسية , ونقدم للأجيال سحابة من عطر وصفحات من تضحيات دفنت تحت ركام النسيان
وشهادة للتاريخ امطر يراعنا سحباً من حياته أضحت نجوماً تتألق في سماء حضرموت الفسيحة, كلما أفل نجم هنا , سطع نجم هنالك
علماً أنّ في سماء حضرموت نجوماً كثيرة , صارت اليوم حياتهم منسية وتنتظر من ينقّب عنها ويعيد بريقها رحمة الله تترى على ذاك الجسد الطاهر الذي مضى قلعة ثابتة ,وترك للأجيال بصمة قوية لا تمحوها أرضة الزمن , وما أجمل قول الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
أسأل الله أن يسكنه فسيح جناته وأن يجزيه عنا خيراً ويجمعنا به في جنات النعيم .. اللهم آمين .
كتبه
ابوسعدالنشوندلي
[email protected]
22/4/1431هـ