طه الحسين
07-21-2010, 12:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام السيوطي: ألّف الإمام السيوطي رسالة سماها "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر" وقف عليها الإمام اللكنوي، وطبعت أكثر من مرة ضمن الجزء الثاني من كتاب "الحاوى للفتاوى" للإمام السيوطي. ومما قاله الإمام السيوطي حول هذه المسألة: »الذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر فدل الحديث على جوازه«.وقال أيضا: »وجه الاستدلال بهذين الحديثين أنه إنما يقال ذلك عند الجهر لا عند السر«.
الشيخ عبد الحق الدهلوي: أورد في رسالته المسماة بـ"توصيل المريد إلى المراد، ببيان أحكام الأحزاب والأوراد" كلاما طويلا بالفارسية في جوازه وقد ذكره الإمام اللكنوى معربا نذكر مـنه:»الجهر والإعلان بالذكر والتلاوة والاجتماع للذكر في المجالس والمساجد جائز ومشروع لحديث ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه))، وقوله تعالى اذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة/200] أيضا يمكن دليلا له، وفي صحيح البخاري: ((كنا لا نعرف انصراف الناس من الصلاة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا بالذكر جهرا)).
وفي الصحيح: أنهم: ((كانوا يجهرون بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، وجاء في بعض الروايات تخصيصه بالفجر والمغرب.
فأما الاجتماع للذكر بانفراد فهو ثابت من حديث متفق عليه، ومن رواية أبي هريرة مرفوعا ((إن لله ملائكـة يطوفون في الطرق…))، وفي رواية: ((وما جلس قوم مسلمون مجلسا يذكـرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة)).
وتأويل الذكر بمذاكرة العلم وآلاء الله تعالى بعيد، ولا يجوز حمل اللفظ على خلاف المتبادر إلى الذهن من غير ضرورة«
ولا يقال: لا يلزم من اجتماع قوم للذكر جهرهم بالذكر لجواز أن يكون ذكر كل منهم سرا على حدة. لأنا نقول: إذا كان الذكر سرا، فلا يظهر للاجتماع فائدة معتد بها.
وأما الاجتماع للتلاوة فهو ثابت من حديث: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يقرؤون القرآن، ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)). ومن هاهنا أخذوا جواز قراءة الأحزاب في المساجد والمجالس.
وذهب مالك وأصحابه إلى كراهة جميع هذه الأمور لعدم عمل السلف بها، ولسدّ الذرائع، وقطع مواد البدعة، لئلا تلزم الزيادة في الدين والخروج عن الحق المبين، وقد وقع في زماننا هذا ما خافه واتقاه...اهـ
الإمام اللكنوى: بعد أن ذكر أحاديث القائلين بالجواز قال: »فهذه أحاديث صحيحة يظهر منها من نظائرها صراحة أو إشارة أن لا كراهة في الجهر بالذكر (والاجتماع عليه) بل فيها ما يدل على جوازه، أو استحبابه، كيف لا والجهر بالذكر له أثر في ترقيق القلوب، ما ليس في السر.
نعم الجهر المفرط ممنوع شرعا، وكذا الجهر غير المفرط إذا كان فيه إيذاء لأحد من نائم أو مصل، أو حصلت فيه شبهة رياء أو لوحظت فيه خصوصيات غير مشروعة أو التزام كالتزام الملتزمات، فكم من مباح يصير بالالتزام -من غير لزوم- والتخصيص -من غير مخصص- مكروها، كما صرّح به علي القارئ في "شرح المشكاة" والحصكفي في "الدر المختار"«.
العلامة عبد الفتاح أبو غدة: قال رحمه الله: »وقد ذهب بعض العلماء إلى منع الجهر بالذكر منفردا أو بجماعة ولكن الحق جوازه ومشروعيته لشروطه، كما حققه الإمام اللكنوي في هذه الرسالة والإمام السيوطي قبله«.
الدكتور محمد بن عبد الكريم: قـال: »والمعترض على الذكر جماعة محجوج بحجتين اثنتين:
الحجة الأولى: أن الكتاب والسنة قد أطلقا الذكر، ولم يقيداه بالفرد أو الجماعة بل أمرا به الإنسان تارة بصيغة المفرد، وتارة بصيغة الجمع، ومن هنا أصبحت كيفية أداء الذكر مباحة، اعتمادا على القاعدة الأصولية التي تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يأتي دليل من الكتاب أو السنة بوجوبها أو تحريمها"«.
الحجة الثانية: أن بعض الأحاديث النبوية تشير إلى استحباب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)). وقال أيضا عندما خرج على حلقة من أصحابه كانوا بالمسجد: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، نحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة)).
وقال أيضا: ((لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وقال (ص): ((…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله... )). أدلة القائلين بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه والتعقيب على استدلالاتهم:
استدل القائلون بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه بأدلة كثيرة منها:
1/ قوله تعالى ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)[الأعراف/205] فإن هذه الآية تدل بالذكر خفية فيكون الجهر به ممنوعا إلا فيما ورد به النص.
والجواب على هذا الاستدلال بوجوه:
-هذا الأمر ليس للافتراض أو الوجوب حتى يحرم ضده أو يكره، بل هو أمر إرشادي يرشدك إليه قوله تعـــالى:?تضرعا وخيفة?.
-هذه الآية محمولة على سامع القرآن كما يدل عليه اتصاله بقوله تعالى:? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف/204] فالمعنى: "اذكر ربك أيها المنصت في نفسك تضرعا وخيفة"، وكذا أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابـن زيد، وقال السيوطي في "نتيجة الفكر": »كأنه لما أمر بالإنصات، خشي من ذلك البطالة فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالإنصات، إلا أنه يكلف بالذكر القلبي حتى لا يغفل عن ذكر الله تعالى، ولذا ختم بقوله وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِـلِـيـنَ)، فلا دلالة في الآية على منع الجهر.
-هذه الآية تدل على إثبات الجهر غير المفـرط، لا على منعه، ومعنى قوله وَدُونَ الْجَهْرِ) المفرط، والمراد منه أن يقع الذكر بحيث يكون بين المخافتة والجهر، كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)[الإسراء/110]. وعلى هذا تدل الآية على جواز السر والجهر كليهما، وأفضلية السر للتضرع والخفية.
2/ روى ابن شيبة وأحمد بن حنبل وابن مردويه والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: ((كنا مع رسول الله (ص) في غزاة، فجعلنا لا نهبط واديا ولا نصعد شرفا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، فدنا منا وقال: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنمـا تدعــون سميعا بصيرا، إن الذين تدعون أقرب إليكم من عنق راحلة أحدكم)).
قال النووي في شـرح صحيح مسلم: »قوله (اربعوا) بهمزة وصل، وفتح الباء الموحدة، معناه: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد حتى يخاطبه ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع«.
والجواب عنه من وجوه:
-أن الأمر من "اربعوا" ليس للوجوب حتى يكره الجهر أو يحرم وكيف ومعنى الربع ينبئ عن أن الأمر إنما هو للتيسير عليهم، ولذا قال الشيخ الدهلوي في "اللمعات شرح المشكاة": »في قوله "اربعوا" إشارة إلى المنع من الجهر للتيسير والإرفاق، لا لكون الجهر غير مشروع«؛ فلا يثبت من ذلك استحباب السر، ولا كلام فيه.
-بأن جهرهم كان مفرطا كما يدل عليه سياق بعض الروايات قال في "فتح الورود شرح سنن أبي داود": »في قوله: "رفعوا أصواتهم" دلالة على أنهم بالغوا في الجهر، فلا يلزم منه منع الجهر مطلقا«.
-هو أنه لم يمنعهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل أقرهم عليه، ليفهموا أن رفع الصوت بالذكر في السفر، أو عند صعود الثنية مسنون، فإن السنية كما تثبت بالقول والفعل، كذلك تثبت بالتقرير. فلذلك نهى رسول الله سدا للذرائع، وتيسيرا على الأمة، ولا دلالة على منع الجهر مطلقا كما لا يخفى.
3/ ومنها قوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء/110].
والجواب عنه بوجوه:
-هذه الآية لم تمنع الجهر مطلقا، بل الجهر المفرط لقوله وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) فكانت دليلا للمجوزين لا للمانعين.
-هذه الآية نزلت لما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مختفيا بمكة، فكان إذا صلى جهر فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وقـال: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ) أي بقراءتك القرآن في الصلاة، لئلا يسمعه المشركون فيسبونه: ( وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ ) أي الجهر الجهير والسر الكثير (سَبِيلاً).
كذا أخرجه البخاري والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عباس. فالمنع إنما كان لإيذاء المشركين وسبهم، وقد زال هذا فيزول المنع أيضا.
4/ ومن أدلة المانعين: (إخراج ابن مسعود رافعي أصواتهم في المساجد وقوله لهم: ما أراكم إلا مبتدعين).
والجوب عن ذلك من وجوه:
-أن هذا الأثر وإن ذكره جمع من الفقهاء، لم يوجد له أثر في كتب الحديث، بل الثابت خلافه. قال السيوطي في "نتيجة الفكر": »هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الحفاظ في كتبهم، ورأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، وهو ما رواه ابن حنبل في كتاب "الزهد" حدثنا حسين بن محمد بسنده عن أبي وائل قال: ((هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا وذكر الله فيه)).
-أنه على تقدير ثبوته معارض بالأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز الجهر غير المفرط، وهي مقدمة عليه عند التعارض.
-الإخراج من المسجد لو نسب إليه بطريق الحقيقة، يجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم العبادة فيه، ولتعليم الناس أنه بدعة، والفعل الجائز يجوز أن يكون غير جائز لغرض يلحقه، فكذا غير الجائز يجوز أن يجوز لغرض، كما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأفضل تعليما للجواز.
5/ ومن أدلة المانعين ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن حبان وأحمد في مسنده، عن سعد بن مالك بسند صحيح مرفوعا: ((خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي)) فإن هذا الحديث يدل على أن الذكر الجهري شر، والشر لا يكون إلا حراما أو مكروها.
والجواب عنه: أن هذا لا يدل على منع الجهر، بل على أفضلية السر ولا كلام فيه، وذلك لأن لفظ الخير له استعمالات:
أحدها: أن يراد به معنى التفضيل، وضده حينئذ شر.
ثانيها: أن يراد به معنى الأفضلية، وحينئذ فأصله أخير. وقد سئل السيوطي عن حديث: ((حياتي خير لكم ومماتي خير لكم)): كيف يمكن أن يكون كل منهما خيرا من الآخر.
فأجاب: بأن للخير استعمالين، فالخير في هذا الحديث للاستعمال الأول، فيراد به التفضيل لا الأفضلية، والمقصود أن في كل من حياته وموته (صلى الله عليه وسلم) خير. إذا عرفت هذا فنقول: الخير في قوله: ((خير الذكر الخفي)) ليس بالمعنى الأول، بل بالمعنى الثاني، فيكون المطلوب أن في الذكر الخفي زيادة خير، وفي الجهر أقل منه لا أن الجهر شر كما فهم المستدل.
هذا ونسأل الله تعالى أن ينفع قارئ هذه البحث ويوفقه للعمل به إنه على ذلك لقدير، وبالإجابة لجدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
tawhidallahakbrsallalah
الإمام السيوطي: ألّف الإمام السيوطي رسالة سماها "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر" وقف عليها الإمام اللكنوي، وطبعت أكثر من مرة ضمن الجزء الثاني من كتاب "الحاوى للفتاوى" للإمام السيوطي. ومما قاله الإمام السيوطي حول هذه المسألة: »الذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر فدل الحديث على جوازه«.وقال أيضا: »وجه الاستدلال بهذين الحديثين أنه إنما يقال ذلك عند الجهر لا عند السر«.
الشيخ عبد الحق الدهلوي: أورد في رسالته المسماة بـ"توصيل المريد إلى المراد، ببيان أحكام الأحزاب والأوراد" كلاما طويلا بالفارسية في جوازه وقد ذكره الإمام اللكنوى معربا نذكر مـنه:»الجهر والإعلان بالذكر والتلاوة والاجتماع للذكر في المجالس والمساجد جائز ومشروع لحديث ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه))، وقوله تعالى اذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة/200] أيضا يمكن دليلا له، وفي صحيح البخاري: ((كنا لا نعرف انصراف الناس من الصلاة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا بالذكر جهرا)).
وفي الصحيح: أنهم: ((كانوا يجهرون بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، وجاء في بعض الروايات تخصيصه بالفجر والمغرب.
فأما الاجتماع للذكر بانفراد فهو ثابت من حديث متفق عليه، ومن رواية أبي هريرة مرفوعا ((إن لله ملائكـة يطوفون في الطرق…))، وفي رواية: ((وما جلس قوم مسلمون مجلسا يذكـرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة)).
وتأويل الذكر بمذاكرة العلم وآلاء الله تعالى بعيد، ولا يجوز حمل اللفظ على خلاف المتبادر إلى الذهن من غير ضرورة«
ولا يقال: لا يلزم من اجتماع قوم للذكر جهرهم بالذكر لجواز أن يكون ذكر كل منهم سرا على حدة. لأنا نقول: إذا كان الذكر سرا، فلا يظهر للاجتماع فائدة معتد بها.
وأما الاجتماع للتلاوة فهو ثابت من حديث: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يقرؤون القرآن، ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)). ومن هاهنا أخذوا جواز قراءة الأحزاب في المساجد والمجالس.
وذهب مالك وأصحابه إلى كراهة جميع هذه الأمور لعدم عمل السلف بها، ولسدّ الذرائع، وقطع مواد البدعة، لئلا تلزم الزيادة في الدين والخروج عن الحق المبين، وقد وقع في زماننا هذا ما خافه واتقاه...اهـ
الإمام اللكنوى: بعد أن ذكر أحاديث القائلين بالجواز قال: »فهذه أحاديث صحيحة يظهر منها من نظائرها صراحة أو إشارة أن لا كراهة في الجهر بالذكر (والاجتماع عليه) بل فيها ما يدل على جوازه، أو استحبابه، كيف لا والجهر بالذكر له أثر في ترقيق القلوب، ما ليس في السر.
نعم الجهر المفرط ممنوع شرعا، وكذا الجهر غير المفرط إذا كان فيه إيذاء لأحد من نائم أو مصل، أو حصلت فيه شبهة رياء أو لوحظت فيه خصوصيات غير مشروعة أو التزام كالتزام الملتزمات، فكم من مباح يصير بالالتزام -من غير لزوم- والتخصيص -من غير مخصص- مكروها، كما صرّح به علي القارئ في "شرح المشكاة" والحصكفي في "الدر المختار"«.
العلامة عبد الفتاح أبو غدة: قال رحمه الله: »وقد ذهب بعض العلماء إلى منع الجهر بالذكر منفردا أو بجماعة ولكن الحق جوازه ومشروعيته لشروطه، كما حققه الإمام اللكنوي في هذه الرسالة والإمام السيوطي قبله«.
الدكتور محمد بن عبد الكريم: قـال: »والمعترض على الذكر جماعة محجوج بحجتين اثنتين:
الحجة الأولى: أن الكتاب والسنة قد أطلقا الذكر، ولم يقيداه بالفرد أو الجماعة بل أمرا به الإنسان تارة بصيغة المفرد، وتارة بصيغة الجمع، ومن هنا أصبحت كيفية أداء الذكر مباحة، اعتمادا على القاعدة الأصولية التي تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يأتي دليل من الكتاب أو السنة بوجوبها أو تحريمها"«.
الحجة الثانية: أن بعض الأحاديث النبوية تشير إلى استحباب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)). وقال أيضا عندما خرج على حلقة من أصحابه كانوا بالمسجد: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، نحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة)).
وقال أيضا: ((لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وقال (ص): ((…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله... )). أدلة القائلين بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه والتعقيب على استدلالاتهم:
استدل القائلون بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه بأدلة كثيرة منها:
1/ قوله تعالى ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)[الأعراف/205] فإن هذه الآية تدل بالذكر خفية فيكون الجهر به ممنوعا إلا فيما ورد به النص.
والجواب على هذا الاستدلال بوجوه:
-هذا الأمر ليس للافتراض أو الوجوب حتى يحرم ضده أو يكره، بل هو أمر إرشادي يرشدك إليه قوله تعـــالى:?تضرعا وخيفة?.
-هذه الآية محمولة على سامع القرآن كما يدل عليه اتصاله بقوله تعالى:? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف/204] فالمعنى: "اذكر ربك أيها المنصت في نفسك تضرعا وخيفة"، وكذا أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابـن زيد، وقال السيوطي في "نتيجة الفكر": »كأنه لما أمر بالإنصات، خشي من ذلك البطالة فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالإنصات، إلا أنه يكلف بالذكر القلبي حتى لا يغفل عن ذكر الله تعالى، ولذا ختم بقوله وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِـلِـيـنَ)، فلا دلالة في الآية على منع الجهر.
-هذه الآية تدل على إثبات الجهر غير المفـرط، لا على منعه، ومعنى قوله وَدُونَ الْجَهْرِ) المفرط، والمراد منه أن يقع الذكر بحيث يكون بين المخافتة والجهر، كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)[الإسراء/110]. وعلى هذا تدل الآية على جواز السر والجهر كليهما، وأفضلية السر للتضرع والخفية.
2/ روى ابن شيبة وأحمد بن حنبل وابن مردويه والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: ((كنا مع رسول الله (ص) في غزاة، فجعلنا لا نهبط واديا ولا نصعد شرفا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، فدنا منا وقال: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنمـا تدعــون سميعا بصيرا، إن الذين تدعون أقرب إليكم من عنق راحلة أحدكم)).
قال النووي في شـرح صحيح مسلم: »قوله (اربعوا) بهمزة وصل، وفتح الباء الموحدة، معناه: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد حتى يخاطبه ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع«.
والجواب عنه من وجوه:
-أن الأمر من "اربعوا" ليس للوجوب حتى يكره الجهر أو يحرم وكيف ومعنى الربع ينبئ عن أن الأمر إنما هو للتيسير عليهم، ولذا قال الشيخ الدهلوي في "اللمعات شرح المشكاة": »في قوله "اربعوا" إشارة إلى المنع من الجهر للتيسير والإرفاق، لا لكون الجهر غير مشروع«؛ فلا يثبت من ذلك استحباب السر، ولا كلام فيه.
-بأن جهرهم كان مفرطا كما يدل عليه سياق بعض الروايات قال في "فتح الورود شرح سنن أبي داود": »في قوله: "رفعوا أصواتهم" دلالة على أنهم بالغوا في الجهر، فلا يلزم منه منع الجهر مطلقا«.
-هو أنه لم يمنعهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل أقرهم عليه، ليفهموا أن رفع الصوت بالذكر في السفر، أو عند صعود الثنية مسنون، فإن السنية كما تثبت بالقول والفعل، كذلك تثبت بالتقرير. فلذلك نهى رسول الله سدا للذرائع، وتيسيرا على الأمة، ولا دلالة على منع الجهر مطلقا كما لا يخفى.
3/ ومنها قوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء/110].
والجواب عنه بوجوه:
-هذه الآية لم تمنع الجهر مطلقا، بل الجهر المفرط لقوله وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) فكانت دليلا للمجوزين لا للمانعين.
-هذه الآية نزلت لما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مختفيا بمكة، فكان إذا صلى جهر فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وقـال: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ) أي بقراءتك القرآن في الصلاة، لئلا يسمعه المشركون فيسبونه: ( وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ ) أي الجهر الجهير والسر الكثير (سَبِيلاً).
كذا أخرجه البخاري والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عباس. فالمنع إنما كان لإيذاء المشركين وسبهم، وقد زال هذا فيزول المنع أيضا.
4/ ومن أدلة المانعين: (إخراج ابن مسعود رافعي أصواتهم في المساجد وقوله لهم: ما أراكم إلا مبتدعين).
والجوب عن ذلك من وجوه:
-أن هذا الأثر وإن ذكره جمع من الفقهاء، لم يوجد له أثر في كتب الحديث، بل الثابت خلافه. قال السيوطي في "نتيجة الفكر": »هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الحفاظ في كتبهم، ورأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، وهو ما رواه ابن حنبل في كتاب "الزهد" حدثنا حسين بن محمد بسنده عن أبي وائل قال: ((هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا وذكر الله فيه)).
-أنه على تقدير ثبوته معارض بالأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز الجهر غير المفرط، وهي مقدمة عليه عند التعارض.
-الإخراج من المسجد لو نسب إليه بطريق الحقيقة، يجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم العبادة فيه، ولتعليم الناس أنه بدعة، والفعل الجائز يجوز أن يكون غير جائز لغرض يلحقه، فكذا غير الجائز يجوز أن يجوز لغرض، كما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأفضل تعليما للجواز.
5/ ومن أدلة المانعين ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن حبان وأحمد في مسنده، عن سعد بن مالك بسند صحيح مرفوعا: ((خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي)) فإن هذا الحديث يدل على أن الذكر الجهري شر، والشر لا يكون إلا حراما أو مكروها.
والجواب عنه: أن هذا لا يدل على منع الجهر، بل على أفضلية السر ولا كلام فيه، وذلك لأن لفظ الخير له استعمالات:
أحدها: أن يراد به معنى التفضيل، وضده حينئذ شر.
ثانيها: أن يراد به معنى الأفضلية، وحينئذ فأصله أخير. وقد سئل السيوطي عن حديث: ((حياتي خير لكم ومماتي خير لكم)): كيف يمكن أن يكون كل منهما خيرا من الآخر.
فأجاب: بأن للخير استعمالين، فالخير في هذا الحديث للاستعمال الأول، فيراد به التفضيل لا الأفضلية، والمقصود أن في كل من حياته وموته (صلى الله عليه وسلم) خير. إذا عرفت هذا فنقول: الخير في قوله: ((خير الذكر الخفي)) ليس بالمعنى الأول، بل بالمعنى الثاني، فيكون المطلوب أن في الذكر الخفي زيادة خير، وفي الجهر أقل منه لا أن الجهر شر كما فهم المستدل.
هذا ونسأل الله تعالى أن ينفع قارئ هذه البحث ويوفقه للعمل به إنه على ذلك لقدير، وبالإجابة لجدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
tawhidallahakbrsallalah