سعد السويني
06-05-2005, 12:07 PM
المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية: التيـارات، التفـاعـلات، الخيـارات الاصلاحيـة
بقلم: عبدالعزيز الخميس - كاتب ومحلل سياسي سعودي معروف
Sunday, 11 July 2004
تلعب المؤسسة الدينية دوراً مهماً في الساحة السياسية في المملكة العربية السعودية، ليس بصفتها فقط حلفاً قديماً للعائلة المالكة عبر اتفاق تم عام 1744 بين الزعيم الديني الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجدّ العائلة السعودية الحاكمة حالياً محمد بن سعود، استمر نحو 260 عاماً، بل لقدرتها على التحكم بمشروعية النظام الحاكم الذي أخفق في التخلص من التبعية لهذه المؤسسة من جهة توفيرها المشروعية، وأحقية العائلة المالكة في الحكم.
لم تستطع الأسرة المالكة صياغة مشروع سياسي اصلاحي جديد مستقل عن المؤسسة الدينية، يمكنها من توفير مصادر اخرى للمشروعية، قائمة على أعمدة وطنية، بل انها تعمد وبشكل مغالى به حين تدهمها الازمات المحلية للجوء الى تلك المؤسسة التي تمكنت من الاستفادة من تردد رجال الحكم في تعميق دورها القوي داخل الساحة السعودية، وتثبيت مكانتها كطرف مؤثر في أي عملية اصلاحية منتظرة.
ولا تتوقف قوة المؤسسة الدينية على اعتماد الاسرة المالكة عليها، بل انها تبني قوتها على ادوات فعالة، أهمها ربطها قضية الفكر والممارسة السياسية بمنهج التدين والثواب والعقاب، واعتبارها الموقف السياسي جزءاً من الدين. كذلك قيامها بنشر الفكر السياسي الخاص بها خارج دائرة الصفوة، مما أعطاها هيبة شعبية فرضت على الجهات السياسية الاخرى التعامل معها بإهتمام. ولم يتوقف الامر عند هذا، بل ان الطرح الذي قدمته المؤسسة الدينية، تميّز بالذاتية المفعمة بالشعور والقبول التلقائي في محيطه الخاص، مما حول المؤسسة الدينية تياراً اجتماعياً، بدلاً من أن تكون مجرد حزب منظم عادي، شأنه شأن الآخرين، او ان تعتبر مجرد مدرسة فكرية، الى جانب المدارس الاخرى.
ولتعميق جذورها داخل المجتمع السعودي، مارست المؤسسة الدينية خلال أكثر من قرنين ونصف، إقصاء ورفضاً لأي تزاوج او تهجين او خلط بين فكرها وأي فكر آخر، وكانت تعتبر فكرها تطهرياً نقياً يجب ألاّ تشوبه شوائب الابتداع والتجديد. ولم تنفرج نافذة المؤسسة الدينية على العالم الا لفترات قصيرة، لتعود بعدها الى نفسها لتتكور محتفظة بما تسميه الثوابت والخصوصية السعودية، رافضة أية محاولات اصلاحية جدية.
أطياف سلفية
ولكي نفهم كيفية عمل هذه المؤسسة، يتوجب علينا معرفة أطيافها وتياراتها:
التيار الاول: هو التيار الذي يختزل الفكر السياسي في الاقرار للانظمة الحاكمة بالشرعية ووجوب الطاعة التعبدية لها، ويشترط التصريح بالكفر من قبل الانظمة ورجالها، كيما يمكن اعادة النظر في شرعيتها (إعلان الكفر البواح). هذا التيار يطلق عليه في الدوائر الاسلامية المحلية التيار الجامي او المدخلي، نسبة الى محمد أمان جامي، وربيع المدخلي، وهما من رموز هذا التيار والمنظرين له. ومن أبرز الشخصيات التي تمثل هذا التيار الآن بالاضافة الى الشيخ المدخلي: علي الحلبي وعبيد الجابري وعبد الله السبت وشخصيات اخرى في الخليج والاردن. ومع ان هذا التيار ينسب نفسه الى السلفية، الا ان بقية الفرق السلفية تعتبره امتداداً لمذهب الإرجاء الذي ظهر في التاريخ الاسلامي.
التيار الثاني: يقرّ من الناحية العملية لكثير من الانظمة الحاكمة بالشرعية، لكنه من الناحية النظرية يطرح وجهة نظر أكثر مثالية وتفصيلاً للحكم الاسلامي، خاصة إن كان الطرح غير محرج مع الانظمة. ومن خلال الطرح النظري، ينسب لهذا التيار مواقف وفتاوى لها علاقة مهمة بقضية الديموقراطية. ويمكن إدراج الشيخ الالباني والشيخ مقبل الوادعي والشيخ بن باز والشيخ ابن عثمين في هذا التيار. كذلك يمكن إدراج عدد كبير من اعضاء المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية مع هذا التيار. ولا بأس أن نطلق على هذا التيار اصطلاحاً "التيار المشيخي" بسبب تصنيف كثرة من المشايخ المشهورين في إطاره.
التيار الثالث: هو تيار الجماعات التي تسمي نفسها سلفية، مثل اتجاه الشيخ عبدالله بن جبرين ويوافقه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ عبد الرزاق الشايجي وحامد العلي في الكويت، وجماعة انصار السنة في السودان ومصر سابقاً. وهذا التيار قريب جداً من فكر التيار المشيخي، لكن ما يميزه أنه أكثر تنظيماً وانغماساً في الشأن السياسي، كما يوضح ذلك النموذج الكويتي، من خلال نشاط الجماعة السلفية ممثلة في الحركة السلفية العلمية التي يديرها الدكتور عبد الرزاق الشايجي. وربما يصنف مع هذا التيار الشيخ علي بلحاج من الجزائر في مرحلة ما قبل الانتخابات في الجزائر. ويمكن تسمية هذا التيار جدلاً "تيار السلفية العلمية".
التيار الرابع: وهو تيار الشخصيات السلفية داخل جماعة الاخوان المسلمين، مثل أحمد التويجري في المملكة والشيخ الزنداني في اليمن، والشيخ عمر الاشقر في الاردن، والشيخ عصام البشير في السودان. ولهذه الشخصيات وجود قوي في جماعة الاخوان، ويبدو أنها بدأت تفرض نفسها بعد انتشار العلم الشرعي وموجة الفكر السلفي عند جمهور الاخوان. ومواقف هذه الشخصيات من القضايا السياسية في الجملة لا تخرج عن موقف حركة الاخوان، ويمكن تسمية هذا التيار "سلفيي الاخوان".
التيار الخامس: وهو الأوسع انتشاراً وتأثيراً في الطيف الديني ويتميز بنشاط فكري وحركي، ويعتبر الاكثر نشاطاً وتفاعلاً مع الدوائر الاسلامية الواقعة خارج التيار السلفي، بل قد لا يجد غضاضة من التواصل حتى مع التيارات التي يصنفها التيار السلفي أنها غير اسلامية. ويندرج تحت هذا التيار اتجاه الشيخ محمد سرور زين العابدين والشخصيات المحسوبة على مدرسته مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عبد المجيد الريمي والاستاذ جمال سلطان والدكتور صلاح الصاوي والاستاذ محمد الأحمري. ولهذا التيار في الجملة موقف متحفظ عن شرعية الانظمة، دون الدعوة للتكفير او رفع السلاح او الثورة ضدها. وربما تكون كتابات رموز هذا التيار ومشاركاتهم الفكرية نسبياً أغزر ما يوجد حول قضية الديموقراطية. ويمكن تسمية هذا التيار "التيار السروري" نسبة للشيخ محمد سرور بسبب غزارة ما يصدر عنه، وخاصة في مجلة "السنّة" التي يرأس تحريرها والتي تتمتع بانتشار واسع. لكن الشيخين العودة والحوالي يفضلان الحديث عن "تيار الصحوة" بدلاً من شخصنة التيار واشتقاق اسمه من اسم محمد سرور.
التيار السادس: وهو تيار الفكر الجهادي النظري، ينظر الى المشروع الجهادي بأطر عامة دون الدخول في فتاوى وتفاصيل الاعمال الجهادية، ودون تحديد الانظمة التي يتحدث عنها. ويطرح هذا التيار موقفاً رافضاً للانظمة الحالية غالباً بالاشارة بدلاً من العبارة، ويطرح تأصيلاً واضحاً في رفضها دون أن يسميها. ولا تنتشر بين رموز هذا التيار ظاهرة الحرص على تكفير أعيان الحكام او المحسوبين على الجهاز الحاكم. ومن الشخصيات المهمة والمؤثرة في هذا التيار الاستاذ محمد قطب والشيخ الفزازي والشيخ غازي التوبة والشيخ عبد المجيد الشاذلي.
التيار السابع: هو التيار الجهادي العملي، وهو تيار فرض نفسه عددياً وفكرياً في الطيف السلفي بعد التجربة الافغانية وبعد المواجهات التي حصلت مع النظامين المصري والسوري في الثمانينات، والنظام الجزائري في التسعينات. وصرح هذا التيار برفض الانظمة الحاكمة المحددة بالاسم ويقطع بعدم شرعيتها علناً ويدعو الى مقاومتها وإزالتها بالقوة، ولكن هناك تفاوت بين رموزه في التصريح بتكفير أعيان الحكام او أجهزة الحكم. ومن أبرز من يمثل هذا التيار اسامة بن لادن وعلي الخضير وناصر الفهد والخالدي وغيرهم من المنتمين او المتأثرين بـ"القاعدة"، ويماثلهم في الطرح من غير السعوديين الشيخ عمر عبد الرحمن ومحمد المقرىء ومعهم "الجماعة الاسلامية" في مصر، والدكتور أيمن الظواهري، والدكتور عبد القادر عبد العزيز، ومعهم "جماعة الجهاد" المصرية، والشيخ أبو محمد المقدسي والشيخ عمر أبو عمر (أبو قتادة) والاستاذ محمد الرحال، والاستاذ أبو مصعب السوري (عمر عبد الحكيم) الذين يعتبرون حالياً منظرين للتيار السلفي الجهادي العملي في كثير من انحاء العالم.
هذه التيارات تلعب دوراً كبيراً داخل المؤسسة الدينية، وهي رغم اختلاف توجهاتها وادواتها، الا انه لا مناص من الاعتراف بأنها تمثل الطيف الاسلامي السني داخل المملكة، وتقوم بدور كبير على الساحة السياسية السعودية.
بعد استعراضنا للتيارات الدينية ضمن الدائرة السنية، سوف نستعرض موقف التيار المهم وهو التيار المشيخي لدوره القوي في اللعبة السياسية السعودية وتأثيره على أية محاولات او مشاريع اصلاحية.
التيار المشيخي المحرك الرئيس القديم
من بين التيارات السابقة، يحظى التيار المشيخي بقبول قوي داخل الساحة السعودية ليس فقط لقوة طرحه بل لعلاقته الوثيقة بالنظام وحفاظه على اتصال جيد مع الشعب رغم أنه لم يستطع تطوير رؤى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومشروعه الذي ارتكز على العمل لإصلاح المجتمع النجدي والقضاء على الفساد والمظالم والسلب والنهب المنتشر في الجزيرة العربية. غرق التيار المشيخي لفترة طويلة في تفاصيل العبادات وتخلى عن مشروع بناء الدولة القوية الآمنة والمجتمع المتكافل. ونسى ان الشيخ ابن عبد الوهاب رجع الى نجد بعد رحلته العراقية محملاً بتصميم قوي على إصلاح المجتمع معتمداً على المشروع الاسلامي كمحرك رئيس لهذه المهمة.
ورغم ان دور المؤسسة الدينية لم يكن بعيداً عن اوراق لعب الاسرة الحاكمة، الا أنه يعد شريكاً محترماً في صناعة القرار، اذ ان الاتفاق الذي تم بين ابن عبد الوهاب وابن سعود لتأسيس الدولة السعودية الاولى ينص على تقاسم السلطتين الدينية والسياسية مع عدم وضوح في تحديد فضاءاتهما... ويتضح ذلك من خلال ما سجله المؤرخون بشأن الاتفاق، حيث بايع محمد بن سعود الشيخ ابن عبد الوهاب بالقول: "يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى اذ أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على اعداء الاسلام، أن تبتغي غير ارضنا، وان تنتقل عنا الى ارض اخرى".
الشيخ ابن عبد الوهاب استفاد من هذه المبايعة فأكد من جهته على وقوفه بجوار ابن سعود وعدم مغادرة الدرعية التي اصبحت عاصمة للدولة السعودية الاولى (...)
ورغم هذه القوة التاريخية للمؤسسة الدينية الا ان التيار المشيخي في الوقت الراهن سلم الحاكم اوراقاً كثيرة وأبتعد عن قيادة العمل الاصلاحي الذي كرسه الشيخ ابن عبد الوهاب ولم يطور ادواته بل توقف وتجمد مانحاً المؤسسة السياسية ورقة الاصلاح فتعاملت معها لاغراضها التي لا تتوافق كثيراً مع المصلحة العامة.
أمر آخر فتّ من عضد المؤسسة الدينية ممثلة بالتيار المشيخي، وهو ارتفاع حدة المعركة مع التيارات الاخرى، والتي بدأت تنال من كعكته الوطنية، رغم وقوف النظام الى جوار هذا التيار المشيخي ضد التيارات الاخرى خاصة الجهادية منها، ورغم الاهتمام العام لدى المواطنين بتنمية الروح الاسلامية وشيوعها داخل البلاد. وقد أصيب الجسد المشيخي بطعنات قوية لعل اهمها قيام "الشيوخ الرسميين" اي قادة هذا التيار بتبرير ما يعتبره الآخرون اخطاء سياسية لا تغتفر من قبل النظام وتنازلهم عن مرجعيته.
تواطؤ جرّ ضعفاً
أبرز التحفظات الرائجة بين التيار الليبرالي الوطني وربما الاسلامي المعتدل عن نشاط المؤسسة الدينية هو تواطؤ رموز هذه المؤسسة ممثلة في تيارها المشيخي مع الاسرة المالكة، حيث لم يتوانَ الشيخ عبد العزيز بن باز من رسم طريق "مريح" للمهتمين بالاوضاع السياسية من ابناء المملكة عبر التأكيد على ان طريق السعادة هو في اتباع الحاكم وتنفيذ اوامره دون مراجعة او تحفظ. ولعل نشره بيانه بعد تفجير الرياض عام 1996 يعطي صورة واضحة كنموذج لذلك. فقد جاء في البيان، الآتي:
"لا ريب ان الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الامر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر لك خير وأحسن تأويلاً". هذا هو الطريق; طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الامور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم، فطاعة ولي الامر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الامر هم الامراء والعلماء، والواجب طاعتهم في المعروف، اما اذا أمروا بمعصية الله سواء كان أميراً او ملكاً او عالماً، او رئيس جمهورية، او غير ذلك، فلا طاعة له في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف"، والله يقول: "ولا يعصينك في معروف" يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول الله عز وجل: "فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم" فالله أمر بالتقوى، والسمع، والطاعة، يعني: في المعروف، لذا فإن النصوص يشرح بعضها بعضاً، ويدل بعضها على بعض، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الامور في الخير، والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن اسباب الفساد، والشر، والفرقة، والانحلال".
ويرى الشيخ ابن باز ان "من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق والشكر لها على ما تفعل من خير والثناء عليها بذلك. يجب عليهم معاونة الدولة في اصلاح الاوضاع في ما قد يقع فيه شيء من الخلل بالاسلوب الطيب وبالكلام الحسن لا بالتشهير وذكر العيوب في الصحف وعلى المنابر ولكن بالنصيحة وبالمكاتبة والتنبيه على ما قد يخفى حتى تزول المشاكل وحتى يحل محلها الخير والاصلاح وحتى تستقر النعم ويسلم الناس من حدوث النقم ولا سبيل الى هذا الا بالتناصح والتواصي بالخير". ولا ينسى الشيخ ان يؤكد على ان من واجب الدولة "أن تجتهد في ما يكون قد وقع من خلل في إصلاحه، وأن تجتهد في كل ما يرضي الله عز وجل ويقرب اليه، وفي إزالة كل ما نهانا عنه الله عز وجل وأن تقوم بواجبها في اصلاح ما هو مخالف للشرع، وأن تجتهد في إزالة ذلك بالتعاون مع العلماء والموظفين والمسؤولين الطيبين والصالحين ومع هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر".
لذا فالشيخ ابن باز يحصر العلاقة بين السلطة والمواطن في ولائه لها حتى في طريقة عرضه لمطالبه وهو هنا ييسر للحاكم ان لا تخرج الامور عن سيطرته ويمكنه من التحكم بقواعد اللعبة السياسية واستمرار سلطته قوية دون ضعف او مواجهة لتحديات قوية. ولكن المتمعن في ما أورده الشيخ ابن باز لا بد وان يلتفت الى إشراك ابن باز علماء الدين مع الامراء في ولاية الامر في قوله "فإن اولي الامر هم الامراء والعلماء"، ويعتقد علماء الدين الذين يوافقون ابن باز في رؤيته ان ضمهم لأنفسهم ضمن اولياء الامر إنما هو امتداد للتحالف والاتفاق الذي تم بين ابن عبد الوهاب وابن سعود. الا أن هذا الضم يواجه تحدياً قوياً من قبل الأسرة الحاكمة، ولا بأس هنا من ايراد هجوم الامير تركي الفيصل رئيس المخابرات السابق والسفير في لندن حالياً على الشيخ الدكتور عبدالله التركي حين تحدث عن ذلك في جريدة "الشرق الاوسط".
وبعيداً عن معركة تعريف ولي الامر، يؤيد الالتزام الأعمى بطاعة ولي الامر الشيخ محمد ابن عثيمين الذي كان يتمتع بشعبية قوية في قلب نجد، ليس فقط لمكانته العلمية، بل ولاعتباره قبلياً من وسط حواضر القصيم، كنانة نجد. ويشير العثيمين الى دليله في القبول بطاعة آل سعود بقوله: "حكم طاعة الخليفة وغيره من ولاة الامور واجبة في غير معصية الله لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المسلم في ما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فاذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وسواء كان الإمام براً وهو القائم بأمر الله فعلاً وتركاً، او فاجراً وهو الفاسق لقوله صلى الله عليه وسلم: "الا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة".
ويؤكد ابن عثيمين ان وجوب طاعة الحاكم ملزمة ما دام يقيم الصلاة على ارض البلاد حيث يورد ما يأتي: "قال صلى الله عليه وسلم: يكون عليكم امراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا. لا، ما صلوا. اي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. ومن فوائد الحديثين ان ترك الصلاة كفر بواح; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز الخروج على الأئمة الا بكفر بواح، وجعل المانع من قتالهم فعل الصلاة، فدل على أن تركها مبيح لقتالهم، وقتالهم لا يباح الا بكفر بواح".
يلخص الشيخ الجليل ابن عثيمين مشروعية الحاكم في اقامته الصلاة والالتزام بها مبرراً للخضوع للحاكم وتحريماً للخروج عليه. ولعل هذا ما يفسر ذلك الاهتمام المبالغ فيه من قبل النظام بالمساجد واقامتها والاعتناء بها وابراز ذلك اعلامياً، حتى ان الزائر لمدينة او قرية سعودية سيستغرب من عدد المساجد واتساعها رغم ان خدماتها لا تمس الا عدداً قليلاً اما لحجمها الكبير او لكثرتها في الحي الواحد. وهذا ايضاً يوضح سبب قرار الملك فهد بن عبد العزيز تلقيبه خادم الحرمين الشريفين واعلانه ذلك في المدينة المنورة وسط احتفال اعلامي رداً على كثرة الهجمات المختلفة التي تشكك في مدى التزام آل سعود بالدين وبدء تخليهم عن ترويج عباداته والالتزام به داخل المملكة.
الحوار من أجل الإصلاح
يؤمن زعماء المؤسسة الدينية في المملكة ان الحوار مع التيارات الاخرى من ليبرالية او غيرها غير شرعي، اذ في نظرهم كيف يمكن ادارة حوار مع من يقبل بحكم غير ما أنزل الله، ومع من يرى في الطقوس الدينية المرسومة من السماء غير مناسبة ويجب اما تطويرها وإما تغييبها. ولنرَ في هذا المثال ماهية الحوار الذي تريده المؤسسة، اذ يقول الشيخ ابن عثيمين: "النبي صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك. لكن إن كان في مجالستهم مصلحة لتبيين الحق لهم وتحذيرهم من البدعة فلا بأس بذلك، وربما يكون ذلك مطلوباً; لقوله تعالى: "ادعُ الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
يعتقد الشيخ ابن عثيمين ان الحوار مع الآخر هو من طرف واحد، اي دعوة وتحذير وتبيان لا حوار بين عقليتين مفتوحتين تأتيان للحوار من اجل الفهم والاطلاع على رؤى آخرى قد تقبلها او ترفضها. الحوار الذي تريد المؤسسة الدينية وجوده هو خطبة يلقيها الرمز وعلى الآخرين الانصات لها وقبولها. اي حوار من اتجاه واحد. وهذا ما يتجلى في جميع محاولات الحوار التي تمت بين مختلف التيارات السياسية في المملكة، ولعل جلسات الحوار الوطني التي تمت في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة توضح شدة الرفض الذي ووجه فيها من حاول فتح مجال للحوار حول قضايا حقوقية مهمة كعمل المرأة وقيادتها السيارة.
من شريك الى طرف مثل غيره
يرى رموز المؤسسة الدينية أن الجلوس امام مائدة مستديرة، تكفل لكل الجالسين حولها الحقوق نفسها في الحوار، امر غير محبذ، بل يمثل تجاوزاً على اسلامية البلاد. وحين يتم التأكيد على أهمية مراجعة التاريخ، وإغتنام فرص التطوير، وملاحظة المتغيرات الاجتماعية، لجأ التيار الاسلامي الى التأكيد على ان وجود النظام وبقاءه مرهونان بالاتفاق التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود. وفي هذا التأكيد تحذير بل وتهديد ان بقاء النظام واستقرار البلاد بشكلها الحالي لن يستمر اذا اقصي التيار الاسلامي عن دوره الرئيس في اللعبة السياسية الوطنية، وفي حال عومل كطرف مثل غيره دونما محاباة او تمييز. يرفض التيار الاسلامي بعنف ان يتراجع الى الصفوف الاخيرة وان تتساوى قامته مع التيارات السياسية الاخرى مكرراً انه يستمد سموه من الله ثم من ان البلاد لم توحد الا عبر جهوده وقبول الشيخ محمد بن عبد الوهاب الاتفاق مع ابن سعود. ولعل الانتقادات القاسية التي وجهها بعض رموز المؤسسة الى من قبل بدعوة النظام للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني توضح عدم قبول هذه المؤسسة التنازل عن موقعها المتعالي وقبولها بدور متساو مع غيرها.
الديموقراطية العمرية
تؤكد المؤسسة الدينية الرسمية على موقف موحد وقوي من الطروحات الديموقراطية، ففي قراءة سريعة لرؤيتها حول الحاكمية، يتضح انها ترى ان حصول الشرعية للحاكم يتم في ثلاث حالات: اولها، ان يكون معيناً كما فعل أبو بكر الصديق حين عين عمر بن الخطاب. وثانيها، ان يختار من اهل الحل والعقد كما فعل عمر بن الخطاب الذي عين من هم أهل الحل والعقد فتم اختيار عثمان بن عفان. اما الطريقة الثالثة، فهي القهر والغلبة كما في خلافة عبد الملك بن مروان حين قتل عبدالله بن الزبير وتمت الخلافة له. يرى منظرا السلفية الشيخ ابن باز وابن عثيمين، ان طاعة الحاكم المعين بهذه الطرق الثلاث واجبة في غير معصية.
وجوه غير مقنعة
ورغم ان التحالف بين المؤسسة الدينية الرسمية والعائلة المالكة واجه ضغوطاً قوية بعد رحيل الشيخين ابن باز وابن عثيمين وعدم توافر وجوه مقنعة للرأي العام، اذ تساقطت الرموز الدينية في شكل يماثل حقبة ما بعد بريجينيف، ورغم ان المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ تولى تأكيد الاصول التي التزمت بها المؤسسة الدينية الرسمية في الولاء والطاعة للملك وللعائلة المالكة، وقيامه بإطلاق فتاوى وأحكام توافق هوى الحكام وتشدد على الاخلاص لهم، الا أن المعضلة التي تواجه المؤسسة الدينية الرسمية في الوقت الراهن تتمثل في مواجهة تيارات اسلامية تسحب البساط من المؤسسة ذات الوجوه غير العصرية والتي لا تتفق طروحاتها مع تطلعات مجتمع يتعاطى مع عالم مليء بمثل وادوات حديثة لم تستطع الرموز الدينية التوافق معها بل وواجهتها الى يومنا الراهن.
نتيجة للتلقين الديني الذي تلقاه المواطن السعودي وبشكل مكثف، وارتفاع عاطفته الاسلامية، فإنه بحث عن اطمئنان في رموز دينية ذات صدقية ولديها قدرة على الاجابة عن اسئلة سياسية ودينية كثيرة. من ابرز هذه الاسئلة موقف المؤسسة الدينية من العلاقة مع الغرب وقضية الولاء والبراء وقضية مشروعية الحاكم السعودي التي صُدقت من قبل رموز المؤسسة لتطبيقه الشريعة، لكن ممارسات النظام قد لا تروق للمتشبثين بتفسيرات أكثر وضوحاً وربما تشدداً للنص الديني، خاصة ان هناك مواضيع ظاهرة التناقض مع النص الديني كالقبول بتواجد المصارف الربوية على الاراضي السعودية والتحالف مع من يسمونهم بالمشركين.
التضارب في تطبيق الشريعة والتهاون في اعلان الاحتجاج بل تبرير حضور القوات الاميركية على الاراضي السعودية، وما تلاه من فتوى الشيخ ابن باز بمشروعية الصلح مع اسرائيل، كل هذا جعل اسلاميين كثر يفرون من مظلة المؤسسة الدينية الرسمية الى تيارات اخرى جهادية او غيرها، بل ان قبول بعضهم للمثل الليبرالية تزايد بشكل سريع خاصة بعد 11 ايلول وتفجير المحيا، حيث وجدت فاعليات سياسية كثيرة تعمل على الساحة السعودية ان الوقت حان لايقاف المؤسسة الدينية عند حدها، باعتبارها ممثلاً غير أمين لمصالح المواطنين (...) وبدا وكأن رموزاً تنتظر رفع الحجاب الشعبي عنها، بعضها بسبب ما ذكرناه آنفاً وبعضها الآخر بسبب ترويجها للعنف بمختلف الطرق، حيث خرج من رحمها الجهاديون ولا تزال ترى في الجهاد عملاً مشروعاً مبرراً. ويمكن زيارة موقع الشيخ ابن باز على الانترنت للتأكد من ذلك.
وجوه مقنعة
فعل الشيخان سلمان العودة وسفر الحوالي فعلهما في إثخان جسد المؤسسة الدينية الرسمية بالجراح، حين أدارا صراعاً فعالاً أظهرا فيه قوة متميزة مستفيدين من اخطاء النظام الذي كرس شعبيتهما بسجنه اياهما في التسعينات. لم يندفع الشيخان في الهجوم على الرموز الدينية الكبيرة، بل حاولا استعمالهما لتعزيز موقعهما داخل مجتمعهما المحلي، فتمكن الشيخ سلمان العودة في ظل رحيل الشيخ ابن عثيمين من تبوؤ مكانة دينية محلية حشدت وراءه اسلاميين كثراً في منطقة القصيم بل وفي اماكن عديدة في المنطقة الوسطى. وقام العودة بتقديم نفسه كشيخ مستقل عن النظام، مبدياً حرصاً متزايداً لأن يكون قريباً من الناس. فأدار محاضرات ودروس في مسجده واستعمل التسجيلات الصوتية منادياً بإصلاح الدولة وأجهزتها وفق وجهة نظره، ولعل تسجيله الشهير "أسباب سقوط الدول" يوضح بعضاً من منهجه ورؤيته للاصلاح.
في غرب المملكة فعل الشيخ سفر الحوالي الطريقة نفسها، بل انه قام بتحد سافر للنظام اثناء غزو صدام حسين للعراق. ولا بأس من إيراد النص التالي من كتابه "كشف الغمة عن علماء الأمة" والذي أصدره في ذلك الوقت العصيب. يقول الدكتور سفر: "لقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا، وفشا المنكر في نوادينا، ودُعي الى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا، واستبحنا الربا حتى أن بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام الا خطوات معدودات. اما التحاكم الى الشرع - تلك الدعوى القديمة - فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا الا ما يُسميه اصحاب الطاغوت الوضعي الاحوال الشخصية، وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن، ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم، ومع ذلك وضعنا الاغلال الثقيلة على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام الخذلان، وشدة الهوان، ومن يُهن الله فما له من مُكرم".
ويصف الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل السعودي، الموقف في ذلك الحين: "يقف صدام حسين على بعد ساعات من الظهران، ويومين من الرياض، ويتخذ علماء المملكة أخطر قرار في تاريخ المملكة، بإجازة الاجراءات التي اتخذها ولي الامر للدفاع عن الكيان. وفي هذه اللحظات العصيبة يخرج الفقيه السياسي سفر الحوالي بشريط اسمه: "فروا الى الله" يشرح فيه ان القوات التي استعنا بها أخطر من العدو الذي لم تفصل بينه وبين الظهران سوى ساعات. كان هذا الشريط باباً للفتنة، أحدث بلبلة هائلة، وكان شرخاً في قلب الاجماع. وما لبث الفقيه السياسي سلمان العودة ان خرج بشريط آخر اسماه "اسباب سقوط الدول" زعم فيه أن الاستعانة بغير المسلمين كانت من أهم اسباب سقوط الدول، ثم انفتح الباب وتوالت الاشرطة، والخطب، والمناشير على نحو لم نعهده من مجتمعنا من قبل، لأننا لم نعهد طبقة الفقهاء السياسيين من قبل".
تبنى العودة والحوالي ومن تبعهما موجة الصحوة الاسلامية ورفعا علمها مبشرين اتباعهما بالسؤدد، وكانت ادواتهما تتمثل بـ"الكاسيت الاسلامي"، واستخدام المساجد لإلقاء الدروس والخطب والمحاضرات العامة، ونشر الكتب والكراريس، واقامة المخيمات. وتنبع أهمية هذين الشيخين - بحسب الاستاذ علي العميم - في قدرتهما على انشاء كلام إسلامي في قضايا سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية وفكرية لم يكن علماء المؤسسة الدينية والمشايخ التقليديون بقادرين على انشاء كلام مثله.
لكن العودة والحوالي بعدما نجحا في تقديم زعامتهما للمجتمع وقبول كثيرين بها، وجدا منحة اخرى من السماء مكنتهما من فرض شخصيتيهما على النظام كلاعبين مهمين على الساحة السياسية، وكانت هذه المنحة هي في تساقط الرموز المهمة على الساحة الدينية ورحيلها الى مثواها الاخير، ونشوب معركة شرسة بين الجهاديين والنظام. هنا وجد النظام السعودي نفسه امام تحد خطير: الجهاديون يستقطبون الشباب بطرحهم الجريء المتوافق مع قيم ابن باز وغيره ممن يحبذوه الجهاد كحل للعلاقة مع الآخر رغم تحفظ ابن باز وربط ذلك بموافقة ولي الامر، الا انه لم يقف ضد اصل منهج التكفير والقتل لمن يزعم أنهم مخالفون.
كانت المعركة بين النظام والجهاديين شرسة، ولا بد من استخدام وسائل ناجعة للانتصار فيها، فتجاهل من كانوا مسجونين وأعداء في السابق لا يحل المشكلة ولا يأتي بالاجماع، فاستقر الرأي في الوقت الحاضر على الاستعانة في مكافحة العنف بكل المخالفين السابقين ممن يمـــتلكون صدقية في الساحة الدينــية ممن لا غنى عن خدماتهم، فتضامن العــودة والحوالي مع النظام من اجل مواجهــة التيار الجهادي، وبذلا جهوداً ضخمة نجحت في استسلام العديد من الشخصيات الجــهادية والتي تقبلت دعوة الحوالي بالذات لهم، بينما رفضت دعوات المفتي العام او غيره من الشخصيات الدينية الرسمية.
لم يكن صراع العودة والحوالي مع النظام سوى رغبة في اصلاح النظام كي يكون اكثر التزاماً بالاسلام بحسب وجهة نظرهما، وبالتالي رغم سيطرتهما على الساحة الشبابية الاسلامية الا انهما في وقت ضعف النظام ومواجهته لهجمات متعددة من جهاديين محلياً الى غربية اعلامية في الخارج، اقنعت المواطن ان تحالف النظام مع الولايات المتحدة قد اختل وبالتالي تزعزعت قوة النظام، فقدم الشيخان للنظام ورقة لعب جديدة وهي شعبيتهما ونسيا الحديث عن اية مطالب اصلاحية حقيقية، ولم تتبين مطالباتهما الا في امور أمنية تخص الاسلاميين فقط.
نسي التيار الصحوي الاصلاح وحقوق الانسان السعودي وبدأ في ارتكاب الخطأ نفسه الذي قامت به المؤسسة الدينية الرسمية متمثلة في التيار المشيخي وانكشف امام المواطن العادي الذي كان ينتظر من الشيخين موقفاً قوياً ضد النظام، بحيث فشا اعتقاد شعبي بأن الشيخين يطمحان الى الوصول الى هيئة كبار العلماء، وبالتالي ملء فراغ احدثه وفاة الشيخين ابن باز وابن عثيمين.
الادوار المشبوهة
اضافة الى دور الشيخين العودة والحوالي في رسم خريطة جديدة للتيارات الاسلامية وتقدمهما بدعم حكومي كي يمثلا الخطاب الاسلامي السعودي، لا يمكننا تجاهل دور الشيخ عائض القرني وهو لاعب مهم على الساحة لكنه يقوم بدور مثير للجدل داخل الساحة الاسلامية فتطوعه للحوار مع شيوخ التيار الجهادي في التلفزيون السعودي الى درجة اتهامه من التيار الجهادي بتوليه دور المحقق امام الملأ عنى الكثير للمجتمع السعودي خاصة من يعرف ان الشيخ القرني كان احد كبار المحرضين والمنظرين للفكر الجهادي. وعرف عن القرني علاقته القوية بأسامة بن لادن وتقديمه الاخير لعبدالله عزام منظم مجموعات الافغان العرب في الثمانينات.
اضافــة الى دور القرني ينــتقد كثيرون ما يقوم به الشــيخ ســفر الحوالي من تنظيم صفقات مع الجهاديين لتسليم انفسهم للنظام. وقد يذهب البعض الى شكر الرجلين على جهودهما ضد عمليات القتل والسحل الدائرة على الاراضي السعودية، لكن المنطق يؤكــد ان الشيخين (ومعهما الشيخ العودة) عليهــما مسؤولية كبيرة في ايضاح موقفهما من الجهاد.
لقد كفّر هؤلاء التيارات الاخرى ولم يسلم ليبرالي او وطني متحرر من أذاهـم وكان حرياً بأن يعتذرا للشعب عن اكثر من عقدين من التأخر في مسـيرة الاصلاح بسبب غلوهما وجنوحهما الى التكفير وتحبيذ القتل والعسف والظلم وانتهاك الحريات.
عمل هؤلاء وقبلهم جهيمان العتيبي، على تحويل انتباه الشعب من الانفتاح على الثقافات الاخرى وتطوير المجتمع ومواصلة الضغوط لاصلاح النظام السياسي الى حروب لا طائل منها فبدلاً من ان ينساق ابناء الشعب في مسيرة العمل السلمي من اجل التغيير انبتوا بمساعدة حكومية كتلاً وخلايا جهادية قاتلت في اراض متعددة وها هي تعود الى ارض المنتج لتمارس ما خزنته من كراهية وعنف.
ورغم ان الاخطاء واضحة وبيّنة للجميع الا ان هؤلاء المشايخ يقومون في الوقت الراهن بدور تبريري وتحويلي آخر اذ بدلاً من ان يركزوا جهودهم لمصلحة المواطن ها هم ينقلون المعركة الى ساحة اخرى ويرفضون الاعتراف بأنهم أخطأوا في قيادة شباب الأمة الى طرق مظلمة وأنهم من المسببات الرئيسة للعنف السياسي في البلاد. الدور التحويلي الجديد هو مقاومة اطروحات الليبرالية المنفتحة وتثبيت ما يطلق عليه الخصوصية السعودية والخطر الثقافي الغربي على الاسلام.
يقوم هؤلاء الشيوخ بعمل كبير في هذا المجال، ولا يعترفون ان عليهم مهمة توعية الناس للحصول على حقوقها والانتقال معها الى دولة الشورى الحقيقية والمشاركة الشعبية وتداول السلطات حتى لو كانت ضمن الطروحات الاسلامية الحديثة.
الحامد والليبرالية الاسلامية
الأمل بوجود نقلة في الفكر السياسي الاسلامي السعودي يتمثل في الوقت الراهن في بناء تحالف اسلامي مع الليبراليين. ولعل أكبر رموز هذا الاتجاه، الدكتور عبدالله الحامد المعتقل حالياً بسبب عريضة الملكية الدستورية والتي وضعت في 16/12/2003 بالتعاون بين الدكتور متروك الفالح ومحمد سعيد طيب وآخرين من الاميين وليبراليين يرون ان اصلاح النظام السياسي يعتمد على إجتراح نظام فكري سياسي يحد من العسف السياسي ويؤسس لثقافة حقوقية. ويرى الحامد ان "ما يُسهّل قبول انظمة الحكم القائمة على حكم فرد او قلة ليس وجود اي مجموعة محددة من الافكار في الفكر السياسي العربي بل غيابها. لو عبرنا ببساطة: لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي العربي شيء يقارن بالقطيعة الجذرية مع الماضي التي قام بها مكيافللي وهوبز في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي تم تطويرها لاحقاً من عقيدة الديموقراطية الليبرالية في الاجيال التالية على يد لوك وروسو والتي جعلت مفهوم السيادة الشعبية مبدأ لا يشك فيه، بل ربما غير قابل للشك".
استشعر الحامد والفالح وطيب ورفاقهم أهمية التحرك على المستوى الفكري السياسي فبدأوا بوضع دستور لا ينساق لطروحات المؤسسة الدينية الرسمية القديمة والجامدة، ويقبل بالتعاطي مع التيارات الاخرى ضمن عقد اجتماعي يتفق وتطلعات الشعب السعودي للحصول على حقوقه وصيانة كرامته. لقد قبل الحامد والقصير والرشودي وهم من رحم المؤسسة الدينية التعاطي مع الليبراليين، وحين التقت الافكار خرج الجمــيع بما سمــوه "نــداء الى القــيادة والشــعب معاً: الاصلاح الدستوري اولاً" وتجلت في هذه الوثيقة مطالب ليبرالية بروح اسلامية وركزت على التحذير من الــتأخر في الاصلاح الذي سيدفع البلد ثمـنه عنفاً دموياً (...)
كانت وثيقة الملكية الدستورية خرقاً قوياً معلناً لسلطة الاسرة المالكة ومطالبة خطيرة استشعر النظام فداحة اهمالها في وقت عصيب، اذ ان تحالف الاسلاميين مع الليبراليين سيقضي على مشروعية النظام وقدرته على استخدام طرف ضد آخر، فتحالف الطرفان ضده، فصاغوا بنود وثيقتهم بقوة نداء وجمال وعد بحريات ومشاركة شعبية وحقوق انسان افضل ومحاربة للفساد مع الالتزام بالروح الوطنية الاسلامية، الامر الذي اطلق جرس الانذار لدى الحكومة السعودية فبادرت الى اجهاض هذا النداء الدستوري الخطير.
وللمرة الاولى يجد الاسلاموي السعودي بديلاً آخر يختلف (...) فالبديل الذي قدمه الحامد والفالح وطيب هو في نظر كثيرين نور في نهاية النفق لا بد من الوصول اليه مهما طال الزمن. تحددت المطالبة الجديدة بالشروع الفوري، في انتهاج طريق الاصلاح الدستوري ويتمثل بـ:
1- إقرار الحقوق والحريات العامة للمواطنين، التي قررها الاسلام قبل اربعة عشر قرناً من تنادي الأمم الحديثة اليها، ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية، على اختلاف مناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم، وطبقاتهم وانتماءاتهم، واتخاذ الاجراءات التي تضمن احترامها.
2- انتخاب مجلس لنواب الشعب، فالنواب من اهل العلم والخبرة والرأي والإيثار، الذين ينتخبهم الشعب، هم الامناء على مصالحه ومحل ثقــته، في الحل والعقد، ومحل إجماعه، بما يضمن قيام مجلس النواب بالرقـابة والمحاسبة، وتمكينه والمجالس المحلية من ممارسة المهمات والصلاحيات المنوطة بمثلها دستورياً.
3- تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: تنفيذية ونيابية وقضائية.
4- السعي الحثيث لتعزيز استقلال القضاء، عبر اجراءات وهياكل، تضمن حياده ونزاهته، ولاسيما في القضايا التي تكون الدولة طرفاً فيها، وتحديد القواعد القضائية وتوحيدها وإعلانها، وسـرعة البت في القضايا، والتنفيذ الفــوري لأحكام المحاكم، وانشاء محكمة دستورية شرعية عليا، تكون مرجعاً
بقلم: عبدالعزيز الخميس - كاتب ومحلل سياسي سعودي معروف
Sunday, 11 July 2004
تلعب المؤسسة الدينية دوراً مهماً في الساحة السياسية في المملكة العربية السعودية، ليس بصفتها فقط حلفاً قديماً للعائلة المالكة عبر اتفاق تم عام 1744 بين الزعيم الديني الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجدّ العائلة السعودية الحاكمة حالياً محمد بن سعود، استمر نحو 260 عاماً، بل لقدرتها على التحكم بمشروعية النظام الحاكم الذي أخفق في التخلص من التبعية لهذه المؤسسة من جهة توفيرها المشروعية، وأحقية العائلة المالكة في الحكم.
لم تستطع الأسرة المالكة صياغة مشروع سياسي اصلاحي جديد مستقل عن المؤسسة الدينية، يمكنها من توفير مصادر اخرى للمشروعية، قائمة على أعمدة وطنية، بل انها تعمد وبشكل مغالى به حين تدهمها الازمات المحلية للجوء الى تلك المؤسسة التي تمكنت من الاستفادة من تردد رجال الحكم في تعميق دورها القوي داخل الساحة السعودية، وتثبيت مكانتها كطرف مؤثر في أي عملية اصلاحية منتظرة.
ولا تتوقف قوة المؤسسة الدينية على اعتماد الاسرة المالكة عليها، بل انها تبني قوتها على ادوات فعالة، أهمها ربطها قضية الفكر والممارسة السياسية بمنهج التدين والثواب والعقاب، واعتبارها الموقف السياسي جزءاً من الدين. كذلك قيامها بنشر الفكر السياسي الخاص بها خارج دائرة الصفوة، مما أعطاها هيبة شعبية فرضت على الجهات السياسية الاخرى التعامل معها بإهتمام. ولم يتوقف الامر عند هذا، بل ان الطرح الذي قدمته المؤسسة الدينية، تميّز بالذاتية المفعمة بالشعور والقبول التلقائي في محيطه الخاص، مما حول المؤسسة الدينية تياراً اجتماعياً، بدلاً من أن تكون مجرد حزب منظم عادي، شأنه شأن الآخرين، او ان تعتبر مجرد مدرسة فكرية، الى جانب المدارس الاخرى.
ولتعميق جذورها داخل المجتمع السعودي، مارست المؤسسة الدينية خلال أكثر من قرنين ونصف، إقصاء ورفضاً لأي تزاوج او تهجين او خلط بين فكرها وأي فكر آخر، وكانت تعتبر فكرها تطهرياً نقياً يجب ألاّ تشوبه شوائب الابتداع والتجديد. ولم تنفرج نافذة المؤسسة الدينية على العالم الا لفترات قصيرة، لتعود بعدها الى نفسها لتتكور محتفظة بما تسميه الثوابت والخصوصية السعودية، رافضة أية محاولات اصلاحية جدية.
أطياف سلفية
ولكي نفهم كيفية عمل هذه المؤسسة، يتوجب علينا معرفة أطيافها وتياراتها:
التيار الاول: هو التيار الذي يختزل الفكر السياسي في الاقرار للانظمة الحاكمة بالشرعية ووجوب الطاعة التعبدية لها، ويشترط التصريح بالكفر من قبل الانظمة ورجالها، كيما يمكن اعادة النظر في شرعيتها (إعلان الكفر البواح). هذا التيار يطلق عليه في الدوائر الاسلامية المحلية التيار الجامي او المدخلي، نسبة الى محمد أمان جامي، وربيع المدخلي، وهما من رموز هذا التيار والمنظرين له. ومن أبرز الشخصيات التي تمثل هذا التيار الآن بالاضافة الى الشيخ المدخلي: علي الحلبي وعبيد الجابري وعبد الله السبت وشخصيات اخرى في الخليج والاردن. ومع ان هذا التيار ينسب نفسه الى السلفية، الا ان بقية الفرق السلفية تعتبره امتداداً لمذهب الإرجاء الذي ظهر في التاريخ الاسلامي.
التيار الثاني: يقرّ من الناحية العملية لكثير من الانظمة الحاكمة بالشرعية، لكنه من الناحية النظرية يطرح وجهة نظر أكثر مثالية وتفصيلاً للحكم الاسلامي، خاصة إن كان الطرح غير محرج مع الانظمة. ومن خلال الطرح النظري، ينسب لهذا التيار مواقف وفتاوى لها علاقة مهمة بقضية الديموقراطية. ويمكن إدراج الشيخ الالباني والشيخ مقبل الوادعي والشيخ بن باز والشيخ ابن عثمين في هذا التيار. كذلك يمكن إدراج عدد كبير من اعضاء المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية مع هذا التيار. ولا بأس أن نطلق على هذا التيار اصطلاحاً "التيار المشيخي" بسبب تصنيف كثرة من المشايخ المشهورين في إطاره.
التيار الثالث: هو تيار الجماعات التي تسمي نفسها سلفية، مثل اتجاه الشيخ عبدالله بن جبرين ويوافقه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ عبد الرزاق الشايجي وحامد العلي في الكويت، وجماعة انصار السنة في السودان ومصر سابقاً. وهذا التيار قريب جداً من فكر التيار المشيخي، لكن ما يميزه أنه أكثر تنظيماً وانغماساً في الشأن السياسي، كما يوضح ذلك النموذج الكويتي، من خلال نشاط الجماعة السلفية ممثلة في الحركة السلفية العلمية التي يديرها الدكتور عبد الرزاق الشايجي. وربما يصنف مع هذا التيار الشيخ علي بلحاج من الجزائر في مرحلة ما قبل الانتخابات في الجزائر. ويمكن تسمية هذا التيار جدلاً "تيار السلفية العلمية".
التيار الرابع: وهو تيار الشخصيات السلفية داخل جماعة الاخوان المسلمين، مثل أحمد التويجري في المملكة والشيخ الزنداني في اليمن، والشيخ عمر الاشقر في الاردن، والشيخ عصام البشير في السودان. ولهذه الشخصيات وجود قوي في جماعة الاخوان، ويبدو أنها بدأت تفرض نفسها بعد انتشار العلم الشرعي وموجة الفكر السلفي عند جمهور الاخوان. ومواقف هذه الشخصيات من القضايا السياسية في الجملة لا تخرج عن موقف حركة الاخوان، ويمكن تسمية هذا التيار "سلفيي الاخوان".
التيار الخامس: وهو الأوسع انتشاراً وتأثيراً في الطيف الديني ويتميز بنشاط فكري وحركي، ويعتبر الاكثر نشاطاً وتفاعلاً مع الدوائر الاسلامية الواقعة خارج التيار السلفي، بل قد لا يجد غضاضة من التواصل حتى مع التيارات التي يصنفها التيار السلفي أنها غير اسلامية. ويندرج تحت هذا التيار اتجاه الشيخ محمد سرور زين العابدين والشخصيات المحسوبة على مدرسته مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ عبد المجيد الريمي والاستاذ جمال سلطان والدكتور صلاح الصاوي والاستاذ محمد الأحمري. ولهذا التيار في الجملة موقف متحفظ عن شرعية الانظمة، دون الدعوة للتكفير او رفع السلاح او الثورة ضدها. وربما تكون كتابات رموز هذا التيار ومشاركاتهم الفكرية نسبياً أغزر ما يوجد حول قضية الديموقراطية. ويمكن تسمية هذا التيار "التيار السروري" نسبة للشيخ محمد سرور بسبب غزارة ما يصدر عنه، وخاصة في مجلة "السنّة" التي يرأس تحريرها والتي تتمتع بانتشار واسع. لكن الشيخين العودة والحوالي يفضلان الحديث عن "تيار الصحوة" بدلاً من شخصنة التيار واشتقاق اسمه من اسم محمد سرور.
التيار السادس: وهو تيار الفكر الجهادي النظري، ينظر الى المشروع الجهادي بأطر عامة دون الدخول في فتاوى وتفاصيل الاعمال الجهادية، ودون تحديد الانظمة التي يتحدث عنها. ويطرح هذا التيار موقفاً رافضاً للانظمة الحالية غالباً بالاشارة بدلاً من العبارة، ويطرح تأصيلاً واضحاً في رفضها دون أن يسميها. ولا تنتشر بين رموز هذا التيار ظاهرة الحرص على تكفير أعيان الحكام او المحسوبين على الجهاز الحاكم. ومن الشخصيات المهمة والمؤثرة في هذا التيار الاستاذ محمد قطب والشيخ الفزازي والشيخ غازي التوبة والشيخ عبد المجيد الشاذلي.
التيار السابع: هو التيار الجهادي العملي، وهو تيار فرض نفسه عددياً وفكرياً في الطيف السلفي بعد التجربة الافغانية وبعد المواجهات التي حصلت مع النظامين المصري والسوري في الثمانينات، والنظام الجزائري في التسعينات. وصرح هذا التيار برفض الانظمة الحاكمة المحددة بالاسم ويقطع بعدم شرعيتها علناً ويدعو الى مقاومتها وإزالتها بالقوة، ولكن هناك تفاوت بين رموزه في التصريح بتكفير أعيان الحكام او أجهزة الحكم. ومن أبرز من يمثل هذا التيار اسامة بن لادن وعلي الخضير وناصر الفهد والخالدي وغيرهم من المنتمين او المتأثرين بـ"القاعدة"، ويماثلهم في الطرح من غير السعوديين الشيخ عمر عبد الرحمن ومحمد المقرىء ومعهم "الجماعة الاسلامية" في مصر، والدكتور أيمن الظواهري، والدكتور عبد القادر عبد العزيز، ومعهم "جماعة الجهاد" المصرية، والشيخ أبو محمد المقدسي والشيخ عمر أبو عمر (أبو قتادة) والاستاذ محمد الرحال، والاستاذ أبو مصعب السوري (عمر عبد الحكيم) الذين يعتبرون حالياً منظرين للتيار السلفي الجهادي العملي في كثير من انحاء العالم.
هذه التيارات تلعب دوراً كبيراً داخل المؤسسة الدينية، وهي رغم اختلاف توجهاتها وادواتها، الا انه لا مناص من الاعتراف بأنها تمثل الطيف الاسلامي السني داخل المملكة، وتقوم بدور كبير على الساحة السياسية السعودية.
بعد استعراضنا للتيارات الدينية ضمن الدائرة السنية، سوف نستعرض موقف التيار المهم وهو التيار المشيخي لدوره القوي في اللعبة السياسية السعودية وتأثيره على أية محاولات او مشاريع اصلاحية.
التيار المشيخي المحرك الرئيس القديم
من بين التيارات السابقة، يحظى التيار المشيخي بقبول قوي داخل الساحة السعودية ليس فقط لقوة طرحه بل لعلاقته الوثيقة بالنظام وحفاظه على اتصال جيد مع الشعب رغم أنه لم يستطع تطوير رؤى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومشروعه الذي ارتكز على العمل لإصلاح المجتمع النجدي والقضاء على الفساد والمظالم والسلب والنهب المنتشر في الجزيرة العربية. غرق التيار المشيخي لفترة طويلة في تفاصيل العبادات وتخلى عن مشروع بناء الدولة القوية الآمنة والمجتمع المتكافل. ونسى ان الشيخ ابن عبد الوهاب رجع الى نجد بعد رحلته العراقية محملاً بتصميم قوي على إصلاح المجتمع معتمداً على المشروع الاسلامي كمحرك رئيس لهذه المهمة.
ورغم ان دور المؤسسة الدينية لم يكن بعيداً عن اوراق لعب الاسرة الحاكمة، الا أنه يعد شريكاً محترماً في صناعة القرار، اذ ان الاتفاق الذي تم بين ابن عبد الوهاب وابن سعود لتأسيس الدولة السعودية الاولى ينص على تقاسم السلطتين الدينية والسياسية مع عدم وضوح في تحديد فضاءاتهما... ويتضح ذلك من خلال ما سجله المؤرخون بشأن الاتفاق، حيث بايع محمد بن سعود الشيخ ابن عبد الوهاب بالقول: "يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى اذ أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على اعداء الاسلام، أن تبتغي غير ارضنا، وان تنتقل عنا الى ارض اخرى".
الشيخ ابن عبد الوهاب استفاد من هذه المبايعة فأكد من جهته على وقوفه بجوار ابن سعود وعدم مغادرة الدرعية التي اصبحت عاصمة للدولة السعودية الاولى (...)
ورغم هذه القوة التاريخية للمؤسسة الدينية الا ان التيار المشيخي في الوقت الراهن سلم الحاكم اوراقاً كثيرة وأبتعد عن قيادة العمل الاصلاحي الذي كرسه الشيخ ابن عبد الوهاب ولم يطور ادواته بل توقف وتجمد مانحاً المؤسسة السياسية ورقة الاصلاح فتعاملت معها لاغراضها التي لا تتوافق كثيراً مع المصلحة العامة.
أمر آخر فتّ من عضد المؤسسة الدينية ممثلة بالتيار المشيخي، وهو ارتفاع حدة المعركة مع التيارات الاخرى، والتي بدأت تنال من كعكته الوطنية، رغم وقوف النظام الى جوار هذا التيار المشيخي ضد التيارات الاخرى خاصة الجهادية منها، ورغم الاهتمام العام لدى المواطنين بتنمية الروح الاسلامية وشيوعها داخل البلاد. وقد أصيب الجسد المشيخي بطعنات قوية لعل اهمها قيام "الشيوخ الرسميين" اي قادة هذا التيار بتبرير ما يعتبره الآخرون اخطاء سياسية لا تغتفر من قبل النظام وتنازلهم عن مرجعيته.
تواطؤ جرّ ضعفاً
أبرز التحفظات الرائجة بين التيار الليبرالي الوطني وربما الاسلامي المعتدل عن نشاط المؤسسة الدينية هو تواطؤ رموز هذه المؤسسة ممثلة في تيارها المشيخي مع الاسرة المالكة، حيث لم يتوانَ الشيخ عبد العزيز بن باز من رسم طريق "مريح" للمهتمين بالاوضاع السياسية من ابناء المملكة عبر التأكيد على ان طريق السعادة هو في اتباع الحاكم وتنفيذ اوامره دون مراجعة او تحفظ. ولعل نشره بيانه بعد تفجير الرياض عام 1996 يعطي صورة واضحة كنموذج لذلك. فقد جاء في البيان، الآتي:
"لا ريب ان الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الامر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر لك خير وأحسن تأويلاً". هذا هو الطريق; طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الامور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم، فطاعة ولي الامر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الامر هم الامراء والعلماء، والواجب طاعتهم في المعروف، اما اذا أمروا بمعصية الله سواء كان أميراً او ملكاً او عالماً، او رئيس جمهورية، او غير ذلك، فلا طاعة له في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف"، والله يقول: "ولا يعصينك في معروف" يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول الله عز وجل: "فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم" فالله أمر بالتقوى، والسمع، والطاعة، يعني: في المعروف، لذا فإن النصوص يشرح بعضها بعضاً، ويدل بعضها على بعض، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الامور في الخير، والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن اسباب الفساد، والشر، والفرقة، والانحلال".
ويرى الشيخ ابن باز ان "من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق والشكر لها على ما تفعل من خير والثناء عليها بذلك. يجب عليهم معاونة الدولة في اصلاح الاوضاع في ما قد يقع فيه شيء من الخلل بالاسلوب الطيب وبالكلام الحسن لا بالتشهير وذكر العيوب في الصحف وعلى المنابر ولكن بالنصيحة وبالمكاتبة والتنبيه على ما قد يخفى حتى تزول المشاكل وحتى يحل محلها الخير والاصلاح وحتى تستقر النعم ويسلم الناس من حدوث النقم ولا سبيل الى هذا الا بالتناصح والتواصي بالخير". ولا ينسى الشيخ ان يؤكد على ان من واجب الدولة "أن تجتهد في ما يكون قد وقع من خلل في إصلاحه، وأن تجتهد في كل ما يرضي الله عز وجل ويقرب اليه، وفي إزالة كل ما نهانا عنه الله عز وجل وأن تقوم بواجبها في اصلاح ما هو مخالف للشرع، وأن تجتهد في إزالة ذلك بالتعاون مع العلماء والموظفين والمسؤولين الطيبين والصالحين ومع هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر".
لذا فالشيخ ابن باز يحصر العلاقة بين السلطة والمواطن في ولائه لها حتى في طريقة عرضه لمطالبه وهو هنا ييسر للحاكم ان لا تخرج الامور عن سيطرته ويمكنه من التحكم بقواعد اللعبة السياسية واستمرار سلطته قوية دون ضعف او مواجهة لتحديات قوية. ولكن المتمعن في ما أورده الشيخ ابن باز لا بد وان يلتفت الى إشراك ابن باز علماء الدين مع الامراء في ولاية الامر في قوله "فإن اولي الامر هم الامراء والعلماء"، ويعتقد علماء الدين الذين يوافقون ابن باز في رؤيته ان ضمهم لأنفسهم ضمن اولياء الامر إنما هو امتداد للتحالف والاتفاق الذي تم بين ابن عبد الوهاب وابن سعود. الا أن هذا الضم يواجه تحدياً قوياً من قبل الأسرة الحاكمة، ولا بأس هنا من ايراد هجوم الامير تركي الفيصل رئيس المخابرات السابق والسفير في لندن حالياً على الشيخ الدكتور عبدالله التركي حين تحدث عن ذلك في جريدة "الشرق الاوسط".
وبعيداً عن معركة تعريف ولي الامر، يؤيد الالتزام الأعمى بطاعة ولي الامر الشيخ محمد ابن عثيمين الذي كان يتمتع بشعبية قوية في قلب نجد، ليس فقط لمكانته العلمية، بل ولاعتباره قبلياً من وسط حواضر القصيم، كنانة نجد. ويشير العثيمين الى دليله في القبول بطاعة آل سعود بقوله: "حكم طاعة الخليفة وغيره من ولاة الامور واجبة في غير معصية الله لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المسلم في ما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فاذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وسواء كان الإمام براً وهو القائم بأمر الله فعلاً وتركاً، او فاجراً وهو الفاسق لقوله صلى الله عليه وسلم: "الا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة".
ويؤكد ابن عثيمين ان وجوب طاعة الحاكم ملزمة ما دام يقيم الصلاة على ارض البلاد حيث يورد ما يأتي: "قال صلى الله عليه وسلم: يكون عليكم امراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا. لا، ما صلوا. اي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. ومن فوائد الحديثين ان ترك الصلاة كفر بواح; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز الخروج على الأئمة الا بكفر بواح، وجعل المانع من قتالهم فعل الصلاة، فدل على أن تركها مبيح لقتالهم، وقتالهم لا يباح الا بكفر بواح".
يلخص الشيخ الجليل ابن عثيمين مشروعية الحاكم في اقامته الصلاة والالتزام بها مبرراً للخضوع للحاكم وتحريماً للخروج عليه. ولعل هذا ما يفسر ذلك الاهتمام المبالغ فيه من قبل النظام بالمساجد واقامتها والاعتناء بها وابراز ذلك اعلامياً، حتى ان الزائر لمدينة او قرية سعودية سيستغرب من عدد المساجد واتساعها رغم ان خدماتها لا تمس الا عدداً قليلاً اما لحجمها الكبير او لكثرتها في الحي الواحد. وهذا ايضاً يوضح سبب قرار الملك فهد بن عبد العزيز تلقيبه خادم الحرمين الشريفين واعلانه ذلك في المدينة المنورة وسط احتفال اعلامي رداً على كثرة الهجمات المختلفة التي تشكك في مدى التزام آل سعود بالدين وبدء تخليهم عن ترويج عباداته والالتزام به داخل المملكة.
الحوار من أجل الإصلاح
يؤمن زعماء المؤسسة الدينية في المملكة ان الحوار مع التيارات الاخرى من ليبرالية او غيرها غير شرعي، اذ في نظرهم كيف يمكن ادارة حوار مع من يقبل بحكم غير ما أنزل الله، ومع من يرى في الطقوس الدينية المرسومة من السماء غير مناسبة ويجب اما تطويرها وإما تغييبها. ولنرَ في هذا المثال ماهية الحوار الذي تريده المؤسسة، اذ يقول الشيخ ابن عثيمين: "النبي صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك. لكن إن كان في مجالستهم مصلحة لتبيين الحق لهم وتحذيرهم من البدعة فلا بأس بذلك، وربما يكون ذلك مطلوباً; لقوله تعالى: "ادعُ الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
يعتقد الشيخ ابن عثيمين ان الحوار مع الآخر هو من طرف واحد، اي دعوة وتحذير وتبيان لا حوار بين عقليتين مفتوحتين تأتيان للحوار من اجل الفهم والاطلاع على رؤى آخرى قد تقبلها او ترفضها. الحوار الذي تريد المؤسسة الدينية وجوده هو خطبة يلقيها الرمز وعلى الآخرين الانصات لها وقبولها. اي حوار من اتجاه واحد. وهذا ما يتجلى في جميع محاولات الحوار التي تمت بين مختلف التيارات السياسية في المملكة، ولعل جلسات الحوار الوطني التي تمت في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة توضح شدة الرفض الذي ووجه فيها من حاول فتح مجال للحوار حول قضايا حقوقية مهمة كعمل المرأة وقيادتها السيارة.
من شريك الى طرف مثل غيره
يرى رموز المؤسسة الدينية أن الجلوس امام مائدة مستديرة، تكفل لكل الجالسين حولها الحقوق نفسها في الحوار، امر غير محبذ، بل يمثل تجاوزاً على اسلامية البلاد. وحين يتم التأكيد على أهمية مراجعة التاريخ، وإغتنام فرص التطوير، وملاحظة المتغيرات الاجتماعية، لجأ التيار الاسلامي الى التأكيد على ان وجود النظام وبقاءه مرهونان بالاتفاق التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود. وفي هذا التأكيد تحذير بل وتهديد ان بقاء النظام واستقرار البلاد بشكلها الحالي لن يستمر اذا اقصي التيار الاسلامي عن دوره الرئيس في اللعبة السياسية الوطنية، وفي حال عومل كطرف مثل غيره دونما محاباة او تمييز. يرفض التيار الاسلامي بعنف ان يتراجع الى الصفوف الاخيرة وان تتساوى قامته مع التيارات السياسية الاخرى مكرراً انه يستمد سموه من الله ثم من ان البلاد لم توحد الا عبر جهوده وقبول الشيخ محمد بن عبد الوهاب الاتفاق مع ابن سعود. ولعل الانتقادات القاسية التي وجهها بعض رموز المؤسسة الى من قبل بدعوة النظام للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني توضح عدم قبول هذه المؤسسة التنازل عن موقعها المتعالي وقبولها بدور متساو مع غيرها.
الديموقراطية العمرية
تؤكد المؤسسة الدينية الرسمية على موقف موحد وقوي من الطروحات الديموقراطية، ففي قراءة سريعة لرؤيتها حول الحاكمية، يتضح انها ترى ان حصول الشرعية للحاكم يتم في ثلاث حالات: اولها، ان يكون معيناً كما فعل أبو بكر الصديق حين عين عمر بن الخطاب. وثانيها، ان يختار من اهل الحل والعقد كما فعل عمر بن الخطاب الذي عين من هم أهل الحل والعقد فتم اختيار عثمان بن عفان. اما الطريقة الثالثة، فهي القهر والغلبة كما في خلافة عبد الملك بن مروان حين قتل عبدالله بن الزبير وتمت الخلافة له. يرى منظرا السلفية الشيخ ابن باز وابن عثيمين، ان طاعة الحاكم المعين بهذه الطرق الثلاث واجبة في غير معصية.
وجوه غير مقنعة
ورغم ان التحالف بين المؤسسة الدينية الرسمية والعائلة المالكة واجه ضغوطاً قوية بعد رحيل الشيخين ابن باز وابن عثيمين وعدم توافر وجوه مقنعة للرأي العام، اذ تساقطت الرموز الدينية في شكل يماثل حقبة ما بعد بريجينيف، ورغم ان المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ تولى تأكيد الاصول التي التزمت بها المؤسسة الدينية الرسمية في الولاء والطاعة للملك وللعائلة المالكة، وقيامه بإطلاق فتاوى وأحكام توافق هوى الحكام وتشدد على الاخلاص لهم، الا أن المعضلة التي تواجه المؤسسة الدينية الرسمية في الوقت الراهن تتمثل في مواجهة تيارات اسلامية تسحب البساط من المؤسسة ذات الوجوه غير العصرية والتي لا تتفق طروحاتها مع تطلعات مجتمع يتعاطى مع عالم مليء بمثل وادوات حديثة لم تستطع الرموز الدينية التوافق معها بل وواجهتها الى يومنا الراهن.
نتيجة للتلقين الديني الذي تلقاه المواطن السعودي وبشكل مكثف، وارتفاع عاطفته الاسلامية، فإنه بحث عن اطمئنان في رموز دينية ذات صدقية ولديها قدرة على الاجابة عن اسئلة سياسية ودينية كثيرة. من ابرز هذه الاسئلة موقف المؤسسة الدينية من العلاقة مع الغرب وقضية الولاء والبراء وقضية مشروعية الحاكم السعودي التي صُدقت من قبل رموز المؤسسة لتطبيقه الشريعة، لكن ممارسات النظام قد لا تروق للمتشبثين بتفسيرات أكثر وضوحاً وربما تشدداً للنص الديني، خاصة ان هناك مواضيع ظاهرة التناقض مع النص الديني كالقبول بتواجد المصارف الربوية على الاراضي السعودية والتحالف مع من يسمونهم بالمشركين.
التضارب في تطبيق الشريعة والتهاون في اعلان الاحتجاج بل تبرير حضور القوات الاميركية على الاراضي السعودية، وما تلاه من فتوى الشيخ ابن باز بمشروعية الصلح مع اسرائيل، كل هذا جعل اسلاميين كثر يفرون من مظلة المؤسسة الدينية الرسمية الى تيارات اخرى جهادية او غيرها، بل ان قبول بعضهم للمثل الليبرالية تزايد بشكل سريع خاصة بعد 11 ايلول وتفجير المحيا، حيث وجدت فاعليات سياسية كثيرة تعمل على الساحة السعودية ان الوقت حان لايقاف المؤسسة الدينية عند حدها، باعتبارها ممثلاً غير أمين لمصالح المواطنين (...) وبدا وكأن رموزاً تنتظر رفع الحجاب الشعبي عنها، بعضها بسبب ما ذكرناه آنفاً وبعضها الآخر بسبب ترويجها للعنف بمختلف الطرق، حيث خرج من رحمها الجهاديون ولا تزال ترى في الجهاد عملاً مشروعاً مبرراً. ويمكن زيارة موقع الشيخ ابن باز على الانترنت للتأكد من ذلك.
وجوه مقنعة
فعل الشيخان سلمان العودة وسفر الحوالي فعلهما في إثخان جسد المؤسسة الدينية الرسمية بالجراح، حين أدارا صراعاً فعالاً أظهرا فيه قوة متميزة مستفيدين من اخطاء النظام الذي كرس شعبيتهما بسجنه اياهما في التسعينات. لم يندفع الشيخان في الهجوم على الرموز الدينية الكبيرة، بل حاولا استعمالهما لتعزيز موقعهما داخل مجتمعهما المحلي، فتمكن الشيخ سلمان العودة في ظل رحيل الشيخ ابن عثيمين من تبوؤ مكانة دينية محلية حشدت وراءه اسلاميين كثراً في منطقة القصيم بل وفي اماكن عديدة في المنطقة الوسطى. وقام العودة بتقديم نفسه كشيخ مستقل عن النظام، مبدياً حرصاً متزايداً لأن يكون قريباً من الناس. فأدار محاضرات ودروس في مسجده واستعمل التسجيلات الصوتية منادياً بإصلاح الدولة وأجهزتها وفق وجهة نظره، ولعل تسجيله الشهير "أسباب سقوط الدول" يوضح بعضاً من منهجه ورؤيته للاصلاح.
في غرب المملكة فعل الشيخ سفر الحوالي الطريقة نفسها، بل انه قام بتحد سافر للنظام اثناء غزو صدام حسين للعراق. ولا بأس من إيراد النص التالي من كتابه "كشف الغمة عن علماء الأمة" والذي أصدره في ذلك الوقت العصيب. يقول الدكتور سفر: "لقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا، وفشا المنكر في نوادينا، ودُعي الى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا، واستبحنا الربا حتى أن بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام الا خطوات معدودات. اما التحاكم الى الشرع - تلك الدعوى القديمة - فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا الا ما يُسميه اصحاب الطاغوت الوضعي الاحوال الشخصية، وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن، ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم، ومع ذلك وضعنا الاغلال الثقيلة على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام الخذلان، وشدة الهوان، ومن يُهن الله فما له من مُكرم".
ويصف الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل السعودي، الموقف في ذلك الحين: "يقف صدام حسين على بعد ساعات من الظهران، ويومين من الرياض، ويتخذ علماء المملكة أخطر قرار في تاريخ المملكة، بإجازة الاجراءات التي اتخذها ولي الامر للدفاع عن الكيان. وفي هذه اللحظات العصيبة يخرج الفقيه السياسي سفر الحوالي بشريط اسمه: "فروا الى الله" يشرح فيه ان القوات التي استعنا بها أخطر من العدو الذي لم تفصل بينه وبين الظهران سوى ساعات. كان هذا الشريط باباً للفتنة، أحدث بلبلة هائلة، وكان شرخاً في قلب الاجماع. وما لبث الفقيه السياسي سلمان العودة ان خرج بشريط آخر اسماه "اسباب سقوط الدول" زعم فيه أن الاستعانة بغير المسلمين كانت من أهم اسباب سقوط الدول، ثم انفتح الباب وتوالت الاشرطة، والخطب، والمناشير على نحو لم نعهده من مجتمعنا من قبل، لأننا لم نعهد طبقة الفقهاء السياسيين من قبل".
تبنى العودة والحوالي ومن تبعهما موجة الصحوة الاسلامية ورفعا علمها مبشرين اتباعهما بالسؤدد، وكانت ادواتهما تتمثل بـ"الكاسيت الاسلامي"، واستخدام المساجد لإلقاء الدروس والخطب والمحاضرات العامة، ونشر الكتب والكراريس، واقامة المخيمات. وتنبع أهمية هذين الشيخين - بحسب الاستاذ علي العميم - في قدرتهما على انشاء كلام إسلامي في قضايا سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية وفكرية لم يكن علماء المؤسسة الدينية والمشايخ التقليديون بقادرين على انشاء كلام مثله.
لكن العودة والحوالي بعدما نجحا في تقديم زعامتهما للمجتمع وقبول كثيرين بها، وجدا منحة اخرى من السماء مكنتهما من فرض شخصيتيهما على النظام كلاعبين مهمين على الساحة السياسية، وكانت هذه المنحة هي في تساقط الرموز المهمة على الساحة الدينية ورحيلها الى مثواها الاخير، ونشوب معركة شرسة بين الجهاديين والنظام. هنا وجد النظام السعودي نفسه امام تحد خطير: الجهاديون يستقطبون الشباب بطرحهم الجريء المتوافق مع قيم ابن باز وغيره ممن يحبذوه الجهاد كحل للعلاقة مع الآخر رغم تحفظ ابن باز وربط ذلك بموافقة ولي الامر، الا انه لم يقف ضد اصل منهج التكفير والقتل لمن يزعم أنهم مخالفون.
كانت المعركة بين النظام والجهاديين شرسة، ولا بد من استخدام وسائل ناجعة للانتصار فيها، فتجاهل من كانوا مسجونين وأعداء في السابق لا يحل المشكلة ولا يأتي بالاجماع، فاستقر الرأي في الوقت الحاضر على الاستعانة في مكافحة العنف بكل المخالفين السابقين ممن يمـــتلكون صدقية في الساحة الدينــية ممن لا غنى عن خدماتهم، فتضامن العــودة والحوالي مع النظام من اجل مواجهــة التيار الجهادي، وبذلا جهوداً ضخمة نجحت في استسلام العديد من الشخصيات الجــهادية والتي تقبلت دعوة الحوالي بالذات لهم، بينما رفضت دعوات المفتي العام او غيره من الشخصيات الدينية الرسمية.
لم يكن صراع العودة والحوالي مع النظام سوى رغبة في اصلاح النظام كي يكون اكثر التزاماً بالاسلام بحسب وجهة نظرهما، وبالتالي رغم سيطرتهما على الساحة الشبابية الاسلامية الا انهما في وقت ضعف النظام ومواجهته لهجمات متعددة من جهاديين محلياً الى غربية اعلامية في الخارج، اقنعت المواطن ان تحالف النظام مع الولايات المتحدة قد اختل وبالتالي تزعزعت قوة النظام، فقدم الشيخان للنظام ورقة لعب جديدة وهي شعبيتهما ونسيا الحديث عن اية مطالب اصلاحية حقيقية، ولم تتبين مطالباتهما الا في امور أمنية تخص الاسلاميين فقط.
نسي التيار الصحوي الاصلاح وحقوق الانسان السعودي وبدأ في ارتكاب الخطأ نفسه الذي قامت به المؤسسة الدينية الرسمية متمثلة في التيار المشيخي وانكشف امام المواطن العادي الذي كان ينتظر من الشيخين موقفاً قوياً ضد النظام، بحيث فشا اعتقاد شعبي بأن الشيخين يطمحان الى الوصول الى هيئة كبار العلماء، وبالتالي ملء فراغ احدثه وفاة الشيخين ابن باز وابن عثيمين.
الادوار المشبوهة
اضافة الى دور الشيخين العودة والحوالي في رسم خريطة جديدة للتيارات الاسلامية وتقدمهما بدعم حكومي كي يمثلا الخطاب الاسلامي السعودي، لا يمكننا تجاهل دور الشيخ عائض القرني وهو لاعب مهم على الساحة لكنه يقوم بدور مثير للجدل داخل الساحة الاسلامية فتطوعه للحوار مع شيوخ التيار الجهادي في التلفزيون السعودي الى درجة اتهامه من التيار الجهادي بتوليه دور المحقق امام الملأ عنى الكثير للمجتمع السعودي خاصة من يعرف ان الشيخ القرني كان احد كبار المحرضين والمنظرين للفكر الجهادي. وعرف عن القرني علاقته القوية بأسامة بن لادن وتقديمه الاخير لعبدالله عزام منظم مجموعات الافغان العرب في الثمانينات.
اضافــة الى دور القرني ينــتقد كثيرون ما يقوم به الشــيخ ســفر الحوالي من تنظيم صفقات مع الجهاديين لتسليم انفسهم للنظام. وقد يذهب البعض الى شكر الرجلين على جهودهما ضد عمليات القتل والسحل الدائرة على الاراضي السعودية، لكن المنطق يؤكــد ان الشيخين (ومعهما الشيخ العودة) عليهــما مسؤولية كبيرة في ايضاح موقفهما من الجهاد.
لقد كفّر هؤلاء التيارات الاخرى ولم يسلم ليبرالي او وطني متحرر من أذاهـم وكان حرياً بأن يعتذرا للشعب عن اكثر من عقدين من التأخر في مسـيرة الاصلاح بسبب غلوهما وجنوحهما الى التكفير وتحبيذ القتل والعسف والظلم وانتهاك الحريات.
عمل هؤلاء وقبلهم جهيمان العتيبي، على تحويل انتباه الشعب من الانفتاح على الثقافات الاخرى وتطوير المجتمع ومواصلة الضغوط لاصلاح النظام السياسي الى حروب لا طائل منها فبدلاً من ان ينساق ابناء الشعب في مسيرة العمل السلمي من اجل التغيير انبتوا بمساعدة حكومية كتلاً وخلايا جهادية قاتلت في اراض متعددة وها هي تعود الى ارض المنتج لتمارس ما خزنته من كراهية وعنف.
ورغم ان الاخطاء واضحة وبيّنة للجميع الا ان هؤلاء المشايخ يقومون في الوقت الراهن بدور تبريري وتحويلي آخر اذ بدلاً من ان يركزوا جهودهم لمصلحة المواطن ها هم ينقلون المعركة الى ساحة اخرى ويرفضون الاعتراف بأنهم أخطأوا في قيادة شباب الأمة الى طرق مظلمة وأنهم من المسببات الرئيسة للعنف السياسي في البلاد. الدور التحويلي الجديد هو مقاومة اطروحات الليبرالية المنفتحة وتثبيت ما يطلق عليه الخصوصية السعودية والخطر الثقافي الغربي على الاسلام.
يقوم هؤلاء الشيوخ بعمل كبير في هذا المجال، ولا يعترفون ان عليهم مهمة توعية الناس للحصول على حقوقها والانتقال معها الى دولة الشورى الحقيقية والمشاركة الشعبية وتداول السلطات حتى لو كانت ضمن الطروحات الاسلامية الحديثة.
الحامد والليبرالية الاسلامية
الأمل بوجود نقلة في الفكر السياسي الاسلامي السعودي يتمثل في الوقت الراهن في بناء تحالف اسلامي مع الليبراليين. ولعل أكبر رموز هذا الاتجاه، الدكتور عبدالله الحامد المعتقل حالياً بسبب عريضة الملكية الدستورية والتي وضعت في 16/12/2003 بالتعاون بين الدكتور متروك الفالح ومحمد سعيد طيب وآخرين من الاميين وليبراليين يرون ان اصلاح النظام السياسي يعتمد على إجتراح نظام فكري سياسي يحد من العسف السياسي ويؤسس لثقافة حقوقية. ويرى الحامد ان "ما يُسهّل قبول انظمة الحكم القائمة على حكم فرد او قلة ليس وجود اي مجموعة محددة من الافكار في الفكر السياسي العربي بل غيابها. لو عبرنا ببساطة: لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي العربي شيء يقارن بالقطيعة الجذرية مع الماضي التي قام بها مكيافللي وهوبز في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي تم تطويرها لاحقاً من عقيدة الديموقراطية الليبرالية في الاجيال التالية على يد لوك وروسو والتي جعلت مفهوم السيادة الشعبية مبدأ لا يشك فيه، بل ربما غير قابل للشك".
استشعر الحامد والفالح وطيب ورفاقهم أهمية التحرك على المستوى الفكري السياسي فبدأوا بوضع دستور لا ينساق لطروحات المؤسسة الدينية الرسمية القديمة والجامدة، ويقبل بالتعاطي مع التيارات الاخرى ضمن عقد اجتماعي يتفق وتطلعات الشعب السعودي للحصول على حقوقه وصيانة كرامته. لقد قبل الحامد والقصير والرشودي وهم من رحم المؤسسة الدينية التعاطي مع الليبراليين، وحين التقت الافكار خرج الجمــيع بما سمــوه "نــداء الى القــيادة والشــعب معاً: الاصلاح الدستوري اولاً" وتجلت في هذه الوثيقة مطالب ليبرالية بروح اسلامية وركزت على التحذير من الــتأخر في الاصلاح الذي سيدفع البلد ثمـنه عنفاً دموياً (...)
كانت وثيقة الملكية الدستورية خرقاً قوياً معلناً لسلطة الاسرة المالكة ومطالبة خطيرة استشعر النظام فداحة اهمالها في وقت عصيب، اذ ان تحالف الاسلاميين مع الليبراليين سيقضي على مشروعية النظام وقدرته على استخدام طرف ضد آخر، فتحالف الطرفان ضده، فصاغوا بنود وثيقتهم بقوة نداء وجمال وعد بحريات ومشاركة شعبية وحقوق انسان افضل ومحاربة للفساد مع الالتزام بالروح الوطنية الاسلامية، الامر الذي اطلق جرس الانذار لدى الحكومة السعودية فبادرت الى اجهاض هذا النداء الدستوري الخطير.
وللمرة الاولى يجد الاسلاموي السعودي بديلاً آخر يختلف (...) فالبديل الذي قدمه الحامد والفالح وطيب هو في نظر كثيرين نور في نهاية النفق لا بد من الوصول اليه مهما طال الزمن. تحددت المطالبة الجديدة بالشروع الفوري، في انتهاج طريق الاصلاح الدستوري ويتمثل بـ:
1- إقرار الحقوق والحريات العامة للمواطنين، التي قررها الاسلام قبل اربعة عشر قرناً من تنادي الأمم الحديثة اليها، ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية، على اختلاف مناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم، وطبقاتهم وانتماءاتهم، واتخاذ الاجراءات التي تضمن احترامها.
2- انتخاب مجلس لنواب الشعب، فالنواب من اهل العلم والخبرة والرأي والإيثار، الذين ينتخبهم الشعب، هم الامناء على مصالحه ومحل ثقــته، في الحل والعقد، ومحل إجماعه، بما يضمن قيام مجلس النواب بالرقـابة والمحاسبة، وتمكينه والمجالس المحلية من ممارسة المهمات والصلاحيات المنوطة بمثلها دستورياً.
3- تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: تنفيذية ونيابية وقضائية.
4- السعي الحثيث لتعزيز استقلال القضاء، عبر اجراءات وهياكل، تضمن حياده ونزاهته، ولاسيما في القضايا التي تكون الدولة طرفاً فيها، وتحديد القواعد القضائية وتوحيدها وإعلانها، وسـرعة البت في القضايا، والتنفيذ الفــوري لأحكام المحاكم، وانشاء محكمة دستورية شرعية عليا، تكون مرجعاً