حد من الوادي
04-22-2011, 02:21 AM
الرئيس المؤمن» يطل مجدداً
في بداية الثورة رفع المصحف طالباً التحكيم كما فعل فريق معاوية ثم عاد ليزجر مواطناته عن الاختلاط
المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي
ارتدى الرئيس المحتضر علي عبدالله صالح مسوح الرهبان حين طوقه غضب الثورة الشعبية الكبرى ليعظ مواطنيه في حرمة الاختلاط ظاناً أن تعريضه بعفة المنتظمات في الثورة ستضطرهن إلى مغادرة الساحات لهثاً منه وراء قضم جسد الثورة الذي تشيده أمواج هائلة من المنتفضين عليه.
وبقدر ما في فتوى الرئيس من خفة حيلة وسفاهة حلم غير أن جوهره الحقيقي يكشف تنطوي عليه أعماق الحكام العسكريين ممن سطوا على الحكم في المنطقة العربية بعد الثورة على الاستعمار الغربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لهؤلاء أمثلة كثيرة توضح كيف أنهم يقتحمون نواميس التحول وآدابه ليتحولوا في غضون ساعات من ضباط ثملين ومنغمسين في معاقرة اللذات المختلفة إلى خلفاء صالحين وأئمة للمسلمين.ولم يتقمصوا تلك التحولات إلا لاستحلال دماء معارضيهم ورشوة مجتمعاتهم المتدينة مقابل لهوها عما يصنعون بها من تدمير وتضييع.
ضمن هذه الحالة، تحول الرئيس السوداني السابق جفعر نميري من زعيم شيوعي إلى "إمام للمسلمين" خلال سبعينيات القرن الماضي واستقدم شهوداً من المنتمين للحركات الإسلامية من كل مكان ليشهدوا صنائعه وهو يهرق الخمر في سواحل بلاده في مشاهد عجيبة.
وتحت هذا الغطاء نكل برفاقه السابقين تنكيلاً باطشاً وأسس للمشاكل السودانية الراهنة ثم انصرف ليجثم على كرسيه الاستبدادي دون منغصات من شعبه الذي رشاه بيافطة الإسلام.
خلال السبعينيات أيضاً، انتهج الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق نفس النهج وإن لم يكن فارغ المضمون كحالة نميري لكنه فعلها؛ ارتدى قميص الإسلام ففرض الأحكام العرفية عقب الانقلاب الذي أوصله إلى الحكم وأعدم رئيس الحكومة السابقة ذو الفقار علي بوتو ثم أبلى بلاءه الحاسم في القتال ضد قوات الاتحاد السوفياتي بافغانستان بالمال الأميركي قبل أن يلقى حتفه في حادثة اغتيال عام 1988.
ولكي ينكل الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالشيوعيين والناصريين عقب أن آل إليه حكم مصر في بدايات السبعينيات من القرن الماضي فقد أطلق على نفسه "الرئيس المؤمن" وتغنت وسائل إعلامه بالتسمية سنيناً ثم مكن للجماعات المتشددة ليثبت نهجه الإسلامي عند المجتمع المصري المنصهر في التدين، لكنه في السر كان يضخم ذاته الدكتاتورية ويرمي ببصره نحو تل أبيب.
استبد السادات بقرار شعبه الكبير إلى حد أن فاجأه ومعه الشعوب العربية والإسلامية باتفاقية كامب ديفيد عام 1978 القاضية بالتطبيع مع الدولة العبرية. ولم يستوعب حلفاؤه الداخليون ونظراؤه العرب من هول الصدمة أن ذلك الإثم الكبير يصدر عن "الرئيس المؤمن".
حين اشتد الحصار الغربي على نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال تسعينيات القرن الماضي، تفتق ذهن الأخير عن "الحملة الإيمانية" فأطلق اليد لـ"فدائيي صدام" لتطبيق تعاليم الحملة على طريقتهم الوحشية في سحق المناوئين ورواد النوادي وسواهم .
وغير بعيد، أعلن العقيد معمر القذافي أواخر فبراير 2010 "الجهاد" على سويسرا "الكافرة" بعد أن أوقفت أحد أنجاله بموجب قوانينها الراقية في حماية حقوق الإنسان. ولم يجد من مبرر لإعلانه الجهاد سوى قرارها منع بناء مآذن جديدة للمساجد في نوفمبر 2009 بموجب استفتاء شعبي.
قال القذافي في خطاب له أمام حشد شعبي حينها "أي مسلم يشتري بضائع سويسرا هذا كافر، بلغوا المسلمين في كل مكان من العالم الإسلامي. أي مسلم في أي مكان من العالم يتعامل مع سويسرا كافر، ضد الإسلام . ضد محمد . ضد الله. ضد القرآن".
"سويسرا الكافرة الفاجرة التي تدمر بيوت الله، هذه التي يجب أن يُعلن عليها الجهاد بكل الوسائل. قاطعوا سويسرا، قاطعوا بضائعها، قاطعوا طائراتها، قاطعوا سفنها، قاطعوا سفاراتها".
وفي نهاية المطاف، لم يعلن القذافي أحد أسوأ الدكتاتوريين في العالم "الزحف المقدس" الذي ظل يهدد به الغرب لعقود من الزمن سوى على شعبه الذي انتفض مطالباً بالحرية بعد أربعة عقود من العيش في جحيم حكمه.
الرابط بين الرؤساء العسكريين الذين يلوذون إلى أسلمة المجتمعات لتحقيق نزواتهم من جعفر نميري حتى علي عبدالله صالح أنهم كلهم وصلوا إلى الحكم عبر الانقلابات والغدر وكلهم ارتموا في حضن الولايات المتحدة الأميركية إلى أقصى مدى كما أنهم استبدوا شعوبهم على نحو بشع.
وهم حين هربوا إلى قيم الدين، نزعوا منها الجوهر الروحي والإنساني الرائع وأبقوا على سلطتها الخارقة في المجتمعات الإسلامية ليستخدموها سوطاً في جلد معارضيهم وإدانتهم أمام مجتمعاتهم كمارقين على الشريعة.
ووجد الحكام الدكتاتوريون في هذه الحيلة أقصر الطرق لإخماد المخالفين وإلجام المجتمعات عن المطالبة بالحرية والعيش الكريم.
قبل أن يعلن علي عبدالله وراثة لقب "الرئيس المؤمن" يوم الجمعة الماضي ويصدر تعاليمه بحرمة الاختلاط، كان قد لاذ إلى الدين في بداية اشتداد موجة الاحتجاجات ضد حكمه في فبراير الماضي واستعار حيلة أنصار معاوية بن أبي سفيان الذين رفعوا المصاحف على أسنة الرماح طالبين التحكيم حين أحسوا بالهزيمة أمام مقاتلي علي بن أبي طالب في موقعة صفين.
اقتفى صالح حيلة فريق معاوية بحذافيرها حين أحس بالهزيمة أمام الشعب المنتفض ضده فخلال لقائه بشيوخ دين، رفع مصحفاً في الهواء وقال "بيننا وبينهم حكم الله" لكن الحيلة لم تنطلِ عليهم حتى الآن.
وكل الحكام الطغاة على هذه الشاكلة، يفيقون من قعر الملذات والفجور ليستدعوا حجة الله كي يقيموها على مجاميع الجياع والمضطهدين حين تعلو أصواتهم منادية بحياة تليق بالإنسان.
فمع أن القضية محكومة بدستور وقواعد ديمقراطية يزعم صالح أنه أرسى قواعدها لكنه أراد تصويرها على أنها مسألة خلاف شرعي بين حق يمثله نظامه وباطل دخيل يحاول الاعتداء على شرعيته. ولم يكن ذلك سوى رشوة منه أراد بها استمالة شيوخ الدين إلى صفة من خلال إيهامهم بأنه يحكم البلاد وفق أحكام الشريعة ولا يقطع في أمر دون الرجوع إليهم. وهذه المسألة تبهج علماء الدين بالطبع ممن يرنون إلى تطبيق الشريعة بدلاً عن الدساتير الحديثة ومبادئ الديمقراطية.
غير أن شيوخ الدين الذين ساندوا الرئيس في قرارات الحرب والسلم منذ 1990 اتخذوا أشجع قرار لهم خلال عقدين من الزمن تقريباً فأقاموا الحجة عليه وفقاً لمنطقه الديني السائد هذه الأيام قبل أن ينحازوا إلى المحتجين في قرار قد يساعد على محو الصورة العالقة في أذهان الجمهور عنهم منذ المعارك السياسية بشأن دستور دولة الوحدة.
والهروب إلى الخطاب الديني الانتهازي لدى الحكام المستبدين في المنطقة العربية والإسلامية يمثل إلى جانب استغلاله لتحقيق مآربهم الجشعة في السيطرة والتسلط مجهراً شديد التقريب لرؤيتهم المكنونة حيال الشعوب التي يحكمونها.
فخلال الأزمات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، يضرب هؤلاء صفحاً عن الديمقراطية التي يدعون أنهم يحكمون بموجبها ويخاطبون شعوبهم على أنها مجتمعات رعوية بدائية ومنقادة، فيستدعون مصطلحات شاعت في القرون الغابرة ولا صلة لها بما يجري الآن. وذلك يفضح مزاعمهم ويظهر مكنوناتهم كمخادعين يعلنون تمتع شعوبهم بمبادئ الحرية والديمقراطية وصناعة القرار في الوقت الذي يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن شعوبهم ليست غير مجاميع مسخرة وطيبة، يسهل خداعها.
في اليمن مثلاً، وضع الرئيس صالح وإعلامه الثورة الشعبية الجارفة في إطار الفتنة والاستهداف الخارجي فقط ورفع الأول المصحف يريد تحكيمه في الصراع وأشاع بين أنصاره أثراً إسلامياً يقول إن "الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها". وقبلها كان الرئيس نفسه قد وصم الاضطرابات الشعبية في مناطق الجنوب ومحافظة صعدة بالفتنة.
والسبت الماضي، تحدث الرئيس السوري بشار الأسد حول الانتفاضة الشعبية في بلاده لكنه لم يخرج عن إطار التوصيف التقليدي فاستشهد بآية قرآنية جاء فيها أن "الفتنة أشد من القتل" واصفاً ما يحدث بالفتنة والمؤامرة الخارجية على سوريا.
كذلك لم يغب مصطلح الفتنة عن الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك فأورده في خطاباته التي ألقاها خلال ثورة يناير.
في قاموس السياسة الحديثة، لا شيء اسمه فتنة بل مشاكل اجتماعية أو أزمات سياسية ..أو انتفاضة شعبية كالتي تجتاج المنطقة العربية في أخصب سنينها وأروعها على الإطلاق. والحاكم المشبع بالتخلف والدكتاتورية هو من يستحضر "الفتنة" من بطون الكتب القديمة ليصف بها احتجاجات مواطنيه أما في العالم المتحضر ولدى الرؤساء الديمقراطين فلا مجال لذكرها.
هذه الأمثلة هي نزر يسير يؤكد استقواء الدكتاتوريات العربية الحديثة بالقواعد الدينية المحرفة من أجل اضطهاد الخصوم السياسيين والقضاء على تطلعات الشعوب في مهدها.
وبقدر ما كان حديث صالح عن الاختلاط في ساحة التغيير بصنعاء تعريضاً بالمحتجات ضده فإنه كان تعريضاً بعلماء الدين الذين خالفوا رغبته بشأن الاحتجاجات وجرًموا قمعها وربما أراد من ذلك الحديث استنفار العيب الاجتماعي لدى المجتمع المحافظ ليمنع اشتراك نسائه في الثورة وهو تقدير غبي أسهم في زيادة إقبال النساء على ساحات الثورة بفعل الغضب المتولد عن خطبة الاختلاط.
كان الأولى بساحات الثورة تصعيد أشكال الثورة السلمية ضد نظام صالح الذي يحتقر المرأة ويسيء لها لا الانشغال بالرد على حديثه بالمظاهرات النسائية الخالصة لنفي وقوع الاختلاط في الساحات فهذا الرد يجاري تفكير الرجل حيال المرأة ويصب في خانة التخلف نفسها بصرف النظر عن ثائرة الغيرة والعفة وغيرهما.
فحديث الاختلاط يدين صالح من حيث المبدأ دون الحاجة إلى تأويل تعريضه ومقاصده وذلك بوصفه نظرة متخلفة ودونية إلى المرأة، تصدر عن شخص متخلف تجاوزه العصر وهو ما يضيف سبباً آخر للإطاحة به خصوصاً أن معظم المنتظمين في الثورة تشكل أعمارهم أجيالاً شابة، يجب أن تملك المرأة في ظلها بشخصيتها المستقلة وتنفك عنها قيود الإعاقة الاجتماعية والمحظورات الدينية المحرفة والمتنطعة.
والحقيقة الشاخصة اليوم تؤيد ما صدر عن الرئيس إذ لم تعرف المرأة اليمنية احتقاراً لذاتها وأهليتها كالذي نالها في عهده الظلامي فخُلعت عليها سائر الأسمال إمعاناً في تغطيتها من أعلى الرأس حتى أخمص القدم ككائن لا يستحق رؤية النور فضلاً عن تحويلها إلى عورة وعار متحركين، يجب التستر عليهما وحبسهما داخل المنازل.
كما قذف عهد صالح بالمرأة إلى الشارع للتسول وإعالة صغارها المعدمين في ظل معدل قياسي للأمية في أوساط اليمنيات. إن أولى الناس بهذه الثورة هي المرأة. وإن كان الرجال ثاروا طلباً للكرامة والحرية الكاملة فجدير بالمرأة اليمنية أن تثور مرتين؛ مرة لاستعادة ذاتها ومرة تسهم بها في الثورة الشعبية الشاملة.
في بداية الثورة رفع المصحف طالباً التحكيم كما فعل فريق معاوية ثم عاد ليزجر مواطناته عن الاختلاط
المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي
ارتدى الرئيس المحتضر علي عبدالله صالح مسوح الرهبان حين طوقه غضب الثورة الشعبية الكبرى ليعظ مواطنيه في حرمة الاختلاط ظاناً أن تعريضه بعفة المنتظمات في الثورة ستضطرهن إلى مغادرة الساحات لهثاً منه وراء قضم جسد الثورة الذي تشيده أمواج هائلة من المنتفضين عليه.
وبقدر ما في فتوى الرئيس من خفة حيلة وسفاهة حلم غير أن جوهره الحقيقي يكشف تنطوي عليه أعماق الحكام العسكريين ممن سطوا على الحكم في المنطقة العربية بعد الثورة على الاستعمار الغربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لهؤلاء أمثلة كثيرة توضح كيف أنهم يقتحمون نواميس التحول وآدابه ليتحولوا في غضون ساعات من ضباط ثملين ومنغمسين في معاقرة اللذات المختلفة إلى خلفاء صالحين وأئمة للمسلمين.ولم يتقمصوا تلك التحولات إلا لاستحلال دماء معارضيهم ورشوة مجتمعاتهم المتدينة مقابل لهوها عما يصنعون بها من تدمير وتضييع.
ضمن هذه الحالة، تحول الرئيس السوداني السابق جفعر نميري من زعيم شيوعي إلى "إمام للمسلمين" خلال سبعينيات القرن الماضي واستقدم شهوداً من المنتمين للحركات الإسلامية من كل مكان ليشهدوا صنائعه وهو يهرق الخمر في سواحل بلاده في مشاهد عجيبة.
وتحت هذا الغطاء نكل برفاقه السابقين تنكيلاً باطشاً وأسس للمشاكل السودانية الراهنة ثم انصرف ليجثم على كرسيه الاستبدادي دون منغصات من شعبه الذي رشاه بيافطة الإسلام.
خلال السبعينيات أيضاً، انتهج الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق نفس النهج وإن لم يكن فارغ المضمون كحالة نميري لكنه فعلها؛ ارتدى قميص الإسلام ففرض الأحكام العرفية عقب الانقلاب الذي أوصله إلى الحكم وأعدم رئيس الحكومة السابقة ذو الفقار علي بوتو ثم أبلى بلاءه الحاسم في القتال ضد قوات الاتحاد السوفياتي بافغانستان بالمال الأميركي قبل أن يلقى حتفه في حادثة اغتيال عام 1988.
ولكي ينكل الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالشيوعيين والناصريين عقب أن آل إليه حكم مصر في بدايات السبعينيات من القرن الماضي فقد أطلق على نفسه "الرئيس المؤمن" وتغنت وسائل إعلامه بالتسمية سنيناً ثم مكن للجماعات المتشددة ليثبت نهجه الإسلامي عند المجتمع المصري المنصهر في التدين، لكنه في السر كان يضخم ذاته الدكتاتورية ويرمي ببصره نحو تل أبيب.
استبد السادات بقرار شعبه الكبير إلى حد أن فاجأه ومعه الشعوب العربية والإسلامية باتفاقية كامب ديفيد عام 1978 القاضية بالتطبيع مع الدولة العبرية. ولم يستوعب حلفاؤه الداخليون ونظراؤه العرب من هول الصدمة أن ذلك الإثم الكبير يصدر عن "الرئيس المؤمن".
حين اشتد الحصار الغربي على نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال تسعينيات القرن الماضي، تفتق ذهن الأخير عن "الحملة الإيمانية" فأطلق اليد لـ"فدائيي صدام" لتطبيق تعاليم الحملة على طريقتهم الوحشية في سحق المناوئين ورواد النوادي وسواهم .
وغير بعيد، أعلن العقيد معمر القذافي أواخر فبراير 2010 "الجهاد" على سويسرا "الكافرة" بعد أن أوقفت أحد أنجاله بموجب قوانينها الراقية في حماية حقوق الإنسان. ولم يجد من مبرر لإعلانه الجهاد سوى قرارها منع بناء مآذن جديدة للمساجد في نوفمبر 2009 بموجب استفتاء شعبي.
قال القذافي في خطاب له أمام حشد شعبي حينها "أي مسلم يشتري بضائع سويسرا هذا كافر، بلغوا المسلمين في كل مكان من العالم الإسلامي. أي مسلم في أي مكان من العالم يتعامل مع سويسرا كافر، ضد الإسلام . ضد محمد . ضد الله. ضد القرآن".
"سويسرا الكافرة الفاجرة التي تدمر بيوت الله، هذه التي يجب أن يُعلن عليها الجهاد بكل الوسائل. قاطعوا سويسرا، قاطعوا بضائعها، قاطعوا طائراتها، قاطعوا سفنها، قاطعوا سفاراتها".
وفي نهاية المطاف، لم يعلن القذافي أحد أسوأ الدكتاتوريين في العالم "الزحف المقدس" الذي ظل يهدد به الغرب لعقود من الزمن سوى على شعبه الذي انتفض مطالباً بالحرية بعد أربعة عقود من العيش في جحيم حكمه.
الرابط بين الرؤساء العسكريين الذين يلوذون إلى أسلمة المجتمعات لتحقيق نزواتهم من جعفر نميري حتى علي عبدالله صالح أنهم كلهم وصلوا إلى الحكم عبر الانقلابات والغدر وكلهم ارتموا في حضن الولايات المتحدة الأميركية إلى أقصى مدى كما أنهم استبدوا شعوبهم على نحو بشع.
وهم حين هربوا إلى قيم الدين، نزعوا منها الجوهر الروحي والإنساني الرائع وأبقوا على سلطتها الخارقة في المجتمعات الإسلامية ليستخدموها سوطاً في جلد معارضيهم وإدانتهم أمام مجتمعاتهم كمارقين على الشريعة.
ووجد الحكام الدكتاتوريون في هذه الحيلة أقصر الطرق لإخماد المخالفين وإلجام المجتمعات عن المطالبة بالحرية والعيش الكريم.
قبل أن يعلن علي عبدالله وراثة لقب "الرئيس المؤمن" يوم الجمعة الماضي ويصدر تعاليمه بحرمة الاختلاط، كان قد لاذ إلى الدين في بداية اشتداد موجة الاحتجاجات ضد حكمه في فبراير الماضي واستعار حيلة أنصار معاوية بن أبي سفيان الذين رفعوا المصاحف على أسنة الرماح طالبين التحكيم حين أحسوا بالهزيمة أمام مقاتلي علي بن أبي طالب في موقعة صفين.
اقتفى صالح حيلة فريق معاوية بحذافيرها حين أحس بالهزيمة أمام الشعب المنتفض ضده فخلال لقائه بشيوخ دين، رفع مصحفاً في الهواء وقال "بيننا وبينهم حكم الله" لكن الحيلة لم تنطلِ عليهم حتى الآن.
وكل الحكام الطغاة على هذه الشاكلة، يفيقون من قعر الملذات والفجور ليستدعوا حجة الله كي يقيموها على مجاميع الجياع والمضطهدين حين تعلو أصواتهم منادية بحياة تليق بالإنسان.
فمع أن القضية محكومة بدستور وقواعد ديمقراطية يزعم صالح أنه أرسى قواعدها لكنه أراد تصويرها على أنها مسألة خلاف شرعي بين حق يمثله نظامه وباطل دخيل يحاول الاعتداء على شرعيته. ولم يكن ذلك سوى رشوة منه أراد بها استمالة شيوخ الدين إلى صفة من خلال إيهامهم بأنه يحكم البلاد وفق أحكام الشريعة ولا يقطع في أمر دون الرجوع إليهم. وهذه المسألة تبهج علماء الدين بالطبع ممن يرنون إلى تطبيق الشريعة بدلاً عن الدساتير الحديثة ومبادئ الديمقراطية.
غير أن شيوخ الدين الذين ساندوا الرئيس في قرارات الحرب والسلم منذ 1990 اتخذوا أشجع قرار لهم خلال عقدين من الزمن تقريباً فأقاموا الحجة عليه وفقاً لمنطقه الديني السائد هذه الأيام قبل أن ينحازوا إلى المحتجين في قرار قد يساعد على محو الصورة العالقة في أذهان الجمهور عنهم منذ المعارك السياسية بشأن دستور دولة الوحدة.
والهروب إلى الخطاب الديني الانتهازي لدى الحكام المستبدين في المنطقة العربية والإسلامية يمثل إلى جانب استغلاله لتحقيق مآربهم الجشعة في السيطرة والتسلط مجهراً شديد التقريب لرؤيتهم المكنونة حيال الشعوب التي يحكمونها.
فخلال الأزمات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، يضرب هؤلاء صفحاً عن الديمقراطية التي يدعون أنهم يحكمون بموجبها ويخاطبون شعوبهم على أنها مجتمعات رعوية بدائية ومنقادة، فيستدعون مصطلحات شاعت في القرون الغابرة ولا صلة لها بما يجري الآن. وذلك يفضح مزاعمهم ويظهر مكنوناتهم كمخادعين يعلنون تمتع شعوبهم بمبادئ الحرية والديمقراطية وصناعة القرار في الوقت الذي يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن شعوبهم ليست غير مجاميع مسخرة وطيبة، يسهل خداعها.
في اليمن مثلاً، وضع الرئيس صالح وإعلامه الثورة الشعبية الجارفة في إطار الفتنة والاستهداف الخارجي فقط ورفع الأول المصحف يريد تحكيمه في الصراع وأشاع بين أنصاره أثراً إسلامياً يقول إن "الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها". وقبلها كان الرئيس نفسه قد وصم الاضطرابات الشعبية في مناطق الجنوب ومحافظة صعدة بالفتنة.
والسبت الماضي، تحدث الرئيس السوري بشار الأسد حول الانتفاضة الشعبية في بلاده لكنه لم يخرج عن إطار التوصيف التقليدي فاستشهد بآية قرآنية جاء فيها أن "الفتنة أشد من القتل" واصفاً ما يحدث بالفتنة والمؤامرة الخارجية على سوريا.
كذلك لم يغب مصطلح الفتنة عن الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك فأورده في خطاباته التي ألقاها خلال ثورة يناير.
في قاموس السياسة الحديثة، لا شيء اسمه فتنة بل مشاكل اجتماعية أو أزمات سياسية ..أو انتفاضة شعبية كالتي تجتاج المنطقة العربية في أخصب سنينها وأروعها على الإطلاق. والحاكم المشبع بالتخلف والدكتاتورية هو من يستحضر "الفتنة" من بطون الكتب القديمة ليصف بها احتجاجات مواطنيه أما في العالم المتحضر ولدى الرؤساء الديمقراطين فلا مجال لذكرها.
هذه الأمثلة هي نزر يسير يؤكد استقواء الدكتاتوريات العربية الحديثة بالقواعد الدينية المحرفة من أجل اضطهاد الخصوم السياسيين والقضاء على تطلعات الشعوب في مهدها.
وبقدر ما كان حديث صالح عن الاختلاط في ساحة التغيير بصنعاء تعريضاً بالمحتجات ضده فإنه كان تعريضاً بعلماء الدين الذين خالفوا رغبته بشأن الاحتجاجات وجرًموا قمعها وربما أراد من ذلك الحديث استنفار العيب الاجتماعي لدى المجتمع المحافظ ليمنع اشتراك نسائه في الثورة وهو تقدير غبي أسهم في زيادة إقبال النساء على ساحات الثورة بفعل الغضب المتولد عن خطبة الاختلاط.
كان الأولى بساحات الثورة تصعيد أشكال الثورة السلمية ضد نظام صالح الذي يحتقر المرأة ويسيء لها لا الانشغال بالرد على حديثه بالمظاهرات النسائية الخالصة لنفي وقوع الاختلاط في الساحات فهذا الرد يجاري تفكير الرجل حيال المرأة ويصب في خانة التخلف نفسها بصرف النظر عن ثائرة الغيرة والعفة وغيرهما.
فحديث الاختلاط يدين صالح من حيث المبدأ دون الحاجة إلى تأويل تعريضه ومقاصده وذلك بوصفه نظرة متخلفة ودونية إلى المرأة، تصدر عن شخص متخلف تجاوزه العصر وهو ما يضيف سبباً آخر للإطاحة به خصوصاً أن معظم المنتظمين في الثورة تشكل أعمارهم أجيالاً شابة، يجب أن تملك المرأة في ظلها بشخصيتها المستقلة وتنفك عنها قيود الإعاقة الاجتماعية والمحظورات الدينية المحرفة والمتنطعة.
والحقيقة الشاخصة اليوم تؤيد ما صدر عن الرئيس إذ لم تعرف المرأة اليمنية احتقاراً لذاتها وأهليتها كالذي نالها في عهده الظلامي فخُلعت عليها سائر الأسمال إمعاناً في تغطيتها من أعلى الرأس حتى أخمص القدم ككائن لا يستحق رؤية النور فضلاً عن تحويلها إلى عورة وعار متحركين، يجب التستر عليهما وحبسهما داخل المنازل.
كما قذف عهد صالح بالمرأة إلى الشارع للتسول وإعالة صغارها المعدمين في ظل معدل قياسي للأمية في أوساط اليمنيات. إن أولى الناس بهذه الثورة هي المرأة. وإن كان الرجال ثاروا طلباً للكرامة والحرية الكاملة فجدير بالمرأة اليمنية أن تثور مرتين؛ مرة لاستعادة ذاتها ومرة تسهم بها في الثورة الشعبية الشاملة.