المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صنعاء" آخر مهمة رئاسية: تصدير الانحدار السياسي


حد من الوادي
05-06-2011, 01:51 AM
آخر مهمة رئاسية: تصدير الانحدار السياسي
ماذا لو نقل صالح بيئة الحكم من القصر إلى اللجنة الدائمة وأوهمنا أنه قد سلم السلطة

المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي

الرئيس علي عبدالله صالح بصدد اجتراح فصل جديد من الانحدار السياسي المغموس في قيم شخصية سقيمة لا علاقة لها بقواعد السياسة المحترمة.

السبت الماضي، أفلت صالح مرة أخرى من المصادقة على تنحيه عن الحكم للمرة الثانية بعد أن رفض التوقيع على الاتفاق الخليجي لنقل السلطة، موجهاً إهانة شخصية وسياسية لأمين عام مجلس دول التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني الذي قدم إلى صنعاء واجتمع بالأول محاولاً إقناعه بالتوقيع لكنه عاد أدراجه خالي الوفاض.


داخلياً، لصالح باع لا يبارى في إفساد السياسة وإفراغها من مقاصدها المتصلة بتعايش الشعوب والأحزاب والأعراق وبوصفها الآلية السلمية لاحتواء الأزمات والنزاعات بدلاً عن الحلول العنيفة. على مدى ثلاثة عقود ونيف ظل الرئيس يرتدي عباءة السياسة في العلن أمام المحافل الوطنية والدولية، وسراً كان يبطش بالسياسة وبأطرافها الصدوقين، ويستخف بما تنتجه أي عملية في هذا الإطار إلى حد أنه اكتسب حاسة شاذة تمكنه من التزحلق على ظهر المشكلات الكبيرة عبر استدعاء السياسة ثم تمييع فاعليتها على طريقته الخالية تماماً من المبالاة.

كان كل همه حين تبرز مشكلة وطنية، طرفها نظام حكمه أن يكون الطرف الآخر على علاقة بالسياسة أو مستعداً للتعاطي معها. وفي حال لم يكن داخل الإطار السياسي فإن أول ما يتلقاه من صالح هي نصيحة رثة وعليلة من كثرة العرض: شكلوا حزباً حزباً سياسياً ونحن مستعدون للحوار معكم.


وهذه النصيحة المملة هي أكثر ما يتردد في خطابات الرئيس منذ ثلاثة أشهر موجهة لشبان الثورة الشعبية، غير أنها لا تمر أبعد من صدى مكبر الصوت المجهد بالأحاديث الماكرة فالقنوات صارت مسدودة بعد تجارب مريرة.

ولجماعة الحوثيين من النصيحة نصيب وافر أيضاً، إذ سمعتها مراراً من صالح نفسه ولذات الغرض. الأطراف الغضة والمتجردة من المصالح والمسؤوليات تتخذ مواقف صلبة مستقيمة فيصعب عليه تدجينها أو تطويعها لتتعايش مع هزله المستديم. وحين يتحقق أنه وصل إلى هذه القناعة، يطلق صيحة الأحزاب ناصحاً بها.


ولو استقام له الأمر ونزه مسعاه من الوقيعة والغدر لأدرك أن تلك الأطراف لم تخرج للكفاح من أجل حاجاتها المشروعة خارج السياق السياسي إلا بعد قنوطها من الحل السياسي على طريقة علي عبدالله صالح وبعد عقدين من التجارب المريرة المليئة بنهايات سياسية محبطة.

ذلك حق، فقد رأى هؤلاء في السياسة محاباة مخلة بمفهوم الوطنية السائد في هذه البلاد بعد أن حول النظام الحاكم العملية السياسية إلى جاسوسة خدينة في قصر الحكم، بمقدورها أن تأتي له بما كان يعزً عليه قبل إقرار الديمقراطية وتعدد الأحزاب فاستمرأ ابتذالها وتجنيدها للقضاء على المتاعب التي تقترب منه. قد يكون هذا هو الوجه الوحيد الذي فهمه النظام من الجملة القائلة إن السياسية حرب ناعمة.


غير أنه في الحقيقة ظل يضخ إليها كل ما من شأنه الانحدار بها وتأثيمها عند عامة الناس الذين فقدوا الأمل في أنها ما تزال صالحة لحل المآزق الوطنية. وهو شعور كاد يسيطر على السياسيين حتى.

كان مذهب السياسة عند صالح قد صار كتاباً مفتوحاً، فقهه كبار الساسة وغالبية البسطاء. وغدا لسان حال المضطهدين والمغبونين يقول: لقد قُضي علينا في ظل السياسة الكاذبة. علينا أن نتدارك ما تبقى من أمرنا. ثم شرعوا بالخروج ليرفعوا صيحاتهم تحت الهواء الطلق معلنين خلع الوسيط السياسي الذي غاب في المتاهة ولم يرجع بحلول لحاجاتهم المتعددة.


فخرج الحوثيون في صعدة عام 2004 قبل أن يُضطروا إلى امتشاق السلاح والمواجهة حتى الفناء. ثم لحق بهم مواطنو المناطق الجنوبية بعد ثلاثة أعوام: كلما كانوا يخرجون لإفراغ صيحات القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي كان موت الحكومة يتربص بهم في كل شارع وساحة. وفي كل خروج كان يقتنص روح أحدهم ويغرز الرصاص في أجساد آخرين بيد أنهم لم يفقدوا الأمل حتى حل موعد الخروج الكبير والثورة النهائية في عام الخصب العربي؛ هذا العام.

لكن بعد أن تعفنت بضاعة النظام السياسية داخلياً وعجزت عن إقناع الناس بالعودة إلى منازلهم لمًا أجمعوا على زيفها ومكرها، ها هو يشرع هذه الأيام في تصديرها إلى الدول الجارة والحلفاء الخارجيين.

للمرة الثانية يراوغ رئيس النظام في قبول الاتفاق الذي رعته الدول الخليجية ودعمته دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية بعد أن توسل هو قادتها ليتحركوا بالوساطة لدى الأطراف السياسية التي تتقاسم مع المحتجين في ساحات الثورة الغاية نفسها.

وهو بارع في السير داخل هذه الحالة بوصفها الحقل الوحيد حيث يتجلى إبداعه. في المرة الأولى رفض الاتفاق الخليجي لنقل السلطة بحجة أن الرؤية القطرية تغلب عليه فادعى الانفعال والمشاكسة ثم هتف في ميدان السبعين عالياً: مرفوضة. رددها ثلاث مرات وصب جام غضبه على كل ما له صلة بقطر.


عدل الخليجيون الاتفاق وضمنوه عنايات وامتيازات إلى حد الحفاوة به في حالة غير مسبوقة من التسامح المتطفل، لا يحلم به أي دكتاتور يحصد رؤوس المحتجين المسالمين بنسق شبه يومي، غير أن ذلك لم يرق له أيضاً ففاجأ الداخل والخارج برفض التوقيع على الاتفاق المعدل يوم السبت الماضي بالرغم من الغضب العارم الذي يجتاح ساحات الثورة على بنوده وإجراءاته التنفيذية.

ذلك يظهر كم هو حبل الأمل طويل في نفس صالح، إذ بالرغم من ارتكابه سابقة سياسية برفض التوقيع على الاتفاق دون سابق إبلاغ حول تحفظه إلا أنه في اليوم التالي لفعلته، هاتف قادة الخليج باستثناء أمير دولة قطر.

ووفقاً لوكالة سبأ الحكومية فإن صالح جدد ترحيبه بالاتفاق خلال اتصاله بالعاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز وأكد "ضرورة تنفيذها كمنظومة متكاملة غير قابلة للتجزئة والانتقائية وبحيث يتم تنفيذ بنودها بحسب أولوياتها وبحيث ينفذ البند التالي بعد تنفيذ البند الذي سبقه، وبما لا يتنافى مع دستور الجمهورية اليمنية وبما يكفل إنهاء الأزمة التي افتعلها الانقلابيون والمأزومون لجر الوطن إلى الفتنة والصراع".

ولم ترد هذه المطالب الرئاسية إلا في حديث صالح مع العاهل السعودي ورئيس دولة الإمارات، طبقاً للأخبار المنشورة في موقع "سبأ" بشأن مضمون اتصالات الأول مع القادة الخليجيين.


يبدو هذا المسعى واضحاً، فالرئيس الذي يتملكه قلق الخلع من موقع أدمن عليه يرمي إلى خطة، ينفخ بموجبها أنفاسه الرئاسية في أحد مساعديه الأكثر إخلاصاً له كي يواصل الحكم من خلاله فيغدو ما سيمليه عليه الاتفاق مجرد التخلي عن مراسم الرئاسة الشكلية فقط.

في إطار ذلك، فهو يسعى الآن إلى إقناع مجلس التعاون الخليجي لتعديل الاتفاق مرة ثالثة وتضمينه التوصيات التي يلح عليها في خطاباته وأحاديثه الصحفية كلها، وقد فصلها في حديثه مع العاهل السعودي كما أوردت الأخبار وعلى رأسها تطبيق الاتفاق بما لا يتنافى مع الدستور اليمني.


يؤيد ذلك أنه طرحها على العاهل السعودي ورئيس دولة الإمارات المتعاطفين معه إلى حد ما، فيما لم يقترحها على أمير الكويت وسلطان عمان غير المتحمسين لتدليل خروجه من الحكم أكثر مما يقضي الاتفاق بصيغته الحالية.

وتفسير صالح لهذه التوصية التي يستميت من أجلها هو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، في تقديره أنه سيربحها لصالح المرشح الذي سينتقيه هو ليكون مرشحاً للمؤتمر الشعبي العام ثم سيسلم السلطة له.

تنأى هذه الخطة بصالح عما يراها هزيمة ونيلاً من كبريائه بتجريده من السلطة كما تضمن له الاستمرار في الحكم وكيل الأذى للحياة السياسية التي يتوقع أن تقوم على أنقاض نظام الحكم الحالي.

بل إن أعضاء قياديين في المؤتمر الشعبي الحاكم يقولون إن مقاصد رئيس حزبهم من المماطلة في توقيع الاتفاقات تتجاوز تلك الطموحات إلى غايات لن تتضح إلا لاحقاً.
هذا ما يُخشى منه؛ أن ينقل علي صالح بيئة الحكم من القصر الجمهوري إلى مقر اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام ويوهمنا أنه قد سلم السلطة. إن ما يخطط له لا يختلف كثيراً عن هذا الافتراض.

والموقف الخليجي والدولي هو المعول عليه أمام هذه الحالة التي يريد فيها الرئيس تصدير الابتذال السياسي إلى ساحات العمل السياسي الخارجية. أي اتخاذ موقف حازم لتأديب الصبيانية السياسية عند علي صالح وحمله على التقيد بقواعد العمل مع الآخرين، أما الثورة اليمنية فهي قادرة على المضي قدماً واجتراح النهاية التي تكافىء تضحياتها.