-
سقيفة إسلاميات
(
http://www.alshibami.net/saqifa//forumdisplay.php?f=63)
بومحفوظ |
08-22-2009 12:03 AM |
قصص رواها النبي علية افضل الصلاة والتسليم
الملك الزاهد في ملكه
قال التلميذ لشيخه ، وقد جلس بين يديه صباح يوم صيفي جميل ، بعد أن انتهى الناس من صلاة الفجر : يا مولاي لمَ تقوم الشعوب في كثير من الأحيان بثورات على حكامهم ؟
قال الشيخ :
قد يظلمون رعيتهم ، فيُحمّلونهم ما لا يُطيقون ،
وقد تكون أحكامهم جائرة ،
وقد يتهاونون في تحمل مسؤولياتهم ،
وقد يفشلون في اتخاذ الأسباب التي تحفظ كرامة الأمة ،
وقد يتعاونون مع العدو لضعف يشعرون به أمامه ولا يعملون على الاستعداد له ،
أو يتعاملون مع العدو الذي صنعهم ليخدموه ، وليكونوا أداة القمع والإذلال لشعوبهم ... وهناك عوامل كثيرة – يا بني – تدفع الأمم إلى هذه الثورات .
قال التلميذ :
ولكنّ الشعوب هي التي تختار حكامها ، وكان أولى بها أن تختار من هو أهل لذلك .
قال الشيخ :
صدقت – يا بني – فالاختيار الجيد طريقة سليمة في الوصول إلى سُدّة الحكم ، فاختيار الحاكم يعتمد على أسس سليمة مثل الفهم الواسع ، والأهلية التي يتسم بها مثل : حسن الأخلاق والسيرة والسلوك الطيب ، وعلى رأس ذلك التزامُه بدينه وغَيرتُه عليه ، والعملُ بشريعة الله ، والعدلُ بين الرعية ...
ولكنْ هناك من يَغصب الحكم غصباً ، وهناك من يرثه وليس أهلاً له ، فيستغلون ملكهم ومناصبهم لمآربهم الشخصية معرضين عن مصلحة الوطن والأمة .. وحين تتحرك الجماهير رافضة أمثال هؤلاء معبرة عن غضبها يتشبثون بكراسيّهم وعروشهم بالنار والحديد ، فإذا هَوت العروش من تحتهم ، ومادت الأرض بهم استعانوا بالأعداء ليتمكنوا ، فلا تجد الشعوب بداً من اقتلاعهم ، فتثور عليهم .
قال التلميذ :
أكثر الحكام هذه الأيام من هذا الصنف المخزي - يا سيّدي – ما إنْ يمسكون بمقاليد الأمور حتى يعتقدوا أن الشعوب إنما وُجدت لتخدمهم لا ليخدموها ، فيجمعون الأموال ويتخذون وسائل الراحة لهم ولحاشيتهم وأتباعهم ، ويعتمدون الإذلال والإرهاب سبيلاً لتمكنهم ، واستتباب الأمر لهم ، وينسَون أنهم مسؤولون ، وعلى الله معروضون ، وأمامه محاسبون .
قال الشيخ :
هذا صحيح ... ولكنّ تاريخنا يحفل أيضاً بالخلفاء الراشدين ، والولاة العادلين ، والحكام الناصحين ، والملوك الزاهدين .
قال التلميذ :
أهناك ملوك زاهدون ؟ .
قال الشيخ :
نعم ؛ وما أكثرَهم . بعضهم كان يأكل من عمل يده وكدّ يمينه ، ويتخذ بطانة صالحة تعينه في أمور رعيّته ، ويتابع عن كثب مصالح مملكته ، فيستعمل العاملين المخلصين ، ويعاقب المفسدين ، ويُثْبت في الخدمة النابهين المحسنين ، ويعزل اللاهين العابثين ، ويعاقب الفاسدين .
وهناك من هاب مسؤوليّة الحكم ، ورأى ضعفه عن الاضطلاع بمسؤوليّته ، فتخلّى عنه ، وتنازل عنه لغيره طواعية مخافة الله أن يسأله : لمَ ضيّعْتَ المسلمين ؟.
قال التلميذ :
أفي تاريخنا من فعل ذلك ؟! إني أراهم هذه الأيامَ لا يتركونه إلا إلى القبر أو إلى السجن الطويل .
قال الشيخ:
من أمثالهم خالد بن يزيد بن معاوية الأموي ، وإبراهيم بن أدهم الزاهد اللذان تخليا عن الحكم ورفضاه ... وليس هذا حكراً على المسلمين ، فقد حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أحد ملوك بني إسرائيل هرب منهم حين أحسّ أنه ليس أهلاً لما اختاروه له .
قال التلميذ :
شوقتني – يا سيدي – أفلا تقص عليّ قصّته ؟!.
قال الشيخ :
حبّاً وكرامة – يا بني – فلا يبلغ العالم الفضل إلا عندما يبذل علمه لمستحقيه .
فقد ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد النبي موسى عليه السلام ، فكان هذا الملك رجلاً صالحاً يعمل جهده نهاراً في خدمة رعيّته ، ويقوم الليلَ تعبّداً لله سبحانه وتعالى . فقام مرة يصلي فوق بيت المقدس في ليلة مقمرة ، صفت فيها السماء ، وسبَحتْ فيها أشعّة البدر الفضّية ، وتلألأت النجوم في كبدها ، فازدادت بهاءً وجمالاً ، وبدأ يحاسب نفسه ، ويعرض عليها ما فعل في خدمة دينه و أبناء ملته ، ويقارن بين ما فعله ، وما يستطيع فعله ، وما يجب أن يفعله ، فوجد نفسه مقصّراً في واجباته نحوهم ، ولم يجد الجرأة أن يقول لهم : اختاروا غيري ، فأنا لا أصلح لكم ، فلربّما حسبوا ذلك منه صلاحاً ، فأبَوا عليه رغبته ، وازدادوا به تمسّكاً ، وقد يعتزل في بيته ، فلا يقبلون منه ذلك ، ويصرّون على عودته ، ولا يُفرّطون به ، وقد يخرج عنهم إلى إحدى القرى متعبّداً منعزلاً ، فيتبعونه ، ولا يُقيلونه . .. ماذا يفعل ؟ .. فكّر ، وقلّب الأمور ، فهداه تفكيره إلى الهروب بعيداً حيث لا يعرفه أحد .. ولكنّ الجنود يحيطون به ويحمونه ؛. فإذا خرج خرجوا معه ، وإذا أصرّ أن يمشي وحده تبعوه من بُعد خوفاً عليه ، فلا مجال للهرب من الباب ... نظر حوله ، فرأى حبلاً ، ربطه في سقف المسجد ، وتدلّى على الأرض ، وانطلق دون أن يشعر به أحد .. ولم يكتشف حرسه ما فعل إلا صباحاً حين استأخروه ، فصعدوا سقف المسجد فوجدوا الحبل ، ولم يجدوه ....
أسرع متخفـّياً إلى أن وصل إلى بلدة على شاطئ البحر ، فوجد بعض أهلها يضربون في الرمل لـَبْناً ، فإذا جفّ صار قطعاً صلبة يبنى الناس بها بيوتهم ، فقال لهم : علّموني صنعتكم ، فأعملَ معكم ، فأنا غريب . قالوا : على الرحب والسَّعة ، وصار يعمل معهم ، ويأكل من كسب يده . ..
وأنس الناس به ، إلا أنهم رأوا منه عجباً ، فقد كان إذا حضرت الصلاة قام يصلي ... ماذا يفعل الرجل ؟ ! إنه يقوم بحركات لا يعرفونها ، ويتلو مالا يفهمون ! ..
لم يكن الملك الزاهد يتخفّى حين يصلي ويعبد الله تعالى ، ولم يكن يخجل وهو في بلاد الغربة أن يخالف الناس فيما يعتقدون ! إنه ما ترك المُلْك وهرب منه إلا ليعبد الله عز وجل دون أن يتحمّل – على ضعفه – مسؤولية غيره ، لكنه قويّ في الجهر بعقيدته ودينه ! لا يخاف من أحد .. هو على حق ، وصاحب الحق داعية في خلقه وفي عبادته ، يجهر بها ، ويدعو إليها . لا يخشى مغبّة أمره ، والداعية كتاب مفتوح يقرؤه الجميع ، فيرون فيه الفضيلة والأسوة الحسنة والصواب ، فيتبعونه .
رفع العمال إلى كبيرهم حاكمِ البلدة ما رأوه وما يرونه من هذا الغريب الزاهد المتعبّد ، يصفون له ما يفعله ذلك الرجل الكريم الخُلُق . فأرسل إليه أن يأتيه ، فأبى أن يجيب . طلبه إلى مقابلته مرات ثلاثاً ، فأعرض عن إجابته .
كان عليه - وهو الداعية - أن يلبي طلبه ويعرض عليه دينه ، فعسى أن يدخل فيه ، وكان عليه أن يقابله ويجيب عن أسئلته ، ويوضح له ما استغلق عليه وعلى عمّاله . لكنّ نقطة الضعف فيه ، هذه التي جعلته يهرب من بلده ، وينسلّ مبتعداً عن رعيّته تاركاً واجبه تجاههم بعد أن وثقوا به ، وسنّموه مسؤوليتهم هي التي جعلته يخطئ مرة ثانية فيأبى الذهاب إلى حاكم البلدة .
فماذا يفعل حاكم البلدة العاقل ؟ .. جاء بنفسه .. جاء تحمله دابّته .. فلما رآه الرجل فرّ ، فاتّبعه ، فأسرع هارباً ، فلما سبقه ناداه الحاكم : يا هذا ، انتظر ولا تخف . لا أريد بك سوءاً .. دعني أكلمك ! ..
فلمّا رأى الرجل أنه لا بد من الإجابة توقف حتى كلّمه ، وقصّ عليه خبره ز ولم يُخفِ عنه أنه كان ملكاً ، وأنه فرّ من الله إلى الله خوفاً أن يحمل تـَبـِعَة الحكم الثقيلة ، فهو ليس أهلاً لذلك ، فقد يخطئ ويظلم ، والظلم ظُلُمات يوم القيامة .
وقر في قلب الرجل الآخر ما قاله الأول ، وقال له : إني لأظنني لاحقاً بك ، سائراً على منوالك ،أنا مثلك يا أخي ، شغلتني الدنيا والعمل لها عن عبادة ربي ، فانقطعت لها ، وكدت أنساه ، ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ منّي . ... خذني معك ، فأنا منك وأنت منّي .. لسنا من أهل هذه الدنيا الفانية ، والعاقل يعمل للحياة الباقية .. هناك عند من لا يُخيّب سائله ، ولا يًضَيّع للعبد وسائله ، في كنف الله الكريم ..
نزل الرجل عن دابّته ، تركها لمن يريدُها ، ثم تبع صاحبه الذي رأى فيه الإخلاص لله تعالى ، والحب العميق لما عند الله .. تآخَيا في الله .. والحب في الله .. والتآخي فيه ذروة الإنسانيّة ، وقمّة السموّ ، إن السبب الذي يربطهما خالد أبديّ ، ليس لهوى النفس فيه مكان ... تنقطع جميع الأسباب الدنيَويّة ، ويبقى الحب في الله والأخُوّةُ فيه قوية متصلةً ، دائمة النماء ، يرويها النبع الثـّرّ على مرّ مدى الأيام ..
انطلقا يعبدان الله تعالى ، فعرفا طعم العبوديّة الرائق ، وعاشا في رحابها ما شاء الله لهما أن يعيشا ، وسألا الله تعالى أن يميتهما متجاورَين أخوين في الدنيا والآخرة .
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ماتا برُمَيْلة مصر ، لو كنت هناك لأريتُكم قبرَيْهما ... فقد وصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنني أراهما رأْيَ العين . |
|
محب الرسول |
08-22-2009 12:06 AM |
الغلام والساحر
دكتور عثمان قدري مكانسي
قال الساحر للملك : يا مولاي كبرت سني ، وقلت حركتي ، وضعفت همتي ، وبت أشعر أنني غير قادر على خدمتك تلك الخدمة التي أرضى عنها ، فابعث غلاماً أعلمه السحر ، وأدرّبه عليه، فيكون في خدمتك .
فاختار الملك غلاماً ذكياً يعلمه الساحر علوم السحر وأفانينه .
كان الغلام يذهب إليه كل يوم يأخذ فنون السحر بشغف ، حتى وثق به الساحر ، وجدّ في تعليمه . ومضت الأيام والغلام منهمك في عمله الجديد ، والملك يسأل الساحر عن تلميذه . فيمدحه هذا : إنه ذكيّ نجيب . إنْ يثابر على همّته وطموحه يكن له شأن عجيب .
حين انطلق الغلام كعادته ذات يوم إلى الساحر ، وكان في الوقت متّسع عرّج على القصر من طريق آخر يسلكه القليل من الناس ، يشرف على وادٍ ذي رياض عامرة ... ما أجمل هذا المكان ؟! ليتني أرتفع إلى الجبل قليلاً فأشرفَ على منظر أجمل وأبهى .. وارتفع ، فصدق حدسُه . إن المكان يبدو أكثر تناسقاً ، وأوضح منظراً .. جال ببصره هنا وهناك ، فرأى كوخاً في زاوية الطريق الملتوي الصاعد إلى القمّة، فحدّثتـْه نفسُه أن يأتيه مستكشفاً .. فماذا يفعل أصحابه بعيداً عن الناس إلا إذا كانوا يحبون العزلة، ويفضّلون الهدوء ! لما وصله رأى فيه رجلاً تبدو عليه سيما الوقار والجلال ، يشخص ببصره إلى السماء يدعو ويبتهل . فدنا منه يصغي إلى دعائه . فسمع قولاً يدل على حبّ وودّ، وذل وخضوع يوجّهه الرجل إلى محبوب لا يراه الغلام ، إنما يأنس إليه ويشعر بوجوده . ..
وحين أنهى الرجل دعاءه التفت إلى الفتى مبتسماً يقول :
أهلاً بك يا بني ، وهداك الله إلى الحق والإيمان .
قال الفتى : أي حقّ وأي إيمان تعنيه يا عمّاه ؟! .
قال الرجل : الإيمان بخالق السموات والأرض ومن فيهنّ ، بارئ النسمة وفالق الحبّة .
قال الفتى : أتقصد الملك ، يا عمّاه ؟.
قال الرجل : حاشاه أن يكون كذلك ، إنه مخلوق ضعيف ، ممن خلقه الله ، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً .
قال الفتى : إن الساحر أخبرني أن الملك إلهنا وخالقنا ، والساحر يعلمني السحر كي اكون في خدمة الملك .
قال الرجل : وهل يحتاج الخالق إلى مخلوقه يا بنيّ ؟! وكيف يكون إلهاً وهو يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ؟ إنه مثلك ، يا بنيّ . بل أنت أفضل منه ، لأنه يحتاجك ، ولا تحتاجه ، وتخدمه ، ولا يقدّم لك شيئاً .
نزل هذا الكلام في قلب الغلام منزلاً حسناً ، فهو يخاطب الفطرة ويمازج العقل والقلب ، فقال له : علمني يا سيدي مما علمك الله .
فبدأ الراهب العابد يعلمه العقيدة الصحيحة ، ويعرّفه بالله خالق الكون ومدبّر الأمر سبحانه .
وكثر تردد الفتى على الراهب في طريقه إلى الساحر ، فكان إذا تاخر عليه ضربه . فشكا إلى الراهب ما يفعله الساحر به . فقال له : إذا خشيت الساحر فقل : أخّرني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : أخّرني الساحر . ..
فبينما الفتى على ذلك إذْ مرّ في طريقه على أناس وقفوا على الطريق لا يتجاوزونه خوفاً من دابّة عظيمة قطعت الطريق ، وحبست الناس . فقال في نفسه : اليوم أعرف آلساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟. فأخذ حجراً ، وقال : اللهم ، إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة حتى يمضي الناس ؟ فرماها ، فقتلها . ومضى الناس ، فأتى الراهبَ ، فأخبره بما فعل .
قال له الراهب : أي بني ؛ أنت اليوم أفضل مني . فإن كنتَ قد استجاب الله دعاءك فقد قبلك ، وسيبتليك ، ويختبر إيمانك . فإن ابتليتَ فلا تدُلّ عليّ .
وعرف الناس فضل الغلام ، فصاروا يقصدونه ، فيشفي الله على يديه الأكمَهَ والأبرصَ ، ويداوي الناسَ من سائر الأدواء حتى انتشر صيتُه ، وذاع أمرُه بين الناس . فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ بما يفعل الفتى ، فأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له :
كلُّ ما بين يديّ من الأموال والهدايا لك ، إنْ شفيتـَني .
قال الغلام : أنا لا أشفي أحداً ، إنما اللهُ الشافي ، فإن آمنْتَ بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ... وهكذا يكون الداعيةُ إلى الله تعالى ، صادقاً مخلصاً لمولاه ، ينسب الخير إليه ، ويدعو العباد إلى الإيمان بربهم ، ويصلهم به . فآمن الرجل بالله ، ودعا الغلام له بالشفاء ، فشفاه الله تعالى لإيمانه به . فجاء الملكَ يجلس إليه كما كان يجلس .
فقال الملك : من ردّ عليكَ بصرَك ؟ ولو كان إلهاً ما سأله هذا السؤال ...
قال الجليس : إنه ربي .
قال الملك المتجبر الضالّ : أَوَلك ربّ غيري ؟!.
قال الرجل بلهجة المؤمن التقيّ : ربّي وربّك الله .
ثارت ثائرة الملك ، إذ كيف يتّخذ الرجلُ ربّاً سواه ؟ بل كيف ينكر ألوهيّة الملك ويقرنه به عبداً لله؟! .. فأخذه ، فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الفتى .
فلمّا مثـُل الفتى بين يدي الملك قال له الملك متعجّباً : أيْ بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ به المرضى ، وتفعل العجائب ، وتقدر على مالا يقدر عليه غيرك ؟!
قال الفتى بلهجة الوائق بالله ، المؤمن بربه ، الذي لا يخاف أحداً : إنني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي اللهُ تعالى خالق الكون ومدبرُ أمره ، الذي يعلم السرّ وأخفى ، وهو على كل شيء قدير .
غضب الملك ، وهدّده بالعذاب الأليم إنْ لم يرجعْ إلى ما كان عليه ... إلى الضلال بعد الهدى ، والظلام بعد النور ، والسفاهة بعد الحكمة .. فبدأ زبانيته يعذبون الفتى ، علّهم يعرفون من علّمه هذا ، وجرّأه على الملك . فصبر وتحمّل ، فزادوا في تعذيبه حتى انهار ، فدلّ على الراهب ، فجيء به ، وعُذّب ليعود عن دينه ، فأبى . فدعا الملك بالمنشار ، فوضعه في مفرق رأسه ، فشقّه حتى وقع شِقّاه . ثمّ جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوُضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقّه به حتى وقع شِقّاه . ... وطارت روحاهما إلى بارئهما مؤمنتين طاهرتين .
إن المؤمن حين يلامس الإيمانُ شَغاف قلبه لا يأبهُ بالمغريات ، ولا يخاف العذاب ، إنما يبقى ثابتاً ثبات الجبال الرواسي ، صامداً لا يعرف الهلعُ من الموت طريقاً إليه .
وأمر الملك زبانيته أن يجرّوا إليه الغلام مكبّلاً ، ففعلوا . فأمره أن يعود عن دينه إلى عبادته ، فأبى . فهدّده بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فازداد إيماناً بربّه وتمسّكاً بدينه .
فلم يأمر بقتله لأنه بحاجة إليه ، فهو الذي يهيئه على يد الساحر ليكون الأداة التي يسحر بها قلوب الأمة ، فيسلب إرادتها ، وتخر له ساجدة تسبح بحمده وتقدس له . . فصمّم على إرهابه وتخويفه ، فقال لبعض جنوده على مسمعٍ من الفتى :
اذهبوا به إلى أعلى جبل في مملكتي ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروتَه فمروه أن يرجع إلى صوابه! ، فإن أصرّ على عناده فاطرحوه في الوادي السحيق ليكون مزقاً تأكله حشرات الأرض . .. فذهبوا به ، فصعدوا الجبل ، وراودوه عن دينه ، فالتجأ إلى الله تعالى أن يدفع عنه كيدهم . فكانت المفاجأة ُ العجيبة ُ .. لقد لبى الله القادر على كل شيء نداءَه ، فرجف الجبل بهم ، فسقطوا في الهاوية التي خوّفوه بها .. وسلّمه الله .. فجاء يمشي إلى الملك يخبره بنجاته وهلاكهم ، علّه يرعوي عن غيّه ، ويسلّم بالحقيقة ... وأنّى للأعمى أن يُبصر طريقاً ، وللأصمّ أن يسمع حديثاً ؟! .. لقد ركبه الشيطانُ وأقسم ليوردنّه موارد الهلاك ، فدفعه إلى بعض جنوده قائلاً :
لئنْ سلمْتَ من اليابسة إنك لن تسلم من الماء .
وأمرهم أن يأخذوه إلى عرض البحر ، ويراودوه عن دينه ، فإن أبى فلْيطرحوه في الماء مقروناً إلى قطع الحديد تغوص به إلى القاع ، فيكون طعاماً لحيتانه .
ففعلوا . فلمّا توسّطوا البحر خوّفوه ، ورغّبوه ، فلم يُفلحوا معه ، فلمّا همّوا أن يُلقوه في الماء قال : يارب ؛ ليس لي سواك ، فنجّني في الثانية كما نجّيتني في الأولى . .. ويا لروعة النداء! ويا لسرعة الاستجابة ! لقد انكفأت بهم السفينة ، فغرقوا جميعاً إلا الذي أراد الله سبحانه له النجاة .
فجاء يمشي إلى الملك يتحدّاه .
فقال له الملك : أين أصحابك ؟! .
قال الفتى : كفانيهم الله تعالى ، أيها الملك ؛ ما زال في الوقت متّسع ، ورحمة الله قريب من المحسنين ، فكن من المؤمنين ، فما يفيدك جبروتك شيئاً ..
قال الملك : لأقتلنّك أو تعودَ إلى عبادتي .
فلما عرف الفتى أن الملك قد ران الكفر على قلبه ، وملك جوانحه أراد أن يعلّم الناس أن الملك ضعيف مهما تجبر ، وأنه مَهين لا يملك من القوّة الحقيقية شيئاً ، فلجأ إلى طريقة تعرّي الملك ، وتظهره على حقيقته أمام الناس جميعاً في صعيد واحد .
قال : أيها الملك ؛ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به .
قال الملك : ماهو ؟ .
قال الفتى : تجمع الناس في متسع من الأرض رحبٍ ، وتصلبني على جذع شجرة ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم تضع السهم وسط القوس ، ثم تصيح بصوت عال يسمعه الجميع : باسم رب هذا الغلام... ثم ارمني ، فإنّك إن فعلْتَ ذلك قتلتَني .
لم ينتبه الملك إلى قصد الفتى من جمع الناس ، إنما كان همّـه قتل الفتى والتخلّص منه .
فجمع الناس يوهمهم أنه قادر على قتل الغلام أمامهم ، وإثباتِ ألوهيّته المهزوزة أمامهم . فقد كثر حديثُهم ولغَـَطُهم ...
وفعل ما أمر به الفتى ، وصاح بأعلى صوته : باسم ربّ الغلام . ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه ، فمات الفتى شهيداً ، تصعد روحه إلى السموات العلا .
صاح الناس صيحة واحدة ملأت الآفاق : آمنّا بربّ الغلام . . ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
ما هذا ؟! نكون في أمر فتىً واحدٍ ، فيصبح الناسُ كلهم على دينه ؟! .. حسبت أنني تخلصت منه ، فإذا الناس جميعاً يؤمنون بما آمن به ؟ ... احتال عليّ ، فأظهر ضعفي أمامهم ، ووضع من هيبتي في قلوبهم ؟!... لأذيقنّهم الموتَ أهوالاً .. أنا الذي أميت واحيي ... أنا من يأمر فيُطاع... وينهى ، فيُنتهى عما نهى .
وجمع جنودَه ، فأمرهم أن يحفروا الخنادق ،فحفروا . وأن يجمعوا الحطب ، فجمعوا . وأن يوقدوا فيها النيران ، فاوقدوا . فلمّا تأجّجتْ أمر الناس أن يعودوا إلى دينهم ، فأبَوا ... وهل يعود إلى الكفر من ذاق طعم الإيمان ؟! وهل يرجع إلى السفاهة من أوتي الحكمة ؟! لا وألف لا ... إذاً أقحموهم النارَ .. فبدأ الجنودُ يدفعون المؤمنين إليها ... منظر رهيب عجيب .. إن نار الدنيا لأهون من نار الآخرة .. إن لقاء الله خير من الدنيا وما عليها .... جموع المؤمنين تصلى النار غير هيّابة ولا وجلة ، يكبّرون ، ويهللون ، ويقتحمون النار .
وكان فيهم امرأة تحمل وليدها .. يا رب أرمي بنفسي ؟ ...أنا راضية بذلك . ولكن كيف أرمي بولدي ؟! أنا راضية باحتراقي ، ولكنْ ولدي.. وفلذةُ كبدي ! ما أفعل به ؛ يا ربّ ؟ أأرميه في هذا الأتون ؟! .. فأنطق الله وليدها ، فسمعته يقول : يا أماه ؛ اصبري ، فإنك على الحق ... فرمت به ، ورمت بنفسها ، فكانت من الخالدين .
رواه مسلم
رياض الصالحين ، باب النصر
|
|
بومحفوظ |
08-24-2009 12:06 AM |
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثالثة
تلك إذاً قسمة " صحيحة "
دخلت حسناء البيت مسرعة ، فوجدت أمها ترتب الطعام على المائدة ، فبعد قليل يأتي والدها من العمل متعباً ، فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً قبل زيارة الجدة ، فشرعت في مساعدة أمها ، وأخبرتها أن معلمتها ذكرت لها قصة الحلاّبة وابنتها، فأعجبت بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ، ورغبت أن تكون مثلها في التزامها آداب هذا الدين العظيم والتمسّك بأهدابه .... ولم تنتظر أن تطلب أمها أن تقص عليها قصتها ، فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي الله عنه خليفة المسلمين انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات المدينة ، ويتفقد أمور المسلمين ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا بنيّة امزقي ( اخلطي وامزجي )اللبن بالماء – كي يكثر فيزداد الربح- فقالت البنت لأمها : أم تعلمي أن أمير المؤمنين حذرنا من الغش، ومنع مزج الحليب بالماء ؟! قالت لها أمها : وأين منا أمير المؤمنين ؟ ... ردت البنت قائلة : إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فربه سبحانه يرانا !...
أُعجب الفاروق بدين الفتاة وكريم خُلُقها ، وأمر صاحبه أن يضع علامة على البيت ، وقال له : ايتني بخبر أهل الدار ...
وفي الصباح قال خادمه : إنها امرأة تبيع الحليب وابنتها . فسأل الخليفة ابنه عاصماً : هل لك في زوجة صالحة ؟ قال : نعم . فزوجه منها . فكانت هذه الزوجة الصالحةُ جدةََ الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ، وقبّلتها ، وقالت: إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ، ويُردي صاحبه في النار ، والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ، ويهديه إلى الجنة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى لأصحابه قصة مشابهة لما رويتِ ، سأقصها عليك الآن ونحن نرتب الطعام على المائدة قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء أن الخمر لم يكن محرّماً في أول الإسلام ، ثم بدأت الدائرة تضيق على تناوله حتى حرّمه الله تعالى في قوله سبحانه " يا أيها الذين آمنوا ، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ " قالوا : انتهينا ، يا رب ، انتهينا .
ولعله كان في الأمم السابقة غير محرّم كذلك .
فقد انطلق رجل بسفينته في النهر ، يقف على هذه القرية وتلك القرية ، وهذا الحي وذاك ، يبيع الخمر للناس . وكان غشّاشاً ، يخلط الخمر بالماء ليزداد بيعه ، فيزداد ربحه . وكثير من الناس في أيامنا هذه يفعل مثله ظنّاً منهم – وهذا قلة في الدين ، وضعف في اليقين – أنهم يسرعون في الثراء ، فيَشـُوبون الجيد بالرديء ، او يمزجون المتقاربين في النوع ليجنوا المال الكثير بالطرق غير المشروعة ، فيخسرونه وأضعافه بطرق لا يشعرون بها ، فقد تكون المرضَ ، أو السرقةَ أو الضياعَ أو الإسرافَ أو النكدَ في الحياة الذي يطغى على كثرة المال ، فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة .. وهذا كلُّه لا يساوي شيئاً أمام عذاب الله تعالى وغضبه ... فما نبت من سحت فالنار أولى به .
باع الرجل " الخمر المائيّ" ، ووضع الدنانير في كيسه ، وانطلق بسفينته عائداً إلى بيته ، والسعادة تملأ نفسه ، والأمل في جمع ثروة كبيرة يراوده . وبينما هو في أحلامه ، وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك اختطف القردُ الكيسَ ، وصعِد به إلى سارية السفينة . فانخلع قلب التاجر لمصير الكيس ، فقد يطيح به القرد في الماء ، فيخسر تجارته وأحلامه الوردية التي خامرَتْه . وقد يفتحه ، فتتساقط بعض الدنانير في الماء ، ويغيب بعضها في ثنايا الألواح ....
أيها القرد ؛ أيها القرد؛ بالله عليك انزل . فلما لم ينزل ناداه : ارم الكيس إليّ بهدوء ، ولا تفجعني في مالي ...
لم يفهم القرد توسّلَه ، بل تمكّن من جلسته أعلى السارية ، وحلَّ رباطَ الكيس ...؛ نظر في داخله ...؛ مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ، فأخرج ديناراً ، وقلّبَه بيده كأنه يروزه ( يختبره ويتعرّفه) ثم ألقاه أسفل منه ، فسقط في السفينة ، فابتدره التاجر ... ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد ... كان التاجر متوثّباً مشدودَ الأعصاب .. لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ، وأخرج ديناراً قلّبه بيده ، فاستعدّ التاجر لتلقّيه .. ليس في الأمر حيلة سوى ذلك ، لقد ترك دفّة السفينة ليتفرّغ للالتقاط الدنانير .... يا ويح التاجر ، لقد رمى القرد الدينار في الماء بين الأمواج ، ورمى التاجر رأسه على عمود السارية من الغيظ والقهر .. وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ، ولكنْ هذه المرة دون أن يناديه ، إذ انعقد لسانه .. فرمى القرد إليه ديناراً ، فأسرع إلى التقاطه ، ورمى الدينار الرابع إلى الماء ... يا ويحه ، ما عادت رجلاه تحملانه .. سقط على الأرض ، وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه ...
ازدادت سرعة يد القرد ، واستمر التوزيع العادل في القسمة .. دينارٌ يٌرمى على السفينة ، وآخر يُلقى إلى الماء .... وفرغ الكيس ، ونزل القردُ ... أخذ التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ، وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء الممزوج بالخمر ...
أليست القسمة صحيحة ، والقردُ قاضياً عادلاً ، وحكَماً نزيهاً ؟! !
وقد نال التاجر نصيبه من الحزن والألم في الدنيا . وسينال جزاءَه في الآخرة ناراً تلَظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. هذا إذا لم يتق الله تعالى ، ويتـُب ، ويعفُ الكريمُ عنه.
مسند الإمام أحمد ج2ص306 |
|
بومحفوظ |
08-25-2009 02:11 AM |
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محب الرسول
(المشاركة 382743)
الغلام والساحر
دكتور عثمان قدري مكانسي
قال الساحر للملك : يا مولاي كبرت سني ، وقلت حركتي ، وضعفت همتي ، وبت أشعر أنني غير قادر على خدمتك تلك الخدمة التي أرضى عنها ، فابعث غلاماً أعلمه السحر ، وأدرّبه عليه، فيكون في خدمتك .
فاختار الملك غلاماً ذكياً يعلمه الساحر علوم السحر وأفانينه .
كان الغلام يذهب إليه كل يوم يأخذ فنون السحر بشغف ، حتى وثق به الساحر ، وجدّ في تعليمه . ومضت الأيام والغلام منهمك في عمله الجديد ، والملك يسأل الساحر عن تلميذه . فيمدحه هذا : إنه ذكيّ نجيب . إنْ يثابر على همّته وطموحه يكن له شأن عجيب .
حين انطلق الغلام كعادته ذات يوم إلى الساحر ، وكان في الوقت متّسع عرّج على القصر من طريق آخر يسلكه القليل من الناس ، يشرف على وادٍ ذي رياض عامرة ... ما أجمل هذا المكان ؟! ليتني أرتفع إلى الجبل قليلاً فأشرفَ على منظر أجمل وأبهى .. وارتفع ، فصدق حدسُه . إن المكان يبدو أكثر تناسقاً ، وأوضح منظراً .. جال ببصره هنا وهناك ، فرأى كوخاً في زاوية الطريق الملتوي الصاعد إلى القمّة، فحدّثتـْه نفسُه أن يأتيه مستكشفاً .. فماذا يفعل أصحابه بعيداً عن الناس إلا إذا كانوا يحبون العزلة، ويفضّلون الهدوء ! لما وصله رأى فيه رجلاً تبدو عليه سيما الوقار والجلال ، يشخص ببصره إلى السماء يدعو ويبتهل . فدنا منه يصغي إلى دعائه . فسمع قولاً يدل على حبّ وودّ، وذل وخضوع يوجّهه الرجل إلى محبوب لا يراه الغلام ، إنما يأنس إليه ويشعر بوجوده . ..
وحين أنهى الرجل دعاءه التفت إلى الفتى مبتسماً يقول :
أهلاً بك يا بني ، وهداك الله إلى الحق والإيمان .
قال الفتى : أي حقّ وأي إيمان تعنيه يا عمّاه ؟! .
قال الرجل : الإيمان بخالق السموات والأرض ومن فيهنّ ، بارئ النسمة وفالق الحبّة .
قال الفتى : أتقصد الملك ، يا عمّاه ؟.
قال الرجل : حاشاه أن يكون كذلك ، إنه مخلوق ضعيف ، ممن خلقه الله ، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً .
قال الفتى : إن الساحر أخبرني أن الملك إلهنا وخالقنا ، والساحر يعلمني السحر كي اكون في خدمة الملك .
قال الرجل : وهل يحتاج الخالق إلى مخلوقه يا بنيّ ؟! وكيف يكون إلهاً وهو يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ؟ إنه مثلك ، يا بنيّ . بل أنت أفضل منه ، لأنه يحتاجك ، ولا تحتاجه ، وتخدمه ، ولا يقدّم لك شيئاً .
نزل هذا الكلام في قلب الغلام منزلاً حسناً ، فهو يخاطب الفطرة ويمازج العقل والقلب ، فقال له : علمني يا سيدي مما علمك الله .
فبدأ الراهب العابد يعلمه العقيدة الصحيحة ، ويعرّفه بالله خالق الكون ومدبّر الأمر سبحانه .
وكثر تردد الفتى على الراهب في طريقه إلى الساحر ، فكان إذا تاخر عليه ضربه . فشكا إلى الراهب ما يفعله الساحر به . فقال له : إذا خشيت الساحر فقل : أخّرني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : أخّرني الساحر . ..
فبينما الفتى على ذلك إذْ مرّ في طريقه على أناس وقفوا على الطريق لا يتجاوزونه خوفاً من دابّة عظيمة قطعت الطريق ، وحبست الناس . فقال في نفسه : اليوم أعرف آلساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟. فأخذ حجراً ، وقال : اللهم ، إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة حتى يمضي الناس ؟ فرماها ، فقتلها . ومضى الناس ، فأتى الراهبَ ، فأخبره بما فعل .
قال له الراهب : أي بني ؛ أنت اليوم أفضل مني . فإن كنتَ قد استجاب الله دعاءك فقد قبلك ، وسيبتليك ، ويختبر إيمانك . فإن ابتليتَ فلا تدُلّ عليّ .
وعرف الناس فضل الغلام ، فصاروا يقصدونه ، فيشفي الله على يديه الأكمَهَ والأبرصَ ، ويداوي الناسَ من سائر الأدواء حتى انتشر صيتُه ، وذاع أمرُه بين الناس . فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ بما يفعل الفتى ، فأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له :
كلُّ ما بين يديّ من الأموال والهدايا لك ، إنْ شفيتـَني .
قال الغلام : أنا لا أشفي أحداً ، إنما اللهُ الشافي ، فإن آمنْتَ بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ... وهكذا يكون الداعيةُ إلى الله تعالى ، صادقاً مخلصاً لمولاه ، ينسب الخير إليه ، ويدعو العباد إلى الإيمان بربهم ، ويصلهم به . فآمن الرجل بالله ، ودعا الغلام له بالشفاء ، فشفاه الله تعالى لإيمانه به . فجاء الملكَ يجلس إليه كما كان يجلس .
فقال الملك : من ردّ عليكَ بصرَك ؟ ولو كان إلهاً ما سأله هذا السؤال ...
قال الجليس : إنه ربي .
قال الملك المتجبر الضالّ : أَوَلك ربّ غيري ؟!.
قال الرجل بلهجة المؤمن التقيّ : ربّي وربّك الله .
ثارت ثائرة الملك ، إذ كيف يتّخذ الرجلُ ربّاً سواه ؟ بل كيف ينكر ألوهيّة الملك ويقرنه به عبداً لله؟! .. فأخذه ، فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الفتى .
فلمّا مثـُل الفتى بين يدي الملك قال له الملك متعجّباً : أيْ بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ به المرضى ، وتفعل العجائب ، وتقدر على مالا يقدر عليه غيرك ؟!
قال الفتى بلهجة الوائق بالله ، المؤمن بربه ، الذي لا يخاف أحداً : إنني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي اللهُ تعالى خالق الكون ومدبرُ أمره ، الذي يعلم السرّ وأخفى ، وهو على كل شيء قدير .
غضب الملك ، وهدّده بالعذاب الأليم إنْ لم يرجعْ إلى ما كان عليه ... إلى الضلال بعد الهدى ، والظلام بعد النور ، والسفاهة بعد الحكمة .. فبدأ زبانيته يعذبون الفتى ، علّهم يعرفون من علّمه هذا ، وجرّأه على الملك . فصبر وتحمّل ، فزادوا في تعذيبه حتى انهار ، فدلّ على الراهب ، فجيء به ، وعُذّب ليعود عن دينه ، فأبى . فدعا الملك بالمنشار ، فوضعه في مفرق رأسه ، فشقّه حتى وقع شِقّاه . ثمّ جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوُضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقّه به حتى وقع شِقّاه . ... وطارت روحاهما إلى بارئهما مؤمنتين طاهرتين .
إن المؤمن حين يلامس الإيمانُ شَغاف قلبه لا يأبهُ بالمغريات ، ولا يخاف العذاب ، إنما يبقى ثابتاً ثبات الجبال الرواسي ، صامداً لا يعرف الهلعُ من الموت طريقاً إليه .
وأمر الملك زبانيته أن يجرّوا إليه الغلام مكبّلاً ، ففعلوا . فأمره أن يعود عن دينه إلى عبادته ، فأبى . فهدّده بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فازداد إيماناً بربّه وتمسّكاً بدينه .
فلم يأمر بقتله لأنه بحاجة إليه ، فهو الذي يهيئه على يد الساحر ليكون الأداة التي يسحر بها قلوب الأمة ، فيسلب إرادتها ، وتخر له ساجدة تسبح بحمده وتقدس له . . فصمّم على إرهابه وتخويفه ، فقال لبعض جنوده على مسمعٍ من الفتى :
اذهبوا به إلى أعلى جبل في مملكتي ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروتَه فمروه أن يرجع إلى صوابه! ، فإن أصرّ على عناده فاطرحوه في الوادي السحيق ليكون مزقاً تأكله حشرات الأرض . .. فذهبوا به ، فصعدوا الجبل ، وراودوه عن دينه ، فالتجأ إلى الله تعالى أن يدفع عنه كيدهم . فكانت المفاجأة ُ العجيبة ُ .. لقد لبى الله القادر على كل شيء نداءَه ، فرجف الجبل بهم ، فسقطوا في الهاوية التي خوّفوه بها .. وسلّمه الله .. فجاء يمشي إلى الملك يخبره بنجاته وهلاكهم ، علّه يرعوي عن غيّه ، ويسلّم بالحقيقة ... وأنّى للأعمى أن يُبصر طريقاً ، وللأصمّ أن يسمع حديثاً ؟! .. لقد ركبه الشيطانُ وأقسم ليوردنّه موارد الهلاك ، فدفعه إلى بعض جنوده قائلاً :
لئنْ سلمْتَ من اليابسة إنك لن تسلم من الماء .
وأمرهم أن يأخذوه إلى عرض البحر ، ويراودوه عن دينه ، فإن أبى فلْيطرحوه في الماء مقروناً إلى قطع الحديد تغوص به إلى القاع ، فيكون طعاماً لحيتانه .
ففعلوا . فلمّا توسّطوا البحر خوّفوه ، ورغّبوه ، فلم يُفلحوا معه ، فلمّا همّوا أن يُلقوه في الماء قال : يارب ؛ ليس لي سواك ، فنجّني في الثانية كما نجّيتني في الأولى . .. ويا لروعة النداء! ويا لسرعة الاستجابة ! لقد انكفأت بهم السفينة ، فغرقوا جميعاً إلا الذي أراد الله سبحانه له النجاة .
فجاء يمشي إلى الملك يتحدّاه .
فقال له الملك : أين أصحابك ؟! .
قال الفتى : كفانيهم الله تعالى ، أيها الملك ؛ ما زال في الوقت متّسع ، ورحمة الله قريب من المحسنين ، فكن من المؤمنين ، فما يفيدك جبروتك شيئاً ..
قال الملك : لأقتلنّك أو تعودَ إلى عبادتي .
فلما عرف الفتى أن الملك قد ران الكفر على قلبه ، وملك جوانحه أراد أن يعلّم الناس أن الملك ضعيف مهما تجبر ، وأنه مَهين لا يملك من القوّة الحقيقية شيئاً ، فلجأ إلى طريقة تعرّي الملك ، وتظهره على حقيقته أمام الناس جميعاً في صعيد واحد .
قال : أيها الملك ؛ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به .
قال الملك : ماهو ؟ .
قال الفتى : تجمع الناس في متسع من الأرض رحبٍ ، وتصلبني على جذع شجرة ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم تضع السهم وسط القوس ، ثم تصيح بصوت عال يسمعه الجميع : باسم رب هذا الغلام... ثم ارمني ، فإنّك إن فعلْتَ ذلك قتلتَني .
لم ينتبه الملك إلى قصد الفتى من جمع الناس ، إنما كان همّـه قتل الفتى والتخلّص منه .
فجمع الناس يوهمهم أنه قادر على قتل الغلام أمامهم ، وإثباتِ ألوهيّته المهزوزة أمامهم . فقد كثر حديثُهم ولغَـَطُهم ...
وفعل ما أمر به الفتى ، وصاح بأعلى صوته : باسم ربّ الغلام . ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه ، فمات الفتى شهيداً ، تصعد روحه إلى السموات العلا .
صاح الناس صيحة واحدة ملأت الآفاق : آمنّا بربّ الغلام . . ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
ما هذا ؟! نكون في أمر فتىً واحدٍ ، فيصبح الناسُ كلهم على دينه ؟! .. حسبت أنني تخلصت منه ، فإذا الناس جميعاً يؤمنون بما آمن به ؟ ... احتال عليّ ، فأظهر ضعفي أمامهم ، ووضع من هيبتي في قلوبهم ؟!... لأذيقنّهم الموتَ أهوالاً .. أنا الذي أميت واحيي ... أنا من يأمر فيُطاع... وينهى ، فيُنتهى عما نهى .
وجمع جنودَه ، فأمرهم أن يحفروا الخنادق ،فحفروا . وأن يجمعوا الحطب ، فجمعوا . وأن يوقدوا فيها النيران ، فاوقدوا . فلمّا تأجّجتْ أمر الناس أن يعودوا إلى دينهم ، فأبَوا ... وهل يعود إلى الكفر من ذاق طعم الإيمان ؟! وهل يرجع إلى السفاهة من أوتي الحكمة ؟! لا وألف لا ... إذاً أقحموهم النارَ .. فبدأ الجنودُ يدفعون المؤمنين إليها ... منظر رهيب عجيب .. إن نار الدنيا لأهون من نار الآخرة .. إن لقاء الله خير من الدنيا وما عليها .... جموع المؤمنين تصلى النار غير هيّابة ولا وجلة ، يكبّرون ، ويهللون ، ويقتحمون النار .
وكان فيهم امرأة تحمل وليدها .. يا رب أرمي بنفسي ؟ ...أنا راضية بذلك . ولكن كيف أرمي بولدي ؟! أنا راضية باحتراقي ، ولكنْ ولدي.. وفلذةُ كبدي ! ما أفعل به ؛ يا ربّ ؟ أأرميه في هذا الأتون ؟! .. فأنطق الله وليدها ، فسمعته يقول : يا أماه ؛ اصبري ، فإنك على الحق ... فرمت به ، ورمت بنفسها ، فكانت من الخالدين .
رواه مسلم
رياض الصالحين ، باب النصر
|
|
جزيت خيرا وارجو بان تستمر لك مني اجمل تحية |
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.9, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas