تابع للموضوع للكاتب عبده النقيب
لم تكن الجمهورية ولم يكن إتقلاب سبتمبر في محنة فقط بل إن أثرا لم نقتفيه في خطط ووثائق الانقلاب وقادة الانقلاب الضباط الأحرار ما يشير إلى ما تدعون به اليوم, فقد كانت مبادئ وأهداف انقلاب سبتمبر منقولة نقلا ميكانيكا عن مبادئ وأهداف ثورة 23 يوليو في مصر وقد خلت كل الوثائق من أي حديث عن الوحدة اليمنية أو واحدية الثورة بما في ذلك أهم وثيقة تقدم بها الأحرار الدستوريين للإمام قبل سقوطه كمشروع لإصلاح نظام الحكم.. ولم يشترك أي جنوبي في أي تشكيلة للضباط الأحرار بل ولم نرى أحد من المقاتلين الجنوبيين ومااكثرهم وقد شارك في السلطة أو في صفوف المؤسسات العسكرية على الرغم مما أبلوه في معارك الدفاع عن الجمهورية وأثناء فك حصار السبعين الذي تعرضت له صنعاء ولا أخفي القول وهذه شهادة للتاريخ أن الذين شاركوا في الدفاع عن الجمهورية بعد انقلاب سبتمبر صاروا أكثر المتحفظين على أي خطوات وحدوية نتيجة لما ذاقوه من سوء المعاملة أثناء مشاركتهم في معارك الدفاع عن الجمهورية ولمعرفتهم الجيدة بالأوضاع التي تعيشها صنعاء ونظام الحكم هناك.
كان جنوب اليمن حينها يسمى بالجنوب العربي وتم إدخال كلمة اليمن إلى وثائق الجبهة القومية تحت تأثير المد القومي الناصري وحركة القوميين العرب كمشروع سياسي يطمح إليه عبدالناصر والقوميون ويسعون إلى تحقيقه في الساحة العربية كلها لكنه ليس كافيا أيضا للحديث عن واحدية الثورة فهذا عبثا وتجاهل للحقائق التاريخية حتى وإن كان الإمام قد قدم لثور الجنوب قبلها الدعم والمساندة في انتفاضاتهم ضد الاستعمار البريطاني وحتى وإن لجأ المعارضون لحكم الإمام من اليمنيين الشماليين إلى عدن وانطلقوا منها لكن كل ذلك ليس مبررا للحديث عن واحدية الثورة.
إن الحديث عن واحدية الثورة هو حديث فيه ظلم واعتداء على تاريخ الجنوب فالتاريخ لا يحتمل إقحام السياسة في تفسيره فثورة الرابع عشر من أكتوبر هي امتداد حي لنضال شعب الجنوب طوال عقود من الزمن سبقت مرحلة إعلان الكفاح المسلح تحت قيادة تنظيم يملك رؤية وبرنامج سياسي تمثل في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل, وكون الجنوبيون حينها هبوا للدفاع عن الجمهورية وعن انقلاب سبتمبر لا يعط مبرر للحديث عن واحدية الثورة فقد تدافع الفدائيون العرب أيضا للقتال في فلسطين ولبنان وغيرها مثلما جاء المقاتلون العرب من مصر لمساندة الجمهورية في اليمن وهذا جزءا من انتماءنا القومي والعروبي الذي نؤمن به بقوة..
إن الحديث اليوم عن تاريخ ثورة الرابع عشر من أكتوبر بموضوعية لا يقلل من شأن الدعم والأهمية التي مثلتها الجمهورية العربية اليمنية بالنسبة للثورة في الجنوب لذا فإننا نود أن نضع النقط على الحروف وأن ننصف تاريخنا لأن ما أقدم عليه الجنوبيون من تضحية وتنازل عن تاريخهم في سبيل القضية الوطنية هو خطأ فادح أوقع الجنوب اليوم في هذه المحنة التي تنم على أن من كانوا يسعون إلى تحقيق الوحدة بين شعبي اليمن قد أخطأوا في التقدير وقد فقد صواب الرؤية وظلوا الطريق للوصول إلى ذلك الهدف. دعونا نتكلم اليوم بموضوعية دون تسفيه أو تكفير للرأي باسم المقدس وباسم الوطنية فنحن أحوج ما نكون إلى فهم ومعرفة الطريق الصحيح للوصول إلى ذلك الهدف بدلا عن التعسف للتاريخ ومصادرة حق الجنوبيين واحتلال أرضهم باسم الوحدة وواحدية الثورة فهذا التعسف قد ولد نتائج عكسية وسلبية وخيمة على المشروع الوحدوي نفسه فبدلا من أن يقربنا ويضعنا في الطريق للوصول إلى ذلك الهدف فإنه اليوم قد أحدث الفرقة والتنافر الإجنماعي والنفسي الخطير فالقوة العسكرية وحدها ليست كافية لتحقيق هذا المشروع إذا لم يوجد معا حامل اجتماعي واقتصادي يسندها.
قد لا يعجب البعض ما أقوله اليوم لكني أقول هذا بتجرد رغما مما أعانية كجنوبي من ويلات القوات العسكرية اليمنية الشمالية لبلادنا فإن المشروع الوطني الوحدوي لن يتحقق عن طريق ابتلاع الجنوب ولن يتحقق عن طريق خلق الحجج وتبرير ممارسات الاحتلال المنافية للقيم والإخلاق والسكوت عنها فإنه ذلك يبعدنا ولا يقربنا والكل يعرف أننا لو كنا قد أجرينا استفتاء على الوحدة قبل الوحدة لما وجد جنوبي واحدا معارض لها لكننا اليوم لو أجرينا هذا الإستفتاء للأسف فلن تجد جنوبي واحد يقبل بهذه الوحدة حتى عبدالقادر باجمال الذي يدعوه برئيس الحكومة لايتردد أبدا في كل جلساته الخاصة في التبرم من الوحدة على هذه الطريقة ومن الحنين لدولة الجنوب. وليعلم الجميع أن للجنوبيين حق في تقرير مصيرهم واستعادة دولتهم المستقلة وفقا للشرعية الدولية وأنهم بممارساتهم هذه يدفعون بالجنوب كرها إلى تلك الطريق.
إن تضحيتنا نحن الجنوبيين بتاريخنا ودولتنا وثورتنا في سبيل هدف سياسي قد أوقعنا في شر أعمالنا ولم يحقق لنا الهدف الذي ننشده وهو الوحدة بل أنه قد أوقعنا في شرك الاحتلال وأبعدنا عن الوحدة مسافات كبيرة. إننا اليوم بحاجة إلى مراجعة لتاريخنا وتفسيره دون تعصب لنرى كيف وقعنا في هذا المأزق الخطير.
في تقديري إن الخطأ الجسيم الذي أوقعنا في هذا المأزق هو حديثنا عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م بمعزل عن نضالات شعبنا في الجنوب ومقاومته للاستعمار بشتى الطرق, لذا فقد كان البحث عن أسباب أخرى ننسب لها الفضل في قيام الثورة هو نتيجة لتجاهلنا لتاريخنا دون مبرر. إن الانتفاضات الشعبية المسلحة التي عمت مناطق الجنوب قبل قيام ثورة أكتوبر بعقود كانت أكثر حدة وعنفا فتعرضت الكثير من القرى للحملات العسكرية البريطانية والتدمير وسقط الكثير من الشهداء ولازالت أثار القصف العدواني البريطاني ماثلا حتى يومنا هذا. صحيح إن تلك الانتفاضات المسلحة كانت دون تنظيم ودون هدف موحد وهذا هو سبب فشلها لكنها كانت قد أفرزت شعور وطني معادي للاستعمار وأحدثت تراكما أدى لظهور العمل السياسي المنظم فقد ظهرت التنظيمات السياسية الوطنية وظهر العمل النقابي حتى صارت الجنوب خميرة مهيأة لنجاح أي عمل معادي للاستعمار.
لا يمكننا أن نعزل نجاح الكفاح المسلح في الجنوب والتفاف الشعب بكل فئاته إلى انقلاب 26 سبتمبر أو حتى إلى ثورة 23 يوليو فهذا فيه إجحاف كبير بحق تاريخنا المجيد. إن نجاح الجبهة القومية في تبنيها للكفاح المسلح لا يمكن أن نعزله عن ذلك التراكم النضالي التي أحدثته الانتفاضات الشعبية المسلحة والغير منظمة وكذا عن دور الأحزاب السياسية التي سبقت قيام الجبهة القومية وخاصة رابطة أبناء الجنوب العربي وكذلك دور النقايات والحركة الطلابية والكثير من القوى الوطنية الأخرى من سلاطين ومشائخ كل هذه مجتمعة كانت قد مهدت الأرض وهيأت الأجواء لنجاح الكفاح المسلح الذي تبنته الجبهة القومية وسارع الشعب في الالتفاف حولها.
إن تبني الجبهة القومية للكفاح المسلح دون غيرها ولاحقا جبهة التحرير لا يعطينا الحق في أن ننكر الدور الذي قامت به القوى الوطنية الأخرى التي لم تتبنى الكفاح المسلح فقد كان لكلا دوره والكفاح المسلح هو أحد أشكال العمل التي وجدت حينها لكنه لا يستبعد دور الأشكال الأخرى القائمة آنذاك وكلها مجتمعة ساهمت في تحقيق الاستقلال بنسب متفاوتة بالإضافة إلى العوامل القومية الإقليمية والدولية التي وجدت في تلك المرحلة كالمد الناصري وثورة أكتوبر الاشتراكية وحركات التحرر المعادية للاستعمار كل هذه العوامل كانت قد ساعدت في إنجاح وانتشار العمل المسلح في الجنوب وتفوقه على غيره من إشكال النضال السياسية الأخرى وتبقى الانتفاضات القبلية المسلحة التي سبقت قيام الثورة وتأثيرها هي العامل الأكبر في نجاح الجبهة القومية والدلالة على ذلك انه حين تعرضت الجبهة القومية للحصار والمقاطعة من قبل القوات العربية المصرية المتواجدة في تعز وحينها كانت قد تعرضت قيادات الجبهة القومية للاعتقال في مصر اعتمدت الجبهة القومية وجناحها العسكري على جماهير الجنوب وتغلغلت في صفوف الجيش والأمن وتمكنت من الاستمرار والتصعيد دون أي دعم خارجي بل ومواجهة الضغوط الخارجية التي تعرضت لها وحسم العركة لصالحها والإنفراد باستلام الاستقلال الوطني يوم 30 نوفمبر 1967م.
إن استبعاد نضالات القوى الوطنية الأخرى على الساحة الجنوبية وإنكار وعزل مرحلة الكفاح المسلح عن المراحل النضالية التي سبقتها وربطها بانقلاب 26 سبتمبر هي أسباب أساسية أدت إلى انتكاسة الثورة في الجنوب ووقوعه في قبضة الاحتلال اليمني الشمالي لذا فنحن اليوم بحاجة إلى مراجعة أمينة وموضوعية لتاريخنا فلن نخرج من عثرتنا وكبوتنا هذه دون المراجعة ودون الالتفاف إلى الخلف للتفتيش عن السبب.
إننا اليوم مستهدفون في تاريخنا بعد أن تم الانقضاض على ثورتنا ووطنا ولذا فنحن ندعو كل أبناء الجنوب إلى المساهمة في هذا العمل والحفاظ على الوثائق المتعلقة بتاريخ الثورة والجنوب حتى يحين الوقت لأن ننصف التاريخ من عبثنا نحن ومن عبث المحتلين الغزاة ويأتي اليوم الذي نرى فيه جمهوريتنا وقد تخلصت من هذا الوضع البغيض وتحقق لها استقلالها المجيد.
عبده النقيب
كاتب يمني مقيم في بريطانيا
[email protected]
يداً بيد من أجل التحرير
مــعــاً لتـقـرير المـصـير