عرض مشاركة واحدة
قديم 05-17-2009, 01:02 PM   #1
حد من الوادي
مشرف سقيفة الأخبار السياسيه

حكايات عن الوحدة والحرب والفساد وشيء ما عن جدتي !


حكايات عن الوحدة والحرب والفساد وشيء ما عن جدتي !

17/05/2009
علي أحمد العِمراني- نيوزيمن:

للوحدة حكاية وللحرب والفساد أيضا. وجدتي إمرأة يمنية ريفية بسيطة تجاوز عمرها المئة عام ولها حكاية قد تكون ذات دلالة ومعنى !. كما أن هناك ممارسات وعبر وسياسات رشيدة يمكن إستلهامها من تجارب آخرين...

مع شعفل وصخر ويوم "الربوع" الدامي !
قبل إندلاع حرب 1994 المشؤومة بأيام كنت ضمن لجنة تقصي حقائق من قبل البرلمان وكانت مهمتها زيارة مواقع عسكرية حصلت في بعضها إستحداثات وحصل في بعضها مناوشات في ذمار وأبين وشبوة وحرف سفيان ويريم وانتهت بانفجار الوضع في معسكر عمران ... كانت اللجنة تتكون من سبعة نواب ثلاثة من المؤتمر هم : صخر الوجيه و أحمد إسماعيل أبو حورية وأنا وثلاثة نواب من الإشتراكي هم : شعفل عمر علي ومحمد سعيد مقبل وسلطان الصريمي ومن الإصلاح إثنان هم حسين العنسي و حسن كاروت ... وقد حضر أحمد إسماعيل أبو حورية إلى ذمار ولم يواصل الركب معنا...

مررنا على عدة مواقع عسكرية وبدا لنا أن جميع العسكريين لا يرغبون في الحرب ولا أحد البتة يتحدث عن الإنفصال ، لكن الإستعدادات العسكرية للمواجهة كانت تجري على قدم وساق ...وعلى الرغم من ذلك فقد كنا نحن نستبعد أو لعلنا كنا نتمنى عدم الإنزلاق إلى حرب شاملة ! ركبت أنا وصخر الوجيه مع شعفل عمر علي في سيارته وكان معه عدد من الحراس النابهين الدمثين مثله ولم نصطحب أنا وصخر أي حراسة ! وبدا لنا شعفل عمر علي سياسيا مجربا وحصيفا طوال المهمة ....

وبعد عودة اللجنة إلى صنعاء عقدت أول إجتماع لها لإعداد التقرير عن المهمة في عصر يوم أر بعاء أو "ربوع مشؤوم ! "وبالتحديد يوم 27/4/ 1994 ، وبلغ اللجنة أثناء الإجتماع أن الوضع انفجر في معسكر عمران وأصبنا بذهول بالغ وإحباط لا حدود له وبدا أنها قد جفت الأقلام ورفعت الصحف وتوقفنا عن كتابة أي شي واتضح أنه لا مكان للعقل ولا صوت يعلو فوق صوت المدافع . وفيما كان الكثير منا لا يتناول القات حينها فقد رمى الدكتور/ محمد سعيد مقبل القات الذي كان في فمه على الفور. وباعتباره قائدا عسكريا مجربا لعله كان أكثر تقديرا لفداحة نتائج قتال بالدبابات ت بين لوائين في معسكر واحد ... كان ذلك قبل أن نعرف جميعا بالتفاصيل التي كانت بالفعل فظيعة ومحزنة تماما ...

جبال اليمن تقاوم عوادي الزمن...
في طريقنا إلى عدن كنت أتأمل في جبال ردفان الشامخة وتذكرت النضالات التي دارت فيها والدماء الزكية التي سالت عليها واسرار التاريخ التي لا تزال تخبؤها... وفي طريقنا إلى شبوة عبر محافظة أبين كنت أشاهد جبال الكورأول مرة .. كنت أنظر إلى جبال ردفان والكوربشغف شديد ووله بالغ في حال أشبه بما تكون بمشاعرنا تجاه عزيز طال انتظاره مع شعور بأن الأقدار والظروف قد تحتم مغادرته مبكرا حيث كان الأخوة الأعداء يدقون طبول الحرب وكانت المؤامرات تحاك بهمة عالية ودقة متناهية في الداخل والخارج... ولست أدري لماذا كنت ولا أزال شغوفا بجبال اليمن أكثر من غيرها ، ربما لأنها هي التي بقيت واثقة وشامخة وأبية عبر العصور وقاومت عوادي الزمن ولعلها تحتفظ بشيء من عَرف الأجداد وأطيابهم وتحكي بلغتها الخاصة شيئا من أمجادهم وقوتهم وضعفهم أيضا !

ثواروملوك جديرون بالإحترام...وجدتي أمرأة ريفية بسيطة... ولكن !
كان آباؤنا وأجدادنا القريبون في محافظة البيضاء وغيرها وإلى عهد ما قبل الإستقلال أكثر تواصلا وتفاعلا بمناطق الجنوب إنسانا وأرضا وكان أهل الجنوب أيضا ملتصقين بنا في علاقلات مركبة ومتشابكة ومتشعبة ليس هنا مجال تفصيل الحديث عنها... أما أنا فلأول مرة أرى جبال ردفان والكور وغيرها في المناطق الملاصقة لمحافظتنا...قامت ثورة سبتمبر 1962 ووالدي في محافظة لحج وتحديدا منطقة الحد يافع القريبة من منطقتنا، كانت هناك صلات قرابة وتواصل دائم في كل الإتجاهات وخصوصا مع أهل لحج والضالع وشبوة وأبين وكانت هناك حالات هروب ولجوء ونزوح متبادل ومتناوب ! ...

وسوى صعوبة بدائية المواصلات ، كان جدي وأبناء جيله لا يجدون صعوبة في التنقل بين البيضاء وعدن وغيرها من المناطق اليمنية في الإتجاهين...في عام 1932 توفي جدي في عدن ودفن فيها . ولا أظن أن جدي كان صاحب تطلعات عامة ! تحتم عليه وعلى أبناء جيله أن يكونوا متواضعين في أحلامهم أكثر مما عليه حالنا بكثير وكان مجرد البقاء على قيد الحياة يعد غاية في حد ذاته ولوحده ، جدي الذي نشأ يتيما قضى نحبه مبكرا دون أن يحقق شيئا يذكر حتى من أحلام خاصة وبسيطة سوى أنه تزوج أمرأة يمنية مكافحة قوية هي جدتي وأنجب منها ولدا واحدا فقط لم يتذكر صورة والده وقدر له أن يكون لاحقا من وقود ثورة 1962 حيث قضى نحبه شهيدا وأن شئت قتيلا في 29/1/ 1964 يرحمه الله ، وكان معه كثيرون من أبناء الضالع ولحج وأبين وشبوة وغيرها وبالطبع كثيرون من أبناء البيضاء ... لا أتذكر من أبي إلا القليل.. لكن قصائده وأشعاره تعبر عن واحدية اليمن كمسألة بديهية ومسلمة لا تقبل الشك والجدال ! وفي أشعاره أيضا ما يحقرمن شان لصوص الأموال العامة كما روى ذلك كثيرون ومنهم علوي العواضي الشهم الفَطِن الذي يزهد في لقب شيخ مع أنه جدير به... وإشفاقا على القارئ سأتحاشى إيراد شواهد من ذلك، لو كانت لغير أبي ربما لفعلت !

لا تزال جدتي تعيش وقد تعدت المائة عام بكثير والعجيب أنه لم يهد عزمها مصرع زوجها وابنها وهما في مقتبل العمر..ويبدو أن جدتي هي أقوى منا جميعا وربما أروع منا جميعا ! كانت تريد نا أن نكون أقوياء ولكن لابد أن نكون أيضا منضبطين و منصفين.. ويؤسفني إذا كان ظنها قد خاب فينا كثيرا! وهي تكره الظلم وتقاومه ولا تتحمله وقصتها في ذلك عجيبة ، وتعاقب بشدة عند ما يتعرض الآخرون لظلم حتى عن طريق الخطأ ! كانت جدتي لا تكف عن الحث على التحلي بالقيم النبيلة ، تهدد مرات كثيرة ولكن بجد ، وبصرامة وحزم إذا تطلب الأمر ، ضربتني مرة واحد ة فقط وكان ذلك على خطأ أظنه غير مقصود وقع مني في حق جار ضعيف .. لكن الجيران اشتكوا ، فهل كان عليها أن تطيب خواطرهم بضربي!؟ كان ضربا حقيقيا وشديدا... لكن ذلك لم يغير نظرتي إلى جدتي عبر الزمن باعتبارها ينبوع لقيم حميدة ومستودع حب لا ينضب ويتسع قلبها للجميع.
طالما أحببت جدتي كثيرا وقدرت قيمها ومثلها لكنني ترددت كثيرا في الحديث عنها حيث نادرا ما يتم الحديث إيجابا في واقعنا ولا أقول في ثقافتنا عن النساء وإن كن جدات أو أمهات ، وتحاشيا أيضا للتعيير باعتباري "تربية امرأة " لكنني تجاوزت "الخطوط الحمراء" منذ فترة عندما تيقن لي أن الكثير من قادة العصر قد فقدوا أباءهم مبكرا وقامت جداتهم أوأمهاتهم بمهة التربية والتنشئة أمثال باراك أوباما وبيل كلنتون وصدام حسين وعلي عبد الله صالح...وأعذروني إذا قلت أيضا : ومحمد وعيسى وموسى ! أحاول فقط أن أفحم البعض وأقطع الطريق على آخرين !

أعلم أنني محظوظ أكثر من غيري في حصولي على قدر من التعليم ... ولكن بصراحة ليس بفضل الثوار والجمهوريين فلم أتمكن من الدراسة يوما واحدا في مدارس الجمهورية أو جامعاتها والسبب هو أن التعليم لم يصل منطقتنا إلا متأخرا...والحق فإن الثوار والثوريين الحقيقين جديرون بالمحبة والإحترام وخصوصا أولئك الحالمين المثاليين كالزبيري وعبد الفتاح اسماعيل وآخرين غيرهم، وأفهم أنه لم يبق من الثوار والثوريين الحقيقيين إلا القليل ولذلك حكاية أخرى..

وفي حين أنني لا أدعي الثورية لكن يبدو أنني كمن يحب الصالحين وهو ليس منهم، وينسب معنى مطابق لهذا للإمام الشافعي يرحمه الله... وبالمناسبة فإن الإحترام والتقدير لا يحسن أن يكون مقصورا على الثوريين المثاليين وحدهم لكن الأمراء والملوك العادلين الذين يحترمون شعوبهم ويكرسون حياتهم وجهودهم في خدمتها وتقدمها جديرون بالتقدير والإحترام أيضا ، وحتى محمد البدر الذي لم يعطه الثوار سوى فرصة أسبوع في الحكم فإني لا أشعر تجاهه بعداء على الرغم من كل شي ومن كل ما قيل ، ومشكلته في تقديري أنه وريث نظام إمامة ظًلَمت كثيرا وظلت تستند إلى حق إلهي لا أرى صحته أبدا، ولذلك السبب في رايي تحتم أن يذهب البدر وتذهب معه الأمامة إلى الأبد، لكن حقه كمواطن وحقوق أبنائه وذويه كمواطنين يجب أن تُحْفَظ وتَبقى وتُحْتَرَم ...

كانت رعاية جدتي وأمي لي أعظم من اهتمام الرجال الثوار الجمهوريين الذين قُتل أبي في صفهم وفي معركتهم ...ومع ذلك فقد يُعْذَرُون ، ربما أنهم قد شُغُلُوا في أشياء كثيرة أهم ، وإن لم يكن فلا بد أن يُعْذَرُوا تَرَفُعاً ! وفي 7/8/1975 حصلت على جواز سفر بمهنة عامل بصعوبة ملحوظة لأن البيضاء التي قدمت منها محادة لمحافظات جنوبية عدة ..كانت الصعوبة التي واجهتها ربما بسبب الخوف من أن أكون شيوعيا قادما من الجنوب ! ومع ذلك كان أبناء الجنوب يتدبرون أمر أنفسهم ويحصلون على جوازات سفر من صنعاء وغالبيتهم يسجلون مكان الميلاد من البيضاء ...كان دائما جوابنا في المهجر موحدا عندما يسألنا آخرون : " شمالي أم جنوبي " ؟ فيكون الرد دائما : يمني ! وأحيانا يكون السؤال " زيدي أم شافعي ؟ " فيكون الرد أيضا : يمني ! كنا في المهجر يمانيين وموحدين بحق أو كنا يمانيين في المنفى ومنفيون في اليمن...وجنوبيين في صنعاء وشماليون في عدن كما قال عظيمنا العبقري عبد الله البردوني...كانت الوطنية اليمنية قوية جدا وعالية جدا وغالية جدا...لكنها صارت الآن ضعيفة جدا حتى في المهجر أو في المنفى ! ... ويبدو أن ذلك بسبب الفساد والأنانية والجشع ... والجنون أيضا ...

لابد أنه يجري في عروق جدتي شيئ من دماء أهل اليمن كلهم ، ففي حين أنها شمالية المنشأ فإن أصولها لآبائها ترجع إلى قبيلة عُلَه التي ينتمي إليها عبدربه منصور هادي وطارق الفضلي وكثير من المشاهير ومن البسطاء أمثال جدتي..وتمتد أراضي قبيلة عله من حدود محافظة البيضاء شمالا وغربا إلى خليج عدن وبحر العرب جنوبا وشرقا ...
لم أتحدث إلى جدتي حول الكثير مما جرى ويجري منذ حرب 1994 بما ذلك حكاية "الفيد" -التي يشعر إزاءها اليمنيون الأسويا بالإشمئزاز وربما العار- وما أعقبها من فساد وجشع ومحسوبية و كثير من سوء التقدير والأخطاء في الحسابات وحكاية الفاسدين الخمسة عشر الكبار الذين وردت أسماؤهم في تقرير با صرة –هلال ،الذي لم تنفذ توصياته المهمة لحد الآن ...

ولا زلت أتحاشى الحديث إليها عن تهميش دور مجلس النواب وفساد القضاء واستمرار هيمنة السطة التنفيذية على الجميع على الرغم من كثرة الحديث عن المؤسسات !..ولا أظن أن هناك من حدثها أخيرا عن حملات الكراهية التي قال الأخ علي سالم البيض النائب السابق لرئيس الجمهورية أن اليمن لم تعرف لها مثيلا ، منذ ما قبل الثورات وما قبل الوحدة .ولست متيقنا فيما إذا كانت قد سمعت بحرق محلات المواطن الآنسي في المكلا ، ومقابلات حيدر العطاس التي خيبت ظن الجميع ، اوتقلبات السلطان طارق الفضلي ، ولا أظنه قد بلغها كيف أن الخارج الذي كان يعتبر أن وحدة اليمن خطر يجب أن يزول صار يرى الآن أهمية وضروة الحفاظ على اليمن الموحد...وكيف أن خطر الداخل على الإستقرار والوئام والوحدة صار متفاقما ومخيفا ومخجلا أيضا...


شعب متعددالأعراق والإديان متماسك وقوي البنيان...كيف ولماذا ؟
كثيرا ما تظاهرت أمام جدتي بتقدم جيلنا ومعرفته ووعيه واستنارته...لكنني لا أظن أننا صرنا أبعد نظرا منها حيث لم نكن حريصين على تطبيق مبادئ الإنضباط والعدالة والإنصاف والنزاهة كما كانت تفعل هي ، وهي أمرأة ريفية بسيطة ، وإن أبيتم إلا الشموخ والطموح والعلو ولم تقنعوا بما دون النجوم ، فلنقل كما يفعل أيضا آخرون من عمالقة العصر مثل : "لي كوان يو" و" مهاتير محمد" في بلديهما سنغافورة وماليزيا وكل منهما يتكون من أعراق وأديان مختلفة وكانا بلدين مضطربين ويعيشان البؤس والتفرق والتناحر ..وصارت ماليزيا وسنغافورة اليوم مفخرة في كل شي ونموذجا للنجاح والتقدم خلال عقود من الزمن محدودة ..

قال عبد العزيز ال- محمود رئيس تحرير صحيفة العرب القطرية أن وفدا قطريا زار سنغافورة والتقى برئيس وزرائها السابق لي كوان يو وقال له القطريون :"نريد أن نكون مثلكم " أو نبي نصير مثلكم" مثلما نطقها ال- محمود في مقابلة مع فضائية الجزيرة " فرد عليهم يو :“ It is simple, you need a military discipline” أي "ببساطة أنتم تحتاجون إلى إنضباط عسكري " ...

لي كوان يو لم يكن جنرالا عسكريا كما قد يظن البعض وإنما زعيم سياسي مدني يشارك في كنس شوارع مدينته ويتصرف بحزم ، وقد تخرج بمرتبة الشرف الأولى من فيتزوليام كوليدج للقانون بجامعة كامبردج البريطانية وحضر دروسا في الإقتصاد في جامعة لندن وعاد إلى بلده وقُدِرَ له أن يقودها في أقسى الظروف والتحولات وأدرك أهمية وقيمة الإنضباط والنزاهة والعدل ومدى ضرورة ذلك لأمة فقيرة وناشئة متعددة الأعراق والأديان ومضطربة وينظر إليها جيرانها الكبار بدونية وإستعلاء. وقال لي كوان يو في مذكراته " توجب علينا أن نكون شعبا متماسك اللحمة قوي البنيان ....وتمثل أعظم مواطن القوة لدينا في ثقة وإيمان شعبنا بنا "...وبالرغم من انقسام أفراد شعبنا إلى عدة أعراق وأجناس إلا أنني آمنت بأن اتباع سياسة نزيهة وعادلة على نحو صارم سوف يجعلهم يعيشون في وئام معا خصوصا إذا توزعت المشاق والمشكلات عليهم بالتساوي كالبطالة مثلا..."..

في البداية عانت سنغافورة من مشاق وإضطرابات وعنف عرقي وطائفي وشكك كثيرون في إمكانية إستمرارها كبلد مستقل .. ويقول هنري كينسجر الذي كتب مقدمة مذكرات يو : أنه بدا وكأنه مقدرا على سغافورة أن تصبح دولة تابعة لجيرانها الكبار إذا ما تمكنت من الحفاظ على إستقلالها أصلا... لكن لي كوان يو وفقا لكيسنجر فكر بطريقة معاكسة... وكانت رؤيته تتمثل في إقامة دولة لا تقدر على البقاء فقط بل تسود وتفوز وتتفوق ولسوف يعوض التفوق في الذكاء والإنضباط والإبداع عن غياب الموارد ...وقد تحقق لسنغافورة ما أراده زعيمها الفذ لي كوان يو حيث قفز متوسط دخل الفرد فيها إلى حوالي 30000 دولار وغدت رائدة التقانة في جنوب شرق آسيا ومركزا تجاريا وعلميا مهما ولاعبا رئيسيا في إقتصاد وسياسة جنوب شرق آسيا وما وراء تخومها...

في عام 1993 قام طالب أمريكي يدعى مايكل فاي بتخريب لافتات الطريق وإشارات المرور بعد إسرافه في الشراب وحكم عليه قاضي سنغافوري بالجلد...وهاجت الصحف الأمريكية وأصيبت بالسعار بسبب عقوبة الجلد التي سينفذها آسيويون قساة على طالب أمريكي ...وتدخل الرئيس كلينتون لدى الرئيس السنغافوري ووجدت سنغافورة نفسها في حرج كما يقول لي كوان يو، غير أن عقوبة الضرب نفذت ، وتساءل لي كوان يو إذا لم نطبق العقوبة على هذا الصبي الأمريكي فكيف يمكن تطبيقها على سواه ؟
هل تذكرنا هذه الصرامة والحزم في المساواة أمام القانون بالقيم والممارسات التي نبعت من جزيرة العرب قبل قرون وبسبب ذلك قدر لها أن تنهض وأن تقود العالم؟... لا بد أننا جميعا نتذكر ! ولكن من منا لا يتحسرعلى ما آل إليه حالنا بسبب غياب العدل والمساواة والإنضباط والنزاهة !

فرحة غامرة لكنها كانت عابرة...وهل يتصالح الأستاذ البيض مع تاريخه النضالي ؟

في يوم 22/ 5/ 1990 يوم تحقيق وحدة اليمن شعرت وكل أهل اليمن بالطبع أن كل شيء قد تحول وتبدل وكأن القبح كله قد تلاشى ! وأ ضحى كل جميل أجمل بما في ذلك جبل نقم وجبل عيبان ، وكنت أشاهدهما في ظهيرة ذلك اليوم الجميل عندما رفع علي عبد الله صالح وإلى جانبه علي سالم البيض علم اليمن الواحد !...أصبح الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض بطلين وطنيين كبيرين ...وشاهدت كثيرين يبكون من شدة الفرح ومنهم راشد محمد ثابت وزير شئون الوحدة في الجنوب آنذاك . وكنت أحتفي براشد محمد ثابت عندما يزور وزارة المالية حيث كنت أعمل قبل 1993 واجتهد في إنجاز معاملاته بسرعة ربما بسبب ما شاهدت من دموعه فرحا بيوم 22/ مايو 1990 ، ولم أكن أعرف أنه كان على خلاف مع رجل الدولة حيدر العطاس إلا من خلال مقابلته مع الجزيرة مؤخرا.. ولم أكن أشارك الشيخ / عبد الله رأيه في أن العطاس مهندس الإنفصال.. غير أن مقابلات العطاس الأخيرة أظهرته سياسيا متكلسا وربما مفلسا.. والحق إن خسارتنا في حيدر العطاس كبيرة ...

أثناء الأزمة التي حدثت قبل حرب 1994 وجه الناس سهامهم نحو العليين ... وعندما انفجرت الحرب في 1994 كان كل اليمنيين قلقين وحزينين لكنه كان لا بد لغالبيتهم أن يكونوا في صف الوحدة ولذلك انتصرت...وفيما ربح الرئيس صالح الرهان لوقوفه إلى جانب الوحدة وقيادة معركة الحفاظ عليها فقد كانت خسارة البيض مدوية بإعلانه الإنفصال...

بعد أن توحدت اليمن سيظل الإنفصال قضية الخاسرين الذي لن يتحقق أبدا وهوى لا يشكل حلا لأحد كما قال فيصل بن شملان أخيرا...ولا يزال المرأ يحتار في كيف أن الأنفصال في عام 1994 كان خيار قائد وطني وسياسي كبير ومثقف بارز مثل علي سالم البيض الذي حظي بإحترام الناس جميعهم بسبب تنازلاته وتشاركه و الرئيس صالح في تحقيق إنجاز تاريخي غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث وهو إنجاز وحدة اليمن... وخلافا لما يطرحه المهندس العطاس في تسفيه قرار الوحدة العظيم والدعوة إلى الإنفصال فإن بإمكان الأستاذ / البيض أن يتصالح ويتوافق مع تاريخه النضالي الناصع الذي قاد إلى وحدة 22/مايو/ 1990 ويعلن من جديد أن الوحدة هي إنجاز وصناعة تاريخ مجيد لا يتبرأ منه وإنما يعتز به أيما إعتزاز وإن الذي حصل يوم 21/مايو/1994 هو خطأ من جملة أخطاء كبيرة حصلت في اليمن على مدى تاريخه الحديث ولن يعدم مبررات ذلك الخطاء الأستاذ البيض وسيتفهم ذلك كل الناس..وبالمقابل بإمكانه أن يساعد في تبني معالجات موضوعية للمشكلات الماثلة تحت مظلة اليمن الواحد الموحد ولا بد أن ذلك سيكون محل ترحيب الجميع ... وحيث يمكن أن يكون مفهوما أن يتنحى البيض عن السياسة وخوض غمار الصراع على المناصب وهذا يحسب له أيضا لكن يصعب تصور تنحيه كمناضل عن هموم بلده وهو يتعرض للمحق والسفه والفوضى وهوالمبادر التاريخي مع الرئيس صالح في تحقيق أهم إنجاز وطني في التاريخ اليمني منذ قرون...


يوم 7/7/1994..مشاعر مختلطة...و"الفيد" بداية الإنفلات الكبير...

عندما حسمت الحرب لصالح الوحدة زارني الدكتور/ عبد القوي الشميري في يوم 7/7/ 1994 وهو زميل سابق في المدارس الليلية والغربة والمعاناة والأحلام وهو لا يزال صديقا عزيزا مع أني قد آخذ عليه تشدده وتحيزه أحيانا في الخطاب منذ تحزب وهذا منافي لطبعه الذي أعرفه منذ أكثر من ثلاثين عاما ، وهو من نوابغ أبناء اليمن وصاحب قيم وتخرج من ألمانيا لكن عليه أن يظل بعيدا عن كل ما يجعل المرأ ضيق الأفق ! ففي بلادنا الكثير من الأفكار والأجتهادات التي تساعد على ضيق الأفق !.عند زيارته تلك كان الدكتور الشميري يعمل حينها في مستشفى ذمار وكان مستقلا لم يتحزب بعد، وبدا أنه لاحظ علي نوعا من الوجوم ومسحة من الحزن فقال لي الواجب أن تفرح فقد حسمت الحرب لصالح الوحدة ! فقلت له أنني أشعر بفرح لكنه مشوب بحزن ! فتساءل لماذا الحزن ؟ قلت إن الفساد قد يسود...وودت لو قلت أيضا إن الشرخ قد يستمر!..وتخيلت صورا من آثار الحرب الأهلية التي درات في ستينات القرن الماضي في شمال اليمن وصور الفساد التي رافقت تلك الحرب وأعقبتها وتطيرت من ذلك كثيرا...

الدكتورعبد القوي الشميري هو نفسه الذي اتصل بي من ذمار يوم 5/5/1994 وأبلغني مستغربا بأن المواطنين ينهبون معسكر باصهيب إثر إندلاع الحرب الشاملة أو الزلزال كما أسماها الدكتور عبد الولي الشميري صاحب كتاب الألف ساعة حرب وكان ذلك بداية "الفيد" والإنفلات الكبير ! وللعلم فقد أنفجرت الحرب الشاملة في يوم "ربوع" آخر يوافق 4/5/ 1994 ! ...

مرفوض ومفروض ...
لقد ساد فساد كبير بالفعل ، وفاق كل التصورات والتقديرات وكان ولا يزال أكثر وقاحة وتبجحا وجرأة وخبثا وخطرا من كل فساد عُرِفَ من قبل ... وكان ولا يزال أكبر مما يحتمل ... الفساد الذي حصل عقب حرب الستينات كان مخاتلا ومتهما ومحتقرا وكان منزويا ومحاصرا ومحدودا و أما فساد التسعينات وما بعدها فقد أصبح واثقا ومتعاليا وأحيانا مبجلا ومنظما ومحتميا بالقوة والأحزاب والإعلام والتضليل ونموذجا يحتذى ومنتشرا وساخرا ويخطب وده كثيرون...ولا زلت أستغرب كيف أن أحزاب المعارضة سكتت طويلا عن الفساد بكل تشعباته وتحدثت عن ذلك فجأة ومنذ فترة قصيرة نسبيا ! هل كانت المعارضة تعول على أن سرطان الفساد سيقضي على نظام الحكم وهذا سيسهل عليها الوصول إلى السلطة دون عناء أو جهد يذكر ؟. ربما . أوأن المعارضة تعاني هي الأخرى من فساد خاص بها؟.. والحق إن السكوت على الفساد هو فساد حقيقي ، كيفما كان المبرر وأيا ما كان السبب ...

إن الفساد "الجديد" قد أتى على القيم وهنا مكمن الخطر ... ومن الفاسدين من يريد أن يكون سارقا وزعيما على حد تعبير الدكتور ميلاد حنا...وكثير من الفاسدين مفروض مع أنه مرفوض ، والتعبير أيضا لا يزال لميلاد حنا... أي قدر أقسى من هذا ؟
كان الفاسدون السابقون محدودين ويقتنعون بحدود لثرواتهم ويجتهدون كثيرا في أن يواروا سوءة فسادهم ويخفوه ويخبؤوه....أما الفاسدون الجدد فإنهم يزدادون ويتناسلون ويتكاثرون هندسيا ويريدون أن تكون ثرواتهم بلا حدود وفسادهم شفافا بل ظاهرا ومبينا ! وبالمقابل فقد تحتم على النزاهة أن تتوراى وتنسحب إلى الخلف وتفسح المجال للفساد يقود ويسود ويتقدم الصفوف في كل شي وفي كل جهة تقريبا...وهذا أذان بخراب العمران مثلما قال بن خلدون ...

مراهانات مع البروفيسور روبرت بوروس...
لقد أمكن تقليص الفساد الذي أعقب حرب الستينات ومحاصرته ولذلك لم يشكل خطرا على الجمهورية ولم يكن عائقا أمام تحقيق الوحدة في عام 1990 ...حيث استطاع الرئيس الحمدي ومن بعده الرئيس صالح أن يتجها في بناء دولة كان هناك من توقع وأمَّل أن تكون نموذجا في جزيرة العرب والخليج ومنهم أستاذ السياسة في جامعة برينستون الأمريكية روبرت بوروس في منتصف الثمانينات ، لكنه – أي بوروس- صار متشائما منذ فترة وتحدث في 2005 عن اليمن كسفينة تغرق ! ورددت عليه حينها وإختلفت معه حول إغراقه في التشاؤم ولعلي قد راهنته وأتمنى أن لا يكون على حق...حيث لا أتخيل ولا أحتمل أن وطني العزيز يُشَبَّهُ بسفينة تغرق ..علينا أن نمنع ذلك !

منذ حرب 1994 تُرِكَ الحبل على الغارب للفساد يعيث في كل اتجاه ، وأصبح الثراء غير المشروع هو هدف غالبية النافذين ... وأصبحت المحسوبية هي الأصل..وصار الفاسدون لا يساورهم أدنى قلق من أدنى مؤاخذة أو عقاب ، وتركزت بل تكدست السلطة والثروة في أيدي القلة ولا تزال...ولم يعد مستغربا أن ترى من الأسرة الواحدة عددا كبيرا من المسؤولين بين وزير وسفير ونائب وقائد عسكري وغير ذلك وكلهم مستثمرون أوأنهم يوكلون استثماراتهم لأحدهم أو أحد أقربائهم... وقد يتولى البقية أنواعا من التسهيلات من خلال إستغلال النفوذ ...
وعلى كثرة المسؤولين من أسر بعينها فإنك تجد مناطق واسعة يقطنها مئات الألوف لكنها محرومة تماما ومستبعدة تماما من أي إعتبار يذكر...


ثمن الجشع !
إن الإستحواذ والطمع والجشع ظلم مبين ينتج عنه إستبعاد وحرمان وكل ذلك يورد المهالك ولا بد أن تكون له نتائج سيئة وثمنا باهظا حيثما كان..لقد عزت مجلة التايم الأمريكية في مقالة رئيسية مطولة بقلم أندي سيرور وألان سولان في 18/ 9/ 2008 الأزمة المالية التي ضربت أمريكا وهزت العالم إلى الجشع وقالت إن ما يحدث هو ثمن للجشع وبسبب أولئك المحتالين الذين تجاوز جشعهم أي نوع من أنواع الخوف واستطاعوا الأفلات من أي محاسبة أو عقاب. وقد شبه الأستاذ محمد حسنين هيكل الهزة التي تتعرض لها أمريكا اليوم بسبب الأزمة المالية بما حصل في دول المعسكر الشرقي بسبب سقوط جدار برلين... ومع ذلك شتان بين فساد وفساد وأثر وأثر.فاليمن بلد بائس وشعبها فقير ولا يزال يعاني مخاض الخروج من القرون الوسطى ولا يجوز بأي حال أن يُسمَحَ للفساد في العبث بمقدرات اليمن المحدودة على نحو يتسم بالبجاحة والظلم والجشع...
قيل إن الرئيس مر قبل حوالي عشر سنوات بجانب حفارات تحفر بئرا في مزرعة وسأل لمن هذا ؟ فقيل للقائد العسكري فلان ! فعلق الرئيس بقوله :" أما فلان وفلان فإنهم لا يشبعون"!... نعم إنهم لا يششبعون ، إنه الجشع يا فخامة الرئيس !

إثر نقاش مع بعض أشخاص في المعارضة قبل أكثر من عام عن مزرعة للرئيس في أبين قيل أنه أهداها إليه أحدهم (!) كتبت مقالا بعنوان " عندما لا تكون للرئيس مزرعة " وقلت أنه لا بد أن تحدد للرؤساء مكافأة نهاية خدمة وتدرج في موازنة الدولة وتكون مجزية تجعلهم يعيشون بكرامة هم وذويهم بعد ترك منصب الرئاسة، ولا يصح أن يشغلهم أي شي من قبيل التجارة أو الإستثمار أثناء توليهم مهام ومسؤلية الحكم وهذا هوعين ما ينص عليه الدستور ، وقلت أنه لا بد للرئيس صالح أن يعلن أن كل ما آل إليه أثناء الحكم من ممتلكات وأموال ، على إفتراض حصول ذلك ، تعتبر ملكية عامة للشعب " ولا بد بعد ذلك أن يشاطر كل المسؤولين أموالهم الكثيرة التي آلت إليهم أثناء توليهم مناصب عامة ..وأكرر تلك الدعوة الآن .. ولا بد أن يستعاد كل ما تم تملكه من المال العام بغير وجه حق للخزينة العامة .. وهكذا ستستقيم المسيرة...وسيعود للثورة مضمونها ووهجها الإنساني وستحتفظ الجمهورية بمعناها التقدمي وستعود للوحدة روحها النابضة بالحياة والأمل ...

إن ما حمل روبرت بوروس على تشبيه اليمن بسفينة تغرق هو إنتشار الفساد بشكل كبير ومخيف ... وأتمنى أن لا أجد نفسي مضطرا يوما للإعتذار لروبرت بوروس... حينذاك سأكون خسرت مرتين ..رأيي الذي تمسكت به ووطني العزيز الذي لا أملك غيره ! أما جدتي القوية فلا أعتقد أنها ستتحمل نتائج ذلك حتى وإن كانت في قبرها.. ولعل هناك من سيسأل أي دموع سيذرفها راشد محمد ثابت..وماهي البلد الذي سيقال أن حيدر العطاس رجل دولة فيه ؟ وأي بطولة وأي تاريخ سيتبقى لعلي عبد الله صالح ؟ وأي مستقبل سيكون لتطلعات أبنائنا وأحفادنا الذين لن تسع تطلعاتهم وكرامتهم سوى اليمن المجيدة الموحدة الناهضة التي يسودها السلام والوئام والعدل والنزاهة والتنمية والحكم الرشيد ؟ علينا أن نبذل كل الجهد لكي تربح اليمن ...

أن تتعرض الوحدة اليمينة بعد عشرين للتشكيك والخطر ،... وأن تكون الجمهورية بعد خمسين عاما مستهدفة .. فلا بد أن نفتش عن الفساد كثيرا ! ولا بد أن نقطع دابره...ونضع نهاية للجشع !...عسى أن لا نكون قد تأخرنا كثيرا ! فالـتأخر في علاج الأمراض يجعلها تتفاقم ويصعب من أمر الشفاء عادة !
[email protected]
  رد مع اقتباس