الموقف اليمني من الأزمة.
الكاتب / فؤاد ناصر البداي
فوجئ الشعب اليمني مثله مثل غيره من الشعوب العربية في صبيحة اليوم الثاني من أغسطس 1990م بنبأ غزو العراق للكويت، ولحظة حدوث الغزو كانت العلاقات بين اليمن وكلًّ من العراق والكويت أقل ما يمكن وصفها بأنها متميزة وفي أفضل حالاتها، خصوصاً أن البلدين كانت لهما مواقف مؤيدة ومتميزة تجاه الوحدة اليمنية، وتجمعهما باليمن رغبة مشتركة في نهوض عربي جامع، وفور سماع الشعب اليمني بنبأ الغزو انطلقت المظاهرات الشعبية العفوية منددة بالاحتلال العراقي للكويت، ويؤكد الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، أن حالة الغليان ظلت تفور في الشارع اليمني ولم تهدأ نفوس اليمنيين إلا عندما أعلن "طه يس رمضان" النائب الأول لرئيس الوزراء العراقي، خلال زيارة قام بها لليمن في الثالث من أغسطس 1990م، بأن اليمن قد طلب من العراق الانسحاب من الكويت، وأن العراق قد وافق على ذلك .
وعلى المستوى الحزبي يذكر البعض أن غالبية الأحزاب اليمنية التي كانت قد أعلنت عن قيامها بعد إعلان قيام الوحدة اليمنية، أعلنت إدانتها للغزو العراقي وأصدرت بيانات منفصلة نددت بالغزو، وأكدت تضامنها مع الشرعية الكويتية ودعوة العراق للانسحاب الكامل من الكويت .
لكن وبينما كان اليمنيون ينتظرون تنفيذ العراق وعده بالانسحاب من الكويت وتنقية الأجواء التي عكرت صفو المناخ العربي، إذا بهم يتلقون نبأ دخول القوات الأمريكية إلى السعودية لتتضح بذلك صورة المؤامرة الكبرى ضد مصالح الأمة العربية، فتحول الموقف الشعبي تحولاً سريعاً وحاداً، وانصب تركيزه ضد التواجد الأجنبي في المنطقة. في حين تراجعت قضية الكويت إلى المرتبة الثانية في سلم أولوياته. "وفي حين كانت النخبة في مجالسها تحاول التحليل وتبيّن الموقف، والانسجام مع الذات المنقسمة بين حلم الوحدة ورفض القوة في تحقيقها، كان المواطن العادي قد نزل إلى الشارع يهتف ضد الولايات المتحدة الأمريكية وضد عملائها في المنطقة" وأصبح تركيزه منصباً بشكل أساسي على إخراج القوات الأمريكية من المنطقة أولاً، ثم بعد ذلك يتم النظر في مسألة الكويت ثانياً. بل وتؤكد الكثير من المصادر أن قضية الكويت وفي خضم تصاعد الأزمة بتزايد أعداد القوات الأجنبية في الخليج، وتزايد عدد المؤشرات التي باتت تؤذن بهجوم وشيك على العراق، قد غابت تماماً عن الساحة السياسية لدى الرأي العام اليمني، وانخرطت نشاطات واهتمامات الرأي العام اليمني بما في ذلك النخب السياسية والمتعلمة، وحتى الأحزاب السياسية، على مناصرة العراق وجمع التبرعات له، وفتحت بعض الأحزاب السياسية فروع مكاتبها في المحافظات اليمنية لتسجيل المتطوعين في الحرب مع العراق. ومع ذلك فقد كانت هناك استثناءات من هذه القاعدة إذ ظلت بعض الشخصيات الوطنية والاجتماعية والسياسية والحزبية، في التذكير بالقضية الكويتية وحشد التأييد لها، ومن ذلك قيام هذه الشخصيات بتشكيل لجنة لمناصرة الشعب الكويتي، واختير الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، رئيساً لها، وأصدرت اللجنة نشرة لها بعنوان "الضمير اليمني"، تحدثت عن معانات أطفال وشعب الكويت تحت الاحتلال العراقي. ذلك إلى جانب قيام حزب الأحرار الدستوري وأمينه العام الأستاذ "عبد الرحمن أحمد نعمان" عبر البيانات التي صدرت عن الحزب خلال فترة الأزمة، بتأكيد مناصرته وتأييده لحقوق الشعب الكويتي، مذكراً بأن احتلال العراق هو القضية الأساسية، مطالبا بالانسحاب الكامل للقوات العراقية من الكويت، واعتبر الغزو طعنة نجلاء في جسد العروبة .
وحول تفسير الدوافع الحقيقة التي أدت إلى التحول المفاجئ والسريع للموقف الشعبي فور سماعه بالتدخل الأمريكي، يميل البعض إلى القول بأن ذلك كان ناتجاً عن كراهية عميقة ومطلقة للتدخل الأجنبي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، وأن اليمنيون حينها قد استعادوا إلى ذاكرتهم المواقف الأمريكية ضد العرب، ورأوا أن تحركها لن يكون إلا ضد المصالح العربية، خصوصاً أن الذاكرة لديهم كانت مشحونة بصور المآسي التي كانوا يشاهدونها يومياً عبر شاشات التلفزيون في الأراضي المحتلة على أيدي الجيش الصهيوني المحتل تحت سمع وبصر الأمريكيين وبدعم غير محدود منهم، ثم قارن اليمنيون العاديون ذلك بالموقف الأمريكي ضد العراق، وأدركوا بفطرتهم أن التدخل الأمريكي ليس إلا استمراراً للسياسات الأمريكية الهادفة لحماية إسرائيل والإمعان في إذلال العرب والهيمنة على مقدراتهم وإمكانياتهم واستغلال خلافاتهم لابتزازهم وإضعافهم جميعاً. ولهذا لم تخل أي مظاهرة أو مسيرة من شعارات أو صور تتحدث عن القضية الفلسطينية أو ترمز إليها .
وبما أن الموقف الرسمي من الأزمة يعد الأهم كونه المعني بالتعبير عن موقف اليمن ككل، وهو الذي تأثرت به علاقة اليمن بجيرانه، وتأسست عليه بداية مرحلة جديدة في تطور العلاقات اليمنية السعودية، فسوف ينصب اهتمامنا في هذا المقام وكما أسلفنا على دراسة الموقف الرسمي.
الموقف الرسمي اليمني من الأزمة.
أولاً: الموقف الرسمي اليمني من الأزمة قبل تفجرها في 2 أغسطس 1990م.
قبل الخوض في التفاصيل ينبغي التذكير إلى أنه مع ظهور البوادر الأولى لأزمة الخليج الثانية، لم يكن قد مضى على قيام الوحدة اليمنية سوى فترة وجيزة، وعلى الرغم من انشغال القيادة اليمنية آنذاك بترتيب الأوضاع الداخلية للبيت اليمني الجديد، إلا أن ذلك لم يَحُلْ دون قيامها بواجباتها القومية في العمل إلى جانب بقية القيادات العربية من أجل احتواء الأزمة وعمل كل ما من شأنه الحد من تصاعدها. ويؤكد البعض أن القيادة اليمنية قد عملت منذ نشوء الأزمة في مايو 1990م على جمع المعلومات الخاصة بها، محاولة التعرف على أسبابها المباشرة وغير المباشرة، وأطرافها المباشرين وغير المباشرين، ومعرفة نوايا أطراف المشكلة، وظلت ترقب تطورات الأزمة عن كثب محاولة عن طريق اللقاءات المباشرة لأطراف المشكلة تكوين رؤية واضحة للموقف. وفي ضوء ما تمكن من جمعه من معلومات وقف صانع القرار الخارجي اليمني أمام ثلاثة أسباب رئيسية للنزاع وهي :-
1) الصراع بشأن الحدود بين الدولتين.
2) حقوق استخراج النفط من حقل الرميلة.
3) رغبة العراق القديمة في تأمين منفذ له على مياه الخليج العربي.
ولمعالجة هذا النزاع رأت اليمن أن الحل يكمن في تكثيف الجهود اليمنية في الوساطة، وحث الأقطار العربية للتحرك في ذات الاتجاه، وإيجاد حل عربي بين الطرفين المتنازعين بعيداً عن التدخلات الأجنبية .
وتؤكد المصادر أنه منذ أن ظهرت الأزمة العراقية الكويتية إلى العلن في يوليو 1990م، سعت القيادة اليمنية بشكل حثيث، إلى تطويق الأزمة والحيلولة دون استفحالها وتدويلها، وأن المساعي اليمنية قد اتسمت بالحرص الشديد على احتوائها في الإطار العربي، وإعمال جهود الوساطة الدبلوماسية العربية. وفي هذا السياق استقبلت صنعاء في العشرين من يوليو 1990م، الدكتور عبد الرحمن العوضي، مبعوثا من القيادة الكويتية، وخلال اللقاء أكد له القادة اليمنيون حرصهم على عدم تدويل الأزمة وحلها في الإطار العربي، خصوصاً بعد أن أكدت الكويت مجدداً التزامها بميثاق جامعة الدول العربية، وحرصها على أن تتم معالجة كافة القضايا التي قد تطرأ على العلاقات بين الأشقاء العرب في إطار الجامعة العربية، وعن ردود الفعل الأولية للتحرك الدبلوماسي اليمني، أعلن الرئيس علي عبد الله صالح، في حديثه أمام مجلس الرئاسة اليمني في الثاني والعشرين من يوليو 1990م، أن القيادتين العراقية والكويتية أبديتا تفهماً كاملاً لحل أية خلافات بينهما بروح أخوية صادقة وبما يتفق ومصالح الأمة العربية ويعزز الأمن القومي العربي وفي مقابلة صحفية أجرتها معه وكالة الأنباء اليمنية سبأ في 22 يوليو 1990م، أكد الرئيس اليمني استمرار الاتصالات بينه وبين قادة كلًّ من العراق والكويت مؤكدا حرص الجمهورية اليمنية على وحدة الصف العربي والتضامن العربي وحل المشاكل بين الأشقاء بالتفاهم الأخوي وبالطرق السلمية حتى لا تتعثر جهود الأمة العربية وتتوزع طاقاتها في غير ما أعدت لها .
ورغبة في تنقية الأجواء العربية، أجرت القيادة اليمنية اتصالات مع القيادة الأردنية هدفت إلى تنسيق جهود البلدين في إزالة أية أثار على مسار العلاقات المصرية العراقية، وذلك على خلفية تصريحات نسبت إلى وزير الخارجية العراقي، أملاً في عمل دبلوماسي مشترك لدول مجلس التعاون العربي، ولإفساح المجال أمام الحركة الدبلوماسية المصرية ، وفي أعقاب اجتماع مطول لمجلس الرئاسة اليمني في الخامس والعشرين من يوليو، عبر المجلس عن ارتياحه لاستجابة العراق والكويت للمساعي الرامية إلى حل الخلاف بينهما في إطار العمل على الحفاظ على التضامن والإخاء ووحدة الصف العربي وحماية الأمن القومي، وتفويت الفرصة على أعداء ألأمة العربية. وفي السادس والعشرين من يوليو 1990م، استقبلت صنعاء وزير الداخلية العراقي، سمير محمد عبد الوهاب، الذي حمل معه رسالة من الرئيس العراقي للرئيس علي عبد الله صالح. وفي الثامن والعشرين أجرت القيادة الكويتية اتصالاً هاتفياً مع القيادة اليمنية. وبطبيعة الحال رحبت صنعاء بنجاح المساعي العربية، وخاصة المصرية، في التوصل إلى وقف كافة الحملات الإعلامية المتبادلة بين العراق والكويت، واستبعاد التهديد بالقيام بأي عمل عسكري من أي طرف ضد الطرف الآخر. وأبدت اليمن استعدادها لاستضافة لقاء الأشقاء العراقيين والكويتيين في صنعاء لتطويق المشكلة. كما أعربت عن ارتياحها وترحيبها بالاتفاق العربي حول عقد هذه المحادثات في مدينة جدة برعاية السعودية في 31 يوليو 1990م . وكما هو معلوم فقد انفجرت الأزمة في أعقاب فشل مؤتمر جدة بيومين.
ومما سبق يتبين أن أبرز ملامح الموقف اليمني من الأزمة في هذه المرحلة قد تمحورت في مجموعة نقاط لم تخرج جميعها عن ألإجماع العربي ومنها:-
• التأكيد على احتواء الخلاف وتطويقه في الإطار العربي والبحث عن مخرج سلمي للأزمة لتفويت الفرصة على أعداء الأمة العربية من استغلال الخلافات العربية-العربية للتدخل في شئون المنطقة.
• التأكيد على وحدة الصف العربي وتعزيز فرص التضامن العربي في مواجهة الخطر الصهيوني الذي كان حينئذ يعمل على قدم وساق لجلب مئات الآلاف من اليهود السوفيت وتوطينهم في الأراضي العربية المحتلة، وكذا الحرص على الحفاظ على القدرات التي باتت تمتلكها الأمة العربية وتوظيفها لمصلحة العرب في إدارة الصراع مع إسرائيل باعتبار أن التحدي الإسرائيلي يعد الخطر الأكبر الذي ينبغي حشد كل الطاقات العربية للتصدي له محذراً من مغبة إهدار هذه الطاقات في غير ما أُعدّت لها.
ثانياً: الموقف الرسمي اليمني من الأزمة بعد تفجرها في 2 أغسطس 1990م.
تؤكد معظم المصادر أن الدبلوماسية اليمنية قد شهدت مع بداية تفجر الأزمة في الثاني من أغسطس 1990 تحركاً نشطاً على المستويين الإقليمي والدولي لاحتواء الأزمة. كما ظلت اليمن حريصة على احتواء الأزمة في الإطار العربي ورفض التدخل الأجنبي. فما أن علم الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" الذي كان لحظة حدوث الغزو في زيارة لمحافظة "حجة" اليمنية، حتى سارع من هناك بإجراء العديد من الاتصالات مع بعض الزعماء العرب ومنهم على وجه الخصوص زعماء كلَّ من مصر، والعراق، والسعودية، والأردن، وجيبوتي، هدفت جميعها إلى التحرك السريع للقيام بمبادرة عاجلة لاحتواء الأزمة وتسويتها على أسس أخوية ضمن إطار الحل العربي وفي هذه الأثناء سارع مجلس الأمن الدولي فور تأكيد نبأ الغزو بساعات قليلة بعقد اجتماعٍ طارئٍ لمناقشة الأزمة، وكانت اليمن عضواً في المجلس عن المجموعة العربية، وبدوره سارع مندوب اليمن في المجلس بالاتصال بالقيادة اليمنية للحصول منها على موقف بلاده من الغزو ليضعه أمام المجلس، ولما تعذر عليه ذلك لأسباب سوف نوضحها لاحقاً، فقد قرر عدم المشاركة في التصويت على القرار الذي أصدره المجلس والذي حمل الرقم 660 وقضا بإدانة الغزو العراقي وطالب العراق بسحب قواته من الكويت.
وبعد أن قطع الرئيس صالح زيارته لمحافظة حجة عائداً إلى صنعاء باشر بعقد اجتماع لمجلس الرئاسة حضره رئيس الوزراء ونائباه، ورئيس مجلس النواب، ووزير الدفاع، ورئيس هيئة الأركان، ووزير الإعلام، ونائب وزير الخارجية، ثم تابع الرئيس صالح اتصالاته مع الخارج فاتصل بالرئيس الأمريكي جورج بوش وتناول معه جهود اليمن المبذولة لتطويق الأزمة بالتعاون مع مصر، والأردن، والسعودية، مؤكداً للرئيس الأمريكي ضرورة الحل في إطار الأسرة العربية .
وفي الثالث من أغسطس كان طه يس رمضان في زيارة لصنعاء وخلال اللقاء الذي جمع بينه وبين الرئيس صالح أكد له الرئيس موقف اليمن الرافض لاحتلال الكويت وأبلغه مطالبة اليمن بضرورة الإسراع بانسحاب القوات العراقية من الكويت والعمل على تطويق الأزمة بين البلدين ومعالجة كل القضايا بروح الأخوة وفي الإطار العربي . وكما ذكرنا فقد أعلن طه يس رمضان عقب اجتماعه بالرئيس صالح أن العراق قد وافق على طلب اليمن بالانسحاب من الكويت. فاعتبرت القيادة اليمنية أن قبول العراق بمبدأ الانسحاب يوفر مدخلاً مهماً للخروج بحل سلمي للأزمة. غير أنه وبالتزامن مع ذلك كان هناك اجتماع لوزراء خارجية الدول العربية في القاهرة لبحث الأزمة، فرأت اليمن أن من الأنسب تجنب صدور أي بيان إدانة للعراق قد يعرقل مساعيها الدبلوماسية الرامية لحل الأزمة سلمياً، ولما خرج البيان بإدانة واضحة للعراق فقد اضطرت اليمن للامتناع عن التصويت عليه، وقد أوضح الدكتور عبد العزيز الدالي، وزير الدولة للشئون الخارجية اليمني، والذي كان حينها حاضراً في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الموقف اليمني من البيان بقوله: "لقد وافقنا على كل ما جاء في البيان، وطلبت من زملائي مهلة عشر دقائق اتصل خلالها بصنعاء لأعرف ما لديهم من جديد، وكان معي على الخط الأخ رئيس مجلس الرئاسة الذي أبلغني أنه كان في اجتماع مع طه يس رمضان، وأنه أكد له عدم موافقته على غزو الكويت وطلبه من العراق الانسحاب، وأبلغني أن العراق وافق على الانسحاب وأعلن طه يس رمضان ذلك لرجال الصحافة..وقد عدت إلى زملائي ونقلت إليهم الخبر مع موافقة اليمن على كل ما احتواه البيان ما عدا الإدانة، حتى لا نفسد جو الوفاق الذي توصلنا إليه" .
وفي الرابع من أغسطس قام الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض بزيارة بغداد، وفور لقائه بالرئيس العراقي صدام حسين استنكر الرئيس صالح احتلال الكويت فرد عليه الرئيس العراقي، بأن "ليس لدى العراق خيار إلا أن يتخذ هذا القرار لأن هناك تآمر على أمن وسلامة العراق" وقد نُسب إلى مصادر مقربة من القيادة اليمنية، قولها إن الرئيس صالح خاطب الرئيس العراقي بما معناه "لن يتركك أحد في الكويت، ويجب أن تنسحب، وإلا فإنهم سيخرجونك بالقوة وبالأسلحة النووية إذا استدعى الأمر" واستجابة للمساعي اليمنية، أبدى العراق استعداده للتفاهم والقبول بالجهود العربية والدولية لحل الأزمة. وبعد زيارته لبغداد توجه الرئيس صالح إلى كلًّ من السعودية، ومصر، وعند لقائه بقادة هذه الدول أكد موقف اليمن الداعي إلى ضرورة احتواء الأزمة وحلها في الإطار العربي، وقطع الطريق أمام التدخل الأجنبي . وخلال لقاء الرئيس صالح بالملك فهد في مطار جدة أكد له الملك حرصه على استمرار الجهود الدبلوماسية العربية لتطويق المشكلة وقال: "سأقوم بالاتصال بالرئيس العراقي وأطلب منه إرسال مبعوث ليتسلم وجهة نظري وسنعمل على تطويق المشكلة" لكن وبصوت منخفض قال الملك فهد للرئيس صالح "إني أتعرض لضغوط قوية لاستقدام القوات الأمريكية ولذلك فأنا حائر ومتردد، ولم يحسم الأمر بعد" لكن وعلى الرغم من ذلك فقد كانت القيادة اليمنية على قناعة بإمكانية الحل السلمي العربي للأزمة، خصوصاً بعد أن أكدت القيادة العراقية استعدادها سحب قواتها من الكويت. وذكر الرئيس صالح أنه في هذه الأثناء كانت "هناك اتصالات مستمرة لعقد قمة خماسية لكل من العراق والسعودية ومصر والأردن واليمن على أساس احتواء الأزمة" . وكان العراق قد وافق على عقد هذه القمة لمناقشة كل التعقيدات المرتبطة بالأزمة وحلها في الإطار العربي .
وبينما كانت الدبلوماسية اليمنية في سباق مع الزمن لبلورة موقف عربي موحد ويحدوها الأمل في الخروج بحل عربي للأزمة، اتخذت السعودية بعد يومين من لقاء الرئيس صالح بالملك فهد قراراً باستقدام القوات الأجنبية إلى أراضيها، وبحسب رأي الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فإن هذه الخطوة كانت السبب في ضياع فرصة التوصل إلى حل عربي، وأوضح خلال لقائه بالأمين العام للأمم المتحدة "خافير بيريز دي كويار" قبل شن الهجوم على العراق بأيام، أنه وبالرغم من أن قرار نشر القوات الأمريكية في السعودية كان قد اتخذ؛ إلا أن العراق كان قد بدأ بالفعل منذ الرابع من أغسطس بسحب قواته من الكويت مؤكداً أن لواء بأكمله كان قد أتم انسحابه منها، غير أن استمرار التصعيد الأمريكي، واستمرار تزايد أعداد الجنود الأمريكيين إلى المنطقة جعل القيادة العراقية تعدل عن قرارها وأوقفت الانسحاب .
وفي هذه الأثناء دعت مصر إلى عقد مؤتمر قمة عربي عاجل لتدارس ضرورة استجابة العراق للمساعي العربية وسحب قواته من الكويت وإعادة الشرعية إليها والتفاوض لحل الأزمة، وقد بادرت القيادة اليمنية على الفور بإعلان موافقتها على ضرورة الإسراع بعقد القمة الطارئة، لبلورة موقف عربي موحد من الأزمة المتفجرة يوقفها عند حد معين ويمنع تصاعدها والبدء بتنفيذ إجراءات لحلها وكما هو معروف فقد انعقدت القمة العربية في العاشر من أغسطس 1990م وعند وصوله مطار القاهرة لحضور اجتماع القمة أدلى الرئيس صالح بتصريح قال فيه: "يحدونا الأمل الكبير ونحن نصل إلى جمهورية مصر العربية للمشاركة في أعمال القمة العربية الطارئة في أن نتمكن مع إخواني القادة العرب في التوصل إلى رؤية مشتركة وموقف موحد وسريع لاحتواء التطورات الخطيرة المتلاحقة في المنطقة في الإطار العربي بما يمنع تفاقم الأوضاع ويسد الثغرات أمام التدخل الأجنبي في شئون المنطقة. إن أمتنا العربية والعالم بأسره يرقبون باهتمام بالغ ما سوف تسفر عنه هذه القمة وما ستتخذه من معالجات حكيمة لاحتواء هذه الأزمة الخطيرة في وطننا العربي ونعتبرها امتحانا حقيقيا لمدى قدرتنا كعرب على معالجة قضايانا مهما بدت صعبة بروح المسئولية القومية التي تحمي الأمة العربية وأمنها القومي من كافة المخاطر والتحديات وتفوت الفرصة على أعداء الأمة وكل القوى الأجنبية التدخل في شئون المنطقة تحت مسميات مختلفة" .
وفي القمة العربية تقدمت اليمن بمجموعة من المقترحات منها الدعوة إلى سحب القوات الأجنبية من الأراضي العربية والأساطيل من البحار، وسحب القوات العراقية من الكويت، وأن تحل محل هاتين القوتين قوات عربية أو حتى تحت إشراف الأمم المتحدة. كما كان من ضمن المقترحات اليمنية أن يتم تشكيل لجنة للذهاب إلى العراق لطرح هذه المقترحات عليه، عله يقبل بها، غير أن هذه المقترحات رفضت جميعها وخرجت القمة بقرار نصت إحدى فقراته على "تأييد الإجراءات التي تتخذها المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى إعمالاً لحق الدفاع عن النفس" وهو أمر اعتبرته اليمن "مبرراً لإضفاء الشرعية على التواجد الأجنبي في المياه والأراضي العربية" وبالطبع فقد امتنعت اليمن عن التصويت على القرار، وصرح الرئيس صالح بعدها "أن فرصة كبيرة لاحتواء الأزمة وتطويقها في الإطار العربي قد فاتت من خلال هذه القمة التي كان من الممكن آن تعطي مجالا للحل العربي.. وبما يجنب المنطقة مخاطر التدخل الأجنبي". وقال بأن "التشدد الذي ظهر به بعض الأشقاء وكذا الأسلوب في إدارة النقاش جعل القمة تعيش مأزقا صعبا انعكس على القرارات التي خرجت بها والتي حاول البعض أن يفرضها فرضا وكأنه لا خيار ولا بديل عنها في حين أن تلك القرارات لم تقدم حلاً منطقياً للازمة بل أخرجت الأزمة من أيدي العرب وهُمش دور الجامعة العربية في معالجة واحتواء هذه الأزمة بين الأشقاء وخلق انقساما خطيرا في الصف العربي" . وفي حديث صحفي آخر قال " فوجئنا بأن القرارات مصاغة من قبل وقد اتفق عليها بين عدد من القادة العرب، وكان الشيء المطلوب منا هو التصويت" .
يمكن القول أن اليمن وبحكم قربه من منطقة الأحداث كان أكثر حساسية من غيره تجاه مسألة التواجد الأجنبي على أطراف حدوده الشمالية، ولهذا كان الموقف الرسمي اليمني واضحاً منذ البداية في رفض التدخل الأجنبي في الأزمة، ذلك فضلاً عن المخاوف من التداعيات السياسية للتدخل الأمريكي وهو الطرف المعروف بتحيزه المطلق لإسرائيل بالإضافة إلى وجود مطامع أمريكية في السيطرة على ثروة البلاد العربية، وقد عبرت القيادة اليمنية عن مخاوفها هذه في أكثر من مناسبة، فخلال اللقاء الذي جمع بينه وبين القيادات الإعلامية في اليمن، في التاسع عشر من أغسطس 1990، اعتبر الرئيس علي عيد الله صالح التواجد الأجنبي في المنطقة مؤامرة دولية ضد مصالح الأمة العربية، ورأى بأن الهدف من الأساطيل والحشود العسكرية الكثيفة في المنطقة هو ضرب التوجه القومي للعراق والسيطرة على الثروة العربية وفي مناسبة أخرى ذكر بأن "هذا يعيد للأذهان ذكريات غير طيبة عن مرحلة الاستعمار البريطاني والفرنسي والتي لم تندمل جراحها في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي"، وأضاف "والآن من المؤسف أن يأتي الاستعمار الأمريكي للوطن العربي" . وذهب الرئيس صالح إلى أبعد من ذلك في تحليله للأمور عندما صرح في المؤتمر الصحفي الذي عقده في صنعاء في 23 يناير 1991 أي بعد قيام الحرب بنحو أسبوع بأن "الإدارة الأمريكية والقوى الحليفة لها تقوم ألان بمعركة إسرائيل ضد العرب بشكل عام" وأضاف "من الواضح أيضا أن العراق يقوم الآن بمعركة العرب ضد الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة" .
بعد قمة القاهرة تسارعت الخطى باتجاه الحل العسكري بتزايد أعداد القوات الأمريكية والأجنبية في المنطقة ومواصلة الولايات المتحدة حشد كميات هائلة من أسلحتها التدميرية، وبقدر ما كانت الحشود تتواصل كانت فرص الحل السلمي آخذة في التضاؤل، ومع ذلك لم تتوقف القيادة اليمنية عن بذل مساعيها بشكل حثيث لإيجاد مخرج سلمي للأزمة وكان الهدف الأساسي الذي استحوذ على اهتمامها في هذه المرحلة هو الحيلولة دون تدمير القدرات العراقية الصاعدة والتي عدتها اليمن ثروة قومية ينبغي الحفاظ عليها في مواجهة التحدي الإسرائيلي، ولتحقيق هذا الهدف عملت بالاتجاهات الآتية :-
• توظيف ما لديها من تأثيرات في العراق للوصول إلى لقاء عراقي – أمريكي لصنع السلام.
• إطلاق سراح الأجانب المحتجزين في العراق والكويت.
• العمل على إقناع دول الحلفاء للقيام بمبادرات لتلافي الحرب.
وفي محاولة منها لإيجاد مخرج سلمي للأزمة وتلافي وقوع الحرب تقدمت اليمن بعدة مبادرات نشطة منها المبادرة التي تقدمت بها قبيل اندلاع الحرب واشتملت على ست نقاط نصت على :
• يجري انسحاب القوات العراقية من الكويت.
• إحلال قوات عربية ودولية في المنطقة المتنازع عليها بين كل من العراق والكويت تحت إشراف جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.
• انسحاب القوات الأجنبية الموجودة في المنطقة بمجرد قبول العراق لمبدأ الانسحاب من الكويت.
• يلتزم مجلس الأمن الدولي بتنفيذ قراراته بشأن النزاع العربي الإسرائيلي من خلال التعجيل بعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط.
• تتعهد الدول التي لها قوات في منطقة الخليج والجزيرة بعدم استعمال القوة ضد العراق.
• بمجرد قبول أطراف النزاع بهذا المقترح ينتهي الحصار الاقتصادي على العراق.
وقد قامت اليمن بتسليم المبادرة إلى كل من الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وسلطنة عمان، ومصر، وقام بتسليمها وفد رفيع المستوى مكون من حيدر أبو بكر العطاس، رئيس الوزراء، والدكتور عبد الكريم الإرياني، وزير الخارجية، والشيخ مجاهد أبو شوارب نائب رئيس الوزراء، غير أن صوت الحرب كان أقوى من صوت السلام، فأثناء تواجد وفد مبادرة السلام اليمني في القاهرة في الثاني عشر من يناير 1991م، اتصل وزير الخارجية الأمريكي "جيمس بيكر" الذي تزامن حضوره مع حضور الوفد في القاهرة، بالدكتور الإرياني وأخبره بما يلي: "لقد أطلعني المصريون على مقترحاتكم.. في جميع الأحوال لكم علاقة بالعراق، وأريدك أن تذهب إلى بغداد وتقول لهم أنه إذا جاء يوم 15 يناير ولم ينسحبوا من الكويت فإن السماء ستمطر عليهم جحيماً" . ومن جهتها رفضت القيادة العراقية القبول بالانسحاب من دون التفاوض على حل شامل وكامل، وقال الرئيس العراقي للوفد اليمني الذي التقاه في بغداد عقب زيارته للقاهرة "ليس أمامنا إلا الصمود..وإذا تراجعنا في هذه اللحظة سيحصل الانهيار ولذلك نفضل أن نموت في قمة الهرم بدلاً من الموت في القاع وليس لدينا أية ضمانات لو انسحبنا..فلماذا نستسلم في آخر لحظة" وهكذا أغلقت منافذ الحل السلمي أبوابها وفي السابع عشر من يناير كانت بداية الحرب.
وعلى مستوى الأمم المتحدة توالت قرارات مجلس الأمن الدولي ضد العراق بشكل مُتسارع، فخلال الفترة من 2-25 أغسطس 1990م، بلغ عدد القرارات التي أصدرها المجلس خمسة قرارات، ويؤكد البعض أن القرار رقم 660 يُعد أسرع قرار اتخذه المجلس منذ إنشاء المنظمة الدولية، وقد تراوح الموقف الرسمي اليمني من مجمل قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالأزمة، ما بين عدم المشاركة في التصويت، والتأييد، والرفض، والامتناع، وهو ما سوف نتناوله بتفصيل أكثر في موضع لاحق.
وفي تقرير لها بتاريخ 13 فبراير 1990م لخصت وزارة الخارجية اليمنية الموقف الرسمي لليمن من الأزمة على النحو التالي :-
• عدم موافقة اليمن على الغزو العراقي وضمه للكويت، وطلب اليمن انسحاب العراق من الكويت.
• اليمن يرفض التدخل العسكري الأجنبي في المنطقة ويطلب حل القضية بالطرق السلمية وفي إطار الأسرة العربية.
• تدين اليمن الإجراء العسكري على العراق الشقيق والهادف إلى تدمير القوة العراقية الصاعدة.
• توافق اليمن على بحث القضايا في المنطقة، وتؤيد المبادرة العراقية بتاريخ 12 أغسطس 1990 وترفض أن تعالج الشرعية الدولية قضايا الشرق الأوسط بمعايير مزدوجة.
ومن خلال ما سبق يتبين أن الموقف الرسمي اليمني قد حرص في تعامله مع الأزمة ومنذ بداية نشوئها في يوليو 1990 على احتوائها في الإطار العربي وعمل كل ما من شأنه منع حدوث أي تدخل أجنبي، وكان هذا الموقف الثابت واضحاً حتى قبل حدوث الغزو، فقبل تفجر الأزمة عملت الدبلوماسية اليمنية كما رأينا سابقاً على تعزيز فرص الحل الثنائي بين كلًّ من العراق والكويت، وبعد تفجرها في أغسطس 1990 كان الإطار العربي ضمن الجامعة العربية هو المجال الذي استحوذ على اهتمام صانع قرار السياسة الخارجية اليمنية لحل الأزمة، وبالنظر إلى الموقف الرسمي اليمني قبل تفجر الأزمة وبعدها، نجد أنه كان متناسقاً ومنسجماً مع الثوابت الوطنية والقومية للسياسة الخارجية اليمنية ومتوافقاً مع التصريحات الرسمية اليمنية بضرورة تفعيل دور جامعة الدول العربية في تسوية الخلافات العربية- العربية، وربما أن الشعور بالاعتزاز لدى اليمنيين عموماً والقيادة اليمنية على وجه الخصوص، بتحقيق الوحدة اليمنية، وهو أحد الإنجازات التاريخية القومية الهامة الذي تزامن تحقيقه مع نشوء الأزمة؛ كان له تأثيره في رؤية القيادة اليمنية للموقف من بُعده القومي، وبالتالي تشكيل تصوراتها للحلول الممكنة للأزمة. ويؤكد البعض أن الرئيس صالح "كان يرى في دولة الوحدة اليمنية أداة لمساعدة الأشقاء العرب في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، ولذا أكد أنها ستقف بكل إمكانياتها إلى جانب أي قطر عربي يتعرض أمنه وسيادته لأية مخاطر أو عدوان، وبأن اليمن ستكون سنداً وعمقاً استراتيجياً لكل أقطار الأمة العربية، وكان هذا الحديث بمناسبة التهديدات الاستفزازية الصهيونية والغربية للعراق" .
"ويرى المسئولون اليمنيون المطلعون والمشاركون والمتابعون أنه لو توفرت لدى العرب النية الحسنة، والإرادة الصادقة، والشجاعة الكافية، لأمكن حل القضية سلماً وفي الإطار العربي. لكن كل مرة كانت فيها الحلول السلمية والمحاولات الجادة تسير على الطريق الصحيح تتحرك الضغوط الأمريكية لكي تعيق ذلك، لأن النية كانت مبيتة لضرب العراق وتدمير قواته" .