موضوع رائع منقول للقائدة

[ابوعبدالرحمن الحزمي]

من الدلالات العاطفية في رمزية الأغنية الحضرمية

(بلجيك) المفلحي .. تلميح قبل التصريح (1)

قراءة : صالح حسين الفردي

بداية .. قبل البداية
كثيرة هي النصوص الشعرية الغنائية التي نحت منحى عاطفيا ، ووظفت الألفاظ والصور والتراكيب الجميلة للوصل إلى هذه الغاية النبيلة ، وتنوعت في مظان ومضامين الهوى ، ومازالت الأغنية حمالة لبقايا من زوايا النفس الإنسانية العاشقة أو المعشوقة ، ولكن القليل من هذه النصوص الشعرية الغنائية التي استلهمت التراكيب والمفردات الرمزية العاطفية في تشكلها النهائي ، وإن اشتهر الراحل الكبير حسين أبوبكر المحضار بالكثير من النصوص التي نشرت أو لم تنشر في دواوينه الأربعة بأغنيات لم تزل حتى اللحظة وستظل لسنوات قادمة حمّالة أوجه ، بعد أن حارت فيها العقول وذهبت بها القلوب مذاهب شتى ، و(كل يغني على ليلاه) ، ورحل المحضار و(يسهر الناس فيها ويختصمون) ، مع الاعتذار لعبقري الشعرية العربية (أبو الطيب المتنبي) ، ولكننا في هذه الحلقة وما يليها من هوامشنا سوف نحاول استكشاف مجاهل النصوص الرمزية العاطفية لعدد من شعراء الأغنية الحضرمية الخالدة.
(بلجيك) الرقيق المفلحي .. تلميح قبل التصريح
في لقاء جمعني بالشاعر الرقيق والملحن العذب الراحل صالح عبدالرحمن المفلحي قبل وفاته بـ(4) أشهر ، في 12يونيو 2005م ، جال بنا الحديث إلى تجربته الشعرية واللحنية العشقية الثرية، وما عرف عن هذا الشاعر الرقيق - كما يصفه الراحل الكبير المحضار - أن نصوصه الغنائية كلها ذهبت إلى المعاني العشقية السلسة واستعارت المفردات والتراكيب والصور الفنية الواضحة الدلالات الخالية من التعقيد والرمزية الشائكة التي عرفت لدى كثير من شعراء الأغنية الحضرمية أو لدى أعلام شعر المساجلات والمطارحات التي عرفتها جلسات الدان والرقصات الشعبية كالشبواني والعدة وغير ذلك ، ولما كنت مولعا بتجربة الشاعر المفلحي فقد دفعني تواضعه الجمّ وسماحته ونبل سجيته إلى الخوض في زوايا ذاته العاشقة ، وما فتئ محبو الشاعر الراحل - خاصة - وعشاق الأغنية الحضرمية - عامة - يذكرون له بيته الشعري الشهير الذي قاله في نص غنائي يعد من روائع الغناء الحضرمي (توقّع يا حبيبي لا تغرك شبعة العيد) وفيه يأتي هذا المقطع الشعري الموغل في قسوته على الآخر - المعشوق - وقد سرى مضرباً للمثل - يقول :
على كتف الدلل تفحسك في الأسواق كل يد
وعرضوا بزّك البالي على أبيض وأســــود
لأنك قاصر القيمــــه وبزّك عيف تقليـــــــد
توقّع يا حبيبي لا تغرك شبعــــــة العيــــــد
ولأن الشاعر الرقيق صالح عبدالرحمن المفلحي قد نشر له ديوانه الأول والوحيد حتى اللحظة ، وكان بعنوان (خواطر في أنغام) في مطلع عام 1970م عن مطابع بور سعيد بدولة الكويت ، ومازال الكثير من نصوصه الغنائية الأخرى لم تصدر في ديوان ثان ، فإننا ، وضعنا عليه تساؤلنا عن القصيدة الوحيدة في ديوانه المنشور والتي كانت تحمل دلالات رمزية ، فسّرت من قبل الكثيرين على أنها تحمل معاني سياسية في تلك الفترة. إلا أننا ، في قراءة نشرت قبل الحديث معه قد وضعنا هذا النص في سياق تجربته الشعرية وفق ترتيب زمني عاطفي جسد قصة الهوى العاصفة التي عاشها الشاعر المفلحي في حياته ، في تلك اللحظة أتيحت الفرصة لنا لتقديم التفسير الذي تبنيناه ، وكان - التفسير- يؤكد على أن النص الرمزي الغنائي (بلجيك) هو نص سبق نص أغنية (توقّع يا حبيبي) الذي كان فيه التصريح قد بلغ حد التجريح ، فما كان من هذا الشاعر الرقيق المفلحي إلا أن أيّد ما ذهبنا إليه ، وأشار إلى أنه كان ميالاً إلى أن يؤتي هذا النص الرمزي غرضه الذي يرغب فيه ، ولكن ! تعنت المحبوب وعدم عودته إلى الجادة واستمراره في الانجراف إلى أشياء لا أقبلها قد دفعني إلى قول ما قلت في المقطع السابق ، هكذا كانت عبارات الراحل المفلحي ، بتصرف .
وقد جاء النص الرمزي الحامل للدلالات العاطفية عميقا في مضامينه ، واستخدم الشاعر مفردة (بلجيك) كسلاح - سلب - لا يليق حمله إلا على كتف - السعيدي - أي الشاعر ، دلالة على حسرته بضياع المعشوق ، ولكن ! كيف وظّف الشاعر المفلحي هذا الرمز وحقله اللفظي والدلالي لإخراج نصه الغنائي ، يقول :
بلجيك ما تصلح إلا على كتف السعيدي
كيف ذلوك يا عز السلوبه
وين لي يحسنون الضرب عالمحلاه
***
لي همل البهم ظن الطعم لي في الواد ريدي
ظن وادي حمم كله خصوبه
ما حسب للملامه قال يا لوماه
***
يا الحيد لي كنت نضرب بك مثل ونقول حيدي
حسف ذيك النوب كم فيك نوبه
ليت حتى كلابك بالعوى تحماه
***
ليتهم عاطفف ضربوك يا حصن الغويزي
حافظوا عالعسل جبحه ونوبه
غير خلوك كل قصبه على معداه
***
يا بوعمر إيش من ربان لي زل المجاري
حاسب البحر يا مسهل دروبه
خس ربان لي هو ما عرف مجراه
وإذا أردنا في هذه الهوامش تفكيك شفرات هذا النص ومفرداته وصوره لكنا في حاجة إلى أكثر من هوامش هامسة ، ولكن يكفي أن نشير إلى لفظة سلاح (بلجيك) التي ترادفت معها الكثير من المفردات التي تعمق المعنى من التقاطه لها ، فكانت مفردات وجملا مثل: ( الكتف ، عز السلوبة ، يحسنون الضرب ، عالمحلاه ، همّل البهم ، وادي حمم - وما يرتبط به من معنى في المخيلة الشعبية عامة والقبلية خاصة كواد مخيف لا يمشي فيه إلا من يمتلك الشجاعة ، الحيد - الجبل - النوب ، مواضع القنص والرماية في الحصون الدفاعية ، كلاب ، تعوي ، للحماية ، كأضعف أنواع المقاومة ، حصن الغويزي - المعشوق - التمني بعدم إصابته في مقتل حفاظا على عسله - الرمي عالطفف - الجبح ، النوب ، كل قصبة على معداه ، أي تسيل إلى الوادي دون توقف ، دلالة على الانجراف والسقوط وعدم الوفاء والتمسك بعهود الهوى).
بعد التلميح كان التصريح
لذا نلمس حرص الشاعر الرقيق المفلحي في هذا النص الغنائي على عدم بوحه بما يحمله من قسوة على المعشوق بعد أن وجده ينجرف في طريق وعرة لا تليق به ، فكان لا بد من تشفير النص حرصاً على أواصر الحب والغرام ، وهو يدرك أن المعشوق يفقه إشاراته ويفهم مراميه ، وهو ما دفعه للبوح بأكثر من ذلك والتصريح الذي بلغ حد التجريح في النص الذي ذكرنا مقطع الإساءة فيه في بداية الحديث.
هذه شذرات دلالية - إن جاز لنا التعبير - أردنا من خلالها أن نقف عند تجربة فريدة لعلم كبير من أعلام الأغنية الحضرمية المعاصرة ، اتسعت تجربته الغنائية وطافت أرجاء الجزيرة والخليج ، من خلال أصوات عملاق الأغنية الحضرمية محمد جمعة خان في رائعتيه ( رسول بلغ لخلاني السلام ومايس القد عوّد بالتلاقي) وكذلك ثنائيته المشهورة مع الفنان المخضرم كرامة سعيد مرسال ، والفنانين الكبار : أبوبكر سالم بلفقيه ، محمد سعد عبدالله ، بدوي زبير ، علي أبوبكر العطاس ، عبدالرحمن الحداد ، مفتاح سبيت كنداره ، محفوظ محمد بن بريك) ، ومازال حاضراً بقوة في أصوات الفنانين الشباب.

[محمد نور]

شكرا ابو عبدالرحمن