قاضي الشحر ..ابن عبسين

[عمر خريص]

	قاضي الشحر .. ابن عبسين

من سير الرجال الأفذاذ من أهل العلم والأدب والقادة العظام ، ما تبهرنا أشهد الإبهار ، وتعظم أصحابها في أعيننا إجلالا وإكبارا لمنجزاتها وما حققته من مكانة سامية ورفعة عالية في مجال العلم أو نحوها، ولا زالت تذرف عيني دموع التقصير كلما قرأت سيرهم وخضت في تفاصيل حياتهم المليئة، اقف صاغرا أمام هممهم الجبارة الكبيرة ،وكأني جبلت من طينة غير طينهم ، وتمخضت نفسي من غير ما تمخضت منه أنفسهم ، فما بالنا نحن أهل القرون المتأخرة متأخر ون ، وعن ركب علماؤنا وقادتنا عازفون ، فلا نلوم إلا أنفسنا ولا نتهم إلا تخاذلنا وتقاعسنا وموت هممنا .
وهذا ابن عبسين من علماء وقضاة القرن العاشر ، يقف شامخا ويضرب لنا مثلا في كيف يجب أن تكون الرجال ، فهو القاضي العلامة (عبد الله بن محمد بن حسن بن محمد بن احمد بن عبسين ) المولود في مدينة الشحر ، وتوفي فيها ، ذكره صاحب النور السافر في وفيات (907) إذ قال ( ولاربع خلت من شهر ربيع ثاني توفي الشيخ الأمام العلامة الولي الصالح الورع الزاهد بقية السلف وعمدة الخلف القاضي الفقيه عبد الله بن محمد )
وقد صحح صاحب السناء الباهر سنة وفاته إذ جعله في الثامنة (908) منوها بسيرته في النور السافر وزاد عليها شي يسير .
تستوقفنا الأوصاف والنعوت التي أطلقها صاحب النور على القاضي ابن عبسين ، فنحن إذا أمام شخصية غير عادية بتاتا ، فهي جمعت فيها عدة فضائل وخصال لو كانت أحدها فقط في رجلا من الرجال لكفته شرفا ورفعة فهو ( الشيخ الأمام العلامة ) وهو ( الولي الصالح ) وهو (الولي الزاهد) وهو أيضا ( بقية السلف وعمدة الخلف) وهو أيضا ( القاضي الفقيه) لله دره من أمام ، يتيه الزمان به فخرا ، واظن أن هذا التحصيل لا يتأتى ألا لمن سكنت جسده روحا طموحة إلى المعالي وشرف المكانة .
ومن المنطلقات التي انطلق منها ابن عبسين إلى ساحات الرجال حبه للعلم وطلبة العلم إذ يبذل الغالي والنفيس في هذا المجال ويسعى بكل جهده في خدمة طلاب العلم وتوفير ما يحتاجونه ، قال عنه صاحب النور ( وكان سيدا شريف النفس كريما سخيا مفضالا وصولا للطلبة كثير الإحسان إليهم ، وكان يجتهد في جمعهم وترغيبهم للطلب ، ويسعى لهم في الرزق باذلا لهم نفسه . ) هذه هي معلم من معالم هذا الرجل الجهبذ ومعالمه كثيرة زينت كتب التراجم سيرته وفي النور قال ( ومن فضائله المشهورة ومناقبه المذكورة سعيه في إخراج وقف الجامع الذي على المدرس والمدرسة وغيرهم من يد الدولة بعد أن استولوا عليه مدة ، وكاد أن ينطمس ويندرس، ومن ذلك انه كان السبب في وصول الفقيه العلامة عفيف الدين عبد الله بن الحاج فضل إلى الشحر ، وترتيبه مدرسا في الجامع وانتفاع الناس به ، وبالجملة : ففضائله ومناقبه أكثر من أن تحصر) .
وكان رحمه الله خطاطا متقن لمهنته ، يضرب به المثل في جمال خطه ، فهو يتكسب ويقتات من عمل يده في كتابة المصاحف وخطها .. اورد صاحب السناء الباهر لابن عبسين على بعض اجوبته على الرسم العثماني اذ كتب ( وقد اعتنيت في مصاحفي بتتبع مافي الجزرية وشرحها وانتشرت في امكنة تبلغ نحو خمسين مصحفا محررة بحمد الله تعالى ارجو من الله تعالى ان يحفظ بها على الاسلام بحفظ كتابه ، وكتبت على الرسم العثماني مصحفين محررين من نحو عشرة كتب معتمدة ارجو من الله تعالى ان لا يخيب سعيي فيها انه جواد كريم ).
ورغم توليه القضاء وهو مكره عليه إلا انه لم يكن يأخذ لنفسه شيا من معلومه بل كان يخص به بعض المحتاجين من الفقهاء والدرسة .
ومن اشهر قضاياه في سلك القضاء قضيته مع السلطان (عبد الله بن جعفر الكثيري ) صاحب الشحر وقتها ، قيل فيها ( وذلك أن السلطان المذكور اشترى حصانا من بعض الناس ثم بعد ذلك أراد رده ، وادعى فيه عيبا ، وامتنع من تسليم الثمن للبائع ، فاشتكى عليه الى القاضي المذكور ، فكتب أليه أن احضر الى الشرع الشريف ، ولم يراع السلطان ولا تساهل لاجله ولا حاباه بكلمة واحدة ) وكأن التاريخ يعيد لنا صورته في واقعة الخليفة الثاني رضي الله عنه في نفس هذه الحادثة وهي مشهورة .
وقاضي مثل هذا أهلا لان يقيم العدل في ربوع البلاد ويأمن على نفسه الداني والقاصي من المواطنين ، فبغياب العدل وفقد القاضي العادل ينتشر الظلم وتدب الفوضى في المجتمع ويصبح الظالم والقوي لا رادع له ولا ناهي ، ويزداد عدد المظلومين والمحرومين .. ومن العجب العجاب في زماننا هذا من يتبجح من القضاة في ان يقول ان الرشوة التي يستلمها لا تساوي لمسة سوط من النار .. والله انه لقول عظيم واستخفافا بالله وشريعته وخلقه .. وظالما من يولي على المسلمين امثال هولاء الظلمة ، فاتقوا الله .
وقاضينا رحمه الله كان مثالا ورعا للقاضي العادل .. فلم يكن يملك حتى حمارا يركبه على طرقات البلاد .. بل كان مرتجلا في مشيه .. والشحر انذاك في اوج نشاطها التجاري والعلمي تؤكد لنا تلك الحادثة التي رواها لنا السيد الشلي في سناه عن ابن عبسين قال (ولم يغير لباسه وقد لايكون له الا ثوب واحد يتزر ببعضه ويجعل بعضه على عاتقه ، ويمشي في السوق كذلك غير مكترث ، وحكى ان بعض التجار من اهل مصر والشام اختصموا فآل امرهم الى رفع قصتهم الى القاضي ليفصل بينهم فاجتمعوا وذهبوا اليه فوجدوه في الطريق في فرد ثوب متزر ببعضه مرتد بباقيه وهو في صورة مسكين فلما راوه نفرت منه نفوسهم وتركوا المحاكمة عنده ، فلما بلغه ذلك سجد شكرا لله تعالى ) .
يا سبحان الله أني أخال التجار في زهوهم وتفاخرهم بملابسهم وحليهم قد أغروا كل عين ولكن قصور فهومهم وعدم أدراك عقولهم مستور عن الأعين وآلا فما كان نفورهم ينبي عن مخبر أناس توزن الرجال بأعمالها وعلمها لا بمنظرها ومظهرها وما تلبسه من ثياب .. ولعل النص السابق يعطينا صور من صور النشاط التجاري الذي كانت عليه مدينة الشحر حيث يرتادها التجارمن شتى اصقاع الارض .
ومن فضل علمه يروى عن قصة اختلافه مع العلامة الفقيه والنحوي الشهير محمد بن عمر بحرق في مسالة من المسائل الفقهية (وليت المترجمين أوضحوا لنا ماهي ) فكان الصواب في جانب العلامة ابن عبسين في إيراده واستشهاده وقد بينها للأمام بحرق ، فأعترف بفضله واعلنها من على منبر جامع الشحر صريحة لا مواربة فيها .. وهي فضيلة من فضائل الامام بحرق .. وصورة تركوها لنا على ماكان عليه العلم والعلماء في عصرهم رحمهم الله .