ابني، من أين تعلمت هذا؟!
يروي د. سال سيفير قصة حدثت معه قائلًا: (عندما بلغ ابني الخامسة من عمره، ذهبنا معًا للتسوق، وكانت ساحة انتظار السيارات مكتظة، وظللت أبحث عن مكان حتى لاحظت سيارة تخرج من مكانها فقمت بتشغيل إشارتي للدخول في هذا المكان، وإذ بسيارة تتسلل وتحتل هذا المكان، فتملكني الغضب وفتحت الشباك وصرخت بألفاظ نابية في وجه السائق!!
بحثت عن مكان آخر حتى وجدته، وبعد عشرين دقيقة من التسوق ونحن مندمجان في الشراء فجأة قال لي ابني في براءة: بالمناسبة يا أبي، ماذا تعني الكلمات التي تلفظت بها في الخارج؟!!) [بتصرف شديد].
أيها القارئ الفاضل، لا تتعجب؛ فهذا هو الواقع، فما أبناؤنا إلا مرآة لنا، فإذا كذبت للتخلص من السعر الزائد عن دفع ثمن تذكرة للبالغين في مكان ما، وحينما تكذب الزوجة في مكالمة تليفونية تخبر فيها أن زوجها غير موجود، وإذا استخدمت الصياح والمناقشات الحادة أو مناداة أشخاص بغلظة أو بألفاظ نابية، فلا تعجب بعد ذلك من قيام طفلك بنفس السلوكيات!!
القدوة لماذا؟
أولًا ـ قانون التأثير التربوي:
هل تعرف أيها المربي الكريم ما هو قانون التأثير التربوي؟! ينص هذا القانون على "أن يعمل الآباء بما عملوا، فينتفع أبناؤهم بما يقولون"، ولا تنس أيضًا المثل القائل: (فعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل لرجل)، ولا المثل المشهور: (إن كنت إمامي فكن أمامي)، فلا تتوقع أن يستجيب ابنك لك في أمر أمرته به، أو نهي نهيته عنه إلا إذا تمثلت أنت ما تدعو إليه أمرًا ونهيًا، وإن حدث وخالف قولُك فعلَك فلا تنتظر من ابنك خيرًا.
يدلل على ذلك موقف عجيب حدث مع معاوية بن قرة ـ وهو أحد رجال السلف ـ يرويه لنا فيقول: (كنت أمشي مع معقل بن يسار، فرأى أذى فأماطه، فرأيت مثله فنحيته إبقاء على الشيخ، فقال: يا ابن أخي، ما دعاك إلى هذا؟ فقلت: رأيتك فعلتَ، فعلتُ مثل الذي فعلتَ) [المتفق والمفترق، الخطيب البغدادي].
ثانيًا ـ حساسية الأطفال:
عزيزي القارئ، إن الله تعالى خلق لنا العقل وجعله أقوى بكثير من جهاز الحاسوب، والطفل الصغير حينما يخرج إلى الحياة يكون عقله خاويًا من الخبرات والأحداث، لذلك فعقل الطفل في هذه المرحلة يعمل كجهاز تسجيل فائق الحساسية للصوت والصورة بل والأحاسيس والمشاعر.
وبالتأكيد يمضي الطفل أعوامه الأولى أكثر الوقت مع الوالدين وأقاربه ومدرسته، لذلك ما من موقف يحدث أمام الطفل إلا وتلتقط العين الصورة، وتلتقط الأذن الصوت، ليتم تسجيل هذا المشهد في طيات العقل، وتمر الأيام والشهور والسنون والطفل يختزن كل ما يا يدور حوله.
فإذا ما بدأ الطفل في النضج وصار أمام مواقف الحياة المتعددة وجهًا لوجه؛ فكيف سيتصرف؟ سيستحضر عقله ردود أفعال الكبار السابقة، والتي اختزنها عقله، ويحاكي هذا السلوك مثلا بمثل، فيخرج رد الفعل مطابقًا تمامًا لما رآه قبل ذلك!!
عزيزي القارئ، هل أدركت الآن مدى أهمية تصرفاتك، بل أيضًا مشاعرك وهمساتك أمام طفلك؟ لذلك كانت القدوة هي من أهم أساليب التربية.
ثالثًا ـ سنة ربانية:
وسبحان الله العظيم، لو تأملت عزيزي القارئ في الحكمة الربانية من كون الأنبياء بشرًا مثلنا، كما يقول تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) [الأنبياء:7]، لوجدت أن الحكمة من هذا هي أن يكون الأنبياء ـ الذين هم بشر مثلنا ـ قدوة لنا في اتباع الشرع، فلو كانوا ملائكة مثلًا لم يصلحوا أن يكونوا قدوة لاختلاف الطباع، ولكن لعلم الله بأهمية أثر القدوة في نفوس البشر كان الأنبياء بشرًا قدوة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ربعًا ـ ابنك لا يفكر مثلك:
أيضًا من أسباب أهمية القدوة أن الأطفال يختلفون في هذه السن الصغيرة عن الكبار، فالأطفال يتأثرون بالأشخاص والنماذج لا بالأفكار؛ بل ويحكمون على الأفكار من خلال السلوك العملي، بخلاف الكبار فإنهم يتأثرون بالأفكار ويحكمون على الشخص من خلال أفكاره؛ وهذا يعني أن الطفل بمجرد اقتناعه بشخص ما وتعلقه به فإنه سيحكم على جميع تصرفات وأفكار هذا الشخص بأنها هي الصواب لا محالة.
أدرك هذه الحقيقة عمرو بن عتبة حينما قال لمعلم ابنه يوصيه: (ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت).
وذلك لأن الطفل الصغير لم يبلغ النضج بعد ليعلم أن كل شخص يؤخذ منه ويُرد، بل متى ما أصبحتَ قدوة في عينيه؛ صار كل ما يصدر عنك صحيحًا لديه لا محالة؛ "لأنه صادر عن قدوته، فكيف لقدوته أن تخطئ، هذا لا يكون!!".
علي رضي الله عنه صناعة القدوة:
لقد لعبت القدوة في حياة علي بن أبي طالب t دورًا هامًا؛ فحينما فتح عيناه على الدنيا أبصر بهما مجموعة من النجوم العالية المنيرة، فأبصر في هذه النجوم الإيمان والقوة والشجاعة والحكمة ومكارم الأخلاق، فظل طوال طريقه في الحياة يقلد هذه النجوم ويحاكيها ويتشبه بها لعله يصل إلى واحدة منها، حتى حجز له موقعًا فريدًا بين كوكبة النجوم، وصارت له تلك المكانة السامقة.
وأول وأعلى هذه النجوم التي تأثر بها علي رضي الله عنه، بل قل القمر ليلة تمه: هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، يصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا)، كل صلاة يفعلون هذا، فماذا تتوقع من علي رضي الله عنه؟!
وإن كان علي رضي الله عنه مثلًا للبذل والتضحية في سبيل الله تعالى وجرأة من لا يخاف في الله لومة لائم؛ فهذا أيضًا بتأثره بقدوته العظيمة؛ النبي صلى الله عليه وسلم في في دعوته وجرأته في سبيل الله، ففي ذات مرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر واصطحبا معهما عليًا ـ وهو ما زال صغيرًا ـ ليعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج، فدخلت قبيلة قبيلة وعلي رضي الله عنه معه يسمع ويرى، وتتأصل في نفسه جرأة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث زعماء القبائل.
ومن الشخصيات التي تأثر بها علي رضي الله عنه وإن كان تأثره بها جزئيًا، والده ووالدته وأخوته؛ فوالده (أبو طالب) كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًا جمًا، (وعندما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الله وصدع بها وقف أبو طالب بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمم على مناصرته، وإن المرء ليسمع عجبًا ويقف مذهولًا أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه.
بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم وبني عبد المطلب في توظيف هذه الزعامة في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجار ابن أخيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إجارة مفتوحة لا تقبل التردد والإحجام) [الصلابي بتصرف]، وهو الذي صبر على الجوع ثلاث سنوات متصلة حينما ضربت قريش حصارًا اقتصاديًا على بني عبد المطلب وبني هاشم بسبب نصرة أبي طالب لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه بعد كل هذا مات على الشرك، ولم يكلل هذا البذل والإقدام بالإسلام.
وأمه هي (فاطمة بنت أسد) التي أسلمت رضي الله عنها، وكانت لها مكانة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يخصها بالهدية، بل وروت أيضًا مجموعة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما عن إخوته؛ فهذا طالب ـ أكبرهم ـ كان محبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر من قصائد الشعر في ثناءه صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يتوج هذه المحبة بالإسلام.
وجعفر رضي الله عنه، هو الشهيد الطيار، أحد السابقين إلى الإسلام، الذي كان يحب المساكين ويجلس إليهم، وقد هاجر ـ مضحيًا بما يملك ـ إلى الحبشة، وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه، وكلل هذه الحياة الزاخرة بقمة البذل والتضحية، فقد جاد بنفسه في غزوة مؤتة، وباعها في سبيل الله تعالى لقاء جنة عرضها السماوات والأرض أعدت لمثله من المتقين.
احذر:
احذر عزيزي المربي من أمرين اثنين:
الأول ـ من أن يخالف قولك فعلك:
فإن الأبناء في تلك الأحوال يستغربون ما يرونه من تصدع بين الأقوال والأفعال في سلوكيات أبيهم، ويقفون في البداية موقف الحائر المتردد العاجز عن فهم مواقفه أو تأويلها، ولكنهم مع مرور الزمن يدركون أنه ليس على المرء أن يحمل كل ما يقال على محمل الجد، وأن التطابق بين الأقوال والأفعال غير موجود غالبًا.. ومن خلال الصراع الدائر في نفوسهم بين ما يُقال وما يُفعل تتشكل داخلهم مجموعة كبيرة من المشاعر السلبية المزعجة التي تضعف في النهاية من صلابة شخصياتهم ونقاء نفوسهم.
(فبينما يشكو الأب من ابنه الذي لا يهتم بترتيب خزانة الملابس، ويلقي بفردة حذاء هنا وفردة هناك ويظل كل صباح يلاحق الزمن من أجل البحث عنها، نجد الأب يلاحق الزمن من أجل أن يجد المفاتيح أو حافظة النقود، ثم يبذل الجهد الكبير في محاولة أن يجد أشياءه الضائعة!!).
وقد قال بعض السلف: (إذا أردت أن يُقبل منك الأمر والنهي، فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له، والمؤتمرين به، وإذا نهيت عن شيء فكن أول المنتهين عنه).
الثاني: التظاهر بالسلوك الحسن:
فإنه لا يجدي بالطبع أن نتظاهر أمام أبنائنا بالسلوكيات الحسنة لنبدوا أمامهم أحسن منا في الواقع، وتلك خدعة لا تنطلي عليهم، ومن ظن أنهم بهذه السذاجة فهو واهم، إنهم يدركون كل ما نحاول كتمانه عنهم، ويعرفون ما ندين به ونمارسه مهما حاولنا إخفاءه؛ فعبثًا تحاول عزيزي المربي بهذا التكلف، فإنه ولا شك سيرى صغيرك ما تخفي عنه.
المراجع:
مسؤلية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة، عدنان حسن باحارث.
اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري.
كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، د. سال سيفير.
بناء الأجيال، عبد الكريم بكار.
أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الصلابي.
سيرة ابن هشام.